قال كَعْبُ بنُ مالكٍ رضي الله عنه في حديثِهِ عن بَيْعَةِ العَقَبَةِ الثّانية:
« ..فَنِمنا تلكَ الليلةَ مع قومنا في رحالِنا، حتّى إذا مضى ثلثُ الليلِ خرجنا من رحالنا لِميعادِ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، نَتَسَلَّلُ تَسَلُّلَ القَطَا مُسْتخفين، حتى اجتمعنا في الشِّعْب عند العَقَبَةِ ونحنُ ثلاثةٌ وسبعونَ رجلاً ومعنا امرأتانِ من نسائِنا: نُسَيْبَةُ بنتُ كَعْب، أمّ عمارة وأسماءُ بنت عمرو، وهي أمُّ منيع..». سيرة ابن هشام
قالت أمُّ سَلَمَةَ رضي الله عنها:
«لَمَّا أَجْمَعَ أبو سلمةَ الخروجَ إلى المدينة رَحَل لي بَعيرَه ثمّ حَمَلَني عليه، وحملَ معي ابني سلَمَةَ في حِجري ثمّ خرجَ بي يقودُ بي بعيرَه، فلمّا رأتْه رجالُ بني المُغيرة قاموا إليه فقالوا: هذه نَفْسُكَ غَلَبْتَنا عليها، أَرأيْتَ صاحبتَك هذه؟ علامَ نتركُكَ تَسيرُ بها في البلاد؟ فنزعوا خِطامَ البعيرِ من يده فأخذوني منه. وغضبَ عند ذلك بنو عَبْدِ الأسد، رَهْطُ أبي سلمة، فقالوا: لا والله، لا نَتْركُ ابنَنا عندَها إذْ نَزَعْتُموها من صاحبنا. قالت: فتجاذبوا بُنَيَّ سَلَمَةَ حتى خلعوا يده، وانطلق به بنو عبدِ الأسد، وحبسني بنو المغيرة عندهم، وانطلق زوجي أبو سلمة إلى المدينة. ففُرِّقَ بيني وبين زوجي وبين ابني. فكنتُ أخرجُ كلّ غَداةٍ فأجلسُ بالأَبْطَح فما أزال أبكي حتى أُمْسيَ سنةً أو قريباً منها، حتى مرّ بي رجلٌ من بني عمي، أحدُ بني المغيرة، فرأى ما بي فرحمني، فقال لبني المغيرة: ألا تُخْرجونَ هذه المسكينة! فَرَّقْتُم بينها وبين زوجها وبين ولدها! فقالوا لي: الحقي بزوجك إن شئت. وردَّ بنو عبد الأسد إليّ عند ذلك ابني، فارتحلتُ بعيري ثمّ أخذتُ ابني فوضعتُه في حِجري، ثمّ خرجت أريدُ زوجي بالمدينة وما معي أحدٌ من خَلْق الله.. الخ». سيرة ابن هشام
قال ابن إسحاق:
«فلمّا أجمعَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم الخروج، أتى أبا بكرٍ فخرجا من خَوْخَةٍ لأبي بكر في ظَهْر بيته، ثم عمدا إلى غارٍ بثَوْر -جبل بأسفل مكة- فدَخلاه وأمرَ أبو بكر ابنَه عبدَ الله بنَ أبي بكر أن يَتَسَمَّعَ لهما ما يقولُ النَّاسُ فيهما نهارَه، ثمّ يأتِيَهما إذا أمسى بما يكونُ في ذلك اليوم من الخَبَر؛ وأمر عامرَ بن فُهَيْرَةَ مولاه أن يرعى غنمَه نهارَه، ثمّ يريحَها عليهما، يأتيهما إذا أمسى في الغار، وكانت أسماءُ بنت أبي بكر تأتيهما من الطعامِ إذا أمستْ بما يُصْلِحُهما...
فأقام رسولُ اللهُ صلى الله عليه وسلم في الغار ثلاثاً ومعه أبو بكر... حتى إذا مضتِ الثّلاث، وسكنَ عنهما النّاس، أتاهما صاحبُهما الذي استأجراه ببعيريْهِما وبعيرٍ له، وأتتْهما أسماءُ بنت أبي بكر رضي الله عنهما بسُفْرتهما، ونَسِيَتْ أن تجعلَ لها عِصاماً -أي رِباطاً-. فلمّا ارْتَحلا بسفرتهما ذهبتْ لِتُعَلِّقَ السُّفرةَ فإذا ليس لها عصام، فتَحُلُّ نطاقَها فتجعلُه عصاماً، ثم علّقَتْها به.
فكان يقالُ لأسماء بنت أبي بكر: ذات النِّطاق لذلك.
قال ابن هشام:
وسمعتُ غيرَ واحدٍ من أهل العلم يقول ذاتَ النِّطاقَيْن. وتفسيرُه: أنَّها لمّا أرادتْ أن تعلّق السّفرة شقّت نطاقَها باثْنَيْن، فعلّقت السفرة بواحد وانتَطَقت بالآخر». سيرة ابن هشام
قالت أسماء بنت أبي بكر:
«لمّا خرج رسولُ الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر رضي الله عنه أتانا نفرٌ من قُريش فيهم أبو جهل بن هشام، فوقفوا على باب أبي بكر، فخرجتُ إليهم: فقالوا: أينَ أبوكِ يابنتَ أبي بكر؟ قلتُ: لا أدري والله أينَ أبي. قالتْ: فرفعَ أبو جهلٍ يدَه، وكان فاحشاً خبيثاً، فلطَمَ خَدّي لطمةً طرحَ منها قرطي».
سيرة ابن هشام
وقالت أسماءُ أيضاً:
«لمّا خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم وخرج أبو بكر معه، احتَمَلَ أبو بكر مالَه كلَّه، ومعه خمسةُ آلاف درهم أو ستة آلاف، فانطَلق بها معه. قالت: فدخل علينا جدّي أبو قحافة، وقد ذهبَ بصرُه فقال: والله إنّي لأراه قد فجعكم بماله مع نَفْسِه. قالت: قلتُ: كلاّ يا أبتِ! إنّه قد ترك لنا خيراً كثيراً، قالت: فأخذتُ أحجاراً فوضعتُها في كوّة في البيت، التي كان أبي يضع مالَه فيها، ثم وضعتُ عليها ثوباً، ثم أخذتُ بيدِه، فقلتُ: يا أبتِ، ضَعْ يدَك على هذا المال. قالت: فوضعَ يده عليه فقال: لا بأس، إذا كان ترك لكم هذا فقد أحسن، وفي هذا بلاغٌ لكم. ولا واللهِ ما تركَ لنا شيئاً، ولكنّي أردت أن أُسَكِّن الشيخَ بذلك». سيرة ابن هشام
وقال أَنَسٌ كما نقل البَيْهَقي في الدّلائل:
« قدِم رسولُ الله صلى الله عليه وسلم المدينة، فلما دخلها جاء الأنصارُ برجالِها ونسائِها فقالوا: إلَيْنا يا رسول الله. فقال: «دَعُوا الناقةَ فإنّها مأمورة»
فبركتْ على باب أبي أيوب، فخرجتْ جَوارٍ من بني النَّجَّارِ يَضرِبْن بالدُّفوف وهنّ يَقُلْن:
نحنُ جوارٍ منْ بني النَّجَّارِ يا حَبَّذا محمدٌ منْ جارِ
فخرج إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال «أتحبّونني؟» فقالوا إي واللهِ يا رسول الله. فقال: «وأنا والله أُحبّكم، وأنا والله أُحبّكم، وأنا والله أُحبّكم» ». البداية والنهاية لابن كثير
قال أبو أيوب الأنصاري رضي الله عنه:
« لمّا نزل عَلَيَّ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم في بيتي نزلَ في السُّفْل، وأنا وأمّ أيوب في العُلْو، فقلت له: يا نبيّ الله، بأَبي أنتَ وأُمّي، إنّي لأَكره وأُعظِمُ أنْ أكونَ فوقَك وتكونَ تحتي، فاظْهَرْ أنتَ فكنْ في العُلْو، وننزل نحن فنكون في السفل؛ فقال: يا أبا أيوب، إنّ أرفق بنا وبمن يَغْشانا أن نكونَ في سُفْل البيت.
قال: فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفله وكنا فوقه في المسكن؛ فلقد انكسر حُبّ -أي جَرّة- لنا فيه ماء، فقمت أنا وأمّ أيوب بِقَطيفَةٍ لنا، ما لنا لحافٌ غيرها نَنْشَف بها الماء، تَخَوُّفاً أن يقطر على رسول الله صلى الله عليه وسلم منه شيء فيؤذيه.
قال: وكنّا نصنع له العشاء ثم نبعث به إليه، فإذا ردَّ علينا فضلَه تَيَمَّمْت أنا وأمّ أيوب موضعَ يده، فأكلنا منه نبتغي بذلك البركة.. ». سيرة ابن هشام
● ● ●
يكفي أن نُلقيَ نظرة سريعة على النّصوص المتقدّمة لنرى بوضوح دورَ المرأة المسلمة في الهجرة.
فالمرأةُ المسلمةُ كانت موجودةً في بَيْعة العقبة الثّانية التي مَهّدتْ لهجرة رسولِ الله صلى الله عليه وسلم.
والمرأة المسلمةُ قد بادرتْ مع الرّجلِ المسلمِ إلى الهجرةِ بالفعل، عندما أَمر الرّسولُ صلى الله عليه وسلم أصحابَه بالخروجِ إلى المدينة، وحملتْ مع الرّجل المسلم نصيبَها من الخَطَر والأَلَمِ والمشقّة كما رأينا في مِثالِ أمّ سلمةَ رضي الله عنها.
والمرأةُ المسلمةُ كانت أهلاً لتُؤتمن على سِرّ هجرة الرسول صلى الله عليه وسلم حيثُ لم يَعلم بهذا السرّ إلا بضعةُ أشخاصٍ منهم عائشةُ وأسماء، وحيثُ كان المشركون يَمْكرون بالرسول ليُثْبِتوه أو يَقتلوه أو يُخرجوه -كما يذكر القرآن الكريم-.
والمرأةُ المسلمةُ قد أسهمتْ في مخطّط هجرة الرسول صلى الله عليه وسلم، وفي إنجاح هذه الهجرة، وفي حَمْل تبعاتِها في مالها ونفسها، كما رأينا في مثالِ أسماءَ رضي الله عنها، التي كان لها دورُها في تزويد الرسول وصاحبه بالطّعام في الغار، وفي تجهيزهما للسَّفر، والتي أصابَها ما أصابَها على يدِ أبي جهلٍ من العدوان والإهانة، والتي فَقدت هي وأختُها وجهَ الأب، وفَقدتا ما يُصْلِح شؤونَهما من المال في وقت واحد.
والمرأةُ المسلمةُ كانت في استقبال الرسول صلى الله عليه وسلم في المدينة كما كانت في وداعه في مكة.. لقد خرجتِ المرأةُ المسلمة مع الرجلِ المسلمِ لاستقبالِ المهاجرِ العظيم، تَتَفَجَّر في قلبها عواطفُ الإيمان، ومشاعر السرور بنجاته، ووصوله إلى قلعة الدعوة الجديدة: المدينة المنورة.
ولقد ظفرتِ المرأة‘ المسلمةُ وسعدت في المدينة المنورة، كما ظفر الرجل المسلم وسعد، بشرف استضافةِ رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وخدمته، والسهر على راحته، والتماس البركة بوجوده، كما يظهر لنا ذلك في أمّ أيوب رضي الله عنها.
ولم يكن للمرأة المسلمةِ دورُها المذكورُ في الهجرة فقط، ولكنْ كان لها دورُها المذكور في مختلفِ المواقفِ والمراحلِ عَبْرَ تاريخِنا الإسلاميّ الزاهر، منذُ أنزلَ اللهُ على رسولِه الكريمِ كتابَه الخالدَ ليُخْرِجَ الناسَ به من الظلماتِ إلى النّور بإذنِ ربّهم إلى صراطِ العزيز الحميد، ومنذُ وقفتْ السيدةُ خديجةُ رضي الله عنها وقْفَتَها العظيمةَ بجانبِ الزوجِ العظيمِ والرسولِ العظيمِ تقولُ له كلماتِها الباقياتِ التي اهتَزَّ لها وترنَّمَ بها الزّمنُ والتاريخ: «كلاّ واللهِ لا يُخْزِيكَ اللهُ أبداً. إنّكَ لَتَصِلُ الرَّحِمَ، وتَقْري الضَّيْفَ، وتَحْمِلُ الكَلَّ، وتكْسِبُ المَعْدوم، وتُعينُ على نَوائب الحقّ»، ومنذُ اختلطَ في بطحاءِ مكّةَ دمُ سميّةَ بدمِ ياسرٍ رضيَ الله عنهما، وهما يَخُطّان معاً صفحةَ الصَّبْرِ على الشَّدَّةِ والبلاء، والتصميمِ على العقيدةِ والفداء، والاستعلاءِ على الباطلِ والطاغوت.. إلى ما لا يُحْصى من المواقفِ والنماذجِ الرائعةِ عَبْرَ العصور.. حتّى فَقَدْنا النُّورَ الإلهيَّ في قلوبِنا وعقولِنا، وغلبتْنا أهواؤنا على ديننا، ودنيانا على آخرتِنا، وصارت المرأة، وصار الرجل أيضاً -إلا من عصم الله- إلى ما نحن عليه الآن من عبودية للباطل والطاغوت؛ عبوديةٍ لهما في بلادنا، وعبوديةٍ لهما في عالمنا.. كأننا لسنا من هذا القرآن، ولا من هذا الرسول، ولا من هذا التاريخ المتألّقِ برجالِه ونسائه على السواء.
● ● ●
وكم يُؤلمني -أيها الأخوات- أن نتحدَّثَ عن تاريخنا وذكرياتنا الإسلاميّة الخالدة، وقد انفَصَلْنا بحياتنا عن هذا التاريخ وهذه الذّكريات.
كم يؤلمني أن نتحدثَ عن تاريخنا وذكرياتنا، وقد غدتْ حياتُنا بواقعها الراهن تكذيباً وإهانةً لهذا التاريخ وهذه الذكريات.
كم يؤلمني أن نتحدثَ عن تاريخنا وذكرياتنا، بغير روح التصميم على أن نعيدَ الصِّلةَ الحيَّةَ الفاعلةَ بيننا، وعلى أن نجعلَ حاضرنا يناسبُ ماضينا البعيد.
كم يؤلمني أن نتحدّث عن الهجرة ولا نُفَكِّر بهجرةٍ جديدةٍ تَنْقُلُنا وتنقلُ أمّتنا وبلادنا من حالٍ إلى حال، كما نقلتْ تلكَ الهجرةُ أصحابَها، ونقلتْ مجتمعهم وعالمهم، ونقلتِ التاريخَ البشريَّ كلَّه من حال إلى حال..
إنّنا بأمسِّ الحاجةِ إلى هجرةٍ جديدة، هجرةٍ تَتَمَثَّل فيها روحُ الهجرةِ الأولى..
ألا فلْنهاجرْ -أيها الإخوة والأخوات- إلى اللهِ بقلوبنا وعقولنا وحياتنا، فلْنهاجرْ إلى كتاب اللهِ وسنّة رسوله صلى الله عليه وسلم، وإلى هداية الإسلامِ في كلِّ مجال، ولْننطلقْ بالإسلام، ومنَ الإسلام، لنعيد بناء أنفسنا من جديد، وبناء مجتمعنا من جديد، وبناء عالمنا من جديد.
إن هذه الهجرة، بهذا المعنى، هي سبيلُنا، وسبيلُ أمّتنا وبلادنا، وعالمنا، إلى التحررِ المعنويّ والماديّ، وإلى خَيْرَيِ الدّنيا والآخرة.
ولقد كان للمرأة المسلمة دورُها الكبير في هجرتنا الأولى، وفي صُنع تاريخنا المجيد، فليكنْ للمرأة المسلمة الآنَ دورُها الكبير أيضاً في الهجرة الجديدة إلى الله والرسول، وفي خدمة الإسلام والمسلمين، وخدمة العالَم والإنسانِ بالإسلام، وفي صُنع التّاريخ مرّةً أخرى، كما صنعناه من قبلُ، بشموخه وجلاله، ورائع ذكرياته وآثاره الباقية على الأيام.
وليست هذه الدعوةُ التي ندعوها مجرَّدَ كلماتٍ في تعليقٍ عابرٍ أو مقال، ولكنّها حقيقةٌ في قلوبنا وأفكارنا وأعمالنا إن شاءَ الله.. حقيقةٌ نُطْلِقُها ونربطُ بها المستقبلَ والحياة.
فابسُطْنَ أيديَكُنَّ إلينا أيها الأخوات، ولننطلق معاً بروح جديدة، وإرادة جديدة، وخطواتٍ جديدةٍ في سبيل الله.