تنمية السعادة الإقتصادية من منظور إسلامى .
هناك مفاهيم تطلق فى المجال الاقتصادى منها على سبيل المثال : الرفاهية الاقتصادية ، السعادة الاقتصادية ، حقوق الإنسان الاقتصادية ، ارتفاع مستوى الحياة الاقتصادية ، والعبرة ليست بالأسماء ولكن ما تحمله من مدلولات وما تضيفه من قواعد ومعايير .
وتختلف تلك المدلولات والضوابط تبعاً لاختلاف الفلسفات والثقافات الاقتصادية وما تقوم عليه من أسس ومبادئ وعادات وتقاليد .
وللفكر الإسلامى نظرته المتميزة إلى السعادة الاقتصادية فهى المنضبطة بأحكام ومبادئ الشريعة الإسلامية والتى تدور حول تحقيق الحاجات الأصلية للمسلم والتى تحفظ له نفسه ودينه وعقله وماله حتى يحيا حياة رغده طيبه فى الدنيا ويسعد بلقاء الله فى الآخرة ، ولقد تضمن فقه المعاملات الاقتصادية مجموعة من الأحكام والمبادئ التى تحقق للإنسان السعادة بمدلول الإشباع الروحى المعنوى والإشباع المادى لتتواءم مع فطرة خلق الله للإنسان والذى يتكون من جسد وروح ، وعندما يُعرِض الإنسان عن الالتزام بتلك الأحكام يشقى وتكون حياته ضنكاً وهذا المفهوم يختلف عن المفاهيم الوضعية التى ترتكز على المادة .
& مدلول السعادة الاقتصادية فى الفكر الوضعى
ينظر الفكر الوضعى المادى إلى السعادة الاقتصادية من منظور الثروات والدخول المادية التى يحوزها الفرد لتحقق له مطالبه غير المحدودة فى حياته الدنيوية بصرف النظر عن سعادته الأخروية ، ويرون انه كلما ازداد متوسط دخل الفرد وتعاظمت ثرواته المادية كما ازدادت سعادته ، وتقاس السعادة الاقتصادية بمعيار المال الذى اصبح معشوقه ومعبوده وغاية غاياته .
وفى ضوء هذا المعيار نقسم الدول والأفراد إلى :
1 ـ دول غنية : حيث يرتفع فيها متوسط دخل الفرد المادى .
2 ـ دول فقيرة متخلفة : حيث ينخفض فيها متوسط دخل الفرد المادى
ولقد وضعت بعض المنظمات الاقتصادية والمالية العالمية مقياساً للحد الأدنى لدخل الفرد الذى دونه يعيش فى فقر وتعاسة بعدد من الدولارات ، فالفرد التعس فى المنظور الاقتصادى الوضعى هو الذى ينخفض دخله السنوى عن تلك الدولارات .
وليس هذا هو المجال لمناقشة هذا المعيار من المنظور الاقتصادى التجريدى ، ولكن هل حقق الإشباع المادى السعادة للإنسان ؟ وبماذا نفسر قيام بعض الأثرياء ـ الأغنياء ـ بالانتحار ؟ ، وبماذا نفسر قيام بعض الأغنياء بالاعتداء عى حقوق الفقراء ؟ ، وبماذا نفسر قيام بعض الدول الغنية بالاستيلاء على ثروات الدول الفقيرة وسلب خيراتها ؟ .. إن الإجابة الموضوعية على هذه التساؤلات تدور حول أن سعادتهم لم تكتمل ويبحثون عن شئ خفى لاستكمالها مثل : السيطرة ، والجاه ، والتميز ، والاستعباد وكلما زادت درجة الغنى والثراء كلما زادت عندهم الرغبة فى البحث عن الشىء الخفى ، فما هو ذلك الشىء ؟
يُستنبط من ذلك كله أنهم تُعساء من المنظور المعنوى بالرغم من ثرائهم المادى ، ولقد أدى ذلك إلى ظهور بعض الاقتصاديين ينادون بالاهتمام بالقيم والأخلاق فى الاقتصاد بحثاً عن السعادة .
& مفهوم السعادة الاقتصادية فى الفكر الإسلامى
ينظر الإسلام إلى الإنسان على أنه يتكون من عنصرين لابد من إشباعهما وإسعادهما معاً ، هما:
1 ـ الجسد : ويتم تحقيق احتياجاته من خلال حفظ النفس من الهلاك ، ومن وسائل ذلك : الطعام والشراب والملبس والمسكن والعلاج والزواج ... بدون إسراف أو تقتير ، والغاية من بناء الجسد هو عبادة الله U ، ودليل ذلك فطرة حب تملك المال لتسخيره فيما يرضى الله سبحانه وتعالى .
2 ـ الروح : ويتم تحقيق احتياجاتها من خلال حفظ الدين ، وكلما ازدادت القيم الإيمانية كلما استشعر المسلم بالسعادة الروحية ، وكلما ضعفت القيم الإيمانية ـ بالرغم من غِناه المادى وتوافر كافة احتياجات الجسد ـ كلما شعر المسلم بالشقاء .
فالسعادة الحقيقية للإنسان فى المنظور الإسلامى هى فى تحقيق التوازن بين احتياجات الجسد واحتياجات الروح ، ولا ينبغى أن يطغى كلاهما على الآخر ، ولهذا المفهوم أدلته العديدة من الكتاب والسنة ، نذكر منها على سبيل المثال قول الله U : } وابتغ فيما آتاك الله الدار الآخرة ولا تنس نصيبك من الدنيا وأحسن كما احسن الله إليك ولا تبغ الفساد فى الأرض إن الله لا يحب المفسدين { [ القصص : 77 ]
ولقد شخَّص رسول الله r المدلول الحقيقى للسعادة فى قوله : p من بات آمناً فى سربه ، مُعافاً فى بدنه ، عنده قوت يومه ، فقد حيزت له الدنيا بحذافيرها i [ متفق عليه ] ، يشير هذا الحديث إلى ضرورة التوازن بين تحقيق الأمن المعنوى الروحى ، وبناء الجسد ، وتوفير الطعام ، ولقد قال الشاعر :
لست أرى السعادة جمع المال ولكن التقى هـــو الســـعـــيد
ونخلص من ذلك إلى أن السعادة الحقيقية فى الإسلام هى التى تجمع بين إشباع احتياجات الجسد وبين إشباع احتياجات الروح ولا يجوز الفصل بينهما .
& موجبات [ مقومات ] تحقيق السعادة الاقتصادية فى الفكر الإسلامى
يرى فقهاء وعلماء الاقتصاد الإسلامى أنه غاية الغايات من المعاملات الاقتصادية هو تحقيق الإشباع المادى والمعنوى للإنسان طبقاً لأحكام ومبادئ الشريعة الإسلامية ، وتفعيل هذا المفهوم فى التطبيق العملى يتم وفق مجموعة من الضوابط الشرعية من أهمها ما يلى :
1ـ الضوابط الإيمانية للمال والتى تجعله نعمة وليس نقمة ، والنظر إليه على أنه وسيلة ليعين الإنسان على تحقيق السعادة الأخروية ، كذلك الإيمان التام بأن الله U قد كفل للإنسان الرزق وأنه فضَّل البعض على البعض فيه.
ويجب على الإنسان أن يرضى بما قسمه الله له ، وهذا الرضى يحقق له فعلاً السعادة .
& الضوابط الأخلاقية للمعاملات المالية
مثل : الصدق والأمانة والقناعة والرضا والعفة والتيسير والتعاون والتكافل ... إن الالتزام بهذه القيم من دافع وباعث الواجبات الدينية يحقق عند الإنسان السعادة الصادقة .
& الضوابط الشرعية للمعاملات المالية ( فقه المعاملات )
والتى تتمثل فى معرفة المعاملات الجائزة شرعاً لاتباعها والمنهى عنها شرعاً لتجنبها ، إن الالتزام بتلك الضوابط ليكون عمله صالحاً ولوجه الله خالصاً يحقق له السعادة .
إن الالتزام بهذه الضوابط يحقق للمسلم السعادة فى الحياة الطية والرغدة والكريمة فى الدنيا والفوز برضاء الله فى الآخرة ، ولقد ورد فى كتاب الله U العديد من الآيات التى تؤكد ذلك منها :
} من عمل صالحاً من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة ولنجزينهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون { [النحل:97]
} وضرب الله مثلاً قرية كنت آمنة مطمئنةً يأتيها رزقها رغداً من كل مكان فكفرت بأنعم الله فأذاقها الله لباس الجوع والخوف بما كانوا يصنعون { [النحل :112]
} فإما يأتينكم منى هدىً فمن اتبع هداى فلا يضل ولا يشقى ومن اعرض عن ذكرى فإن له معيشة ضنكا ونحشره يوم القيامة أعمى { [طه: 123 ـ 124]
} يوم يأت لا تكلم نفس إلا بإذنه فمنهم شقى وسعيد { [هود:105]
وتشير هذه الآيات وغيرها أن السعادة الاقتصادية للإنسان فى القرآن تدور حول الحياة الطيبة فى الدنيا عن طريق الالتزام بشرع الله ، وكذلك بالسعادة بلقاء الله حيث السعادة الأخروية وهذا يُظهر الإعجاز الاقتصادى فى القرآن فى بيان المدلول الحقيقى للسعادة الاقتصادية .
كما ورد فى السُنة النبوية الشريفة العديد من الأحاديث التى تشير إلى فتنة المال وطغيانه ولابد من تحقيق التوازن بين الجوانب المالية والجوانب الروحية المعنوية للإنسان ، نذك من هذه الأحاديث ما يلى :
p إن لكل أمة فتنة ، وفتنة أمتى المال i [رواه الترمذى وقال حديث حسن ]
p تعس عبد الدينار ، تعس عبد الدرهم i [ رواه البخارى ]
p وما أحسن القصد فى الغنى ، وما أحسن القصد فى الفقر وما أحسن القصد فى العبادة i [ رواه البزار ]
p شِرار أمة الدنيا غُذوا بالنعيم ، الذين يأكلون ألوان الطعام ، ويلبسون ألوان الثياب ، ويتشدقون فى الكلام i [رواه الطبرانى]
p قد أفلح من أسلم ، ورزق كفافاً ، وقنَّعه الله بما آتاه i [رواه مسلم]
p قلب الشيخ شابا على حب اثنين : طول الحياة وحب المال i [رواه مسلم]
تشير الأحاديث السابقة وغيرها أن التعاسة تظهر عندما يخت التوازن بين الإشباع المادى والإشباع الروحى للإنسان ، وهذا ما نشاهده فى الواقع المعاصر حيث نجد الكثير من الأغنياء يعيشون تعساء ، والكثير من الفقراء الذين أغناهم الله بالرضا والقناعة يعيشون سعداء .
& معايير السعادة الاقتصادية فى المنظور الإسلامى
يُستنبط مما ود بالقرآن والسنة عن السعادة الحقيقية للإنسان سواء كانت اقتصادية أو اجتماعية أو نحو ذلك ، مجموعة من المعايير التى تساعد فى بيان ما يتمتع به الفرد من سعادة ، من هذه المعايير ما يلى :
1- توفير الحاجات الأساسية المعيشية لحفظ البدن وتقويته على طاعة الله U من خلال الكسب الحلال الطيب ، فنعم المال الصالح فى يد العبد الصالح ، ويعتبر ولى الأمر فى الإسلام مسئولاً عن توفيرها لك إنسان فهى الحد الأدنى للحقوق الاقتصادية .
2- إنفاق جزءً من هذا المال فى صورة زكاة أو صدقات أو هبات أو وقف أو صدقة جارية على من هم دون حد الكفاف والكفاية وغيرهم لإدخال السعادة عليهم ، وذلك أيضاً سعادة روحية للمُنفق .
3- الالتزام بشرع الله U فى كل نواحى الحياة ، منها التعامل فى المال كسباً وإنفاقاً ، بمعنى أن يتم الحصول على المال بالحق ويتم إنفاقه بالحق ، ويُمنع من الباطل ، وفى هذا تأكيد على حب الله ـ المالك الحقيقى لهذا المال ـ وهنا يشعر الإنسان بالسعادة لأنه أطاع الله ورسوله ، فمن يطع الله ورسوله فقد فاز فوزاً عظيما .
4- الإيمان باليوم الآخر ولقاء الله U والوقوف أمامه للمحاسبة الأخروية ، وهنا يكون الشقى والسعيد ، فمن كان عمله صالحاً فى الدنيا تحققت له السعادة الأخروية ، وصدق الله العظيم القائل : } فمن كان يرجو لقاء ربه فليعل عملاً صالحاً ولا يشرك بعبادة ربه أحدا { [الكهف:110]
ولقد وردت هذه المعايير فى آية البر فى سورة البقرة حيث يقول الله U : } ليس البر أن تولوا وجوهكم قِبل المشرق والمغرب ولكن البر من آمن بالله واليوم الآخر والملائكة والكتاب والنبيين ، وآتى المال على حبه ذوى القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل والسائلين وفى الرقاب وأقام الصلاة وآتى الزكاة والموفون بعهدهم إذا عاهدوا والصابرين فى البأساء والضراء وحين البأس أولئك الذين صدقوا وأولئك هم المتقون { [البقرة:177]
& الشقاء الاقتصادى فى المنظور الإسلامى
عندما يُعرض الإنسان عن شرع الله U فى كافة نواحى حياته ومنها الاقتصادية تكون الحياة الضنك والشقاء والتعاسة حتى ولو كان عنده مال قارون ، وهذا ما أشار الله إليه فى القرآن الكريم } ومن أعرض عن ذكرى فإن له معيشة ضنكاً { [طه:124] وقول رسول الله r : p تركت فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا بعدى أبدا ، كتاب الله وسُنتى i [رواه مسلم والبخارى]
& وصايا إسلامية لتحقيق السعادة الاقتصادية
من بين هذه الوصايا ما يلى :
~ الإيمان الراسخ بأن المال ملك لله U ، ويجب تسخيره لعبادته حتى تتحقق السعادة فى الدنيا وفى الآخرة .
~ الإيمان الراسخ بأن الله سبحانه وتعالى قد كفل الأرزاق لعباده ويجب السعى فى الحصول عليه بالطرق وبالأساليب المشروعة حتى يبارك الله فيه .
~ الالتزام بالأخلاق الفاضلة ، فإنها من موجبات تحقيق البركة فى الأرزاق ، فالأخلاق الحسنة من موجبات الأرزاق الطيبة .
~ إتقان الأخذ بالأسباب مع حسن التوكل على الله وحسن التعامل مع الناس ، فهذا من الواجبات الدينية ، فما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب .
~ الإيمان بأن تحقيق السعادة والأمن يكمن فى التعامل فى الحلال الطيب وأن الشقاء والحياة الضنك يكون بسبب التعامل فى الحرام الخبيث .
~ التفقه فى الدين من موجبات تحقيق السعادة ، وينبغى أن نعرف الحلال فنتبعه ونعرف الحرام فنجتنبه ، من يرد الله به خيراً يفقه فى الدين .
~ تجنب المعاملات الربوية حتى لا ندخل فى حرب مع الله ورسوله فتُنزع البركات وتُمحق الأرزاق ويكون الشقاء .
~ الاعتدال فى الإنفاق دون إسراف أو تقتير فهذا من صفات عباد الرحمن الذين يحبهم الله تعالى ورسوله .
~ أداء زكاة مالك فهى ركن وعبادة ، وطُهر وتنمية ، وتحقق السعادة لكلٍ من الغنى والفقير ، ولا يشقى الفقراء إلا بصنيع الأغنياء .
~ تطهير القلوب وإصلاح النفوس ، وتهذيب السلوك مع كثرة التوبة والاستغفار فهذا كله من موجبات السعادة الربانية ، فقد امرنا الله بذلك على لسان سيدنا نوح فى القران الكريم : } فقلت استغفروا ربكم انه كان غفارا () يرسل السماء عليكم مدرارا () ويجعل لكم جنات ويجعل لكم انهارا () ما لكم لا ترجون لله وقارا { [نوح:10ـ13]
ألم يأن للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله والعمل وفقاً لشرع الله حتى تحقق لهم السعادة الشاملة ؟