رغم حداثة التجربة الإعلامية الإسلامية خاصة في مجال البث الفضائي إلا أن الفضائيات الإسلامية استطاعت أن تستحوذ على جمهور عريض على امتداد العالم الإسلامي، وبلغت قرابة العشرين قناة، أو أكثر من ذلك، ومعها العشرات من الإذاعات والمطبوعات الإسلامية، وهناك المئات من المواقع الإسلامية على شبكة الإنترنت في مختلف الاهتمامات والاتجاهات، وتشير الإحصاءات إلى ما يقارب الـ 40 ألف مدونة عربية، عدد لا بأس به منها يديره إسلاميون...
ومع هذا الكم من وسائل الإعلام الإسلامية تأتي التساؤلات: هل بلغت التجربة الإعلامية الإسلامية مرحلة النضج؟ أم ما زالت تتعثر في خطاها...؟ كيف يمكن أن نقيم تلك التجربة بعد سنوات من البث والنشاط؟ هل ساهمت التجربة في صد الهجمة التترية الغربية التي تهدف إلى تذويب عقائد الأمة وأخلاقها في بحر الرذيلة؟ هل تغلبت التجربة على التحديات والصعوبات التي واجهتها...؟
أسئلة عديدة تطرح على بساط البحث حينما نتطرق إلى الحديث عن الإعلام الإسلامي، يمكن أن يشكل هذا التحقيق إسهامًا في الإجابة على بعضها من خلال استطلاع آراء العلماء والأكاديميين والمهتمين من ذوي الاختصاص الذين انقسموا إلى فريقين, رأى احدهما في تجربة الإعلام الإسلامي تجربة رائدة في ظل الهجمة الإعلامية الغربية, فيما رأي الفريق الآخر أن التجربة ما زالت تفتقر إلى البعد التنظيري الجيد الذي يضمن الاستفادة منها بصورة حضارية.
البث الإعلامي الإسلامي حقق قيمة عليا هي مبدأ "حق الاختيار" للإنسان العربي
وفي البداية وإذا بدأنا بالفريق الأول, سنجد الدكتور محمد بن عبد الرحمن الحضيف صاحب الإسهامات البارزة والكتابات المميزة في المجال الإعلامي والذي عرف بداية الإعلام الإسلامي بأنه هو كل قول أو ممارسة إعلامية، منضبطة بضوابط الشريعة.
ويعرض تاليًا للأسباب التي دفعت إلى العناية بالإعلام الإسلامي تنظيرًا وممارسة فيقول: البث الفضائي المنفلت من أي ضابط أخلاقي سبب صدمة للتيار المحافظ العريض، في الشارع العربي, والشكوى من غربة الإعلام العربي عن المجتمعات العربية، وانتهاجه منحى تغريبيًا، بعيدًا عن ثقافة المجتمعات العربية، وهوية الأمة لم تعد مقتصرة على الإسلاميين, المشاهد العربي ـ المحافظ بطبيعته ـ شعر كذلك، بخطورة ما تبثه تلك الفضائيات، على النسق الأخلاقي للمجتمع، وبآثاره المدمرة على الشباب من الجنسين، وتهديده لتماسك الأسرة.
ويضيف هذا الواقع الملوث للفضائيات العربية، والإعلام العربي بشكل عام واشتمال مضامينه، والرسائل الإعلامية التي يبثها على الكثير من التجاوزات غير الأخلاقية، رفع درجة الاستياء وزاد من وتيرة الدعوة لـ"إعلام نظيف" وَبنّاء، أو ما صار يُطلق عليه، لدى بعض الإعلاميين بـ"الإعلام النقي".
ومفهوم الإعلام النقي, تبعًا لما يقوله الحضيف, ينطلق من مبدأ أن الفضائيات العربية، بوضعها الحالي تمارس تأثيرًا سيئًا، واعتداءً منظمًا، على منظومة الأخلاق العربية الإسلامية، وتسهم في تسطيح اهتمامات الإنسان العربي، وإعاقة نموّه الثقافي، والاجتماعي، والسياسي، إضافة إلى تغييبه عن واقعه.
وعن بعض إنجازات الإعلام الإسلامي المعاصر يقول الحضيف: إن انطلاق البث الإعلامي الإسلامي قد حقق قيمة عليا هي مبدأ "حق الاختيار" للإنسان العربي, وأصبح بوسع ذلك المشاهد أن يختار نوع الشاشة التي يجلس أمامها، والرسالة الإعلامية التي يستقبلها.
وينوه الدكتور إلى أن تجربة الإعلام الإسلامي، أثبتت أن المشاهد العربي ليس مجرد كائن غرائزي يلهث خلف الترفيه الرخيص، والإثارة العارية, كما أثبتت كذلك، زيف مقولة إن "الجمهور عاوز كده".
كما أنها في جانب آخر تدحض الزعم بربط تنامي السلوك المحافظ، والصحوة الدينية، في أوساط المجتمعات العربية، بنفوذ أفراد أو مجموعات غامضة، تمارس ضغوطًا على الناس، لإقناعهم بأفكارها, فاختيار وسيلة الإعلام، قرار شخصي بحت، يتم بمعزل عن أي نفوذ لطرف خارجي.
أفسحت لنفسها مكانًا مرموقًا
ومن ناحيته, يرى الدكتور الكويتي عبدالله الفهيد أن صورة الإعلام الإسلامي أفسحت لنفسها مكانًا مرموقًا, وأتاحت للمشاهد العربي الراغب متابعة مريحة لإعلام نقي, فيقول: إن المسلمين يعيشون اليوم في واقع متطور وآفاق متجددة تفرض فيها التقنية نفسها على حياة الناس فتصيغ عقولهم صياغة جديدة وتصبغ أخلاقهم بصبغة غريبة، وتقتحم ثنايا عقولهم ونفوسهم ولا تحترم خصوصياتهم ولا تقف عند حدود عاداتهم, لافتًا إلى أن عالمنا اليوم يموج بألوان شتى من الفضائيات المختلفة الأجنبية والعربية، الهادفة والتافهة، البناءة والهدامة وغيرها من قنوات لا تخفى على أدنى متابع.
وأضاف: في ظل هذا الفضاء المزدحم تأتي الفضائيات الإسلامية لتعلن ولادة فضاء نقي يحمل الرسالة السامية للإسلام حيث تؤصل الفضائل الإسلامية وتنشر العلوم الشرعية وتدعم الهوية الإسلامية، مشيرًا إلى أن تجربة الفضائيات الإسلامية على حداثة سنها وقلة إمكاناتها استطاعت أن تثبت نفسها، ولها أن تفخر بما قدمته.
الفضائيات الإسلامية ظاهرة صحية تندرج في إطار مشروع حضاري
أما الدكتور مناور الراجحي أستاذ الإعلام بجامعة الكويت, فيرى في الفضائيات الإسلامية ظاهرة صحية تندرج في إطار مشروع حضاري، لتمكين الأمة من استعادة المبادرة الحضارية التي أفلت زمامها من يدها منذ فترة غير يسيرة.
ويقول إن الفضائيات تتضافر في هذا باعتبارها وسيلة لها خصائصها ومميزاتها مع مرادفات أخرى تشكل مجتمعة ظاهرة حيوية وإيمانية لتنتشر في العالم الإسلامي والأقليات الإسلامية, وقد استطاعت أن توجد لنفسها موطئ قدم في بيئة إعلامية معادية جدًا، واختطت لنفسها منهجًا خاصًا وأسلوبًا متميزًا، كما أصبحت تحتل مساحة كبيرة داخل الأسرة المسلمة تزداد اتساعًا.
هذا رأي طائفة من المهتمين والخبراء يرى التجربة بوجهها المضئ, وأنها تجربة حضارية تساهم في تعزيز دور الأمة ومواجهة سيل الإعلام الغربي الذي يهدف إلى تشويه القيم الدينية والإسلامية لدى الشعوب العربية, ويتيح للمشاهد العربي فرصة الاختيار ما بين هذا الغثاء الوافد من الخارج والطيب الذي استوى على عوده.
الإعلام الإسلامي لم يستطع الانعتاق من الصورة الإعلامية الغربية أو العالمية
ويختلف مع هذه النظرة السابقة طائفة أخرى من العلماء, فالكاتب الجزائري محمد جربوعة ينتقد في صورة قد تصدم الكثيرين تجربة الإعلام الإسلامي من ناحية غياب الرؤية أو النظرية الكاملة, فيقول: إن تأمل التجربة الإعلامية بداية بالشريط وانتهاء بالفضائية يضعنا أمام حقيقة لا يمكن إنكارها, وهي أن الإعلام الإسلامي لم يستطع الانعتاق من الصورة الإعلامية الغربية أو العالمية, لذلك فهو يمثل ما أسميته بالصدى, والصدى ظل, صورته المثلى التي يبقي قاصرًا عن تمثيلها هي الأصل..
ويضيف: إن الإبداع لا يجب أن ينطلق من أرضية أخرى موجودة وهي الإعلام الآخر, بل من أرضية ما يراد إيجاده وهو الإعلام الذاتي... وبغير ذلك ستكون عملية الإبداع عبارة عن ثمار تقطف من شجرة أخرى لتوضع بعد تلوينها على أغصان الشجرة الذاتية... وطبعًا فسرعان ما تجف هذه الثمار لأن صلتها ستكون بالغصن لا بجذور الشجرة... وهذا الكلام, في رأيه, لا يعني إلغاء التجربة الإعلامية الأخرى (غير الإسلامية) بل يعني الاستفادة من ذلك لإحداث أصل إعلامي جديد متميز, لا لإيجاد ظل وصدى...
وينهي حديثه بقوله: إن الأفكار لا تنتهي مضمونًا وشكلاً, ويمكن للعقل أن يتوصل إلى ابتكارات غير مسبوقة, تكون من مميزات الإعلام الإسلامي لتخرجه من حيز الظل وتعطيه شخصيته المتميزة, ولذا فإن تحرير الأداء الإعلامي الإسلامي من النموذج الآخر يعد اليوم من الأولويات, ودون ذلك لا يمكن الحديث عن إعلام إسلامي له شكله وصورته ومضمونه المتميز.
تجربة الإعلام الإسلامي تعاني من خلل في 3 مستويات..
ولم تكن هذه هي السلبية الوحيدة في رأي العلماء والمختصين, فالدكتور خالد صلاح الدين أستاذ الإعلام بجامعة أم القرى حينما استعرض تجربة الإعلام في الوطن العربي والإسلامي أشار إلى أن ثمة خللاً على ثلاثة مستويات سواء على مستوى الرسالة أي الخطاب الإعلامي, أم مستوى التدريب الذي لا تؤمن به بعض المؤسسات الإعلامية, أو على مستوى المؤسسات نفسها التي يعتقد البعض منها أن الإعلام ما زال ترفيهيًا.
وأوضح الدكتور صلاح الدين أن الغرب ينفق ترليونات الدولارات على إعلامه معتبرًا أن الإعلام لم يعد هواية، بل إن 90% منه أصبح علمًا.
ويضيف: إن الإعلام أصبح الإطار الرئيسي لـ"العولمة" ولا بد أن ندرك ما تبقى لنا من وقت وننقد ذاتنا للنهوض بإعلامنا و إلا خسرنا كل شيء, مضيفًا أن العلاج بتشخيص المشكلة ثم إعطاء الدواء المناسب.
غياب الرؤية والشمولية من أهم العقبات أمام الإعلام الإسلامي
الدكتور وائل الحساوي الأستاذ الجامعي, يشير في معرض نقده للتجربة إلى غياب الرؤية للمطلوب من القناة، إضافة إلى بث ما يتوافر لديها فقط دون تخطيط، وغياب الشمولية في الطرح.
ويقول: تجد القناة تركز على قضايا محددة وتهمل قضايا مهمة، هذا بجانب قلة التجربة بين العاملين والاعتماد على الإعلام السمعي ومخاطبة شريحة من الناس دون الأخرى، فقد تهمل القناة المرأة أو الطفل أو الشباب، أو قليلي الالتزام الديني.
وأضاف: إن هناك عقبات أخرى مثل ضعف الجانب الإخباري والاعتماد على النقل من الوكالات وعدم توافر المراسلين وضعف التنسيق الإعلامي بين القنوات الفضائية الإسلامية والاستفادة من تجارب كل منها، هذا بالإضافة إلى الاستعانة ببعض الشخصيات البارزة على حساب العقيدة أو الالتزام الديني الكامل.
بناء مشروع اقتصادي صغير يحتاج إلى دراسة جدوى, فكيف بمنظومة إعلامية
وفي معرض تقييم تجربة الإعلام الإسلامي أيضًا يقول سعيد بن صالح الغامدي رئيس المركز العلمي للاستشارات الإستراتيجية: إن بناء مشروع اقتصادي صغير يحتاج إلى دراسة جدوى, فكيف بمنظومة إعلامية قد تضم عشرات أو مئات القنوات المتكاملة التي يقف كل منها على ثغر... ألا يحتاج ذلك إلى نظرية دقيقة تستوعب تلك القنوات: خطها, وتوجهاتها, خطتها ودورها, وأهدافها, وخطابها, وحدود أدائها...
لذلك كله, يقول الغامدي: لا يمكن الحديث عن نجاح تجربة لا تقوم على نظرية دقيقة متكاملة, هامش الخطأ فيها مهما اتسع لا يصل إلى حد الفشل, وطبعًا فإن من العيب أن لا نجد اليوم عند التيار الإسلامي نظرية سياسية أو اقتصادية أو إعلامية, منطقية علمية متكاملة... هناك فقط عموميات, والعموميات لا يمكن أن تضبط حركة الأداء التخصصي, لذلك يلاحظ التخبط وطروء ما لم يكن في الحسبان وهذا راجع إلى عدم حصر الاحتمالات.
ومن الواضح أن هذه الطائفة ترى في التجربة الإعلامية الإسلامية خللا رئيسا خاصة على مستوى تحديد منظومة متكاملة تستطيع من خلالها منافسة نظيرتها الغربية التي تقتحم بيوتنا, والركون إلى العموميات, هذا فضلا عن أوجه قصور أخرى تتعلق بعدم القدرة على الإبداع والركون إلى التقليد, إلى جانب غياب القدرات والكفاءات الإعلامية.
وإزاء هذا العرض من كلا الفريقين, سنجد أمامنا مجموعة ماثلة من الحقائق, لعل أهمها الأتي:
1ـ التجربة الإعلامية الإسلامية كسرت احتكار الآخرين لهذه الآلة شديدة التأثير على بنية المجتمع العربي والإسلامي.
2ـ هذه التجربة أتاحت للمشاهد العربي والإسلامي فرصة الاختيار والمقارنة ولم تدعه فريسة الإعلام الغربي المتسلط, وواجهت بقدر ما سيل الإعلام المدمر.
3ـ التجربة برغم محاولاتها رسم مسارها خارج نسق الإعلام الغربي إلا أنها وقعت أسيرة تقليد هذا الإعلام ومحاولة الاقتراب من نموذجه.
4ـ ما زالت التجربة تحتاج إلى كفاءات وقدرات علمية, كي تنتقل من مجال الهواية والاعتماد على التجربة والخطأ إلى مجال الاحتراف والمهنية.
5ـ تفتقد تجربة الإعلام الإسلامي إلى نظرية دقيقة متكاملة تسير على نهجها وترسم على منوالها, فتقل عثراتها, وتنمو قدراتها.
وفي الأخير فإننا بحاجة إلى أن نرقى بإعلامنا إلى مستوى حمل رسالة الإسلام..بحاجة إلى إعلام ينطلق من نظرية واضحة المعالم يعكس قوة وعظمة الرسالة الإسلامية وشمولها..بحاجة إلى أن نقتحم هذا المجال بشخصية مستقلة ومبدعة ومؤثرة، لا أن نكون تابعين ومقلدين ومنفعلين ومستهلكين لإنتاج غيرنا.