مقدمة:
يتشكّل المجتمع من مجموعة مؤسّسات اجتماعية تضمن استقراره واستمراريته، ولعلّ أهمّ هذه المؤسّسات مؤسّسة "الأسرة"، فصلاح المجتمع يقاس بمدى صلاح هذه الهيئة القاعدية. كما أنّ الأسرة تتكوّن هي الأخرى من عناصر تربطها بداية بالأب والأم ثم الأطفال. ويعتبر "الأب" المحور الرئيس والمركزي لكلّ العناصر الأخرى.
انطلاقاً من هذا التصوّر، ما هي أهمّ مقومات الأب الصالح، وكيف يستطيع أن يجعل من المؤسّسة التي يقوم عليها صالحة وفعّالة وأداة لبناء المجتمع الإسلامي لا هادماً له؟ هذا ما نحاول الإجابة عليه من وجهة نظر اجتماعية في هذه المداخلة.
تنطلق المداخلة من تعريف الأسرة، والوظائف التي تقوم عليها، ثمّ تعريف مفهوم الأبوة وما هي أهمّ واجباتها في علاقتها بالزوجة ثم الأبناء، وما هي أهمّ طرق معالجتها للخلافات داخل الأسرة.
1- تعريف الأسرة:
تعتبر الأسرة الوحدة الأساسية المكوِّنة للتركيبة الاجتماعية، ويعرّفها برجس ولوك في كتابهما "العائلة" «على أنّها جماعة من الأفراد تربطهم روابط قوية ناتجة من صلات الزواج، الدم والتبني وهذه الجماعة تعيش في دار واحدة وتربط أعضاءها (الأب والأم والأبناء) علاقات اجتماعية متماسكة أساسها المصالح والأهداف المشتركة»(1). وهي «جماعة حاصرة منحصرة، ذات بنية خاصة وحاجات وظروف معيشية، تشكّل بذاتها ملاذاً نفسياً، واجتماعياً لأفرادها، وتقدّم بمناشطها الداخلية والخارجية، أصغر صورة نموذجية عن مجتمع جزئي»(2).
ويعتبر تعريف ميردوخ أكثر التعاريف شهرة وشمولية، إذ يرى بأنّها «جماعة اجتماعية تتميّز بمكان إقامة مشترك وتعاون اقتصادي، ووظيفة تكاثرية ويوجد بين اثنين من أعضائها على الأقل علاقة جنسية يعترف المجتمع بها، وتتكوّن على الأقل من ذكر بالغ وأنثى بالغة وطفل، سواء كان من نسلها، أو عن طريق التبني»(3).
من خلال هذه التعاريف نلاحظ أن أهمّ مكونات الأسرة هي:
1ـ تتكوّن مادياً من أفراد كالزوج والزوجة والأطفال يعيشون في مكان واحد.
2ـ وحدة اجتماعية اقتصادية ثقافية تربط بين أفرادها علاقات تعاون روحية.
3ـ لها وظائف بيولوجية (إنجاب) وتربوية (التنشئة) واقتصادية (ضمان الحاجات المادية).
4ـ لها مراكز وأدوار من أب، وأطفال، زوجة، وأخ، وأخت بينهم علاقات تفاعل.
5ـ للأسرة نمط معين من المعايير والقيم الموجّهة لسلوك أفرادها وعلاقاتهم.
وللأسر عدّة أنواع فهناك الأمسية والأبسية، الممتدة والنووية، الحضرية والريفية. كما قد تقسّم حسب نمط التنشئة الاجتماعية السائدة فيها من أسرة متسلّطة، وأسرة متساهلة، وأسرة ديمقراطية(4) وغيرها.
2 ـ خصائص الأسرة ودورتها:
وقد حدّد بيدج وماكيفر خصائص الأسرة في:
1ـ العمومية: فهي موجودة في كلّ المجتمعات باختلاف الأشكال التي تأخذها.
2ـ الأساس العاطفي والانفعالي.
3ـ التأثير الشكلي والتشكيلي: فهي تكوّن الأفراد على الشكل الأمثل الذي يرسمه لها المجتمع وتشكيل الأفراد للاندماج فيه.
4ـ الحجم المحدّد: فهي ذات حجم محدّد الجوانب.
5ـ موضع النواة في الهيكل الاجتماعي: وتهتم بها كلّ المجتمعات وتشكل الوحدة الأولية لكلّ مجتمع وأصغر حجم فيه.
6ـ مسؤولية الأعضاء: فلكلّ عضو مهامه ومسؤولياته فيها.
7ـ التنظيم الاجتماعي: إذ تخضع لتشريعات المجتمع ومقاييسه وشرعيته بداية من الزواج.
8ـ طبيعتها الدائمة والمؤقتة: فهي من حيث أعضائها تزول، أمّا من حيث الشكل فهي دائمة ومستمرة في كلّ المجتمعات لا تزول بزوال أفرادها(5).
وقد حدّد سوركين Sorokin أربعة مراحل لدورة الأسرة:
1ـ مرحلة الزوجين المستقلين اقتصادياً.
2ـ زوجان مع طفل.
3ـ زوجان مع طفلين أو أكثر.
4ـ زوجان تقدّمت بهما السنّ(6).
3 ـ وظائف الأسرة:
وغالبًا ما تحدّد المراجع العلمية وظائف الأسرة المعاصرة في:
*ـ الوظيفة البيولوجية وإنجاب الأطفال والتناسل وتنظيم السلوك الجنسي.
*ـ الرعاية الصحية لأفرادها والمحافظة الجسدية على أعضاء الأسرة.
*ـ منح المكانة الاجتماعية.
*ـ ممارسة الضبط الاجتماعي ومنع الانحراف.
*ـ توجيه الطفل لطرق التعامل مع الآخرين وتوثيق الصلة بين الفرد والمحيط وتعليم الطفل توقعات الآخرين.
*ـ نقل التراث الثقافي في نماذج سلوكية.
*ـ غرس المهارات والخبرات الاجتماعية المساعدة على استغلال القدرات الكامنة.
*ـ التدريب على تمييز الخطأ والصواب وإعطاء صورة مصغرة عن العالم الخارجي.
*ـ توفير جو سليم لتحقيق الحاجات(7).
*ـ التوافق الاجتماعي.
*ـ التنشئة الاجتماعية والعناية بالأطفال وتربيتهم.
*ـ التعاون وتقسيم العمل(8).
*ـ إضافة إلى وظيفة جديدة لم تهتم بها التحاليل السوسيولوجية من قبل هي "الوظيفة العاطفية" للأسرة، فالأسرة توفر المحبة، والإصغاء، والثقة بالنفس والعاطفة المحترمة، والسلطة المبنية على حزم خير، و تنمية الاستقلالية الذاتية لدى أفرادها(9).
فوظائف الأسرة بالتالي متعدّدة تمسّ الجوانب الجسمية، والعاطفية، والخلقية، والدينية، والعقلية، والاجتماعية، والبديعية، والقومية والجنسية(10).
4ـ مكونات الأسرة:
تتكوّن الأسرة من جيلين:
*ـ الأبوان: وهما الأب والأم؛ بدونها تتفكّك الأسرة أو على الأقل تتعرّض للاهتزاز والتصدع. ويعود لهما التوجيه والضبط وتعديل السلوكات، وتربية الأطفال، وتمثيل ثقافة المجتمع ونقلها.
*ـ الأبناء: هو منتوج الوالدين، ويختلف عددهم حسب تشكيلة الأسرة ومستواها الاقتصادي والثقافي وموقعها الجغرافي من ريفية وحضرية، ونمط الأسرة الممتدة أو النووية.
*ـ الجد والجدة: وذلك في الأسرة الممتدة وقد يعود لهما دور الإدارة(11).
5ـ أنماط التنشئة في الأسرة:
أهمّ اتجاهات التنشئة الاجتماعية داخل الأسرة هي:
*ـ الاستقلال/ التقييد.
*ـ التسامح / التسلط.
*ـ الحماية الزائدة / الإهمال.
*ـ التقبل / الرفض.
*ـ الاتساق / التذبذب.
*ـ المساواة / التفرقة.
*ـ التشجيع على الإنجاز / التثبيط.
*ـ الضبط الايجابي / الضبط من خلال الشعور بالذنب.
*ـ الاندماج/ التباعد(12).
6 ـ الأبـوة:
لغة: الرابطة الطبيعية أو الشرعية بين الأب والأبناء.
اصطلاحا: هي العلاقة القرابية التي تقوم على الدم أو المصاهرة في الجماعة الذكورية سواء أكانت داخل العائلة أم العشيرة أم القبيلة، قصد تحقيق أغراض اجتماعية محدّدة. وتنقسم القرابة هنا إلى روحية (العائلة، الدين، الطوائف...) واجتماعية (مصاهرة) وحقوقية (التبني) وأسطورية (القيم المشتركة، الجد الأسطوري)(13). والسلطة الأبوية هو الحق الذي ينسبه الفرد لنفسه كَمُرَبٍّ وصاحب قيادة في أسرته بمتابعة سلوكات أفراد الأسرة من خلال ممارسة وظيفة التوجيه والإرشاد والإنفاق(14).
وقد استخدمت الكلمة لأوّل مرّة في مجال الانثروبولوجية من قِبَلِ المفكر ديبلييو توماس بدل مصطلح حقّ الأب، وقد وسّع من هذا المصطلح العلامة راد كليف براون في دراساته حول القرابة.
ويتحدّد مفهوم الأبوة وفقاً لثقافة المجتمع الذي يوجد فيه وحسب الأدوار التي تعطيها له هذه الثقافة، ففي بعض جزر ميلنـزيا يعتبر الأب الفرد الذي يدفع نفقات القابلة، فهو الأب الشرعي، وزوجته هي أم الطفل، وفي أجزاء نفس الجزيرة يصبح الرجل أبا بزراعة شجرة السيكاس أمام باب بيته(15).
كما يختلف هذا المفهوم حسب المستويات الاجتماعية والاقتصادية والثقافية، ففي الطبقات العليا تتداخل أدوار الأب والأم، في حين أنهما يختلفان عن بعضهما في الطبقات الدنيا.
ويقصد بالمجتمع الأبوي (Patriarcale) المجتمع القائم على سلطة الأب دون الأمّ، وهو يعزى تاريخياً إلى التجمع البطريركي الذي يحكمه كبير العائلة والقوم من حيث السن والمال والرجولية والسلاح، فالتفوّق يعود إلى التركيبة الجسدية للرجل على المرأة ونسبية الأولاد تعود لهم، والزوجة تابعة دوماً لزوجها والمسكن زوجي أبوي، وكلّ الأنظمة الاستبدادية سياسياً تقوم على هذه التشكيلة في سيطرة النمط الأبوي داخل تركيبة القبيلة وشيخها(16).
وقد أثبت هنري أن النظام الأبوي وجد منذ العصور القديمة على عكس ما قال به باختين(17). وتنقسم الأبوة إلى أبوة فعلية (الأب الحقيقي للفرد)، وأبوية متوهّمة (وهو ما يتصوّره الفرد نموذجياً عند الأب، أو ما يجب أن يكون عليه الأب)، وأبوة رمزية (اعتبار بعض الرموز أباً كالوطن والدين وغيرهما)(18).
7 ـ واجبات الأبوة:
تربط الأب داخل الأسرة مجموع علاقات، بداية بعلاقته مع الزوجة والتي تفرض واجبات معينة، وعلاقاتة مع الأبناء التي تحتّم هي الأخرى واجبات أخرى.
أـ علاقة الأب / زوجة:
للزوج والزوجة واجبات وحقوق، بعضها مشترك وبعضها الآخر خاص بالأب فقط نحو زوجته:
1ـ الواجبات المشتركة بين الزوجين:
أهمّ واجب هو أن يقضي الواحد للآخر ويسمح له بما لم يكن مسموحاً به قبل الزواج من جماع ووطء، وهدف ذلك الاستئناس من الوحشة والإحصان ودفع ضرر الشهوة عنهما، كما يحفظ الروابط الزوجية من التفكك وآفة الزنا. وقد ورد في المادة 36 من قانون الأسرة واجبات الزوجين كما يأتي:
«يجب على الزوجين:
1ـ المحافظة على الروابط الزوجية وواجبات الحياة المشتركة، وذلك بتوفير الود والاحترام كما جاء في الآية: {وَمِنَ ـ ايَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنَ اَنفُسِكُمُ أَزْوَاجًا لِّـتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لآَيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ}{الروم/21}. {هُنَّ لِبَاسٌ لَّكُمْ وَأَنتُمْ لِبَاسٌ لَّهُنَّ} {البقرة/187}.
2ـ التعاون على مصلحة الأسرة ورعاية الأولاد وحسن تربيتهم.
3ـ يجب المحافظة على روابط القرابة والتعامل مع الوالدين والأقربين بالحسن والمعروف»(19).
2 ـ واجبات الزوج نحو زوجته:
رغم ظهور نمط من المساواة حالياً في كثير من المجتمعات إلاّ أن وتيرة تحرّك المجتمع نحو هذه الغاية مختلفة، وتتقيد بالجماعات والقطاعات المختلفة داخل المجتمع، ففي المجتمع الواحد نجد الأزواج الذين يميلون إلى ممارسة دورهم الأبوي الحديث في مقابل آخرين يحتفظون بالدور التقليدي، والتعميمات المعطاة الآن تضمّ خاصة المجتمعات المتقدّمة ويزداد انتشارها في المجتمعات الأخرى(20).
وأهمُّ واجبات الزوج:
1ـ الزوج كعائل أول لأسرته: ما زال يُنتظر منه هذا الدور وكثيرًا ما يتمّ الطلاق في حالة عدم وجوده، إلاّ أن خروج الزوجة أو المرأة للعمل غيّر هذا المفهوم، وأصبح الزوجان يتقاسمان هذا الدور.
2ـ الأب رئيس الأسرة: رغم أنّ الزوج ما زال رئيس الأسرة إلاّ أن هذه الرئاسة لم تعد تستند على التسلّط والعنف الذي كان في الأسرة الممتدة، نظراً لارتفاع المستوى التعليمي وخروج المرأة للعمل. إلاّ أنّ ذلك يعود أيضاً إلى الطبقات، فالطبقات العليا تسمح للزوجة بمشاركة زوجها في الرئاسة ولو لم تكن عاملة، أماّ الطبقات الدنيا فنجد فيها الرئاسة المطلقة للرجل.
3ـ دور الزوج كأب بيولوجي: لم يعد يقتصر دور الأب في السيطرة والضبط الصارم لأبنائه، بل إن الكثير منهم يحاول فهم مشاعر أبنائه والتعاطف معها، ويلعب دوراً هاماً في رعايتهم، وقد يضطر الأب لقراءة بعض الكتب أو الالتحاق ببعض المدارس قصد تعلم طرق تربية ورعاية الأبناء، وأصبح البيت لا محل مأوى فقط بل مكاناً للحياة المشتركة، وانهار تقسيم العمل بين الجنسين في المنزل (عمل المرأة، وعمل الرجل). إلاَّ أنَّ بعض النساء يرفضن تدخل الرجل في أعمالهن المنزلية لعدّة أسباب، قد تكون لوجود خادمة في المنزل أو وجود وقت فراغ للزوجة، أو لاستخدامها وسائل حديثة تغنيها عن مساعدته أو لوجود أولاد يساعدونها، أو لعدم رغبتها في تدخل الرجال في أعمالها في كلّ صغيرة وكبيرة ممّا يضيق عليها.
4ـ مشاركة الزوج زوجته في أوقات الفراغ: تقلّصت مساحة التسلّط ليشارك بذلك الزوج زوجته في أوقات فراغه أنشطة اجتماعية وترفيهية، وفتح أبواب التقارب العاطفي أكثر، والحرص على إشباع رغبات الزوجة النفسية والجنسية ومشاركتها الحبّ... كما أصبح مقياس معرفة نجاح الزوج درجة شعور زوجته نحوه، وهذا ينبع من فروض ثقافية خالصة كمدى انضباط الزوج للمعايير الاجتماعية، ومكانته الرفيعة في المجتمع وتحليه بالأخلاق الحميدة، ممّا يجعل الزوجة راضية به، وفي حالة عدم استمرار الحبّ بينهما تصاب الأسرة بالفشل(21).
ومن الناحية الشرعية والقانونية تتمثّل واجبات الزوج في:
1ـ النفقة الشرعية: وهي الطعام والكسوة والسكن الواجب على الزوج لزوجته جاء في القرآن الكريم {اَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنتُم مِّنْ وُّجْدِكُمْ}(الطلاق/6) {وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} (البقرة/233) {لِيُنفِقْ ذُو سَعَةٍ مِّن سَعَتِهِ وَمَن قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنفِقْ مِمَّآ ءَاتَاهُ اللَّهُ لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا اِلاَّ مَآ ءَاتَاهَا} (الطلاق/7). وقال صلى الله عليه وسلم : «ديناراً أنفقته في سبيل الله وديناراً أنفقته في رقبة، وديناراً تصدّقت به على مسكين، وديناراً أنفقته على أهلك، أعظمها أجراً الذي أنفقته على أهلك». وعن معاوية القشيري قال: أتبت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت: «ما تقول في نسائنا؟» قال: أطعموهن واكسوهن ممَّا تكسون، ولا تضربوهن ولا تقبحوهن».
وتعطى النفقة وجوباً دخل بها أو لم يدخل بها، ما دامت محتبسة فعلاً بعقد صحيح لأنّ آثار عقد الزواج تنجر بمجرد العقد. وكما نصت عليه المادة 74 «تجب نفقة الزوجة بالدخول بها أو دعوتها إليه ببينة مع مراعاة أحكام المواد 78، 79، 80 من هذا القانون»، بهذا فالإنفاق واجب للزواج الصحيح وما دامت المرأة لم تخرج من حق الحبس(22).
2ـ العدل: العدل في حالة الزواج بأكثر من واحدة.
3ـ الزيارة: زيارة أهلها من المحارم وضيافتهم بالمعروف.
4ـ مالها: حرية تصرف المرأة في مالها(23).
ب ـ علاقات الأب/ أبناء:
يُصبغ سلوك الطفل بأساليب التربية الوالدية، وما تصرفات الطفل إلاّ نتيجة لأدوار الآباء داخل الأسرة، لأنّ الأسرة تُكسب الطفل المعايير الأساسية وتتكوّن شخصيته بداخلها. وللأسرة عامة واجبات نحو الأبناء هي:
*ـ احترام الطفل وآرائه والاستماع لها.
*ـ الاعتراف بقدراتهم وميولاتهم ولو اختلفت عنا.
*ـ إعطاؤهم حرية التعبير والتفكير والاختيار في إطار المبادئ العامة.
*ـ تفهمهم والتعاون معهم.
*ـ العدل بينهم ونشر المودة بينهم(24).
وقد أثبتت دراسة سميت Smith ومارتن Martin تأثير الآباء في أبنائهم، فمعظم الأطفال متذبذبون بين تحقيق رغبات آبائهم واستعداداتهم، لهذا يصابون بالتأخر الدراسي بنسبة 52% من العينة، أو بأحلام اليقظة بنسبة 32%، ويصابون بكثرة الضجر والشكوى(25). ولا تتوقف الوالدية الرشيدة على المدّة التي يقضيها الأب مع الطفل إنّما على نوعية تلك العلاقة دون إفراط أو تفريط.
فعدم إعطاء الحرية للأبناء يؤدي إلى التمرّد والفشل التعليمي، وعدم العناية بهم يجعلهم يبحثون عن رفيق آخر، قد يكون صالحاً كما قد يكون طالحاً ـ وهو أغلب الحالات ـ قصد الانتقام من الأب.
وأهمّ واجبات الأب نحو أبنائه(26):
*ـ انتقاء الأم: قال صلى الله عليه وسلم : «تخيّروا لنطفكم فانكحوا الأكفاء وانكحوا إليهم»(27)، وعن ابن عدي: «تزوجوا في الحجر الصالح فإن العرق دساس»
*ـ الحمل السليم والوضع السعيد.
*ـ إحسان التسمية: اختيار التسمية المناسبة والمحترمة والتي لا تولد له مشاكل مع المحيط.
*ـ الإنفاق عليهم: قال صلَّى الله عليه وسلَّم : «دينار أنفقته في سبيل الله، ودينار أنفقته في رقبة، ودينار تصدقت به على مسكين ودينار أنفقته على أهلك أعظمها أجراً الذي أنفقته على أهلك»(28).
*ـ تقبّل الطفل(29): عن عبد الله ابن شدّاد بن الهاد عن أبيه «إنّي رفعت رأسي فإذا الصبي على ظهر النبي وهو ساجد، فرجعت في سجودي فلمّا قضى الرسول صلَّى الله عليه وسلَّم قال الناس: يا رسول الله إنك سجدت بين ظهراني الصلاة سجدة قد أطلتها فطننّا أنّه قد حدث أمر أو أنّه يوحي إليك، فقال رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم "كلّ ذلك لم يكن، ولكن ابني ارتحَلَني، فكرهت أن أعجله حتى يقضي حاجته».
*ـ تقبيل الأبناء: «أبصر الأقرع ابن حابس رضي الله عنهم النبي صلَّى الله عليه وسلَّم وهو يقبل الحسن والحسين فقال: إن لي عشرة من الولد ما قبلت أحداً منهم!! فقال رسول صلَّى الله عليه وسلَّم : من لا يرحم لا يُرحم»
*ـ الهدهدة واللعب: قال صلَّى الله عليه وسلَّم : «عرامة الصبي في صغره زيادة في عقله في الكبر»(30).
*ـ العدل بين الأبناء ماديا ومعنويا: وذلك مهما اختلف الجنس، عن طريق أبي هريرة أن صلَّى الله عليه وسلَّم قال: «أعينوا أولادكم على البرّ والإحسان عليهم، وعدم التضييق عليهم والتسوية بينهم في العطية من ثناء استخرج المعقود من ولده»(31). وعن أنس أنّ رجلاً كان جالساً مع النبي فجاء ولده فقبله وأجلسه في حجره ثم جاءته ابنته فأخذها وأجلسها جنبه ولاحظ الرسول ذلك وأنكر هذه المحاباة قائلا : فما عدلت بينهما.
وقد بينت إحدى البحوث(32) أن غياب الأب عن البيت للعمل خارج المنطقة يجعل الطفل:
*ـ لا يراجع دروسه بنسبة 66.66 %.
*ـ يتغير سلوك الطفل داخل المدرسة بنسبة 53 % نحو السلب.
*ـ يتحول سلوكه داخل الأسرة بنسبة 72 %.
*ـ وحين يزيد غياب الأب عن شهرين تزيد مشاركته في الفوضى بنسبة 34 %.
*ـ ويزيد تخريب الطفل في الحي مع جماعات الرفاق في غياب الأب بنسبة 53.33%
8 ـ معالجة النزاعات:
غالباً ما نخاف النزاعات ويبدو ذلك في رفضها أو تجاهلها، مع أنّ النزاع ليس سلوكاً سلبياً، بل هو طبيعي داخل الأسرة، إنّما ما يجب رفضه في النزاع هو حلّه عن طريق العنف.
وعدم وجود نزاع ظاهر يدل على وجود آلية حوار فعّال بين أفراد الأسرة، وهذه حالة نموذجية يندر وجودها واقعياً، أو وجود قهر وقمع يرفض كلّ الإرادات الأخرى داخل الأسرة.
فنزاع الأولاد مثلاً إيجابي لأنّه يدلّ على بداية تكوّن شخصية الطفل، وهذا ليس مخيفاً لأنه يعكس قدرة الطفل في التعبير عن رغباته المختلفة. فليس المطلوب حذف النزاع إنّما الابتعاد عن العنف، ومعالجته عن طريق مقاربة غير عدائية.
أهمّ عناصر هذه المقاربة غير العدائية حسب غودون هي:
*ـ اختيار الكلمات غير النزاعية، بدل القول "هذا كذب" نقول "هذا غير صحيح".
*ـ استعمال ضمير "أنا" بدل "أنت"، لا نقول "أنت مزعج" بل "إنني انزعج من الراديو".
*ـ أسلوب "الرابح الرابح" حسب غودون، والذي يؤمن مصالح متناقضة وله 6 مراحل:
? تحديد المشكلة من منطلق الحاجات المتناقضة.
? سرد الحلول الممكنة.
?تقييم الحلول.
?اختيار الحلّ المقبول لدى الجميع.
? تحديد طرق تطبيق الحلّ وتعديله.
* ـ ويتطلب هذا الأسلوب قدرتين هما:
? القدرة على الإصغاء للآخر.
? القدرة على وضع النفس مكان الآخر لفهمه.
*ـ عدم الخوف من بروز إرادة مخالفة، إنّما التعبير عنها بسلام واحترام وتعليم ذلك(33).
الخاتمة
رغم أن الطفل مادة خام في بداية تكوينه، لكن التربية ليست قولبة للآخرين، إنَّما قيادة نحو استقلالية ذاتية يصبح فيها الفرد مبتكراً لحياته، فهي عملية ترقية الطفل إلى صورة "إنسان".
-----------------
الهوامش
(1) – دينكن ميشيل: معجم علم الاجتماع، تر: إحسان محمّد الحسن، ط.02، دار الطليعة، بيروت، 1976. ص97
(2) - خليل أحمد خليل: معجم المصطلحات الاجتماعية، دار الفكر اللبناني، بيروت، 1995، ص38.
(3) – صلاح الدين ميدروخ: علم الاجتماع التربوي، دار العلوم، عنابة، الجزائر، 2004، ص64
(4) – مجموع مؤلفين: من العائلة إلى العائلة... أية عائلة؟، وقائع المؤتمر الثلاثين، منشورات جامعة سيدة لويزة، لبنان، 2002، ص79.
(5) - ماكيفر. م. و شارلز بيدج: المجتمع، تر: السيد محمّد العزاوي وآخرون، مكتبة النهضة المصرية، القاهرة، مصر، 1981، ص461- 463.
(6) – خواجة عبد العزيز: مبادئ في التنشئة الاجتماعية، دار الغرب، وهران، 2005، ص127.
(7) - مصباح عامر: التنشئة الاجتماعية والسلوك الانحرافي لتلميذ المدرسة الثانوية، دار الأمة، الجزائر، 2003، ص84-86.
(8) - عاطف غيث، إسماعيل على سعد: المشكلات الاجتماعية: دراسة نظرية وتطبيقية، دار المعرفة الجامعية، مصر، 2003، ص159-165.
(9) - مجموع مؤلفين: من العائلة إلى العائلة... أية عائلة، مرجع سابق، ص80.
(10) - صلاح الدين شروخ: مرجع سابق، ص68-71
(11) – المرجع نفسه، ص79.
(12) – المرجع نفسه، ص96-106.
(13) - خليل أحمد خليل: مرجع سابق، ص38.
(14) – سناء الخولي: الأسرة والحياة العائلية، النهضة العربية، بيروت، 1979، ص39.
(15) - دينكن ميشيل: مرجع سابق. ص98
(16) – خليل أحمد خليل: مرجع سابق، ص8.
(17) – عاطف غيث، إسماعيل على سعد: مرجع سابق، ص150.
(18) - مجموع مؤلفين: من العائلة إلى العائلة... أية عائلة، مرجع سابق، ص108.
(19) – محمّد محدة: الخطبة والزواج: دراسة مدعمة بالقرارات والأحكام القضائية، مطابع عمار قرفي، باتنة، 1994، ص347-352
(20) – سناء الخولي: الزواج والعلاقات الأسرية، دار النهضة العربية، بيروت، لبنان، د.تا، ص85.
(21) - المرجع نفسه، ص86-89.
(22) – أنظر تفاصيل النفقة: محمّد محدة: مرجع سابق، ص353-390.
(23) – المرجع نفسه، ص391-404
(24) – أحمد هاشمي: الأسرة والطفولة، دار قرطبة، الجزائر، 2004، ص23.
(25) – مصباح عامر: مرجع سابق، ص83
(26) – أنظر: أحمد هاشمي: مرجع سابق، ص53-59.
(27) – رواه بن ماجة والديلمي.
(28) - رواه مسلم.
(29) – أنظر: زكريا الشربيني، يسرية صادق: تنشئة الطفل: وسبل الوالدين في معاملته ومواجهة مشكلاته، دار الفكر العربي، مصر، 2000، ص211.
(30) - رواه الطبراني البيهقي.
(31) - رواه الطبراني.
(32) – بحوث قام بها مجموعة من الطلبة في قسم علم الاجتماع (علم الاجتماع التربوي) بجامعة تلمسان هذه السنة.
(33) - مجموع مؤلفين: من العائلة إلى العائلة... أية عائلة، مرجع سابق، ص72-73.
نشر المقال بدورية الحياة، العدد: 09، 1426هـ/2005م، ص171.