الاسلام والانسان:
وعليه,يأتي الاسلام,كدين ونظام حياة,لاخراج البشرية مرة اخرى,كما أخرجها من قبل,من ظلمات "جاهلية" تعيش فيها,ومن تخبط "ضنك" مليئة بكل شرور الضلال,وضرب الفساد,وصنوف الظلم,وألوان الشقاء.فيقدم,بقواعده العامة المتكاملة,العقيدية والأخلاقية والتعبدية و التعاملية,تطهيراً حقيقياً للحياة البشرية,في حياة البشر وبقدرات البشر,بالعمل الدائب على استئصال هذه الشرور,والتصحيح الدائم لهذه الانحرافات,من خلال "تربية"و"ضوابط"و"منظمات" "ذاتية" حاكمة لحركة هذه الحياة.ويتم ذلك على أساس "تحرير" فعليّ للانسان من أي شيء ومن أي مخلوق,بتحديد دقيق وواضح لمركزه وغايته في هذه الحياة,وفي ظل "كرامة" ينعم بها, تليق به كانسان,كما أراد له خالقه سبحانه وتعالى."فأقم وجهك للدين حنيفا فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله,ذلك الدين القيم,ولكن أكثر الناس لايعلمون"(الروم/30)."ولقد كرمنا بني آدم,وحملناهم في البر والبحر,ورزقناهم من الطيبات,وفضلناهم على كثيرممن خلقنا تفضيلاً".(الإسراء / 70).
المنهج الإسلامي:
ومن هنا,جاء المنهج الاسلامي للتنمية كشرعة,ليعبد الأشياء في المجتمع الانساني الى طبيعتها,وكمنهاج يرد قضية التنمية الى عمادها,وهو:الانسان.
ومن ثم,تصدى هذا المنهج,على عكس المناهج الوضعية,لسؤال واضح ومحدد,وهو:بمن تقوم عملية التنمية؟وكانت اجابته واضحة ومحدودة أيضاً,وهي :بالانسان.أي إن عملية التنمية لكي تتحق على أرض الواقع,لابد أن تبدأ من الأصل أو من القاعدة,أي من الانسان,وتنتهي,في كل مرحلة من مراحلها المستمرة والمتصاعدة بالانسان وللانسان,أي من أجل الانسان.
فالانسان,وفقاً لهذا المنهج الرباني,هو أهم وأسمى ممن في هذا الوجود ومما فيه.ومن ثم,هو,بحق,الوسيلة الرئيسة لعملية التنمية."اعبدوا الله مالكم من إله غيره,هو أنشأكم من الأرض,واستعمركم فيها,فاستغفروه ثم توبوا اليه,إن ربي قريب مجيب".( هود / 61 ).
وهو,في الوقت ذاته,غايتها,لكي يستطيع,باستمرار,القيام بتبعة "العبادة", والتي تشمل "جميع" أعمال الانسان,وعلى رأسها "إعمار" الأرض,وفقاً لشرع الله,وعليه,تتصف عملية التنمية,وفقاً لهذا المنهج,بالاستمرارية المستمدة من استمرارية الانسان في عبادة الخالق تبارك وتعالى."وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون ماأريد منهم من رزق وما أريد أن يطمعون إن الله هو الرزاق ذو القوة المتين".(الذاريات/ 56- 58 )."قل إن صلاتي ونك ومحياي ومماتي لله رب العالمين لا شريك له".(الأنعام / 162 – 163 ).
الانسان العادي:
ولكن,أي انسان يقصده المنهج الاسلامي ؟الانسان المقصود,وفقاً لهذا المنهج,هو تأكيداً,الانسان"العادي",انسان أرض الواقع,كما خلقه الله,بفطرته- قوةً وضعفاً,وليس الانسان الذي يتخيله الذهن الوضعي كمخوق من مخلوقات "الاقتصاد", أي "الرجل الاقتصادي",أو من مخلوقات "المادة",أي "الترس الاجتماعي".انه الانسان الذي تربى على أخلاقيات الاسلام,وسلوكيات الاقتصاد الاسلامي,والنظام الاقتصادي الاسلامي,والنظام الاقتصادي الاسلامي,أو قل ,إن شئت: الانسان "الأخلاقي",أو "السوي",أو "الصالح".
هذا الانسان "الواقعي" هو الانسان المحرر,حقيقة,من الاستعباد والاستغلال,أي من الظلم بشتى صوره.فهو الانسان المحترم لذاتيته,والمكرّم لآدميته,الذي ينعم عملاً بالحرية والعدل.وبدون تحقيق هذين المطلبين,بسبب البعد عن شرع الله,لن يتحقق المشروع الانساني- الممكن – في إعمار الأرض,ولن يتمكن الانسان من القيام بتبعة تنفيذ هذا المشروع,ومن ثم,يظل التخلف قائماً,وتظل المعيشة الضنك جاثمة على عقول البشر وحقولهم.
مدخل التوحيد:
ولكي يحقق هذا المنهج متطلبات هذا الانسان الفطري عملياً,وكجزء من الاسلام,كان مدخله الطبيعي هو المدخل العقيدي الايماني,وهو :مدخل التوحيد,والتوحيد هو العبادة,وهي,بدورها,غاية خلق الله سبحانه وتعالى للجن والإنس. ويتضمن التوحيد توحيد الذات والأسماء والصفات."قل هو الله احد.اله الصمد.لم يلد ولم يولد.ولو يكن له كفواً أحد"( سورة الاخلاص)."ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها,وذروا الذين يلحدون في أسمائه,سيجزون ما كانوا يعملون".(الأعراف/ 18)"ليس كمثله شيء وهو السميع البصير"( الشورى /11 ).
ويشمل التوحيد :توحيد "الربوبية" وتوحيد "الألوهية".
توحيد الربوبية:
هذا التوحيد هو توحيد الله بأفعاله,تعالى,ومن ثم التلقي منه,سبحانه, الشرائع المحددة للقيم,والموجهة للمعيشة,والمنظمة لحركة الحياة.فالربوبية تقتضي عبادة الله سبحانه وتعالى بالتفويض والتسليم."إن ربكم الله الذي خلق السموات والأرض في ستة أيام ثم استوى على العرش يدبر الأمر ما من شفيع إلا من بعد إذنه ذلكم الله ربكم فاعبدوه أفلا تذكرون".(يونس / 3).
توحيد الألوهية:
هذا التوحيد هو توحيد الله تعالى بأفعال العباد,ومن ثم التوجه لله وحده سبحانه بالشعائر التعبدية,والدعاء والرجاء,والرغبة والرهبة,والخشية والتقوى,....فالألوهية تقتضي عبادة الله سبحانه وتعالى بالأمر والنهي,والمحبة والخوف,والطلب والرجاء...
"وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي اليه أنه لا اله الا أنا فاعبدون ".(الأنبياء / 25).
ويعني إفراد الربوبية والألوهية لله وحده سبحانه- تلقياً للشرائع وتوجهاً بالشعائر – اخلاص "العبودية" لله وحده,أي اخلاص الدين له سبحانه,من قبل الانسان في كل خالجة في ضميره,وكل حركة في جوارحه,وكل نشاط في حياته,فلايوجد,وفقاً لهذا المنهج القويم,تصرف إنساني لا ينطبق عليه معنى "العبادة".وهي ,كما عرفها شيخ الاسلام ابن تيمية,اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأعمال الباطنة والظاهرة.والانسان أمامه خياران,لا ثالث لهما,فإما أن يختار العبودية لله,واما أن يرفض هذه العبودية,فيقع لا محالة في عبودية غير الله ."ألم أعهد إليكم يابني آدم أن لاتعبدوا الشيطان إنه لكم عدو مبين.وأن اعبدوني هذا صراط مستقيم".(يس / 60-61 ).
إذن , إفراد الربوبية والألوهية لله سبحانه,ومن ثم اقرار العبودية الخالصة له تعالى,هو أشرف تكريم للانسان,لأنه اخراج له"..من عبادة الله وحده,ومن ضيق الدنيا الى سعة الدنيا والآخرة,ومن جور الأديان الى عدل الاسلام ".فالتوحيد,بهذا المعنى الاسلامي الشامل والدقيق,يرفع الانسان الى شرف العبودية لله,ومن ثم يحرره,نهائياً وتماماً,من كل عبودية لغيره تبارك وتعالى."إياك نعبد,وإياك نستعين".(الفاتحة / 5).فهذه الآية الكريمة جمعت ,باعجاز,مكوني التوحيد ,فأولها يشير الى عبادة الله بمقتضى الألوهية,وآخرها يشير الى عبادته سبحانه بمقتضى الربوبية.
والانسان "الحر",وفقاً لهذا المفهوم,هو الانسان الحي,وليس التجريدي,والانسان الذي يستطيع فعلاً أن ينهض,بالتحاكم الى منهج الله تعالى في كل شؤون حياته,بمسؤولية "اعمار" الأرض,كفريضة أو مشيئة إلهية,يمثل التزامها غاية التكليف,ومن ثم,بالشرك يكون "ظلم" الانسان,وبالتالي التخلف.وبالتوحيد تكون "حرية" الانسان و"عدالة" النظام الذي يعيش في كنفه,ومن ثم تحدث التنمية.
ولكي تتعمق الحرية في وجدان الانسان,وتتجسد في سلوكه,ولكي يتحقق "اعمار" الانسان كشرط سابق "لاعمار" الأرض,وتأسيساً على توحيد الذات والأسماء والصفات,أطعم الله سبحانه الانسان من "جوع",وآمنه من "خوف".فضمن "رزق" الانسان,وكتب أجله ,وحدد عمره.فالله سبحانه وتعالى هو الخالق والمالك والرازق والمميت والمدبر,وهو المعبود لا شريك له في شيء من الخلق أو الملك أو الموت أو التدبر:"وفي السماء رزقكم وماتوعدون.فورب السماء والأرض إنه لحق مثل ما أنكم تنطقون".(الذاريات / 22-23 ).
"وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها ويعلم مستقرها ومستودعها كل في كتاب مبين".(هود/6)."وماكان لنفس أن تموت إلا بإذن الله كتاباً مؤجلاً".(آل عمران / 145 ).
واتساقاً مع مقتضى العبادة ومفهومها الاسلامي الشامل,وانسجاماً مع رسالة الانسان في إعمار الأرض وتحقيقاً لها,ارتبط هذا الأمن من المادي والآمان النفسي,المقدرين,بالضرب في الأرض سعياً في طلب الرزق,وعادله الخالق تبارك وتعالى بالجهاد في سبيله."فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الأرض وابتغوا من فضل الله".(الجمعة/ 10) .
"وآخرون يضربون في الأرض يبتغون من فضل الله وآخرون يقاتلون في سبيل الله ",(المزمل/ 20). ويؤكد الرسول (ص),المعنى نفسه,"من كد على عياله كان كالمجاهد في سبيل الله",( صحيح مسلم )."الساعي على الأرملة والمسكين كالمجاهد في سبيل الله عز وجل,الصائم النهار القائم الليل".( صحيح مسلم ).ومن هنا,كان الجهاد فرضاً على الكفاية,وليس فرضاً على العين,وإلا انشغل به "كل" المكلفين عن إعمار الأرض.
ويتم هذا السعي من خلال العمل "الصالح",الدائب والدائم,للكسب. أخذاً بالأسباب في حدود الاستطاعة,وتأكيداً لا يجابيات العزم و"التوكل" من ناحية,وتحقيقاً لكرامة الانسان واحترام آدميته من ناحية أخرى."وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون,وستردون الى عالم الغيب والشهادة فينبئكم بما كنتم تعملون".(التوبة / 105 ).
"من عمل صالحاً من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة ولنجزينهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون"( النحل / 97). وفي الحديث :" ما أكل أحد طعاماً قط خيراً من أن يأكل من عمل يده,وإن نبي الله داود عليه السلام كان يأكل من عمل يده",( صحيح البخاري ).ويقول عمر بن الخطاب:"لا يقعد أحدكم عن طلب الرزق وهو يقول اللهم ارزقني,وقد علم أن السماء لا تمطر ذهباً ولا فضة ".(الغزالي :الاحياء).
ومن هنا,وفي ضوء هذا التحديد الدقيق لضمان الرزق وضرورة العمل,انبثقت اسس هذا المنهج "الرباني" في التنمية.
أسس المنهج:
يتأسس فرض اعمار الأرض,أي قيام تنمية شاملة ومتوازنة,من قبل الانسان العادي,على حقيقة إيمانية مؤادها:ان المال – أي الموارد – مال الله,ونحن مستخلفون فيه."له ما في السموات وما في الأرض وما بينهما وماتحت الثرى",(طه /6 )."وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة".(البقرة/ 30).
" ويستخلفكم في الأرض فينظر كيف تعملون",(الأعراف /129).وتبعة الاستخلاف تعني تسخير هذا المال لخدمة الخلق – المستخلفين – وتمكينهم منه,تمكين استعمال أو ملكية انتفاع,"هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعاً",(البقرة /29)."وسخر لكم ما في السموات وما في الأرض جميعاً منه إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون",(الجاثية / 13)."وقد مكناكم في الأرض وجعلنا لكم فيها معايش قليلاً ما تشكرون"(الأعراف / 10).
كما تعني تبعة الاستخلاف,في الوقت نفسه,العمل,كدحاً وكداً,وباستمرار من قبل الخلق على تنمية أو تثمير المال من خلال الزمن,حتى قيام الساعة.والعمل المطلوب هو العمل الصالح,والذي تزكو به النفس,وتقوم به الاخلاق,وتتسع به دائرة البر والتقوى,ويحفظ به الدين والبدن والعقل والمال والنسل,أي العمل الذي يعمر الأرض,وينتج الطيبات,ويحقق بالتالي الحياة الكريمة للانسان."وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنكم في الأرض كما استخلف الذين من قبلكم وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم وليبدلنهم من بعد خوفهم أمناً يعبدونني لا يشركون بي شيئاً"(النور /55)."وأن ليس للإنسان إلا ما سعى وأن سعيه سوف يرى ثم يجزاه الجزاء الأوفى",(صحيح مسلم)."إذا قامت الساعة وفي يد أحدكم فسيلة فاستطاع ألا تقوم الساعة حتى يغرسها,فليغرسها,وله بذلك أجر",( صحيح البخاري ).
( وتعني تبعة الاستخلاف أيضاً أن يحترم الخلق,المكرمون بهذه العلاقة,"عقد" الاستخلاف,ويتقيدوا بشروطه,التي وضعها المالك الحقيقي,سبحانه وتعالى,تنظيماً لشؤون المال من حيث توظيفه وتنميته والتصرف فيه.ومن هذه الشروط أن يؤدي الخلق حقوق المال لمالكه الأصلي وللمجتمع,في صورة الصدقات المفروضة,وعلى رأسها الزكاة,والصدقات التطوعية,والكفارات وغيرها من النفقات,تحقيقاً لعدالة التصرف في المال,وإقامة للتكافل الاجتماعي,وضماناً لأكفاً استخدام ممكن للمال خلال الزمن .)
"وآتوهم من مال الله الذي آتاكم",(النور/ 33 )."آمنوا بالله ورسوله وأنفقوا مما جعلكم مستخلفين فيه فالذين آمنوا منكم وأنفقوا لهم أجر كبير"(الحديد / 7 )."خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها".(التوبة / 103 )وفي الحديث :"إن الله فرض عليهم صدقة في أموالهم تؤخذ من أغنيائهم فترد على فقرائهم"( صحيح البخاري )."خير الصدقة ما كان عن ظهر غنى,واليد العليا خير من اليد السفلى,وابدأ بمن تعول".(صحيح البخاري ).
وتجب الزكاة,كفريضة وحق,وكركن من أركان الاسلام والنظام الاقتصادي الاسلامي,في المال "النامي" بشروط من حيث النصاب والمقدار والزمن والأموال والمصارف.وتعد الزكاة من الأدوات الأساس لتنمية المال وإعمار الأرض.ذلك لأن رب المال أمام خيارين,لا ثالث لهما:إما أن يستثمر ماله ويخرج الزكاة من أرباحه,وإما ان يحتفظ به فتأكله الزكاة بنسبة ثابتة كل عام.ولهذا قال الرسول (ص):"من ولي يتيماً له مال فليتجر له ولا يتركه حتى تأكله الصدقة",(الترمذي).ومن ناحية المصارف,تعمل الزكاة على عدالة التوزيع في صالح الطبقات الفقيرة,مما يساعد على زيادة اشتراكهم في الانتاج من ناحية,وزيادة انفاقهم الاستهلاكي من ناحية أخرى,ومن ثم يساهم في زيادة الطلب الفعال والانتعاش الاقتصادي.كما أنها تعمل,من حيث مصارفها,على الحض أيضاً على الاستثمار والانتاج.وفي ذلك يقرر الفقهاء,بالاجماع,بأن القادر على الكسب بحرفته,أياً كانت,إنما يعطى القدر الذي يمكنه من مواصلة الكسب,( الماوردي – الأحكام السلطانية ).وصح عن عمر أنه كان يقول لعماله :"إذا أعطيتم فأغنوا",(ابو عبيد – الأموال ).
وفي الوقت نفسه , لا تعطى الزكاة للقادر- بجهده وماله – على العمل والكسب,وفي ذلك يقول الرسول (ص):"لا تحل الصدقة لغني,ولا لذي مرة سوي", (النسائي).
وأساساً,يتم استخدام المال وتثميره عن طريق الاعتماد الجماعي على الذات,وفي اطار نظام أولويات شديد الوضوح,ودقيق التحديد.ويتدرج هذا النظام,بحسب الأهمية,من انتاج وتوزيع واستهلاك "الضروريات",أي الأشياء التي لايمكن أن تقوم بدونها الحياة,فهي ضرورية لقيام حياة الناس,ولابد منها لا ستقامة مصالحهم.ثم تأتي مرتبة "الحاجيات",أي الأشياء التي يمكن تحمل الحياة بدونها ولكن بمشقة زائدة,فهي أشياء يحتاج إليها الناس لرفع الحرج والضيق والمشقة الزائدة عنهم.ثم أخيراً تأتي المرتبة الثالثة,وهي مرتبة "التحسينيات",أي الأشياء التي تجعل حياة الناس أيسر وأسهل وأمتع دون اسراف أو ترف.أي أن المنهج الاسلامي يعطي أهمية نسبية أكبر لانتاج معظم "الطيبات" التي يحتاج إليها معظم الناس لاصلاح دينهم ودنياهم .وعليه,يهدف هذا المنهج الى توفير الحياة الطيبة الكريمة لكل من يعيش في ظل النظام الاسلامي.
ويقوم استخدام المال – أي الموارد – وفقاً لهذا المنهج,على أساس شامل ومتوازن.لايعرف اهدار الامكانات أو تبديد الطاقات.ويستند هذا الاستخدام الى دور محدد للدولة أو القطاع العام يتركز في تنمية الهياكل الأساس والمرافق العامة والمشروعات التي يحجم عن الدخول فيها القطاع الخاص إما لكبر حجم التمويل المطلوب لها,أو لارتفاع درجة مخاطرها,أو لتدني العائد المتوقع منها,أو لعدم تحقيق عائد إلا بعد آجال طويلة نسبياً,أو لبعض هذه الأسباب أو كلها.هذا,بالاضافة الى المهمة الأساس للدولة,والتي تتمثل في العمل المستمر على قيام بيئة سليمة محيطة بالعملية الانتاجية,جوهرها حماية كرامة الانسان,واحترام آدميته,والحفاظ على حريته,وصيانة حقوقه.
أما الدور الرئيس في الاستخدام الكفء للموارد واحداث عملة التنمية,كهدف لهذا المنهج,ومن منطلق التكامل والتعاون مع الدولة أو القطاع العم,فهو مسؤولية القطاع الخاص,أي الأفراد, أو الناس,شريطة توافر"الحاجات الضرورية"لهم.وينبثق هذا الشرط,وفقاً لنظام الألويات الاسلامي,من حقيقة أن التنمية الاقتصادية,أي إعمار الأرض,ليست سبباً لاشباع هذه الحاجات,وإنما تعد نتيجة مباشرة لهذا الاشباع ولا تشمل " الحاجات الضرورية" الجانب المادي فقط من مأكل,ومشرب,وملبس,ومأوى,ووسيلة انتقال,وخدمات منزلية وتعليمية وصحية,وفرص عمل وزواج,وإنما تشمل أيضاً الجانب المعنوي أو الروحي من مشاركة جماعية,وهوية ثقافية,وكرامة إنسانية,واحساس باشاعة الحرية والعدل بين الناس.وهي الضرورات التي أجملت كمقاصد للشريعة الغراء من حفظ الدين,والنفس,والعقل,والمال,والنسل,والعرض,وباشباع هذه الحاجات,سوف يتصرف الناس كآدميين,ويقومون بتبعة الاستخلاف,ويتحملون مسؤولية إعمار الأرض,وتحدث التنمية الاقتصادية والاجتماعية على أرض الواقع.
ويتم ذلك من خلال مشروعات إنمائية "صغيرة".ليست مشروعات تتكلف "الملايين",ولكن ملايين المشروعات,وفقاً لاحتياجات أفراد المجتمع,وتلبية لتطلعاتهم المشروعة والمنضبطة,وعلى أساس تكنولوجيا تتفق مع المرحلة التي يمر بها الاقتصاد والظروف التي تسود المجتمع,وتتمشى مع خصائص الوارد الانتاجية المتاحة.ومن ثم,يبدأ التيار التعميري يسري في الجسد المتخلف,ويظهر أثر التسرب الانمائي في كل قطاعات الاقتصاد والمجتمع.وينعكس ذلك على الأداء فيزداد كفاءةَ ,و"يشع" على الانتاجية فتزداد ارتفاعاً,خلال الزمن,وعليه,تحدث التنمية من الأساس ,أو من القاعدة ,أي الانسان,لتعم به ومن أجله جوانب الحياة كافة.
ووفقاً لهذا المنهج,واستناداً الى "فرض الكفاية",وفي اطار نظام الأولويات الاسلامي,وفي حدود الاستطاعة البشرية والامكان المادي,يتم القيام بالجهد الانمائي.وعلى أساس من التكامل والتوازن والتدرج,يبذل هذا الجهد في كل القطاعات :مؤسساً,القطاع العام والقطاع الخاص,وانتاجاً,القطاعات السلعية والقطاعات الخدمية,وسلعياً,الزراعة والصناعة,وصناعياً,الصناعات الثقيلة والصناعات الاستهلاكية,واقليمياً,المناطق الريفية والمناطق الحضرية,ودولياً,منتجات احلال الواردات ومنتجات تنمية الصادرات.ويتم هذا الجهد وفقاً لبرامج انمائية "تأشيرية",مترابطة ومتناسقة من حيث الأهداف والوسائل,وواقعية من حيث الامكانات والقدرة على التنفيذ .
وتقع مسؤولية التنفيذ,في المقام الأول,على الأفراد,أي الناس,ووفقاً لصيغ تعامل أو تصرفات محددة,تشمل :المعارضات المالية (البيع والاجارة والاستصناع),والمشاركات (العنان والمفاوضة والأعمال أو الصنائع والوجوه والمضاربة والمزارعة والمساقاة).وهذه الصيغ مبسوطة بتفصيل ودقة ووضوح في كتب الفقه.وتقدم هذه الصيغ وتفريعاتها نماذج عملية و"عادلة"للاستثمار الاسلامي,تتميز بكفاءة الأداء وعدالة التوزيع.وتقوم صيغ المشاركات جميعاً على أساس تحمل المخاطرة,والمشاركة بالتالي في الربح والخسارة.فالمال,وفقاً لهذه الصيغ,لايكون غانماً إلا إذا كان غارماً.وفي الحديث:"الخراج بالضمان",(البيهقي).أي أن العائد لا يحل إلا إذا تحمل المال كامل المخاطرة .ومن ثم,لا توجد طبقة تستغل طبقة,وإنما "الكل" يشترك بالتالي بنتائج هذه المشاركة حلالاً طيباً.
ويستند الاستثمار الاسلامي على المعنى "الحقيقي"للاستثمار,أي انشاء مشروعات لانتاج الطيبات التي يحتاج اليها افراد المجتمع,من ناحية,وعلى فهم دقيق لطبيعة النقود – أو المال.فالنقود لا تلد في حد ذاتها نقوداً,وإنما تنمو بالاستراك الفعلي في النشاط الاقتصادي,وبتحمل كامل المخاطرة نتيجة هذا الاشتراك.ومن ثم ,قام العمل المصرفي الاسلامي في الوقت الراهن على هذا الأساس.فالمصرف الاسلامي,لايتاجر في النقود,أي لا يقوم بالوساطة المالية,على أساس القرض أو الدين أو الائتمان بين المقرضي,أي المودعين,والمقترضين اي المستهلكين والمنتجين,وإنما كشركة استثمار "حقيقي"يحكم علاقته بعملائه,في جانب الموارد,عقد المضاربة,والذي يعني دفع المال من قبل صاحب المال لغيره للعمل فيه ,والربح بينهما على الشرط,أما في حالة الخسارة فتقع بالكامل على صاحب المال ويخسر المضارب أو العامل في المال جهده.
وعليه,فالمودعون في المصرف الاسلامي هم أصحاب الأموال,والمصرف هو المضارب أوالعامل فيها,وبالتالي,يد المصرف على هذه الأموال يد "أمانة" وليست يد "ضمان",أي إنه لا يضمن هذه الأموال.ومن ثم ,إذا وقعت خسارة,دون تعد من المصرف,يتحملها المودعون بالكانل.وهذا هو شق المخاطرة الذي يحل للمودعين بمقتضاه الحصول على نصيب من الربح,حسب الاتفاق,اذا تحقق,وفي جانب الاستخدامات,يقوم المصرف باستثمار ما لديه من أموال,باعتباره الشريك المضارب.بالعمل بالنسبة لأموال المودعينووبرأسماله بالنسبة لأموال المساهمين, وذلك بتقديم هذه الأموال لعملائه – المنتجين أو المستثمرين – وفقاً لاحدى صيغ توظيف الأموال الاسلامية : بيوع مرابحة,أو عقود مضاربة,أو صور مشاركة.
وعلى ذلك,فقد أكد هذا المنهج أن الطريق السوي "العادل" لنماء المال هو طريق الاشتراك الفعلي في النشاط الاقتصادي. فلا يوجد كسب طيب بدون عرق وجهد ومخاطرة.ومن ثم,لا يوجد فرد أو فئة أو طبقة تعيش على عرق الآخرين وجهدهم.فالجميع ينتج ويشترك في الانتاج ويتحمل المخاطرة. ويتم توزيع الناتج وفقاً لمعايير توزيع "عادلة",تتناسب مع الجهد المبذول أو المخاطرة المتضمنة أو التكافل الاجتماعي المنشود.وهذه المعايير هي: "الأجر" لمن يعمل أجيراً,و"الضمان" أي المخاطرة ربحاً كانت أم خسارة للمال ولمن يعمل بالمخاطرة (المضارب),ثم "الحاجة" لغير القادرين – جزئياً أو كلياً.فبالنسبة لهؤلاء,توجد مسؤولية الدولة وبقية أفراد المجتمع في التوزيع و "إعادة" التوزيع وفقاً لمعيار الحاجة لتوفير الحياة الطيبة للفقراء والمساكين.
إذن ,احدى الركائز الأساس لهذا المنهج هي :التوزيع "العادل" من أجل تحقيق عملية التنمية واستمرارها.ومن هنا,ربطت معايير التوزيع,على اساس "المثل" أو "العرف الصالح",بالانتاج من ناحية,وبالعدالة من ناحية أخرى,وبالتكافل من ناحية ثالثة.ومن ثم,تكون النتيجة تنمية مستمرة,وتوزيعاً عادلاً,وحياة طيبة لكل فرد يعيش في ظل النظام الاسلامي.فالعدل,بشتى معانيه,يعد اصلاً من أصول الحياة في هذا النظام "إن الله يأمر بالعدل والإحسان".(النحل / 90 )."ولا تبخسوا الناس اشياءهم و لا تعثوا في الأرض مفسدين".(الشعراء /183 ). "ولا تأكلوا اموالكم بينكم بالباطل "(البقرة / 188 )."ولا تحسبن الله غافلاً عما يعمل الظالمون"(ابراهيم / 42 ).
وفي الحديث القدسي:"ياعبادي :إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرماً فلا تظالموا".(صحيح مسلم)."قال الله تعالى,ثلاثة أنا خصمهم يوم القيامة: رجل أعطى بي ثم غدر,ورجل باع حراً فأكل ثمنه,ورجل استأجر اجيراً فاستوفى منه ولم يعطه أجره". (صحيح البخاري). وفي الحديث:"اتق دعوة المظلوم,فإنها ليس بينها وبين الله حجاب".(صحيح البخاري). "إن رجالاً يتخوضون في مال الله بغير حق فلهم النار يوم القيامة".(صحيح البخاري).
ويتولد النشاط الاقتصادي,وفقاً لهذا المنهج,بحصن مسؤول ومنضبط على الانفاق بمكوناته الثلاثة:الاستهلاكي والاستثماري والصدقي – بشقيه :الاستهلاكي والاستثماري – على اساس أن الانفاق هو,في حقيقة الأمر,الناتج الكلي.فبدون انتاج لا يوجد دخل أو "كسب",وبدون كسب لايوجد إنفاق,وبدون إنفاق لا يتصور وجود أسواق,وبالتالي لا يتولد انتاج ,ومن ثم,لا تقوم أصلاً دورة النشاط الاقتصادي ,فالحض على الانفاق,بمكوناته وضوابطه,إذن حض على الانتاج والكسب,أي دفع لعجلة إعمار الأرض.
ويقع هذا النشاط من خلال السوق الاسلامية,والتي تقوم على أساس آليات "المنافسة التعاونية" التي تدفع عملياً الى "العدل" في التعامل,ومن ثم الى زيادة الانتاج وتحسين نوعية المنتجات من خلال المعارضات المالية العادلة والمشاركات الاستثمارية الواضحة,وفي جو من البر والتقوى,والتواصي والتناصح,والرقابة والتوجيه,وليس على أساس منافسة "قطع الرقاب" كما هو في النظام الرأسمالي.
فهذه السوق لا تعرف التطفيف ولا البخس."ويل للمطففين.الذين إذا اكتالوا على الناس يستوفون,وإذا كالوهم أو وزنوهم يخسرون".(المطففين/ 1-3)."ولا تبخسوا الناس أشياءهم".(الشعراء/ 183 ).تقوم على معايير القيمة العادلة,والتي تتحقق بتفاعل قوى السوق – العرض والطلب – من خلال ميكانيكية الأسعار.ولقد ورد عن أنس,انه قال: غلا السعر في المدينة على عهد رسول الله (ص),فقال الناس:يارسول الله غلا السعر,فسعر لنا,فقال رسول الله(ص) :"إن الله هو المسعر,القابض,الباسط,الرازق.إني لأرجو أن ألقى الله وليس أحد منكم يطلبني بمظلمة في دم ولا مال". (صحيح البخاري). وهذه السوق لا تعرف "الاحتكار"."لا يحتكر إلا خاطىء"(صحيح مسلم)."الجالب مرزوق,والمحتكر ملعون"( صحيح البخاري).
كما أنها خالية من "الربا",وإلا أذن المجتمع بحرب من الله ورسوله."ياأيها الذين آمنوا اتقوا الله وذروا مابقي من الربا إن كنتم مؤمنين.فإن لم تفعلوا فأذنوا بحرب من الله ورسوله وإن تبتم فلكم رءوس أموالكم لا تظلمون ولا تظلمون".(البقرة / 278- 279 ).ولا يوجد فيها "اكتناز",وإلا اكتوى المكتنز في نار جهنم ."يوم يحمى عليها في نار جهنم فتكوى بها جباههم و جنوبهم وظهورهم هذا ما كنزتم لأنفسكم فذوقوا ما كنتم تكنزون ".(التوبة / 35 ).
وبصفة عامة,تقوم هذه السوق على أساس العدل والسلوكيات السوية في التعامل,بعيدة عن أية صورة من صور الاستغلال ,أو أكل أموال الناس بالباطل,فهي,في واقع الأمر,سوق نظيفة بدون أية ممارسات سلبية خاطئة.
ويعتمد هذا المنهج على "منظمات ذاتية" في نسيج النظام الاقتصادي الاسلامي,من هذه المنظمات:الدور المحدد للدولة على اسا س الولايات السلطانية,وبصفة خاصة ولايات الحكم,والقضاء,والمال,والحسبة,وعن طريق أنظمة القطائع,والحمى,والتحجير,والاحياء,والملكية,والوقف,وفقاً لضوابط ومعايير محددة للرقابة والتوجيه,والمتابعة والتقويم,والمساءلة,والثواب والعقاب.ومنها أيضاً محاربة جادة ومستمرة,ومؤثرة وناجحة,للاستغلال وإهدار الامكانيات وتبديد الطاقات من خلال :تحريم صريح وقاطع للربا,والغرر,والاحتكار,والاكتناز,والاسراف,والتقتير,و
التطفيف,والبخس,والغش,والتدليس,والنجس,وكل صور أكل أموال الناس بالباطل.
ويستند هذا المنهج,واقعياً,على مجموعة متكاملة من "الدوافع الايجابية".من هذه الدوافع :الحض على التقوى والعمل,والانتاج والانفاق,والزكاة والصدقات والنفقات الأخرى,والتكافل والعدل والاحسان,والتعاون والتواصي والتناصح,والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر,والوفاء والأمانة.ومن أهم دوافع هذا المنهج:
الأخوة والقدرة أو الأسوة.
فالأخوة تمثل احدى دعائم هذا المنهج,كما هي أساس من أهم أسس المجتمع المسلم,فهي تعني,وفقاً للنهج الاسلامي,الرحمة,والتعاطف,والمؤازرة,والتضامن,الى آخر المعاني والسلوكيات الانسانية السامية التي تتفجر من حب الأخ لأخيه.وهي بهذا المعنى تعد من أوثق الروابط الانسانية,التي تعمل على تماسك المجتمع,وتأليف قلوب افراده,وجعلهم على قلب رجل واحد,تجمعهم عقيدة واحدة,وشريعة واحدةووعبادة واحدة,وغاية واحدة,ومن ثم,يتحقق "انتماء" حقيقي للمجتمع,واحساس قوي بالمشاركة في حركة حياته,والعمل على تحقيق أهدافه.وعلى ذلك,تعتبر الأخوة دافعاً أساساً لاعانة الانسان على القيام برسالته من عبادة للخالق تبارك وتعالى,كما شرعها سبحانه,ومن اعمار للأرض كما يرضاه جل وعلا:"إنما المؤمنون إخوة ".( الحجرات/ 10 ).ويقول رسول الله (ص) :"مثل المؤمنين في توادهم,وتراحمهم,وتعاطفهم,مثل جسد,إذا اشتكى منه عضو,تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى"(صحيح البخاري).والأخوة بدون "قدوة" كالسفينة بدون ربان.ومن هنا كانت أهمية القدوة,على كل المستويات,في هذا المنهج,لتحقيق ادارة رشيدة للمجتمع الانساني لكي يستطيع القيام بمسؤولية اعمار الأرض,ولقد بلغ رسول الله (ص) الرسالة وأدى الأمانة بقدرات البشر,وبالامكانات والوسائل البشرية,فالمعجزات,برغم كثرتها في حياته,لم تكن طريقاً لدعوته,بل كان طريق الانسان والامكان البشري.ومن ثم استطاع المجتمع في حياته أن يقوم بتبعة الاستخلاف ويعمر الأرض,وينجح في إقامة الدولة "النموذج" في المدينة,ويحقق الخيرية لأمة الاسلام.وعليه,يعد هذا المنهج الانمائي فريداً في هذا الصدد,فلقد قدم لنا رسولنا الكريم (ص) القدوة "النموذج" في كل نواحي حياة الانسان الخاصو والعامة,على اساس تربوي مفصل,وشامل وكامل."وماآتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا"(الحشر/ 7 )."لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر".(الأحزاب / 21).وفي الحديث :"كل أمتي يدخلون الجنة إلا من أبي,قيل:ومن يأبى يارسول الله؟قال :من أطاعني دخل الجنة,ومن عصاني فقد أبى"( صحيح البخاري ).
بعد هذه الأسس وقبلها,كما أكدنا فيما سبق,يأتي تشديد هذا المنهج,بل الاسلام ذاته,على العنصر الأساس المسؤول عن اعمار الأرض,وهو الانسان,ومن هنا,قام الاسلام,بكل مكوناته وتفصيلاته,وتأسس المنهج الاسلامي,على حقيقة و"ضرورة" بناء الانسان أو "اعمار" الانسان,قبل بناء المجتمع واعمار الأرض وأثناء ذلك,على أساس أن الأول شرط ضروري و"ممكن",لكي يتحقق ويستمر الثاني,كما عمل الاسلام,كدين ونظام حياة,وبشكل واقعي محدد,على توفير المناخ "المطلوب" من الحرية والعدل لتحقيق هذا الشرط.بل,إن الأسس السابقة,وبديناميكية "دائرية" فاعلة,تعمل باستمرار على تثبيت هذا المناخ,ومن ثم قيام هذا الشرط.
وعليه, كان تركيز الاسلام على تربية "الانسان",وحرصه على استمرار عملية التربية,وتكثيفها تدريجياً في حياة الانسان,بل وفي "كل" يوم من هذه الحياة.فلم تترك عملية التربية,وفقاً لهذا النهج القويم,جانباً من حياة الانسان,مهما كان شأنه,إلا واهتمت به,وعالجته بما يتفق,عملياً,مع صيانة الانسان المسلم القادر وصنعه,بعون الله وتوفيقه,على تحمل تبعة العبادة والاستخلاف والاعمار.فشملت التربية "كل" جوانب حياة الانسان,ابتداءً من آداب الاستيقاظ وحتى آداب النوم,مروراً بالعادات اليومية من مأكل ومشرب وملبس,وحديث ومناقشة,وتحية ووداع,وعمل وترويح,وسفر وقدوم,الى آخر كل ما يستغرق الحياة اليومية للانسان.وذلك بهدف غرس القيم السوية والسلوكيات النبيلة وتعميقها في الانسان من الشرف والنزاهة,وعرفان الحق والواجب,والتعاون,والايثار,والتضحية وانكار الذات,والمحبة والمودة,والصدق والاخلاص,والأمانة والوفاء,والوسطية أو القوام,الى آخر هذه القيم والسوكيات,التي تليق بكرامة الانسان,وتتفق مع عظم المسؤولية الملقاة على عاتقه.وفي الوقت نفسه,تقوم هذه التربية على محاربة "كل" القيم غير السوية,والعمل على استئصال "كل" السلوكيات الذميمة من حياة الفرد والمجت�