كلنا يتذكر جيدا حكاية السيدة انتقام في رواية قصة مدينتين التي تقص حكاية الثورة الفرنسية الكبري‏. كان الجميع يتصورون أنها تغزل المفارش‏، ‏ فإذا بها تسجل عليها أسماء كل الظالمين دون أن يدري أحد شيئا عما تفعله‏، ‏ حتى إذا حانت اللحظة الحاسمة‏، ‏ كانت الأسماء الخاصة بالمستبدين جاهزة ومعها الوقائع الخاصة بكل منهم‏.‏

المطلوب هو محاكمة الرئيس السابق وأفراد عائلته، وكل معاونيه عما فعلوه، ولكن ليس المطلوب أبداً هو الانتقام منهم، والفارق كبير جدا، بين المحاكمة والانتقام كالفارق بين العدل والظلم، ففي المحاكمة تتوافر للمتهم كل سبل الدفاع عن نفسه، وتتاح له الفرصة الزمنية الكافية لكي يعثر علي كل الأدلة التي قد تعينه علي إثبات براءته، ولكي يستعين بكل من يستطيع من الشهود. أما في الانتقام فإنه يكفي الإمساك بالشخص موضع الاشتباه لكي نفتك به ونهدر حياته، دون أن تتاح لنا فرصة التأكد من إدانته، وبدون أن نوفر له فرصة لكي يثبت براءته. نقول هذا، ونحن نعلم جيدا، أن روح الانتقام قد سيطرت في عهد الرئيس السابق في حالات غير محدودة، وبالتالي فليس هناك مانع في ظن البعض من أن يشرب من نفس الكأس التي أذاقها للكثيرين، ولكن هذا خطأ.

فنحن نعيش في ظروف أول ثورة شعبية حقيقية يعرفها المصريون، ولدينا ووراءنا خبرات كل القدرات السابقة، وهي جميعا تقول لنا، أننا إذا بدأنا بالانتقام والاستبداد والظلم في حق من يقع في أيدينا، فلسوف ينتهي بنا الحال بأن نقع في أيدي من يستبد بنا ويظلمنا، فهل هذا هو ما نريده؟
كذلك، ليس من الصواب أبدا أن ندق طبول الفرح ونزغرد لأننا أوقعنا بالرئيس السابق ومعاونيه وهاتك يا رقص فهذا خطأ فادح، فأولا هناك قطاع لا يستهان به من المصريين، من تلك الأغلبية الصامتة، تشعر بتعاطف إنساني نبيل معه ومع أفراد أسرته. إذن يجب احترام مشاعرهم برفض أي معاملة للرئيس السابق وأسرته فيها احتقار أو تنكيل أو تجريس.. فهذا حق هؤلاء الناس.

ثانيا: أن الرئيس السابق وأسرته كان حني أيام قليلة ملء السمع والبصر، وكان الجميع يتسابقون لإرضائه ثم انه حافظ علي أرض مصر، كما هي ولم يتركها تحت الاحتلال، ورفع العلم علي طابا، ووفر مساحة من الحريات العامة غير مسبوقة، وتميز عهده بوجود ملحوظ للمعارضة في البرلمان وأن كان البرلمان الأخير خلا من كل معارضة وشهد تزويرا فاق كل التزوير الذي شهدته مصر منذ ثورة يوليو.1952

المفروض أننا بالشروع في محاكمة مبارك وأسرته ومعاونيه فإننا بذلك نؤسس لسابقة في تاريخ مصر لم تحدث من قبل أبدا، فهو سيدخل التاريخ بوصفه أول حاكم يقدم للمحاكمة بناء علي ثورة شعبية وليس نتيجة لانقلاب عسكري، أو صراع قصر، أو تدخل أجنبي.

فإذا كان الوضع كذلك فإننا يجب أن نكون عند مستوي هذه اللحظة التاريخية وبدلا من تضييع الوقت والجهد في إذلاله، وتحقيره، وإهانته، وإهدار الوقت فيما لا يفيد ولا طائل منه، علينا أن نبذل قصاري الجهد لتجميع الأدلة اللازمة لكشف كل أعماله، ودوافعها، ومن هم ضحايا كل عمل، وما هي جريرتهم، وليت وقت القضاة يتسع لكي تحتضن أسر وعائلات وأصدقاء هؤلاء الضحايا ليفسروا لنا من هم، وماذا كانوا يريدون، وما هي الجرائم أو الأفعال التي اعتبرها النظام السابق جرائم استحقوا عليها ما حل بهم..
علينا أن نجعلها محاكمة تاريخية بجد.. وتذاع كل جلساتها علي الهواء علنا، حتي يعرف الناس كل شئ.. والأهم أن يعرفوا كيف يفكر الرؤساء، وكيف يتصرفون؟

ولسوف يتضح لهم أن الرؤساء جميعا مجرد بشر، قادرون علي الإتيان بالأعمال النبيلة والسامية وكذلك بكل ما هو منحط وخطير.
علينا أن نجعلها الخطوة الأولي علي طريق مصر لمحاسبة القادة والرؤساء جميعا بلا تفرقة، فلا سلطة بلا مسئولية، ولا مسئولية بلا محاسبة.. هل نستطيع؟ أليس هذا أهم كثيرا من الانتقام؟

سلسلة الإجراءات الجبارة التي اتخذتها النيابة العامة، وجهاز الكسب غير المشروع خلال الأيام الماضية تفتح الباب علي مصراعيه أمام المطالبة بتعديلات دستورية جوهرية في باب السلطة القضائية، فيجب ان يكون اختيار النائب العام هو عمل المجلس الأعلي للهيئات القضائية وليس بقرار من رئيس الجمهورية، مادام الرجل في لحظة من الزمان، يستطيع أن يصدر قرارا بحبس هذا الرئيس وألا يكون قابلا للعزل، وأن يبين الدستور والقانون كيفية تغييره، وألا يخضع هذا النائب العام لأي سلطة أبدا إلا للقانون.
ونفس الشئ ينطبق علي قضاة جهاز الكسب غير المشروع، فكيف يكون رئيس الجهاز مساعدا لوزير العدل في حين أنه في لحظة يستطيع أن يحاسب هذا الوزير علي ثروته ويقرر حبسه؟ ثم هناك جهاز هيئة قضايا الدولة، فهذا الجهاز وظيفته هي مقاومة الفساد داخل أروقة الدولة، فلماذا لا يصبح سلطة قضائية قائمة بذاتها؟ ولايتم تعيينه من رئيس الجمهورية أو مجلس الوزراء بل من مجلس القضاء الأعلى، علي ألا يكون قابلا للعزل..
باختصار، ان السلطة القضائية واختصاصاتها وقواعد اختيار أعضائها يجب أن يعاد النظر فيها بقوة من وجهة نظر استقلالها في السلطة التنفيذية.
وقد ظهر لنا أنها في لحظة تصبح هي أملنا في العدل والحق.

المصدر: حازم عبدالرحمن/ جريدة الأهرام المصرية
  • Currently 68/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
22 تصويتات / 540 مشاهدة

ساحة النقاش

ibrahim

أوافق على كل ما جاء فى المقال. اقد قام المصريون بالثورة لكى يرسوا مبدأ العدل، لذلك يجب أن نكون كلنا على مستوى الحدث. و لنكن سعداء بالترقى إلى مستوى متحضر من الإنسانية، أريد أن يتذكرالتاريخ المصريين بأنهم شعب عندما ثار لم يعدم رئيسه أو اغتاله أو حبسه ظلما أو رقص فى الشارع فرحا و شماته و إنما حفظ كل ما للرئيس من حقوق فى الدفاع و الإجراءات و غيرها مما يلزم لإجراء محاكمة عادلة و منصفة، و كاشفة لكل أعمال الفساد المتهم فيها لتكون عبرة لكل الرؤساء و المسؤلين القادمين، فلا أحد يعلو فوق القانون.

WafaaFarag
»

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

458,819