أهمية النقود الإسلامية ..

تعد النقود الإسلامية مصدرا مهما من مصادر التاريخ الإسلامي، فهي وثائق صحيحة ليس من السهل الطعن في قيمتها. ونعرض فيما يلي لأهمية النقود في دراسة الجوانب المختلفة للتاريخ والحضارة الإسلامية:

أولا: من الناحية السياسية:
كانت النقود إحدى شارات الملك والسلطان والتي يحرص كل حاكم على اتخاذها بمجرد توليه الحكم. وتتجلى أهمية النقود من الناحية السياسية فيما سُجل عليها من أسماء خلفاء وملوك وحكام وأمراء وولاة.


كما تعتبر النقود سجلا للألقاب والنعوت التي تلقي الضوء على الكثير من الأحداث السياسية الهامة في العالم الإسلامي، ويتجلى ذلك على سبيل المثال في تسجيل لقب " قسيم أمير المؤمنين " على نقود دولة المماليك البحرية. ذلك أن الظاهر بيبرس بعد قتله الملك المظفر قطز واستيلائه على حكم مصر والشام، انتزع موافقة الخليفة العباسي على حكمه لكي يتحصن ضد محاولات أمراء المماليك في انتزاع العرش منه، وتلقب بلقب " قسيم أمير المؤمنين ".


وقد أدرك الثوار والخارجون أهمية النقود من الناحية السياسية بوصفها إحدى شارات الملك والسلطان، ومظهرا مهما من مظاهر الحكم والسيادة، ولذلك حرصوا على ضرب النقود بأسمائهم، كما سجلوا عليها شعاراتهم ومبادئ ثوراتهم، وذلك كدعاية لهم بين الناس. ولكن هذه النقود كانت لا تجوز أحيانا خارج الأقاليم التي سُكّت بها، لأنها نقود ثورة لم يُسجل عليها اسم الحاكم الشرعي للبلاد. ومن أمثلة نقود الثوار: الدراهم العربية الساسانية ( الفارسية ) التي سكّها عبد الله بن الزبير أثناء ثورته على الخلافة الأموية.


كما نُقش على النقود الإسلامية كتابات قرآنية وغير قرآنية تعكس الكثير من الأحداث السياسية المهمة التي شهدتها بعض الدول. ومن أمثلة الكتابات القرآنية: استخدم العباسيون الاقتباس القرآني ﴿ قُل َّلا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إَِّلا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى ﴾ [ الشورى: 23 ]. كشعار لثورتهم ضد الخلافة الأموية.


ومن أمثلة الكتابات غير القرآنية، عبارة: " أعز الله نصره " على الفلوس النحاسية المبكرة في أوائل العصر العباسي، وذلك كدعاء للحكام والولاة بأن يحقق الله لهم النصر والعزة على أعدائهم. وأيضا استخدمت عبارة " أيده الله " وكذلك " أيد الله نصره " على نقود حكام بعض دول المغرب والأندلس، وذلك كدعاء لهم بأن يؤيدهم الله بقوته وينصرهم على أعدائهم.

ثانيا: من الناحية الدينية والمذهبية:
حملت النقود العربية الإسلامية منذ تعريبها على يد الخليفة الأموي عبد الملك بن مروان سنة 77 هـ ملامح العقيدة الإسلامية، والتي تمثلت في نقش شهادة التوحيد، والاقتباس القرآني من سورة الإخلاص، وكذا الاقتباس القرآني من سورة التوبة: ﴿ هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ ﴾ [ التوبة: 33 ]. كما سُجل على النقود العربية الإسلامية الشعارات الخاصة بالمذاهب الإسلامية المختلفة، فقد حرص كل حاكم على نقش الشعارات والعبارات المختلفة التي تعبر عن اعتناقه لأحد المذاهب، كما تعكس في أحيان كثيرة نفس مذهب أهل البلاد.
وتكمن أيضا أهمية النقود من الناحية الدينية والمذهبية في كونها تعكس:
o المذهب الديني للحاكم الذي أمر بسكها والمحكومين في نفس الوقت: ويتمثل ذلك في النقود الأموية والعباسية، فنقود هذه الدول كانت تحمل كتابات تعبر عن مذهب الحاكم وأهل البلاد في آنٍ واحد.
o المذهب الديني للحاكم دون المحكومين: فالنقود الفاطمية كانت تحمل الكتابات الشيعية التي تعكس مذهب الخلفاء الفاطميين، في حين أن غالبية الشعب المصري كان يعتنق المذهب السني.
o المذهب الديني للمحكومين دون الحاكم: ذلك أن المغول فتحوا الكثير من البلاد الإسلامية وغير الإسلامية، وبعض هذه البلاد كان يعتنق أهلها الدين الإسلامي على المذهب السني، فضربوا بها النقود حسب هذا المذهب وسجلوا عليها عبارات تشير إليه.

ثالثا: من الناحية الاقتصادية:
كانت النقود الذهبية هي النقود الرئيسية في كثير من الدول الإسلامية، وكانت تمثل انعكاسا للحالة الاقتصادية للدول التي سكّتها، لأن ارتفاع وزنها ونقاء عيارها كان دليلا على الازدهار الاقتصادي في تلك الدول مثلما كان الحال في العصر الطولوني والفاطمي.
وفي نفس الوقت حرص الحكام والمشرفون على دار السك على تسجيل بعض الكتابات على النقود لحث المتعاملين بها على الالتزام بوزنها، والبعد عن أية محاولة لغشها أو تزويرها امتثالا لأمر الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم بالنهي عن إفساد سَكة المسلمين المتداولة حفاظا على مصالح المتعاملين بها، وتحقيق منفعتهم من خلالها. ومن هذه الكتابات ما سجله حكام الأتابكة في ماردين وحصن كيفا وآمد من عبارات " ملعون من يغيره " على دراهمهم النحاسية.

رابعا: من الناحية الاجتماعية:
عبّرت النقود الإسلامية عن كثير من مظاهر الحياة الاجتماعية التي تشهدها الدول المختلفة، مثل الزواج والمصاهرة وحالات المرض والوفاة والمصالحة، بالإضافة إلى الاتفاقيات والتحالفات بين الحكام والدول. وكانت هذه النقود تُضرب تخليدا لتلك المناسبات المهمة، وكانت توزع كنقود صلة وهدايا على أولي الأرحام وكبار القواد والأمراء ورجال الدولة. لذلك كانت هذه النقود تختلف عن النقود العادية المخصصة للتداول من حيث الوزن والكتابات المسجلة عليها في كثير من الأحيان.

خامسا: من الناحية الأدبية:
تجلت أهمية النقود الإسلامية فيما سجل عليها من أبيات الشعر. وقد ظهرت هذه الأبيات على بعض النقود التذكارية التي ضُربت في العصر الفاطمي، والتي كانت توزع في المناسبات المختلفة.

سادسا: مجالات أخرى:
استخدمت النقود كوسيلة مهمة من وسائل الدعاية والإعلان في العصر الإسلامي، فقد سجل عليها الحكام والسلاطين بعض البيانات الهامة إلى الرعية، كما استخدمت لنشر الأفكار والمبادئ الدينية والأخلاقية.
كذلك استخدمت النقود كوسيلة مهمة من وسائل الوعظ والإرشاد، فقد نُقش عليها بعض الاقتباسات من أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم، مثل: " لا إله إلا الله الملك الحق المبين "، و " سبحان الله وبحمده "، و " لا إله إلا الله والحمد لله والله أكبر ".
أما القيم الأخلاقية فمنها ما يخاطب الفرد، مثل: " بركة العمر حسن العمل" ، و " الدنيا ساعة فاجعلها طاعة "، و " طول العمر مع الطاعة من خلع الأنبياء "، و " ضمن الله رزق كل أحد "، و " عز من قنع وذل من طمع ". ومنها ما يختص بالحاكم والمجتمع، مثل: " ثبات الملك بالعدل "، و " بركة الملك في إدامة العدل "، وغيرها.
وتبرز أهمية أخرى للنقود، وهي الأهمية الجغرافية: فالنقود قد سجل عليها في كثير من الأحيان أماكن سكها، لذلك ظهرت عليها أسماء العديد من المدن، قد اندثر كثير منها، ولم يبق ذكرها إلا على النقود الإسلامية.

كذلك نُقش على النقود العربية الإسلامية منذ تعريبها تاريخ سكها، وساعد ذلك في تحديد فترة ولاية كل حاكم بصورة دقيقة. وقد تنوعت التواريخ المسجلة على النقود في العصر الإسلامي، حيث نجد التاريخ الهجري، والذي سجل على النقود بثلاث طرق مختلفة:
o الطريقة الأولى: كان يسجل فيها التاريخ الهجري بالحروف العربية
o الطريقة الثانية: هي تسجيل التاريخ الهجري بالأرقام العربية
o الطريقة الثالثة: هي تسجيل التاريخ الهجري بالحروف والأرقام العربية معا
أما من حيث الخط العربي، فتعد النقود العربية الإسلامية مدرسة لتعلم أنواع الخط العربي والذي ورد عليها بنوعيه الكوفي والنسخ. حيث ظهر على هذه النقود العديد من أنواع الخط الكوفي، مثل الكوفي البسيط، والكوفي المتقن الطرف، والكوفي المورق، والمزهر، والمعماري، والمربع، والمضفور. كما ظهر على النقود أيضا من أنواع الخط النسخ: الثلث، والطغراء، والنستعليق، وغيرها. وكانت النقود في هذا الشأن من أهم المصادر التي تساعد على دراسة الخط العربي ومعرفة مراحل تطوره المختلفة.
ومن الناحية الفنية، ظهر على النقود الإسلامية زخارف نباتية وهندسية شتى، واستخدمت أحيانا كهوامش أو فواصل بين الكتابات، أو شغلت بعض من الفراغ الموجود على مساحة النقد.
كما تعد النقود الإسلامية سجلا حافلا للنعوت والألقاب، فهي أهم مصادر الألقاب من الناحية الرسمية، وإن اقتصرت هذه الألقاب على الحكام والأمراء، لأنه لم يكن يسمح لغيرهم بضرب النقود.


****
وهكذا يتبين لنا أهمية النقود في الحضارة والتاريخ الإسلامي، فهي تعكس جوانب الحياة المختلفة السياسية والدينية والمذهبية والاقتصادية والاجتماعية وغيرها، على نحو ما أوضحنا. ولذلك تعد النقود من أهم مصادر التاريخ الإسلامي.

المصدر: http://saaid.net/Doat/hasn/76.htm محمد حسن يوسف
ahmedkordy

خدمات البحث العلمي 01009848570

  • Currently 94/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
31 تصويتات / 1064 مشاهدة
نشرت فى 22 مايو 2010 بواسطة ahmedkordy

أحمد السيد كردي

ahmedkordy
»

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

30,762,758

أحمد السيد كردي

موقع أحمد السيد كردي يرحب بزواره الكرام free counters