قبل أن نتطرق إلى أن أصل علم التسويق قد ذُكر في القرآن الكريم منذ أكثر من 1400 عام قبل أن يعرفه علماء الاقتصاد والإدارة في العالم، يجب أن نعرض حقيقة ذكرتها موسوعة التسويق والتخطيط الاستراتيجي إحدى موسوعات الأكاديمية العربية البريطانية للتعليم العالي وهي: أن علم التسويق لم يكن معروفاً قبل 200 عاماً، وأن علماء الاقتصاد وعلى رأسهم ” آدم سميث ” تنبؤا بأن القرن التاسع عشر سيشهد ولادة عصر جديد سمي فيما بعد [عصر التسويق]، وقد أطلق نظريته [الغاية النهائية للإنتاج هي الاستهلاك]، وتذكر الموسوعة أن علم التسويق مركب من مجموعة علوم هي: الاقتصاد – الإدارة – علم الاجتماع – علم النفس، وأن علم التسويق لم يبدأ تدريسه في الجامعات الأمريكية إلا عام 1905.
حقيقة أن مسمى التسويق لم يكن موجوداً قبل 120 عاماً، وأنه علم مركب من مجموعة علوم، هذه الحقيقة قادت تعريفات العلماء للتسويق لتأتي في صورة وصفية لمفردات العلوم التي يتكون منها التسويق، من أنه نشاط إنساني يهتم بالأفراد، وأنه مجموعة من الوظائف التي تسهل انتقال السلع والخدمات من المنتج إلى المستهلك، وأنه يحقق منافع اقتصادية واجتماعية للمستهلك والمنتج والمجتمع، وأنه عملية تبادلية بين طرفين إلى آخر هذه المفردات.
ولأن القرآن الكريم لم يترك كبيرة ولا صغيرة من أمر حياتنا إلا وبينها لنا إما على الإجمال أو التفصيل، وسواء كان ذلك بالتصريح أو التلميح حسب ما تقتضيه الحكمة الإلهية، قال تعالى: ﴿ وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِّكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ ﴾. [النحل : 89]. لذا نجد أن القرآن الكريم ذكر أصل هذه المفردات في آيات عديدة لعل من أبرزها قوله تعالى: ﴿ فَابْعَثُوا أَحَدَكُم بِوَرِقِكُمْ هَذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ فَلْيَنظُرْ أَيُّهَا أَزْكَى طَعَامًا فَلْيَأْتِكُم بِرِزْقٍ مِّنْهُ وَلْيَتَلَطَّفْ وَلا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَدًا ﴾. [الكهف : 19].
هذه الآية بالتحديد كلما تقرأها أو تسمعها سيقع في خاطرك أنها آية التسويق في القرآن، لأنها جمعت معظم مفردات علم التسويق قبل أن يكون، فعندما تقرأ ” فَابْعَثُوا أَحَدَكُم ” سيأتي في نفسك وظيفة مندوب المشتريات، فإذا قرأتُ ” بِوَرِقِكُمْ هذه ” – والوَرِق هو الفضة - يحضرني العملة الفضية التي نقش عليها صورة الملك دقيانوس الجبار الذي فروا منه منذ أكثر من 300 سنة حتى لا يفتنهم في دينهم، فإذا قرأتُ ” إِلَى الْمَدِينَةِ ” لا أتخيل إلا أنها تشير إلى سوق المدينة وذلك لأنهم قاموا جياعاً يريدون طعاماً، وعند قراءة ” فَابْعَثُوا أَحَدَكُم بِوَرِقِكُمْ هَذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ ” جملة واحدة يحضرني تصور متكامل عن جانب الطلب الحقيقي المؤيد بقوة شرائية وليس مجرد رغبة أو حاجة.
وهذا الطلب الحقيقي يقابله جانب العرض في السوق، وعند قراءة ” فَلْيَنظُرْ” ستتصور عملية التسوق أي المرور على أكثر من بائع ومعاينة عدة منتجات للنوع الواحد من حيث الشكل الجذاب والمكونات والوزن، أما ” أَيُّهَا ” فتعطي انطباع بالمفاضلة والاختيار من بين البدائل المعروضة في السوق التي تلبي طلب العميل وتتناسب مع قدرته الشرائية، وعند قراءة ” أَزْكَى طَعَامًا ” يحضرني معنى الطعام الطيب الحلال الكثير الأقل ثمناً لأن الحرام لا يكون طعاماً، والقليل لا يشبع، والأكثر ثمناً فيه إسراف وإرهاق لهم لأن نقودهم محدودة، وعندما أقرأ ” فَلْيَأْتِكُم ” أتخيل تجميع المشتريات ولفها وحزمها في قطعة من القماش أو كيس يحويها لنقلها إلى مكان استهلاكها.
وبذلك تتحقق المنفعة المكانية عن طريق النقل، أما ” بِرِزْقٍ مِّنْهُ ” فإذا كان الطعام حلالاً وتم الحصول عليه بمبادلة مشروعه فهو رزق من الله فيه البركة والنفع حتى وإن كان قليلاً، وعندما أقرأ ختام الآية ” وَلْيَتَلَطَّفْ وَلا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَدًا ” أجد فيها دلاله على أن فن إجادة التعامل بلطف ورفق مع البائعين في السوق هو من أهم مؤهلات مندوب المشتريات للحصول على أفضل السلع بأحسن الأسعار والشروط.
وإن كانت آية سورة الكهف هي أبرز آيات القرآن الكريم شمولاً لمفردات علم التسويق عن طريق التلميح، فإن هناك العديد من الآيات التي تتحدث عن مفردات لم تشملها هذه الآية بطريق التصريح ففي قوله تعالى: ﴿ قَالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَبًا فَمَا حَصَدتُّمْ فَذَرُوهُ فِي سُنبُلِهِ إِلاَّ قَلِيلاً مِّمَّا تَأْكُلُونَ ثُمَّ يَأْتِي مِن بَعْدِ ذَلِكَ سَبْعٌ شِدَادٌ يَأْكُلْنَ مَا قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلاَّ قَلِيلاً مِّمَّا تُحْصِنُونَ ثُمَّ يَأْتِي مِن بَعْدِ ذَلِكَ عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ ﴾. [يوسف : 47- 49].
هذه الأوامر الصريحة بإنتاج القمح لسبع سنوات، وتخزينه بصورة صحيحة، ستشعر تجاهها بأنها تشير إلى معنى المنفعة الشكلية في التسويق التي تحدث بالإنتاج، وتحوي ضمناً معنى المنفعة الزمنية التي تحدث بالتخزين لأنهم سوف يستهلكوا ما أنتجوه على مدار سبع سنوات لاحقة.
فإذا انتقلنا إلى قوله تعالى: ﴿ فَلَمَّا دَخَلُواْ عَلَيْهِ قَالُواْ يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ مَسَّنَا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ وَجِئْنَا بِبِضَاعَةٍ مُّزْجَاةٍ فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ وَتَصَدَّقْ عَلَيْنَا إِنَّ اللَّهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ ﴾. [يوسف : 88]. هذا التصريح بأن انتقال ملكية السلع يتم بمبادلتها بالمقايضة، أو بطريق الشراء بالثمن، يشير ضمناً إلى المنفعة الحيازية، كم يشير إلى فضيلة مراعاة المبادئ الأخلاقية والإنسانية في البيع والشراء بصفة عامة، ومراعاة الجوانب الاجتماعية في البيع والشراء للمحتاجين بصفه خاصة.
وقوله تعالى: ﴿ ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهَارًا ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْرَارًا ﴾. [نوح : 8-9]. هذا ذكر صريح لعدد من طرق التواصل التي تستخدم في تسويق الأفكار والمعتقدات والسلع، فمنها التواصل الفردي الهادئ الذي يكون بالإسرار، ثم التناقش مع مجموعة ويكون بالجهر، وانتهاءً بالإعلان للمجتمع كله ويكون بالصراخ والصياح ليسمع الجميع، وكل هذا فيه إشارة إلى أحد أهم عناصر المزيج التسويقي، وهو عنصر الترويج، والذي يشمل جميع نشاطات الاتصال مع الزبائن من الإعلانات، العلاقات العامة، ترويج المبيعات، البريد المباشر، التسويق الخفي.
فإذا انتقلنا إلى قوله تعالى: ﴿ فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ فَقَالَ أَحَطتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِن سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ ﴾. [النمل : 22]. فإن كانت آية سورة نوح ” ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنتُ لَهُمْ ” تحدثت صراحة عن الترويج والإعلان، فإن قول الهدهد: ” أَحَطتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ ” فيه إشارة إلى أهمية استخدام أسلوب التشويق في الإعلان، وقد بدأ الهدهد بهذا الأسلوب ليستحوذ على انتباه سليمان عليه السلام، ليصرفه عن توعده له بالذبح أو العذاب بسبب غيابه، وبعد أن تحقق له ما أراد بدأ في عرض سبب تأخره، والإعلانات التشويقية القصيرة تعد من أحدث مفردات عناصر التسويق في العصر الحديث.
فإذا انتقلنا إلى قوله تعالى: ﴿ قِيلَ لَهَا ادْخُلِي الصَّرْحَ فَلَمَّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً وَكَشَفَتْ عَن سَاقَيْهَا قَالَ إِنَّهُ صَرْحٌ مُّمَرَّدٌ مِّن قَوَارِيرَ قَالَتْ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ﴾. [النمل : 44]. هذه الآية وما قبلها من آيات فيه عدد من الإيحاءات والإشارات التي تبين أهمية الابتكار والتجديد كأحد وسائل التسويق سواء كان ذلك في عرض الأفكار والمعتقدات أو السلع، فبعد أن سمع سليمان عليه السلام من الهدهد عن المرأة التي تحكم أهل سبأ، وأنها أوتيت من كل شيء ولها سرير عظيم تجلس عليه لإدارة ملكها، وأنها وقومها يسجدون للشمس من دون الله.
بدأ سليمان عليه السلام فوراً في القيام بمهمته، والتي هي مهمة الأنبياء جميعاً قال تعالى: ﴿ وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلاَّ نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدُونِ ﴾. [الأنبياء : 25]. وتدرج في استخدام الوسائل للوصول إلى غايته في تعبيدهم لله، فبدأ بإرسال رسالة مع الهدهد، يدعوهم فيها بصورة مباشرة بألا يتكبروا ولا يتعاظموا عما دعاهم إليه وأن يأتوا إليه مسلمين منقادين لله بالوحدانية، وأمر الهدهد أن يرقب له ويسجل ما يتردد بينهم من النقاش وردة الفعل على الرسالة وسلوكهم تجاهها، وفي هذا لفتة إلى أهمية معرفة سلوك متلقي الرسالة الدعوية أو التسويقية لدراسته لتحديد مسار التحرك المستقبلي.
فلما حضروه تدرجت الوسيلة من الرسائل إلى الاجتماع معهم ومناقشتهم فيما أتوا من أجله والرد عليهم في ضوء ما علمه من ردة فعلهم على رسالته الأولى، والتي سجلها عليهم الهدهد ونقلها لسليمان عليه السلام بكل دقة، لذا كان القرار المدروس هو الإنكار على رسل الملكة لمحاولتهم صرفه عن مهمته التي كلفه الله بها بمجموعة من الهدايا، وقال لهم: أتصانعونني بمال لأترككم على شرككم وملككم ؟! مبيناً لهم أنهم هم الذين ينقادون للهدايا والتحف ويفرحون بها، وأما هو فلا يقبل منهم إلا الإسلام، ولم يقبل هداياهم وأعلمهم في قوة أنه سيأتيهم بجنود لا طاقة لهم بقتالهم، وسيخرجهم من بلدهم مهانون، فلما رجعت إليها رسلها بهديتها، وبما قال سليمان، سمعت وأطاعت هي وقومها، وأقبلت تسير إليه في جنودها خاضعة ذليلة.
ولما تحقق لسليمان عليه السلام أمر قدومهم إليه كما طلب منهم في رسالته الأولى مع الهدهد، وفي هذا إشارة إلى المتابعة الدقيقة لسلوك المدعو أو المستهلك، عندها حدث تدرج باتباع نوع جديد ومبتكر من الوسائل التي تجعلهم يؤمنون عن قناعة وليس عن خوف، ويثبتوا على الإيمان، فأمر بعمل الصرح، وقد عملته له الشياطين من زجاج كأنه الماء بياضاً، ثم أرسل الماء تحته، ثم وُضع له فيه سريره، فجلس عليه، وعكفت عليه الطير والجن والإنس، ثم قيل لها: ” ادْخُلِي الصَّرْحَ ” ليريها ملكاً هو أعز من ملكها، وسلطاناً هو أعظم من سلطانها، فلما رأت الصرح حسبته ماء تخوضه فرفعت ثوبها خشية البلل، قال لها سليمان: إنه صرح ممرد من الزجاج، فأدركت عظمة ملك سليمان، وعلمت أن هذا الملك من الله، فلما دعاها إلى عبادة الله وعاب عليها عبادتها للشمس من دون الله، قالت: رب إني ظلمت نفسي، وانقدت وأسلمت مع سليمان مذعنة لله بالتوحيد، مفردة له بالألوهية والربوبية دون كل من سواه.
فإذا انتقلنا إلى قوله تعالى ﴿ وَيَا قَوْمِ أَوْفُواْ الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ وَلاَ تَبْخَسُواْ النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلاَ تَعْثَوْا فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ ﴾. [هود : 85].
هذا الأمر الصريح بالوفاء بالكيل والميزان بالعدل في هذه الآية الكريمة، يحوي إشارة ضمنية في النهي عن الغش التجاري، وهذا مجال عمل هيئات حماية المستهلك حول العالم، كما حوي الأمر الصريح بعدم بخس الناس أشياءهم، إشارة ضمنية إلى أصل من أصول الرواج الاقتصادي الذي يعتمد على الأمانة والعدل التي يتولد عنهما الثقة المتبادلة بين المنتج والمستهلك، فبخس المنتج حقه يجعله يخسر ويخرج من دائرة الإنتاج فتقل السلع ويرتفع ثمنها على المشتري، وبخس المستهلك حقه بزيادة السعر عليه أو النقص من وزن السلعة يجعله يمتنع عن الشراء فتركد الأسواق.
وأخيراً، مازال هناك العديد من الآيات التي تشير إلى أن أصل علم التسويق قد ذُكر في القرآن الكريم قبل أن يعرفه علماء الاقتصاد والإدارة في العصر الحديث، ولكن يمكن الاكتفاء بهذا القدر الذي ذكر.
ولا يمكن ألا ننسى ما قاله فيليب كوتلر Philip Kotler رائد علم التسويق الحديث في العالم في أكتوبر 2010 وهو يقدم لنظريته الجديدة التسويق 3 حيث صرح بالقول: ” حين وضعت نظريتي الجديدة التسويق 3 من خلال القيم والمبادئ لم أكن أعرف كثيراً عن الإسلام، ولكن اكتشفت أن النظرية التي وضعتها كانت مبنية على أسس الشريعة الإسلامية والتعاملات في الدين الإسلامي، وهو ما يعكس تكاملاً كاملاً بين نظريتي الجديدة وما جاء به الدين الإسلامي في التعاملات بين الناس ”.