أ_ مفهوم الأدب المقارن : يُعدُّ مصطلح «الأدب المقارن» comparative literature مصطلحاً إشكاليًا لأنه ضعيف الدلالة على المقصود منه. وقد نقده كثير من الباحثين ولكنهم في النهاية آثروا الاستمرار في استعماله نظراً لشيوعه. فمثلاً عدّه پول فان تييغم Paul Van Tieghem مصطلحاً غير دقيق, واقترح مصطلحات أخرى أقرب دلالة إِلى موضوعه مثل: «تاريخ الأدب المقارن», و «التاريخ الأدبي المقارن», و «تاريخ المقارنة». واقترح ماريوس فرانسوا گويار M.F.Guyard مصطلحاً بديلاً هو «تاريخ العلاقات الأدبية الدولية». و كلمة «تاريخ» هي المضافة في مختلف الاقتراحات البديلة, ذلك أن الأدب المقارن هو في الأصل تاريخ للعلاقات المتبادلة بين الآداب وللصلات والمشابهات المتجاوزة للحدود اللغوية والجغرافية, وفيما بعد أضيفت الحدود المعرفية. ب_ نشاة الأدب المقارن: تعود نشأة الأدب المقارن إِلى العقد الثالث من القرن التاسع عشر, وربما إِلى سنة 1827 حين بدأ الفرنسي أبل ڤييمان Abel Villemain يلقي محاضرات في بباريس حول علاقات الأدب الفرنسي بالآداب الأوربية الأخرى. وقد استعمل فيها مصطلح «الأدب المقارن» وإِليه يعود الفضل في وضع الأسس الأولى لمنطقه ومنطقته, في وقت بدأ يشهد تصاعد اهتمام العلوم الإِنسانية في أوربة بالبعد المقارني في المعرفة, إِذ نشأ «القانون المقارن» و«فقه اللغة المقارن» و«علم الاجتماع المقارن» وغيرها. وتعدُّ فرنسا المهد الأول للأدب المقارن, إِذ استمرت تطوراته بعد فييمان, وكان لذلك عوامل لغوية وسياسية واجتماعية وثقافية متداخلة أدّت إِلى أن يكون الفرنسيون أول من تنبّه إِلى قيمة التراث المشترك بينهم وبين المناطق الأوربية الأخرى, مما خلق الأساس الأول للتفكير المقارن. و كان التطور في البدء بطيئاً, فبعد فييمان ظهر جان جاك أمبير Ampére وألقى في مرسيلية سنة 1830 محاضرات في الأدب المقارن لفتت إِليه الأنظار وأتاحت له أن ينتقل بعد ذلك بسنتين إِلى باريس ليلقي محاضرات حول علاقات الأدب الفرنسي بالآداب الأجنبية. وفي سنة 1835 ظهرت مقالات فيلاريت شال Chales على صفحات مجلة باريس مؤكدة العلاقات المتينة بين الآداب الأوربية. وفي نهاية القرن التاسع عشر أخذت تتلاحق التطورات وظهر جوسف تكست Texte في ليون (1896) وحاضر في الأدب الأوربي, وتبعه على منبر ليون فرنان بالدنسپرجيه F.Baldensperger الذي ألف كتابه «غوتة في فرنسا» سنة 1904, ثم سُمي أستاذاً في السوربون حينما أحدث فيها كرسي للأدب المقارن سنة 1910 وظهرت بعد ذلك مجلات وفهارس, وعَرَف الأدب المقارن طريقه إِلى التطور النسقي منذ مطلع القرن العشرين. وإِلى جانب فرنسة سجلت بعض البلدان الأوربية إِسهاماً نسبياً في نشأة الأدب المقارن, وكانت إِسهاماتها تتزايد مع تزايد نزعة «العالمية» في المعرفة ومع تزايد قوة الاتصالات والمواصلات في العالم. وقد ظهر أول كتاب في بريطانيا عن الأدب في أوربة بين عامي 1837-1839, لهنري هالام H.Hallam, غير أن التطورات بعده كانت شديدة البطء. وفي ألمانيا تأخر ظهور الأدب المقارن حتى ثمانينات القرن التاسع عشر, واشتُهر من مؤسيسه ك. مورهوف K.D.Morhof وشميدت Schmidt ، كاريير M.Carriére, ولم يدخل الأدب المقارن نطاق الدراسة المنظمة إِلا بعد سنة 1887 بفضل ماكس كوخ Max Koch الذي أصدر مجلة «الأدب المقارن». ولكن دخول الأدب المقارن إِلى مناهج الجامعة لقي معارضة شديدة وتأخر حتى مطلع القرن العشرين. وتعرقل ظهور الأدب المقارن في إِيطاليا بسبب حدة النزعة القومية. وفي عام 1861 تم فتح شعبة الأدب المقارن في جامعة نابولي. ولكن ب. كروتشه B.Croce تصدى للأدب المقارن وشنّ على أنصاره حملة قوية وحاول تسفيه منطقه. وإِذا كانت نهاية القرن التاسع عشر قد شهدت تطور الأبحاث التطبيقية في الأدب المقارن وبدء الاعتراف به في الجامعات فإِن بداية القرن العشرين شهدت تأسيس الوعي النظري لمنهج الأدب المقارن. وقد تابعت فرنسا تطورها الَسبّاق فنشأت فيها كراسٍ جديدة للأدب المقارن في الجامعات. ومنذ سنة 1911 أخذ فان تيغم ينشر مقالات نظرية في المنهج المقارن. و تبلورت نظرته إِلى الأدب المقارن في مقالاته في مجلة «الأدب المقارن» و مجلة «مكتبة الأدب المقارن». وفي عام 1931 أصدر فان تييغم أول كتاب نظري عرفه العالم بعنوان «الأدب المقارن», وظل هذا الكتاب مرجعاً أساسياً في بابه حتى اليوم, وترجم إِلى عدد كبير من اللغات, ومنها اللغة العربية في منتصف القرن العشرين. وتتابعت بعد ذلك المؤلفات الفرنسية في الأدب المقارن نظرية وتطبيقاً, ومن أشهرها كتاب غويار «الأدب المقارن» عام 1951 وترجم كذلك إِلى العربية عام 1956. وبدءاً من هذا التاريخ أخذت تظهر في فرنسا تحديات لما يمكن تسميته بالنظرية الفرنسية التقليدية في الأدب المقارن, وكان أبرزها الهجوم الحاد الذي شنّه رنيه إِتيامبل R.Etiemble على ڤان تييغم وگويار, وظهر بعد ذلك في كتابه «الأزمة في الأدب المقارن». وقد تعثر الأدب المقارن في الدول الأوربية الأخرى ولم يصب تطوراً في بريطانيا ربما حتى تسعينات القرن العشرين وكذلك كان شأن ألمانيا وإِيطاليا والاتحاد السوفييتي. ففي بداية التسعينات انتعش الأدب المقارن في القارة الأوربية, وذلك مع ازدياد نشاط الرابطة الدولية للأدب المقارن AILC. وزاد من قوة هذا التطور النشاط الأمريكي المتسارع في مجال البحث المقارن، و المؤتمرات الدولية. و في سنوات معدودات حقق المقارنون الأمريكيون حضوراً متميزًا في مختلف أوجه البحث المقارن مع أن الولايات المتحدة دخلت متأخرة نسبياً في حقل الأدب المقارن. ومن أجل استكمال نشأة الأدب المقارن تحسن الإِشارة إِلى التواريخ الرئيسية التالية: 1889 تولى تشارلز جيلي C.M.Geyley تقديم مادة النقد الأدبي المقارن في جامعة مشيگن, ثم انتقل إِلى جامعة كاليفورنيا وأنشأ عام 1902 قسماً للأدب المقارن. 1890-1891 أنشأت جامعة هارڤرد أول كرسي للأدب المقارن في أمريكة, تحول عام 1904 إِلى قسم كامل. وفي سنة 1946 تولى رئاسته هاري لڤين Harry Levin وأعاد النظر في برامجه, وخلفه ولتر كايزر W.Kaiser. 1902 جرى إِحياء كرسي قديم للأدب العام يعود إِلى سنة 1886 في جامعة كورنل على يد كوبر الذي أصبح فيما بعد رئيساً لقسم كامل للأدب المقارن فيها من 1927-1943. على أن دراسة الأدب المقارن في أمريكة ظلت حتى العشرينات مختلطة بـ «الأدب العام» و«أدب العالم» و«الروائع» و«الإِنسانيات». وفيما بعد بدأ يظهر تميز الأدب المقارن في الجامعات ، وصَاحَبَ ذلك ظهور مجلات للأدب المقارن في عدة جامعات مثل أوريغون Oregon عام 1949. ومن أهم التطورات في هذا المجال صدور المجلد الأول من «الكتاب السنوي للأدب العام والمقارن Yearbook of General and Comparative Literature» وذلك عن جامعة (نورث كارولينة) عام 1952. وفي عام 1961 انتقلت إِدارة الكِتاب إِلى جامعة إِنديانة Indiana, وما زال يصدر عنها حتى اليوم. ومنذ الخمسينات بدأت تتوالى الكتب الجامعية في الأدب المقارن, وتسود فيها طريقة التأليف الجماعي أو الدراسات المجموعة, وتتنوع مادة هذه الكتب بين النظرية والتطبيق كما تتنوع وجهات النظر. ومن أبرز التطورات في تاريخ الأدب المقارن تأسيس الرابطة الدولية للأدب المقارن عام 1955. وتعقد هذه الرابطة مؤتمراتها العامة كل ثلاث سنوات ولها نشاطات متنوعة, وقد عُقد مؤتمرها الأول في البندقية بإِيطالية. ومنذ ذلك الحين انحصرت مؤتمراتُها واجتماعاتها في العواصم الغربية, حتى عام 1991 عندما عقد مؤتمرها الثالث عشر في طوكيو, وفي ذلك إِيذان بتزايد إِسهام اليابان في الأدب المقارن, وبخروج الرابطة جغرافياً من بوتقة الغرب. على أن الأدب المقارن بقي حتى اليوم علماً غربياً, وبقي إِسهام المنظومة الاشتراكية فيه محدوداً, وأقل منه إِسهام البلدان النامية. ومنذ البدء اختلط مفهوم «الأدب المقارن» بمفهومي «الأدب العام» و«الأدب العالمي». والملاحظ أنه حتى نهاية الثمانينات وبعد كل ذلك التطور المهم الذي حققه الأدب المقارن, ما زالت هذه المفهومات مختلطةً حتى في بعض الجامعات العريقة. ومن هنا كان الربط الدائم بين الأدب المقارن والأدب العام في تسميات الأقسام الجامعية في دول أوربية كثيرة. كذلك يلاحظ أن الكتاب السنوي الأمريكي ما زال يحمل تسمية الأدب العام إِلى جانب الأدب المقارن. ج_ ومن الضروري التفريق بين هذه الحقول المعرفية الثلاثة. فالأدب العالمي world literature مصطلح من وضع غوته[ر], وكان ينطوي على أمل بزمان تصير فيه كل الآداب أدباً واحداً. ولكنه تحول بالتدريج إِلى الدلالة على تلك السلسلة الذهبية من الأعمال الأدبية التي قدمتها قرائح من مختلف شعوب العالم, وترجمت إِلى اللغات المختلفة, واكتسبت صفة الخلود, وارتفعت إِلى مصاف الروائع classics المعترف بقيمتها الفنية والفكرية في كل أنحاء العالم, وبالطبع تنضوي هذه الروائع تحت تخصصات الأدب المقارن. والملاحظ أن سلسلة الروائع العالمية ظلت حتى ستينات القرن العشرين تحت تأثير المركزية الأوربية Euro- centralism, ولكنها أخذت تتسع بالتدريج لبعض الأعمال خارج نطاق الغرب, ربما بتأثير نمو التبادل الثقافي والتوسع في مفهوم الجوائز الأدبية العالمية. أما الأدب العام general literature فمصطلح استعمل غالباً لوسم تلك الكتابات التي يصعب أن تُصنَّف تحت أي من الدراسات الأدبية والتي تبدو ذات أهمية متجاوزة لنطاق الأدب القومي. وهي أحياناً تشير إِلى الاتجاهات الأدبية أو المشكلات أو النظريات العامة في الأدب, أو الجماليات. كما صُنِّفت تحت هذا العنوان مجموعات النصوص والدراسات النقدية والتعليقات التي تتناول مجموعة من الآداب ولا تقتصر على أدب واحد. وهكذا يتطابق الأدب العام أحياناً مع مبادئ النقد ونظرية الأدب, أي مع كل دراسة أدبية تركز على التنظير ولا تقتصر أمثلتها على أدب واحد. ويقل استعمال مصطلح «الأدب العام» اليوم ويكاد ينحصر في الدلالة على أنواع متفرقة من الدراسات الأدبية التي يصعب أن تُصنف في نطاق الأدب القومي أو العالمي أو المقارن. د_ اتجاهات الأدب المقارن: إِن المفهوم الأصلي للأدب المقارن هو مفهوم ما يسمّى جوازاً «المدرسة الفرنسية التقليدية», إِذ حدد مؤسسها الفعلي بول فان تييغم الأدب المقارن «بأنه دراسة آثار الآداب المختلفة من ناحية علاقاتها بعضها ببعض». كما أكد جان ماري كاريه أن الأدب المقارن يعتمد على مفهوم التأثر والتأثير من خلال الصلات بين الآداب أو الأدباء من بلدان مختلفة, واستبعد المقارنات غير القائمة على الصلات من منهجية الأدب المقارن. كما رفض كل من كاريه وغويار فكرة التطابق بين الأدب العام والأدب المقارن. وعدّ غويار الأدب العام والأدب العالمي « مطمعين غَيْبييّن» وآثر أن يسمي الأدب المقارن, تاريخ العلاقات الأدبية الدولية. وقد تمسكت هذه المدرسة بالمنهجية التاريخية الصارمة, وحاولت تمييز منهجية الأدب المقارن ومنطقه ومنطقته من سائر الدراسات الأدبية واقتربت من العلمية والحياد, وتناولت مسائل مثل الشهرة الأدبية والنفوذ ( غوتة في فرنسة), وطوّرت منهجاً يذهب إِلى أبعد من جمع المعلومات التي تتعلق بالمراجعات والترجمات والتأثيرات ليتفحص الصورة الفنية ومفهوم كاتب معيّن في وقت معيّن إِلى جانب عوامل النقل المتعددة كالحوليات والمترجمين والصالونات والمسافرين, وكذلك وجّهت انتباهها إِلى عوامل التلقي والجو الخاص والوضع الأدبي الذي أدخل فيه الكاتب الأجنبي, وبالإِجمال :«فقد تم جمع كثير من الشواهد عن الوحدة الصميمة بين الآداب الأوربية خاصة, كما ازدادت معرفتنا بالتجارة الخارجية للأدب». غير أن هذه المدرسة ما كادت تحقق وجوداً أكاديمياً معترفاً به حتى انبثقت منها أصوات معترضة تنكرها أشد إِنكار, وقام رنيه إِيتيامبل في الخمسينات, على رأس مجموعة من الكتاب اليساريين, بمهاجمة هذه المدرسة على أساس أنها تمثل المركزية الأوربية الاستعمارية وأنها قدمت آداب العالم جميعاً كما لو كانت منبثقة من بحر الآداب الأوربية أو منصبةً فيه, ولم تُعط آداب آسيا وإِفريقية وأمريكة اللاتينية حقها من البحث والاستقصاء. وقد هاجم إِيتيامبل زميله غويار واتهمه بالتعصب الإِقليمي والقومي وتركيز كل أضواء التأثير على الأدب الفرنسي, وطالب المقارنين أن ينحّوا جانباً «كل شكل من أشكال الشوفينية والإِقليمية وأن يعترفوا أخيراً أن حضارة الإِنسانية التي جرى في سياقها تبادل القيم على مدى آلاف السنين لا يمكن أن تُفهم أو تتذوق من دون إِشارات متواصلة إِلى هذه التبادلات التي تقتضي تركيبتها منا ألاّ نركّز نظام بحثنا حول لغة واحدة معينة أو بلد واحد معيّن». وابتداء من الستينات بدأت الأفكار الأمريكية ذات الطابع العملي والانفتاحي تسيطر على ساحة الأدب المقارن. وقدم رينيه ويلك نظرات تركيبية شمولية وفي الوقت نفسه انبرى هنري رماك H.Remak بتقديم اتجاه جاد للخروج من المعضلة, وذلك في مقالة منقحة ومزيدة ومفصلة عام 1971, وفيها راجع مفهومات الأدب المقارن واتجاهاته بنَفسٍ علمي وانتهى إِلى توسيع منطقه ومنطقته على النحو التالي: حيث عرف «الأدب المقارن بأنه دراسة الأدب خلف حدود بلد معيّن, ودراسة العلاقات بين الأدب ومجالات أخرى من المعرفة والاعتقاد مثل الفنون كالرسم والنحت والعمارة والموسيقى, والفلسفة, والتاريخ, والعلوم الاجتماعية كالسياسة والاقتصاد والاجتماع, والعلوم, والديانة, وغير ذلك. وباختصار هو مقارنة الأدب بمناطق أخرى من التعبير الإِنساني». وهذا التعريف: ينطلق من فكرة التأثر والتأثير ليتجاوزها إِلى المشابهة أي أنه يركز على العلاقات ولا يجعلها شرطاً لازماً, وأنه يضيف بعداً جديداً إِلى منطقة الأدب المقارن بدفعه إِلى دراسة العلاقات بين الأدب وحقول المعرفة الأخرى ولاسيما الفنون. وبذلك يسجل نقطة إِضافية شديدة الأهمية. وقد بدا رماك متساهلاً في موضوع صلة الأدب المقارن بالتذوق الأدبي, ولكنه بالنتيجة احتفظ بجوهر منطق الأدب المقارن وهو دراسة الأدب خارج حدوده الجغرافية واللغوية والمعرفية. وتبدو نظرية رماك أكثر قبولاً اليوم في العالم. و بلدان أوربة الشرقية لم توجه عناية خاصة للأدب المقارن, وكانت منطلقاتها بوجه عام مستوحاة من ثورة إِيتيامبل. وتُعدُّ هنغارية ويوغسلافية أكثرها احتفاءً بالأدب المقارن. هـ _وظيفة الأدب المقارن: يجري دائماً تساؤل حول وظيفة الأدب المقارن. ومثل هذا التساؤل لا يتم عادة إِلا على الحقول المعرفية الجديدة, ذلك أن العلوم لا تقدم نفسها تقديماً نفعياً مباشراً. ومع ذلك يمكن القول إِن الأدب المقارن: يقدم فهماً للأدب أفضل وأكثر شمولاً وأقدر على تجاوز جزئية أدبية منفصلة أو عدة جزئيات معزولة. ويميز ما هو محلي وما هو إِنساني مشترك. ويحدد الصلات والمشابهات بين الآداب المختلفة وبين الأدب وحقول المعرفة الأخرى. ويسهم في تخليص الأقوام من النزعة الشوفينية والنرجسية المسيطرة في مجال الآداب القومية المختلفة. ويقدم للنقد الأدبي ودارسي الأدب فرصة لتوسيع آفاق معرفتهم وتوثيق أحكامهم حتى الجمالية منها, لأن المقارنة تبقى أقوى أسلحة الناقد إِقناعاً. ويقدم فرصة ممتازة لتطور نظرية أدبية قائمة على فهم طبيعة امتدادات الأدب خارج حدوده. إذن يمكن إجمال وظيفة الأدب المقارن بما يلي: 1- الحوار: يمكن للأدب المقارن أن يمثل جسرا للحوار بين الثقافات المختلفة من خلال إيجاد مواطن التأثير والتأثر بين النصوص الإبداعية لتلك الثقافات وتشخيص نقاط الاختلاف والائتلاف بين الأنظمة الثقافية والأدبية المختلفة. 2- التركيز على البعد الإنساني للأدب: وذلك من خلال إبراز التقارب بين الغايات القصوى التي ترمى إليها الآداب القومية المختلفة، والتي قد تتباين من حيث وسائل التعبير واللغة، لكنها تتآلف من حيث الغاية. 3- الترجمة: إذ يرى العديد من الباحثين أن هناك ارتباطا وثيقا بين مستقبل الأدب المقارن وازدهار الترجمة في العديد من بقاع العالم، فدراسات الترجمة تنبع من الدراسات اللغوية والأدبية والتاريخية والأنثروبولوجية والنفسية والاجتماعية والعرقية وغيرها، ودراسات الترجمة تقوم على افتراض أساسي، وهو أن الترجمة ليست نشاطًا هامشيًّا، ولكنها كانت وما تزال قوة تغيير قادرة على تشكيل تاريخ الثقافة. لقد اعتبر الأدب المقارن الترجمة فرعا صغيرا من فروعه. 4- التكافؤ الثقافي: ويتحقق من خلال ردم الهوة بين الثقافات المتباينة ورفع الغبن التاريخي الذي لحق ببعض الثقافات، لأن التاريخ لم يشهد تساويًا وتكافؤًا كاملاً في مستوى تطور الحضارات، بل جعل ثقافات بعض الشعوب ثقافات مهيمنة ومسيطرة، فيما جعل بعض الثقافات ثقافات مقلِّدة او مهمَّشة. عليه فإن مهمة الأدب المقارن هي خلق حالة من التوازن و التكافؤ بين الآداب و الثقافات المختلفة". وإذا نظرنا إلى الأدب المقارن باعتباره العلم الذي يدرس "العلاقات الروحيّة الدولية" على حدّ تعبير المقارن الفرنسيّ غويار ، نجد أنّ لنا مصلحة ثقافية كبيرة في أن نعرف ما يستقبله أدبنا من مؤثرات أدبية وفكرية أجنبيّة، ومايرسله إلى الآداب الأجنبية من مؤثرات أدبية وفكرية. إنّ مصلحتنا الثقافية تقتضي أن تكون علاقاتنا الأدبية بالعالم الخارجيّ علاقات متوازنة. بعيدة عن الانعزالية والتبعية. فاستقبال الآداب الأجنبية من قبلنا يعرّفنا بتلك الآداب وبشعوبها، وهذا مكسب ثقافيّ لنا. كذلك فإنّ استقبال أدبنا العربيّ في العالم من خلال الترجمة إلى اللغات الأجنبية يعرّف الأمم الأجنبية بثقافتنا ومجتمعنا وقضايانا ويبرز الوجه الحضاريّ لأمتنا. وإذا أخذنا الأدب المقارن بمفهومه النقدي الذي يعرف بالمدرسة الأمريكية، ذلك المفهوم الذي يدرس الأدب المقارن بموجبه الظواهر الأدبية في جوهرها الجماليّ بصورة تتجاوز الحدود اللغوية والقومية للآداب من جهة، ويقارن الأدب بالفنون ومجالات الوعي الإنساني الأخرى من جهة ثانية، فإنّ استخدام هذا المنهج المقارن في دراسة الأدب العربي أمر عظيم الفائدة. فهل يمكن أن تفهم أجناس رئيسة في الأدب العربي، كالمسرحية والرواية والقصّة القصيرة والأقصوصة، مالم تؤخذ أبعادها الخارجية والعالميّة في الحسبان؟ وهل يمكن أن تفهم المدارس والاتجاهات الأدبية، الفنيّة والفكرية، في الأدب العربي الحديث بمعزل عن تلك الأبعاد؟ وهناك اتجاه رئيس آخر في الأدب المقارن يرى فيه علماً يدرس التشابهات التيبولوجية أو النمطيّة بين الآداب. فالتشابه بين أدب قوميّ وأدب قوميّ آخر أو مجموعة من الآداب القوميّة الأخرى لا يرجع إلى عامل التأثير والتأثر فقط، بل هناك من التشابهات بين الآداب ماليس له بالضرورة علاقة بذلك العامل. إنها التشابهات التي أطلق عليها المقارن الروسيّ فيكتور جيرمونسكي (viktor zirmunsky) تسمية "التشابهات التيبولوجية أو النمطية" . ودراسة هذه التشابهات بين الأدب العربي وبين الآداب الأخرى، قريبة كانت كالأدبين الفارسيّ والتركيّ، أم نائية كآداب الصين واليابان وفيتنام والفلبين وأمريكا الجنوبية، يمكن أن تساعدنا في فهم كثير من جوانب أدبنا، كخصوصيّة الأجناس الأدبية فيه، أو خصوصية التيارات والمدارس الأدبية وتوقيت ظهورها. إن دراسة التشابهات التيبولوجية تظهر لنا ما هو عامّ ومشترك بين أدبنا وبين الآداب الأخرى، وما هو قوميّ وخاصّ بذلك الأدب، وهذا مكسب معرفيّ. و ازدهر في الدراسات المقارنة نوع من الدراسات التي تستند على نظريتي التناصّ والتلقي الإبداعيّ . ومثل هذه الدراسات قد يسهم بتصحيح النظرة إلى علاقة أدبنا بالآداب الأجنبية، ويضع حدّاً لكلّ ذلك الجدال حول "السرقات الأدبية" وحول خضوع الأدب العربي الحديث لمؤثرات أجنبية أفقدته أصالته. حيث أظهرت نظر
ابحث
تسجيل الدخول
عدد زيارات الموقع
68,522