الانطلاق نحو النظر إلى الشخصية يأتي من مما أصبح بادياً الآن وواضحاً وجلياً من توقيف العقل وتعطيله، وحجبه عما خلقه الله من أجله، والانطلاق نحو النظر إلى الشخصية يأتي من معضلة الإيمان بأشخاص جعلوا أنفسهم – أو جُعلوا - قدوة يؤخذ برأيهم ولا يُرد، وجُعلوا مرجعاً وسنداً لجميع ما يُشكل في السلوك والمعاملات، في حين تعدو أنت بلا وزن وبلا قيمة، وغفلت عن موقعك في هذه الحياة، تُساق وتُوجه في أي اتجاه يُراد لك باسم الحنكة والقدوة والثقة، وإن سُئلت يوماً عن وجهة نظرك الشخصية في الأمر الفلاني أو الموضوع الفلاني فلن تستطيع الإجابة بما يحويه عقلك من أدلة تستقيها من كتاب الله وسنة رسوله، بل إن جُلَّ ما يمكن أن ترد به هو أن تسرد استدلالاً لأحد مفكري العصر المتقدمين أو المتأخرين، أو رأياً لأحد قادات الحركات والتيارات البارزين، مؤمناً على رأيهم وعلى فهمهم دون تحري أو تدقيق، أما إذا طُلب رأيك أنت ومرجعك الديني فلن تخرج إجابتك عن قولك إنه لمن الغرور والعجب بالنفس ومن مداخل الشيطان أن نحاول التطاول على هؤلاء الناس، والتقليل من شأنهم، وأقول لك بل من الثبور وانتكاس النفس ومن تدني العقل أن تسير أسيراً لمعتقدات وأفكار غيرك إني لا أدعوك إلى أن تخرج لمجرد الخروج على من اعتقدت فيهم الصواب، ورجاحة العقل وحصافة اللباب، ولا أدعوك أن تتمرد لمجرد التمرد، حتى يشار إليك بالبنان، ويقال عنك باللسان ذاك هو فينا المستنير النبهان، وليس المقصود هو مُزاحمة العلماء أو أن تكون عالماً مفتياً من مفتي الديار والأمصار، فكل ميسر لما خلق له، ولكن من الخطأ أن يرتكب المرء في حق نفسه جريمة أن يغمض عينيه ويسلم نفسه وعقله وتفكيره لاتجاه معين، أو حزبٍ ما أو تيارٍ بعينه وينقاد إلى كل ما يقوله ذلك الاتجاه ويؤمن به دون أن يتوخى الحرص والحذر، وما أكثر من ترى في هذا الاتجاه، وعندما تخاطبه أو تناقشه يرد عليك بثقة متناهية في غير محلها بأنه يتبع أناسٌ قدوة، وأشخاص أمينين، ونسي أنه ليس هناك شخص مهما علا أو نزل معصوم من الخطأ ومجرد من الزلل غير رسول الله، ولا أقول ذلك طعناً فيمن يراهم هذا أو ذاك قدوة لهم، ولكن ما أعنيه أن يبذل المرء جهداً في أن يكون واسع المعرفة، واسع الإطلاع، أن يحرك ما أعطاه الله إياه من عقل ويبحث ويتقصى حتى يكون على علم ودراية، وأنا لا أدعو أن لا يكون الشخص أياً كان متأثراً بانتماء معين، أو اتجاه معين، ولكن قبل الدخول في هذا الانتماء يجب البحث في أسسه، وهل هو قائم على كتاب الله وسنة رسوله أم لا ؟ فليس للأمة الإسلامية مهما بلغت من علمٍ ودراية أن تنتهج نهجاً غير هذين المصدرين، وليس لحزبٍ أو تيارٍ أو مذهبٍ معين أن يدعي بأنه يسير على غير هذين المصدرين الكريمين، والأصل في المسلم هو نظرته إلى كل من حوله من المذاهب والتيارات الإسلامية نظرة محبة وإخاء وألفة، فما أروعه أن يكون بعيداً عن أي عصبية، مترفعاً عن أي دنية، نائياً بنفسه ودينه عن الوقوع وقوعاً أعمى في عصبية معينة، أو تيارٍ معين، فما أجمل، ولا أبهى، ولا أحلى، ولا أزكى، ولا أرقى ولا أنقى بأن يكون فكرك سليماً نقياً طاهراً، كتابه القرآن الكريم، وهديه سنة المصطفى الكريم عليه أفضل الصلاة والتسليم، وقدوته الصحابة الأخيار عليهم رضوان الله، من قال عنهم إمام الهدى: (أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم)، وأن يجعل أولئك السلف الصالح هم من يُحتذى بهم في علمهم وتقواهم وورعهم، وعندها ستؤسس لديك القاعدة التي تكون لك حائطاً وسنداً وسداً وحائلاً من الوقوع لا سمح الله في هاوية الأفكار المتناقضة والبعيدة عن خط المنهج الإسلامي القويم فضلاً عن الأفكار الهدامة التي تغزونا تباعاً، وما أجمل قول القائل:
كن في أمورك كلها متمسكاً *** بالوحي لا بزخارف الهذيان
وتدبر القرآن إن رمت الهدى *** فالعــلم تحت تــدبر القـرآن
فقد أورد الإمام ابن قيم في فوائده: (الوصول إلى المطلوب موقوف على هجر العوائد، وقطع العوائق، فالعوائد: السكون إلى الدعة والراحة وما ألفه الناس واعتادوه من الرسوم والأوضاع التي جعلوها بمنزلة الشرع المتبع، بل هي عندهم أعظم من الشرع، فإنهم ينكرون على من خرج عنها وخالفها مالا ينكرون على من خالف صريح الشرع، وربما كفروه أو بدَّعوه وضللوه، أو هجروه وعاقبوه لمخالفة تلك الرسوم، وأماتوا لها السنن، ونصبوها أنداداً للرسول يوالون عليها ويعادون، فالمعروف عندهم ما وافقها والمنكر ما خالفها، وهذه الأوضاع والرسوم، قد استولت على طوائف بني آدم من الملوك والولاة والفقهاء والصوفية والفقراء والمطوعين والعامة، فربي فيها الصغير،ونشأ عليها الكبير، واتخذت سنناً، بل هي أعظم عند أصحابها من السنن، الواقف معها محبوس والمتقيد بها منقطع، عمَّ بها المصاب، وهُجر لأجلها السنة والكتاب، من استنصر بها فهو عند الله مخذول، ومن اقتدى بها دون كتاب الله وسنة رسوله فهو عند الله غير مقبول، وهذه أعظم الحُجب والموانع بين العبد وبين النفوذ إلى الله ورسوله.
وأما العلائق، فهي كل ما تعلق به القلب دون الله ورسوله من ملاذ الدنيا وشهواتها ورياستها وصحبة الناس والتعلق بهم، ولا سبيل له إلى قطع هذه الأمور ورفضها إلا بقوة التعلق بالمطلب الأعلى، وإلا فقطعها عليه بدون تعلقه بمطلوبه ممتنع، فإن النفس لا تترك مألوفها ومحبوبها إلا لمحبوب هو أحب إليها منه وآثر عندها منه، وكلما قوي تعلقه بمطلوبه ضعف تعلقه بغيره، وكذا بالعكس، والتعلق بالمطلوب هو شدة الرغبة فيه، وذلك على قدر معرفته به وشرفه وفضله على ما سواه.) انتهى.
وإني لا أزيد على ما ذكره ابن القيم إلا أن أربط تلك العوائد والعلائق بما نلمسه في واقعنا، فيحضرني عند ذكر العوائد ما ألفه اليوم بعضهم من تحزب وتمذهب وتشيع ما أنزل الله بهم من سلطان، أسماء طغت في عصرنا ألزمت كل واحد أن يتخذ له حزباً أو فئة أو جماعة، ونصبوا تلك الجماعات والأحزاب مرجعاً وسنداً ومذهباً، اتكأوا عليها لمعرفة الأحكام وإطلاق الصفات لم يعد هناك جهد في البحث والتفتيش عن مصادر العلم بدءً بالكتاب والسنة ومروراً بالآثار وما نقله المحدثون والأئمة، بل أصبحت المرجعية والسند هم أشخاص وقيادات هذا التيار أو ذاك من الذين أصبحوا في نظر الشباب المتعاطف هم القدوة وهم الخير الذي لا ينضب ونسوا أنهم بشر يؤخذ من كلامهم ويرد، فأصبحت من أكبر عوائد هذا الزمان هو البعد عن المصدر الحقيقي للدين، هو الجهل بعلماء الإسلام وعدم التنقيب في كتبهم والأخذ بما تركه المصطفى محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
خطأنا اليوم أننا سلّمنا لأشخاص بعينهم ولجماعات وأحزاب بعينها الصحة والصواب في كل ما يصدر عنها، وألزمنا أنفسنا الاتباع والانقياد دون مشاركة أو نصيحة بحجة الالتزام بالجماعة وعدم الخروج عنها، وهل كان النصح يوماً خروجاً عن الألفة والمحبة..
يستوقفك أولئك الشباب الذين ملكوا من التضحية ما يمكن معه أن يهمشوا أنفسهم في الحياة في مقابل حياة الآخرين، وليس هذا هو الإخلاص، وإنما هو الانحصار والانعزال بعينه، وإني لأعجب أيهما أعظم وأجل ذلك المتبوع أم أبوبكر الصديق الذي قال في أول يوم لتوليه خلافة الأرض جميعها: (أطيعوني ما أقمت كتاب الله وسنة رسوله بينكم فإن خالفتها فلا طاعة لمخلوق في معصية الخالق)، ولله در ابن مسعود عندما مشى ذات يوم إذ رأى خلفه من يتبعه من محبيه فالتفت إليهم وزجرهم، وقال لهم: (ارجعوا.. فإنما ذلك ذلٌ للتابع وفتنة للمتبوع).
والأدهى والأعجب من ذلك أن تجد كل حزب وكل جماعة وكل فئة تدعي – وهي إن شاء الله صادقة – أنها مبنية في أساسها على كتاب الله وسنة رسوله، فإذن من منهم الصادق ومن منهم المدعي ولا أحسبهم جميعاً إلا صادقين، ولكن إن غلب الطابع السياسي على فئة معينة أو إن شئت فقل على جميعها فلا يعني هذا أن تأثم نفسها بأن تُملي تلك الجماعة منهجهاً إملاءً على كل من يتبعها ولتعطي لكل شخص حقه في البحث والتقصي لا أن تطلب منه أن يسلم لها بكمال العقل ورجاحة المنطق وبعد النظر وأنها هي فقط وما سواها غث لا ينفع وكأني بهم جميعاً كما قال الشاعر:
كلٌ يدعي وصلاً بليلى *** وليلى لا تقر لهم بذاك
ولله در القائل:
مافي الخيام أخو وجـدٍ يريحك إن بثـثته بعض شـأن الحب فاغترب
واسر في غمـرات الليل مهتـدياً بنفحـة الطيب لا بالعـود والحطب
وخـذ لنفسـك نوراً تستضيء به يوم اقتسـام الورى الأنوار بالرتب