(العمل الإغاثي): أحد الأوجه الرئيسية للعمل الخيري العام، فمنطلقاته، وأهدافه، واعتباراته، ومقاصده واحدة، فهو يعد تخصصاً مهماً ورئيسياً من مجالات العمل الخيري المتعددة، مثل: (الدعوة، والتعليم، والرعاية الاجتماعية، والرعاية الصحية وغيرها)، وثمة ملاحظة حول العلاقة بين هذه التخصصيات والفروع، ومتى تجتمع في ميدان واحد؟ ومتى تفترق؟، وسيأتي الحديث عن هذا في ثنايا العرض اللاحق.
(العمل الإغاثي): سلوك حضاري في التواصل مع الآخرين في الظروف الحالكة، سداً للحاجة، ورفعاً للمعاناة، وإغاثة للمكلوم، فهو إغاثة ملهوف، أقعده عجزه أمام نوائب الدهر.
(العمل الإغاثي): صورة من صور التكافل الاجتماعي بين المسلمين، بل هو من أبهى صوره، وأزكاها، وإن امتدت يد العطاء والفضل لغير المسلمين فهو من سعة ورحمة حث المصطفى (صلى الله عليه وسلم) (في كل كبد رطبة أجر).
(العمل الإغاثي): دفع للبلاء عن أرض العطاء، ومجلبة لمزيد من الخير والبركة فيه، وصد لحقد الآخرين وحسدهم، وعلى مستوى الأفراد الباذلين والعاملين فيه، فإنه مدعاة لتزكية النفس وسموها، ورقة للمشاعر كلما ازداد عمقاً في الإحساس بالآخرين، كما أنه ترويض للنفس على التواضع فهو مجتمع الضعفة (أطفالاً، ونساء، وشيوخاً، ومرضى، وعجزة) وهو حياة مليئة بالجوع والخوف والمرض، فالعين فيه مكسورة.
(العمل الإغاثي): دعوة عملية صادقة، تشاهد فيه ما تقرأه في تاريخ المسلمين الأقدمين من دعوة التجار المسلمين بأخلاقهم وصدقهم وأمانتهم، وهنا أيضاً دعوة أكثر عملية ومهنية، فأنت هنا تعطي فقط، ولا تأخذ، إنما تجفف دمعة، وتهدئ عبرة نفس مضطربة، وتبرئ جرحاً نازفاً، كل ذلك بدافع بذل الخير واحتساب أجره مثوبة عند الله.
* هذه المعاني العملية الحقيقة للعمل الإغاثي، بيان جلي لسر التباين في النظرة لهذا العمل النبيل، أو الحماسة له بين القائمين عليه والسهمين فيه، وغيرهم ممن لم يكن لهم فيه نصيب، والمرء عدو ما جهل.
العمل الإغاثي الدولي: مفاهيم واعتبارات:
قد يكون العمل الإغاثي (في نطاقه الجغرافي) محلياً، وقد يكون دولياً، وفي كلا الحالين فإن له مفاهيم واعتبارات عامة ومشتركة لا تختلف كثيراً، إلا أن البعد الدولي للعمل يضفي عليه مزيداً من الاعتبار في أساليب التواصل مع الآخرين والتعامل معهم، سواء ذوي الحاجات، أو الهيئات والمؤسسات المعنية بتلك الأعمال واللازم التفاهم والتعاون معهم.
ويمكن هنا عرض جملة من المفاهيم والاعتبارات المرعية في مجالات العمل الإغاثي في أبعاده الدولية، ومن ذلك:
1. التخصص الوظيفي: فمجالات العمل الإغاثي عديدة جداً يفرض تنوعها اختلاف حاجات المنكوبين، وطبائع أماكن الاحتياج، فالتخصص لاشك يفضي إلى الإبداع في العمل، والإشباع للحاجة، أما التنوع العشوائي أو محاولة الإشباع الشامل لمختلف الاحتياجات فإنه يقود إلى تشتت الجهد، وإرباك العمل، وزيادة التكاليف.
والتخصص لا يعني إطلاقاً قصر الجهد على مجال واحد فقط من مجالات العمل، ولكن المراد الإلمام بكامل تفاصيل ومتطلبات ما تقوم به، وتأدية كامل حاجته، فلا يمنع أن تكون متخصصاً في مجالين أو ثلاثة، ولكن منطق العمل وواقعه يؤكدان على أن زيادة أفرع العمل تؤدي إلى التقصير في الأداء.
2. إن من أدق مفاهيم العمل الإغاثي الدولي انه يسعى (لإحداث التوازن في موقع الاحتياج)، وهذا المعنى يفهم منه تحديد جدول زمني لمجال العمل، فالعمل الإغاثي لا يعني الاستيطان، وإيجاد المواقع الثابتة والدائمة، ويؤكد أهمية هذا المعنى الدقيق، أمران، هما:
الأول: أن الهدف هو العمل على رفع البلاء، أو التخفيف من وطأته حتى يستطيع الناس العودة إلى الحياة الطبيعية.
الثاني: أن الاحتياج الإغاثي متواصل، فلا تنشغل، أو تنصرف بعملك كلية إلى موطن تستغرق فيه الجهد والطاقة، دون التحسب للاحتياجات الأخرى.
وجانب مهم في هذا الاتجاه: أن طول مكث العمل وآلياته (الفنية والبشرية)، مع قلة الحاجة الإغاثية إليه، يشكك في غايات العمل وأهدافه، ومن جانب آخر؛ يدخل العمل والقائمين عليه في التزامات عملية يصعب الخلاص منها، وتحفظ فيه جوانب التقصير، وتنسى معه ساعات العسرة والبذل.
3. العمل الإغاثي الدولي: ميدان للحساسيات المفرطة، تفرضه طبائع الأمم والشعوب، وتدفع إليه اختلاف السياسات ، والاتجاهات، والأهواء، والمقاصد، وتبرره مشكلات التجارب ونماذجها المختلفة.
ومما يدفع إشكال الحساسيات الدولية، معرفة وتفهم سياسات الدول (مواطن الاحتياج) وأنظمتها، وأعراف شعوبها، واحترام أديانهم ومبادئهم (ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله فيسبوا الله عدواً بغير علم، كذلك زيّنّا لكل أمة عملهم,,) الآية (الأنعام، 108)، هذه ولاشك احترازات هامة تقي العمل مظنة الخطأ والزلل.
4. العمل الإغاثي الدولي: ميدان للتنافس ، وخاصة بين المؤسسات المتماثلة في وظائف العمل، وإن كان التنافس يدفع في بعض مراحله إلى الجدية في العمل، والقوة في الإنتاج، إلا أنه لا يخلو من تلمس الهفوات، وتتبع السقطات، ويدفع هذا، ويحقق الجانب الإيجابي منه، التفاهم المبكر، والتنسيق المشترك، وتعاهد ذلك عملياً بإيجاد أرضية مشتركة في ميدان العمل، بما يقطع الطريق على المغرضين والمتربصين.
* هذه من أبرز الاعتبارات المتعلقة بالعمل الإغاثي في نطاقه الدولي، والتي يحسن النظر إليها، فالقائمون على الأعمال والبرامج الدولية لا يمثلون ذواتهم بشخصياتهم الحقيقة، أو الاعتبارية من خلال مؤسساتهم، وإنما هم بقصد، أو دون قصد يمثلون الدول التي ينطلقون منها، وبها مؤسسات عملهم.
العمل الإغاثي السعودي: ميزات وخصائص:
إن الأرضية التي ينطلق منها العمل الإغاثي السعودي، تتيح له من الخصائص والميزات ما تفرقه عن غيره في كثير من دول العالم، وذلك بالنظر إلى جملة أمور منها:
1. أنه ينطلق من هذه الأرض المباركة، التي شرفها الله تعالى بالحرمين الشريفين، وما أودع فيها من البركات المعنوية والمادية، وتعلق قلوب المسلمين في العالم بها، واحترام غيرهم لها كرائدة للعالم الإسلامي.
2. استقلال العمل الإغاثي السعودي عن أي توجيه سياسي أو مذهبي، فهو ينطلق في جو من الحرية العملية، تغيب فيه الأهداف والغايات التي يبطنها الكثير من رواد هذا العمل في العالم.
3. الحرية المالية لمؤسسات العمل الإغاثي، حرية في التحصيل المالي، وحرية في الإبداع، وحرية في الإنفاق، دون سؤال سائل من أين؟ وكيف؟ ولمن؟ والأرقام هنا لا تتجاوز مئات الملايين، بل المليارات .
4. التسهيلات بل والمساعدات الرسمية للمؤسسات الخيرية، بهدف إعانتها على القيام بأعمالها وأدائها لهذه الواجبات دون مشقة وعناء.
* هذه الإشارات من المقومات الضرورية لنجاح العمل، والتي لا تتوفر كثيراً لباقي مؤسسات العمل الإغاثي على مستوى العالم.
وإذا أضفنا إلى ذلك إن أموال العمل الإغاثي هي من إسهامات وتبرعات أبناء المملكة بأشخاصهم، فهي عطاءات محسنين، وليست أموالاً مؤسسية، كما هو الحال في بعض المؤسسات في العالم والتي تكون جزءاً من شركة عملاقة، كفائض انتاجها، أو فوائد أرباحها وإيداعاتها.
وهذا هو المنطلق الذي يدفع للتأكيد على وجوب أن يمتاز عملنا الإغاثي من خلال مؤسساته المختلفة بخصائص تفرقه عن الآخرين من العاملين في ذات الميدان، فتغيب فيه الأهداف المؤسسية الخاصة، وتبرز روح العطاء العام بكامل شفافيتها وسموها وبعدها عن التحزبات والانتماءات الضيقة، فهذا العمل يمثل عطاءات أهل الإحسان والفضل من أبناء هذا البلد الكريم، وان يظهر ذلك جلياً في ميدان العمل بما يصاحبه من إعلام وتعريف يؤكد محبة قلوب الآخرين لأبناء المملكة، ويعرفهم بعطاءاتهم.
العمل الإغاثي السعودي: المرحلة القادمة:
تجربة العمل الإغاثي السعودي، جيدة ولاشك، وقطعت مسافات زمنية ومهنية لا بأس بها من الخبرة والمران، إلا أن مؤسسات العمل الإغاثي السعودي ومعظمها ليس إغاثياً في أصل منشئها وطبيعة عملها استغرقت كافة أوجه العمل الإغاثي واحتياجاته وأوجه العمل الخيري العام، فنجدها: (تقدم المساعدات الغذائية، وإنشاء مخيمات إيواء اللاجئين وكفالات الأيام وكفالات الدعاة والرعاية الصحية والتنمية الزراعية وبرامج الإعمار وإنشاء الطرق والجسور ,, وغيرها) ولكي تقف على مزيد من هذه التفصيلات يكفي العودة لتقارير المؤسسات عن أعمالها خلال السنوات الماضية، لاشك أن هذه أعمال تذكر فتشكر ولكن السؤال: هل كل مؤسساتنا الإغاثية (أو الخيرية بتعبير أصح) معنية بالقيام بكل هذه الأعمال؟ وهل تتوفر الخبرات الحقيقية المتخصصة للإشراف على هذه الأعمال؟ ثم هل بالإمكان القيام بكل ذلك مع انتشار جغرافي يغطي معظم دول العالم؟! إن من الصعوبة بمكان تحقق ذلك.
* سبق تناول هذا الإشكال في دراسة سابقة مع التأكيد على ضرورة الترشيد، وإن من الترشيد توزيع الأدوار، والتنسيق في تناول اختصاصات العمل، ولكن هذا إشكال سيظل قائماً لسببين:
الأول: التنافس بين هذه المؤسسات، وسعي كل منها لزيادة مقدراتها، وتمدد مجالاتها وأوجه عملها، وهو سعي مؤسسي ظاهر.
الثاني: غياب الجهة المعنية بالإشراف على هذه المؤسسات، والتي يجب أن تقوم بدور الإشراف، والتوجيه والضبط، وليس محاولات التنسيق فحسب!!
* إن تجربة العمل الإغاثي السعودي بمراحله المختلفة، وميادينه المتعددة يدفع للتساؤل الجاد:
متى تبدأ المرحلة السعودية الإغاثية الجديدة؟ والمتمثلة في قيام مؤسسة إغاثية سعودية شاملة وعملاقة، تعنى بالعمل الإغاثي السعودي، تأتي مبنية على التجارب السابقة، وتوحيداً للجهود، وتوفيراً للطاقات، واتقاناً للعمل، تحظى بإشراف رسمي مع إسهام شعبي.
إن من الدوافع الأساسية للتفكير الجاد والعملي في تدشين (المرحلة السعودية الجديدة) جملة اعتبارات تتعلق بطبيعة العمل الإغاثي وظروفه وإشكالاته، ومتطلباته، ومنها:
1. تزايد الاحتياج الإغاثي على المستوى الدولي؛ فالإحصاءات الدولية عن إعداد اللاجئين ومهجري الحروب، وانتشار الأوبئة، وشيوع الجهل والتخلف، وتفشي المشكلات الأخلاقية أكبر من أن تحصى، وما تزال أخبار الحوادث والكوارث في تواصل مستمر، والنصيب الأوفر في مجتمعات المسلمين ومواطن أقلياتهم.
2. استمرار تدفق العطاء السعودي على مختلف مستوياته مواكبة لتلك الاحتياجات ، مما يدفع لضرورة التنظيم والتطوير والتفعيل.
3. حساسية هذا المجال، والظروف المحيطة به، وما يكتنفه من تربص وإرجاف، وسعي للتشويه وإفساد لمقاصد الأعمال.
4. الحاجة إلى التعريف الإعلامي المتواصل والمتميز في اتجاهين:
الأول: تعريف الناس بالعمل الإغاثي واحتياجاته، وربط حياة عامة الناس به من خلال تعرفهم المستمر على أحداثه وبرامجه وتطوراته، مما يزيد في تفاعلهم وعطائهم.
الثاني: التعريف ببرامج عملنا، وإظهارها على رؤوس الأشهاد حتى لا نبخس حقاً نحن أحق به وأولى.
5. ضرورة التوثيق الدولي لأوجه المساعدات وكمياتها وأقيامها، وهذا ضرورة مرحلية ومستقبلية، فالناس سرعان ما تنسى إذا ارتفعت الحاجة وانكشف البلاء، ولاسيما أن التوثيق أمام المنظمات الدولية أصبح من ضرورات العمل ولوازمه.
* من هذه الاعتبارات وغيرها، تتأكد الحاجة العملية لقيام مؤسسة سعودية إغاثية دولية دائمة، ذات أمانة عامة مستقلة، يقوم عليها أمين عام متفرغ، ويعاونه فريق من المتخصصين المتفرغين، وأن تستقل بكامل أوجه العمل الإغاثي السعودي الرسمي والشعبي سواء في جمع التبرعات لذلك، وتحصيلها، وإيداعها ، وصرفها في أوجه العمل وبرامجه، ويمكن تفصيلاً عرض بعض جوانب العمل المقترحة:
1. متابعة الأحداث الدولية، وما ينتج عنها من احتياجات إغاثية، وتقدير أوجه المساعدة وبرامج العمل.
2. الإشراف على أعمال جمع التبرعات، وريع عوائد الأسواق والمهرجانات وغيرها مما يختص بالمساعدات الإغاثية.
3. الإشراف والمباشرة الميدانية على تقديم المساعدات والمعونات الرسمية والشعبية.
4. العمل على توثيق المساعدات والإسهامات السعودية لدى الهيئات والمنظمات الدولية، واتخاذ كامل التدابير اللازمة لذلك.
5. إصدار تقرير دوري موثق عن أوجه المساعدات والمعونات التي تم تقديمها، والتعريف الإعلامي المتواصل بذلك.
* إن نتائج التجارب السابقة بإيجابياتها الكبيرة، أرضية مناسبة لانطلاقة جديدة، تفرضها ضرورات المرحلة، ومستقبل العمل.