يقول تعالى {ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجاً لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة} الروم 21، فبين الأزواج هناك "سكن" و"ومودة" و"رحمة" وهذا الجانب من أعظم الجوانب التي دعا إليها الإسلام، فقد ذكر الله تعالى الرحمة في مواطن عدة في القرآن الكريم، بل ومدح أهل الرحمة وجعل وصل الرحم والمرأة من الرحم.

إن من أول ما دعا إليه الإسلام بعد توحيد الله عز وجل الجانب الإجتماعي والأخلاقي، فكل الآيات التي دعت الى الأخلاق وصلة الرحم والتواصل بين المسلمين على المستوى العام والخاص نزلت بمكة في العصر الأول مما يوحي بأن الخلق تقدم بالدين على الأحكام، فالصحابة رضوان الله عليهم جاءوا الى المدينة وهم على توحيد وخلق فلما جاءت الأحكام مع نفس وقلب تهيأ لتلقيها آتت أكُلها. فالآيات المكية استعرضت صفات عباد الرحمن المتعلقة بأخلاقهم ومعاملاتهم وودهم ورأفتهم على نسائهم: { والذين يقولون ربنا هب لنا من أزواجنا وذرياتنا قرة أعين واجعلنا للمتقين إماماً، أولئك يجزون الغرفة بما صبروا} (الفرقان 74) .

والغريب أن بعض المسلمين قد غيّبوا جانب علم الأخلاق، وظنوا أن الدين محصور في إقامة بعض أحكام الدين، فالمسلم الذي يعرف أحكام الصلاة والصيام تجده في تعاملاته في غاية القسوة والجفوة.

أما السلف الصالح فقد ألف بين قلوبهم التراحم لأنهم علموا أن التراحم خلق يحبه الرحمن، فكانت المؤاخاة بين صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإذا كان هذا هو الحال بين الرجل والرجل فكيف الحال بين الزوج وزوجه.

قال تعالى { محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم }(الفتح 29) لقد جعل الأصل للتعامل بين المسلمين بالتراحم فهذا أصل عام في كل المعاملات ومن باب أولى أن يكون بين الأزواج، فالرحمة تستوجب على المسلم خفض الجناح لإخوانه، فقد خوطب أكرم خلق الله بهذا: { واخفض جناحك لمن اتبعك من المؤمنين}(الشعراء 215) وقد جاء الأمر عاما للأمة بقوله تعالى {إنما المؤمنون إخوة فأصلحوا بين أخويكم واتقوا الله لعلكم ترحمون} (الحجرات 10)، فالتآخي أصل من أصول الرحمة، والله سبحانه وتعالى جعل الرحمة مسلكاً يوصلك للجنة فقد وصف تعالى أهل الجنات بقوله:{ إنا كنا قبل في أهلنا مشفقين فمن الله علينا ووقانا عذاب السموم، إنا كنا من قبل ندعوه إنه هو البر الرحيم} (الطور 26-28).

والرحمة تستوجب دوام العطاء دون توقف أعطي الطرف الآخر أو منع، فالأب مثلاً لا ينتظر من ولده عطاء وكذلك الأم فالعطاء عند الوالدين سجيه، ومن أشد المواقف على الوالدين عجزهم عن العطاء لأولادهم، فالرسول صلى الله عليه وسلم بيّن لنا معنى الرحمة، حيث رأى امرأة وقد رأت ولدها، وقد لسعته حرارة الأرض حتى سارعت إليه مسارعة الملهوف تحتضنه وتحمله خوفاً عليه من حر الأرض من تحت قدميه، فقال صلى الله عليه وسلم لأصحابه أتظنون أنها ملقية ولدها في النار، قالوا لا يا رسول الله، قال صلوات الله وسلامه عليه، فالله أرحم بكم من هذه الأم بولدها.

ومن هنا فالزوج مطالب بكل معاني الرحمة تجاه زوجته، فالمرأة تنخلع من أبيها وأمها وإخوتها، فكل هؤلاء كانوا يمثلون لها لوناً من ألوان الرحمة، فالله تعالى جعل الزوج بديلاً لكل هؤلاء، فالمطلوب رحمة أهل حرمت من رحمتهم من أجله.

وإن نظر الرجل للمرأة بعين الرحمة فهي عبادة يؤجر عليها، فلا يكلفها حملاً فوق حملها، وثبت “ أن النبي صلى الله عليه وسلم استشار يوماً أصحابه في أمر فأشار عليه أبو ذر الغفاري، ولم يقر هذا الرأي في نفس بلال بن رباح، فلما جاء الدور بالمشورة على بلال قال ما هذا بالرأي يا رسول الله، فغضب أبو ذر وهو من قبيلة غفار وفي لحظة غضبه قال أبو ذر لبلال يا ابن السوداء فغضب النبي صلى الله عليه وسلم غضباً شديداً، وقال يا أبا ذر انك إمرؤٌ فيك جاهلية أعَيّرَته بأمه، يا أبا ذر إخوانكم خولكم (أي من قاموا على خدمتكم) قد جعلهم الله تحت أيديكم، فأطعموهم مما تطعمون واكسوهم مما تلبسون ولا تكلفوهم ما لا يطيقون، فإن كلفتموهم فأعينوهم”.

فإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم أمرنا بالتصرف هكذا مع الخدم فما بالنا بنسائنا. وقد صرح النبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع وقال "حق نسائكم عليكم أن تطعموهن مما تطعمون، وأن تكسوهن مما تلبسون، وأن لا تضربوا الوجه ولا تقبحوه".

ففي حديث أم زرع عن المرأة التي تذم زوجها تقول “زوجي إذا أكل لف (أي أجهز على الطعام) وإذا شرب اشتف ( أي شرب كل الماء الموجود في الكوب ولم يبقِ منه حتى شفة). وإذا نام التف (أي لا يؤدي حق زوجه الشرعي)، ولا يولج الكف (أي فاقد العاطفة) فيعلم البس( أي غير متفرس مما تشكو زوجته، وإن لم تصرح).

أما حديثها عن التي مدحت زوجها فتقول:” زوجي المسُّ مسُّ أرنب (أي أنه في بيته لين رقيق) والريح ريح زَرْنَب ( وهو نبات يشبه الريحان طيب الرائحة) أغلبه والناس يغلب (وهذا كرم خلق الزوج وليس ضعف وذلك أنه من الرحمة أن لا يستخدم الرجل قوته على زوجه، وفي المقابل أن لا نسلم قيادنا لنسائنا) وهذه معادلة صعبة والمسلم مطالب بالتوفيق بينها فلا يحمله حب زوجه على معصية الله تعالى.

وهذا أكرم خلق الله تقول عائشة رضي الله عنها :” جاء رجال من الأحباش يلعبون في طرقات المدينة، فقلت يا رسول الله إحملني حتى أراهم، فحملها النبي صلى الله عليه وسلم حتى طال مُكثها، فقال حسبك عائشة قالت انتظر (فالرسول صلى الله عليه وسلم لم يعب عليها هذا الخلق)، بل هي رحمة بأهله فالمشاعر دين يجب أن يعود الزوج نفسه عليها.

وعلى الزوج أن يهيء لزوجه نفسية تصلح فيها أن تنتقي قواعد التربية السليمة للأبناء، فإدخال الزوجة لحالة من الضيق والغضب والحزن الدائم يسبب خللاً في عطاء المرأة للأولاد ولك كزوج فإن أعطت المرأة كارهة لن يدوم العطاء مع كرهها، فكم من حالات النشوز عند النساء سببها سوء خلق الزوج وسوء عشرته. ولذا ثبت في الحديث “ أن الأقرع بن حابس رأى النبي صلى الله عليه وسلم يقبل الحسن والحسين فقال يا رسول الله “ أو نقبل أبناءنا والله إن لي منهم عشرة ما قبلت منهم أحداً قط، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم “ وماذا أصنع لك إذا كان الله قد نزع الرحمة من قلبك”.

ورحم الله عمر بن الخطاب- رضي الله عنه-، كانت له قصة مع خولة، فقد استوقفته في الطريق وهو خليفة المسلمين، فتقول له إتق الله يا عمر في كذا وكذا فعجب الصحابة فقالوا يا أمير المؤمنين أتسمع لجارية قال عمر والذي نفسي بيده سأستمر بسماعها ما لم يشغلني ذلك عن المكتوبات، ومن أنا حتى لا أسمعها وقد سمعها ربي من فوق سبع سماوات. فإن كان رب العباد قد سمع شكوى المرأة فكيف لا يسمع الأزواج شكوى أزواجهم.

ورحمة الزوج بزوجه تكون في كنف الله وطاعته، فالرحمة تكون بإعانتهن على تأدية الفريضة، وأن يأخذها بكل أسلوب بإمكانه أن يبلغ بها أعلى مراتب الرقي في دينها، فالمسلم مطالب أن يجعل زوجته معه في الجنة { هم وأزواجهم في ظلال على الأرائك متكئون}(يس-56).

فهذا المعنى فطن إليه الصحابة رضوان الله عليهم، فهذا الزبير بن العوام أغضب يوماً السيدة أسماء بنت أبي بكر الصديق، فجاءت لأبيها ثائرة تشكو له أذى الزبير، فرد أبو بكر قائلاً “ يا أسماء إصبري على كل ما يصدر من الزبير فلقد علمت من حديث النبي صلى الله عليه وسلم “أنه أحد العشرة المبشرين بالجنة” وقد سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول:" من ابتكر بامرأة فمات عليها كانت زوجه بالجنة وإني لأرجو الله أن تكوني زوجه بصبرك عليه".

إذن الرحمة بالزوجة تكون بإنقاذها من النار وليس بالرضى عما يبدر منها وإن كان فيه لله معصيه. ولنعلم أنه بمعاملة الزوجة بالرفق واللين ترقى الزوجة بالطاعة، فالله تعالى خاطب أكرم الخلق قائلاً {فبما رحمة من الله لنت لهم ولو كنت فظاً غليظ القلب لانفضوا من حولك}(ال عمران-159)، فجعل اللين لوناً من ألوان الرحمة، لذلك لما دخل رجل على هارون الرشيد ينصحه وقد غلَّظ له القول قال له هارون “ ويحك لقد بعث الله من هو خير منك إلى من هو شر مني، فقال له { فقولا له قولاً ليناً لعله يتذكر أو يخشى}.(طه-44).

وكذلك فالرجل مطالب بأن يجعل زوجه في كنفه يستأثرها بحسن خلقه وأن يسعها بسعة صدره كما جاء في الحديث. “ لن تسعوا الناس بأموالكم ولكن تسعوهم بحسن الخلق” وهذا من باب أولى أيضاً بحق الأزواج.

وهذا هو الفاروق عمر المعروف بشدته تراجعه إمرأة من عوام المسلمين وهو على المنبر حينما قال:" يا معشر النساء لا تبالغوا في المهور فلو كان مكرمة لسبقكم اليها رسول الله، فما مهر رسول الله أحدا من نسائه أو بناته بأكثر من أربعمائه درهم"، فقامت إمرأة من آخر الصفوف فقالت يا عمر أتحرم ما أحل الله لنا، ثم ساقت الدليل فقالت “ أما سمعت قول الله تعالى { وإذا أردتم استبدال زوج مكان زوج وآتيتم إحداهن قنطاراً فلا تأخذوا منه شيئاً أتأخذونه بهتاناً وإثماً مبيناً} (النساء:20)، وعندها قال أمير المؤمنين عمر " كل الناس أفقه منك يا عمر، يا معشر المسلمين {لينفق ذو سعة من سعته ومن قدر عليه رزقه فلينفق مما آتاه الله}(الطلاق-7).

فهذا عمر قَبِل مراجعه إمرأة على الملأ، فكيف بحال المرء مع زوجه.

وإن حرص أحد الزوجين على الرحمة دون الآخر فتلزمه المداومة حتى يحمل الآخر على الرحمة وندلل على ذلك بقوله صلى الله عليه وسلم" سيولى عليكم أمراء فتعرفون وتنكرون ( أي تروا منهم ما تنكرونه) " وقالوا فماذا نصنع يا رسول الله قال " أدوا الذي عليكم وسلوا الله ما لكم".

فمن وجد في زوجه الغلظة فليلزم الرحمة طاعة لله وأداء لحق الله، لذلك نصح ذلك الأعرابي زوجه قائلاً: “خذي العفو مني تستديمي مودتي ولا تغضبي عند ثورتي”، أي أنه من دواعي الرحمة أن يحتوي عفوه خطأها، حتى تدوم المودة وتدوم الرحمة بإذن الله.

  • Currently 130/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
44 تصويتات / 1966 مشاهدة
نشرت فى 2 يوليو 2010 بواسطة ahmedkordy

أحمد السيد كردي

ahmedkordy
»

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

29,719,603

أحمد السيد كردي

موقع أحمد السيد كردي يرحب بزواره الكرام free counters