إذا استقرأ الباحث المنصف أحوال الإنسان العقلية والنفسية والاجتماعية، تبين له أنه ثنائي التكوين، له جانبه التكويني المادي الغريزي الذي يشدُّه إلى عالم الحيوان، وجانبه المعنوي الرحماني الذي يذكره بخالقه، وبعنصر الخير والمعاني الفطرية السامية فيه، وهذان الجانبان في صراع دائم، الواحد فيهما يبغي الغلبة على الآخر، فإما أن يتغلب الجانب المادي فتسيطر على الإنسان الغرائز، وتقربه من عالم الحيوان؛ وإما أن يتغلب الجانب الروحي المعنوي فيبعده عن الحياة، ويسلمه إلى عالم الرهبنة، ومحاولة قتل الغرائز المركوزة في طبعه، ولا شكَّ أنَّ غلبة أي من الجانبين إخراج للإنسان من فطرته، وإدخال للاضطراب في حياته.وفي سبيل مُحافظة الإنسان على إنسانيته دون إفراط أو تفريط يحتاج إلى نظام أخلاقي متزن يستطيع أن يدخل الاتِّزان عليه، ويبقيه في دائرة فطرته السليمة، ويقطع عليه طريق الميل إلى أحد الجانبين؛ الحيواني أو الرُّوحاني؛ كي يستطيع أداء حق الخلافة على الأرض، وينفذ هذه الأمانة الضخمة التي كلِّف بها.
قال تعالى: {إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإِنسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً}[1].والإسلام الذي جاء خاتمًا للأديان، شاملاً لتوجيه حركة الإنسان، يتدخل لضبط حركة التوازن بين ذينك الجانبين فيه عن طريق نظامه الأخلاقي المثالي؛ لأنه يريد أن يرفع الإنسان إلى مستوى فطرته الإنسانية النظيفة المعتدلة والواقعي؛ لأنه لا يتجاهل طبيعة ومسارات غرائزه التي أودعها الله تعالى فيه، أي إنه لا يريد قتل الغرائز؛ بل يخطط لتوجيهها وتهذيبها؛ حتى تؤدي عملها في الحياة؛ من أجل جعل المجتمع الإنساني مجتمعًا متوازنًا لا يميل إلى التطرف في جانب من جوانب الحياة.
إن عدم وجود هذا النظام الأخلاقي الضابط في المجتمع يقوده إلى الظلم الذي يمنع أن تسير الغرائز الإنسانية في مساراتها الصحيحة فتتصادم، فيأكل القوي الضعيف، ولا تتحقق العدالة، وتختل الموازين، ولا توضع الأشياء في مواقعها الصحيحة، فينهار نظام المجتمع من منطلق سنة الهلاك، قال تعالى:{وَإِذَا أَرَدْنَا أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا القَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيراً}[2]، قال تعالى: {وَتِلْكَ القُرَى أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِم مَّوْعِدًا}[3].
وإذا أخذنا مثلاً واحدًا من بين مئات الأمثلة على سلوك المجتمع الظالم، وهو "الرشوة" لتبيَّن لنا صدق تلك الألسنة الإلهيَّة الَّتِي لا تتخلَّف، فالمجتمع الذي تنتشر فيه الرِّشوة تنهار أسس العدالة فيه، فيظلم المرتشي نفسه وغيره ونظام مجتمعه.أما نفسه فتذل وتفقد الكرامة والإحساس بقيم العدالة، وأما غيره فيلحق به الضرر، ويحول حقه إلى الآخرين، وأمَّا نظام المجتمع، فبتصرُّفه ذلك يدق إسفين عدم الثقة بالنظام الرابط لوحدة المجتمع.
إنَّ النِّظام الأخلاقيَّ الإسلاميَّ الذي يحقق هدف التوازن في كيان الفرد والمجتمع، يمتاز بميزتين أساسيتين[4].أولاهُما: أنَّه نِظامٌ شامل شُمول الحياة؛ ونعني بذلك أنَّ دائرة الأخلاق الإسلامية واسعة جدًّا، فهي تشمل أفعال الإنسان الخاصَّة جَميعًا، أوِ المتعلِّقة بغيره، سواء أكان هذا الغير فردًا أو جماعة أو دولة.
وعلاقات الدول مع بعضِها تدخل في هذا الإطار، ومن المعلوم أنَّ الحياةَ كُلَّها مظاهرُ لذلك التَّعامُلِ الشَّامل.ثانيهما: أنَّ الأخلاق ليستْ نِسبية في الإسلام؛ وإنَّما هي تنبع من حقائق خالدة تستند إلى الوحي الإلهي، وهذه النظرة قائمة أساسًا على نظرة الإسلام التعادلية إلى الوجود، فمذهبية الإسلام في الوجود كله تقوم على أساس الترابط والتوازن، ولا تقوم على مبدأ النقيض الذي يفترض عدم وجود الحقائق الثابتة، ويَنبنِي على ذلك مبدأ نسبية الأخلاق في الحياة البشرية[5].
وقوله تعالى: {مَّا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِن تَفَاوُتٍ}[6] دليل على ما نقول، ونزيد على ذلك أن علم الفيزياء الحديث يثبت عدم وجود التناقض في تركيب الذَّرَّة، وبالتالي في بنية الوجود[7].إن الإسلام يريد أن يوصل الإنسان إلى حالة الاستقامة في السلوك، وهو التوازن الكامل بين طرفي التكوين الإنساني، كي لا ينجرف الإنسان وراء غرائزه فيكون عبدًا لها، فتوجهه إلى الدرك الأسفل من الحياة الهابطة الحيوانية، التي تخرجه من الفطرة السليمة.
وقد امتدح الله تعالى هذه الاستقامة، وجعلها درجة عالية في السلوك الإنساني يستحق عليها صاحبها الدرجة الأوفى: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ المَلائِكَةُ أَلاَّ تَخَافُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ * نَحْنُ أَوْلَيَاؤُكُمْ فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ}[8].ولن تتحقق الاستقامة المطلوبة هذه إلا بالإيمان الصادق بالله تعالى، وإطاعته والاستسلام المطلق إلى أوامره، والانتهاء عن نواهيه.
وهذا لن يتم في صورته الصحيحة إلا بالتقوى التي هي فضيلة أراد بها القرآن الكريم إحكام ما بين الإنسان والخلق، وإحكام ما بين الإنسان وخالقه، والمراد بها أن تقي الإنسان مما يغضب به ربه، وما فيه ضرر لنفسه أو ضرر لغيره، والاستقامة والتقوى يأتيان عن طريق تزكية النفس، وترويضها على الفضائل، قال تعالى: {قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا}[9]، وتزكية النفس وتطهيرها، وضع لها الإسلام نظام العبادة من صلاة، وصوم، وحج، وزكاة، وقراءة قرآن، ودعاء مستمر يمثل التجاء العبد لخالقه العظيم، وطلب الهداية منه في كل حين.
ولا نبالغ إذا قلنا: إن القانون الأخلاقي الذي يحدد قيم السلوك، والحياة في الإسلام، لا يتحقق على الوجه المطلوب إلا إذا وجهه النظام العبادي فيه، ذلك النظام الذي يتكفل بصياغة الإنسان صياغة ربانية عالية، يتمسك بالكمالات ويترفع عن الصغائر، ولا يقترب من سفاسف الأمور.وهذه المُهِمَّة من أخصِّ مُهِمَّات الدين عبر التاريخ، لا سيما الإسلام الذي أكمل الله تعالى به الدين والرسالات السماوية، ولذلك فإن العقلانية المادية التي نراها في الحضارة الحاضرة عجزت عن إيجاد نظام أخلاقي؛ لأنها قامت على أساس إنكار وجود الله سبحانه وتعالى، ومنكر وجود الله لا يلتزم لا بالقانون الأخلاقي، ولا بالنظام العبادي؛ بل يؤمن بالمصلحة ويسير على نظرية الغاية تسوغ الوسيلة.
إنَّ علم الاجتماع المبني على المادية الصرفة في الغرب لم يستطع أن ينشئ نظام للأخلاق، لأن مهمته الأساس هي وصف الظواهر الاجتماعية وتعليلها.ومن هذا المنطلق المهم تبرز الحاجة الماسة إلى التربية الدينية في مجتمعات تلك الحضارة، والتربية الإسلامية المتكاملة والمتوازنة في مجتمعاتنا، حتى يتربى أجيالنا على الإيمان بالله سبحانه وتعالى، والقيم المنبثقة من نوره الذي أشرقت له السموات والأرض، إن النظام التربوي الأخلاقي الإسلامي يستطيع القيام بهذه المهمة إذا أحسنا فهمه واستيعابه، وعرفنا كيف نطبقه في حياتنا الفردية والاجتماعية تطبيقات سليمًا في إطار ضوابط الفهم الأصولي.
إن الجهود الفردية والمواعظ المنثورة هنا وهناك لا تكفي، إلا إذا قامت الدولة بواجبها الأخلاقي في تربية الأمة على الأخلاق الفاضلة.إن الدولة تمثل في كل زمان قمة المؤسسات التي تجسد الوجود الاجتماعي الإنساني في مراحل تطوره ورقيه، إذ إن فيها تظهر المواهب، وتنمو الطاقات، وتتضح الخطط، وتتوزع المسؤوليات، فيتقدم الفكر الإنساني، وتتحسن وسائل الإنتاج عن طريق المجهود الجماعي الذي تنظمه وتوجهه أجهزة الدولة المتنوعة، وفيها يتحرك هذا المخلوق المميز المكلف بعقله وغرائزه، ويؤدي دوره المهم في بناء الحضارة، وضمان استمرارها في المستقبل لخدمة الأجيال الآتية.
إن أهمية الدولة في المجتمع تأتي من أنها تمثل القوة التي لا بديل عنها لإسناد الحقوق، ورد المظالم، وتحقيق قدر أوفى من السعادة والأمن والسلام لبني الإنسان.ومن هنا انعقد إجماع علماء النفس والاجتماع والفلاسفة - سوى حفنة من الفوضويين - على أنَّ الدولة ضرورة جدًّا لتمييز مجتمع الإنسان عن مجتمعات المخلوقات الأخرى، طالما أن الحق لا يمكن أن يتغلب على الباطل دون الاعتماد على القوة الرادعة، وطالما أن النفس الإنسانية ليست مجبولة على الخير المحض أو الشر المحض، فتغلب أحد الجانبين منوط بالتربية الفردية والاجتماعية، وذلك بإيجاد الجو المناسب الذي يَمنع انتشار الفساد، ويَحفظ الاتِّزان الخلقي من الضياع، ويَمنع جرثومة الغرائز الحيوانية غير المهذبة من التسلل إلى الناس الأسوياء.
من هنا انتبه الماديُّون والعلمانيون من الذين لا يؤمنون بمعايير الفضيلة أو المثل الثابتة، والذين يقولون بنسبية الأخلاق، إلى خطورة تدخل الدولة في إيجاد جو ملائم تنمو فيه المبادئ السامية، التي دعا إليها الأنبياء والمرسلون، والفلاسفة والمفكِّرون، والتي جنت البشرية من ثمارها في تاريخها المديد الاتزان في حياتها، والانسجام الاجتماعي بين أبنائها، والفرص الكفيلة بتحقيق الخير المادي والمعنوي في ظلال الضوابط الأخلاقية التي ولدت العدل، والحرية، والحق، والأمان، في فترات كثيرة.
إنَّ أولئك المادِّيِّين والعلمانيِّين، يقولون: إنَّه ليس من عمل الدولة أن تتدخَّلَ في ضبط السلوك الاجتماعي، لأنَّ عَمَلَ الدَّولة عندهم يقتَصِرُ على تنظيم الشؤون الاقتصاديَّة، وتَجديد وسائلِ الإنتاج وتَحسينِها، وإدارة الهيئاتِ السياسيَّة والإداريَّة، والمؤسَّسات العسكريَّة والثقافيَّة، ولذلك فهم يدعون إلى ترك تَحديد الاتِّجاه الأخلاقي أو بالأحرى يدعون إلى الفصل بين الدولة والأخلاق.
وبِما أنَّ الدين يُحدِّدُ السلوكَ الاجتماعيَّ، ويقرِّرُ النماذج الأخلاقية الثابتة الصالحة التي لا تخضع لنسبية الظروف والأحوال لِمُطابَقَتِها الكاملة للفطرة الإنسانية، لذلك فإنَّهم صاغُوا نظريتهم في قالبها الأخير، وهي: الدعوة إلى فصل الدين عن الدولة.إنَّ الدولة ظهرت أصلاً نتيجة لحاجة إنسانية ملحة، وهي نقل الإنسان من حيوان لا يتحكم في كيانه وسلوكه إلى إنسان مضبوط اجتماعيًّا.
على أن الحياة الإنسانية لها جوانب عدة، فهي لا تتحدد بالحسية إلا عند الماديين، فالعقل وانعكاساته في الحياة العملية والنفس، وما يتفرَّع منها من العواطف العليا والدنيا، وما تنطوي عليه من غرائز متنوعة معقدة، والجسد المادي ممثلاً في أعضائه وأوضاعه وخلاياه، كلها مظاهر متنوعة لتلك الحياة الإنسانية، فظهور الدولة كان تعبيرًا عميقًا عن حاجة واقعية، وهي تنظيم علاقات هذه القوى وضبطها، ومحاولة إيجاد توازن شامل بينها، وتأمين عدم التصادم بين أجزائها، ففي سبيل المحافظة على التوازن المطلوب يجب أن تكون وظيفة الدولة شاملة شمول تلك القوى، فهي هيئة سياسية ومؤسسة اقتصادية، وجمعية أخلاقية اجتماعية، وجامعة حضارية؛ لأنها الممثلة الحقيقية لاتجاهات الحياة البشرية ونشاطاتها، والحياة كل لا يتجزأ، وفصل أجزائها يعني زعزعتها، وفيها يكمن إلحاق الضرر الأكيد بالإنسانية، فالحضارة الغربية انحرفت عن طريق الاتزان الإنساني؛ لأن القائمين عليها والموجهين لها من الماديين والماسونيين والعلمانيين، آمنوا بعلمانية الدولة فلم يؤمنوا إلا بقوة التجربة الحسية، وأسقطوا من حسابهم قوة الإيمان واليقين التي تتفرع منها أصول الأخلاق الاجتماعية، والمثل الرفيعة التي تؤمن الاستقرار النفسي والمعنوي لكيان الإنسان، وتقضي على القلق، والضياع، والبغضاء، والجشع عنده.
ويتحصَّل لنا من ذلك أنَّ كلَّ دعوة تدعو إلى حصر وظيفة الدولة بناحية معينة في الحياة، تجانب الفطرة البشرية وتصطدم مع سنن الاجتماع، وتزيغ عن الحقيقة التي نلمسها باستقراء الواقع التاريخي للأمم والجماعات، ألا وهي أن الدولة مرآة للحياة على اختلاف جوانبها وتنوعها.وإذا كانت حتميَّة الحياة تقتضي أن تتبنَّى الدولة اتجاهات الحياة المتنوعة، وربطها ببعضها وتوجيهها بحيث يكفل السعادة لبني الإنسان، وإذا كان النظام الذي تستعين به الدولة في القيام بهذه العملية المزجية الاجتماعية الكبرى يجب أن يكون نظامًا متَّزنًا واقعيًّا مثاليًّا شاملاً يؤمن إنجاح تلك العملية، ولما كان ذلك النظام يتحقق في أجمل صوره وأعمقها بنظام الإسلام الذي يتميز بتلك الصفات الحيوية الأصلية جميعها، فإن الدولة إن لم تخطط لتربية الأجيال في ضوء نظامه الأخلاقي الرائع ستخفق أصلاً في أداء مهمتها الأساس، وهي بناء مجتمع يعيش فيه الإنسان من حيث هو إنسان، لا من حيث هو حيوان؛ لذلك كله يجب أن نقرر أن الذي يدعو إلى زحزحة الأخلاق الإسلامية وشرائعها العملية عن مجال عمل الدولة المعاصرة، يرتكب خطأ جسيمًا؛ لأنه بدعوته تلك يبعد تربية الأمة في ضوء ذلك النظام الإلهي الأخلاقي العادل الذي استوعب الحياة الإنسانية في تشريعاته الكثيرة المتناسقة.
إن القول بفصل الأخلاق الإسلامية عن الدولة، وترك التمسك الكامل بها إلى الأفراد أنفسهم، يعني: أن قسمًا كبيرًا من المبادئ الإسلامية سيتعطل عن التطبيق، وأن المسلم نتيجة لذلك لا يجد الجو الذي يستطيع فيه تنفيذ ما أمر الله به، والتقيد بأحكام شريعته وأخلاقياتها؛ لأنَّ جزءًا كبيرًا منها لا يمكن تطبيقه على الوجه الأكمل إلا عن طريق مجهود جماعي موحد، وهذا المجهود هو الذي يتمثل بالدولة لا في غيرها من المؤسسات الاجتماعية.ولكن قد يدعي جاهل أو متجاهل أنَّ هذا رجوع بالإنسانية إلى الوراء، وردة إلى حياة البساطة الأولى؛ لأن المشاكل الحضارية الآن في زعمه قد تعقدت، بحيث لا يستطيع معها الإسلام أن يقدم حلولاً تتماشى مع روح العصر!!
وجوابُنا على ذلك أنَّ المدعي لم يفهم أصول الإسلام، ولم يكلف نفسه دراسة شريعته، وسر خلودها، ولم يطلع في الأقل على الدراسات الحديثة التي عرضت الإسلام في مصادره الحقيقية فأثبتت فعاليته العظيمة في إمداد الحضارة بكل خير وفضيلة وتأمين اتزانها واستقرارها، ثم إنه يعيش بمعزل عن رأي فلاسفة الأمم ومشرعيها، ومجامعها العلمية والقانونية في عد الإسلام نظامًا اجتماعيًّا دقيقًا في معالجته لشؤون الحياة الفردية والاجتماعية، إنه وأمثاله لا بد أن يعيدوا النظر في أنفسهم ودراساتهم فيقارنوها بالإسلام في جو مشبع بروح البحث العلمي، بعيدين عن الانحراف، مستأصلين جذور الحقد التي استقرت في نفوسهم تجاهه، نتيجة لظروف تاريخية معلومة، وتمشيًا مع الحملات التبشيرية، والاستشراقية الاستعمارية التي شوهت معالم الإسلام، وكرهتها إلى أبنائه، وأحدثتْ أزمةً شديدة لديهم ضده[10].
وإن هم قاموا بهذه الدراسة كغيرهم من طلاب الحقِّ، سيتوصَّلون بلا ريب إلى حقيقة ما جاء به الإسلام من حيث هو النظام الإلهي القادر على تحقيق سعادة الإنسان بتشريعاته الكاملة، ونظريته الأخلاقية الواقعية التي انتهى إلى إقرار مبادئها العلم الحديث، والتي لها القدرة الهائلة في تهذيب النفوس، ونشر الفضائل الاجتماعية، وتكوين الأفراد الصالحين، ذوي الضمائر الحساسة التي تمنعهم من إفساد المجتمع بالاعتداء على حقوق أنفسهم، وحقوق غيرهم.
وهذا الضمير الأخلاقي الإسلامي هو الذي يفتقده الإنسان في المجتمعات التي تسير على الفلسفات المادية، والنظريات العلمانية، وذلك لافتقاده السبب في بلاء الإنسانية وشقائها، ولأجله شن المصلحون والمفكرون، وعلماء الاجتماع حملات علمية مركزة على تلك النظم التي لم تحقق الخير لبني الإنسان.
ويكاد يجمع المدركون لآلام البشر وأوضاعها المنهارة، أن هذه المشكلة الكبرى في حياة الحضارة الحاضرة، لا يمكن أن تحل إلا بقيام الدولة بواجبها في سبيل تكوين الضمير المفقود في نفوس الكبار والصغار، وليس هنالك نظام أخلاقي كالإسلام قادر على تكوين هذا الضمير الفعال، والواقع التاريخي للإسلام يدفع كل اعتراض، ويزيل الغشاوة عن الأعين، فلقد استطاع أن يكون نماذج بشرية تمثل أعلاها وأرقاها في الفضائل الإنسانية جميعًا، فكانت بحق أجيالاً تمثل أعمق جذور الخير والحق في مجتمع الإنسان.
[1]الأحزاب: 72. [2]الإسراء: 16. [3]الكهف: 59. [4]في سبيل الاطلاع على تفاصيل النظام الأخلاقي الإسلامي راجع:أ - "أصول الدعوة" للدكتور عبدالكريم زيدان: ص 90.ب - "روح الدين الإسلامي" عفيف عبدالفتاح طبارة: ص 171.ج - "الاتجاه الأخلاقي في الإسلام" لمقداد يالجن.[5]"الفكر المادي الحديث وموقف الإسلام منه": ص 275. [6]الملك: 3. [7]"أسس الاشتراكية العربية" للدكتور عصمت سيف الدين: ص 99. [8]فصلت: 30. [9]الشمس: 9، 10. [10]كتب المؤلف كتابًا خاصًّا في هذا الشأن هو: "أزمة المثقفين تجاه الإسلام في العصر الحديث" - طبع في القاهرة والرباط معا عام 1405 هـ.