«من رأى حضناً فقد أنجد».. ومن سافر غرباً «سنّد» وشرقاً «حدّر»
«عالية نجد».. ملحمة «الحب» و«التاريخ»
"من رأى حضناً فقد أنجد"!.. مقولة للعرب قديماً وكثيراً ما تتردد على أسماعنا، و"حضن" هو جبل يقع في "عالية نجد" شمالي "محافظة تربة"، أما "نجد" فهو المكان المستوي المرتفع عن سطح البحر كما ورد في "مختار الصحاح" وكتب اللغة، والمقصود به تلك الهضبة العملاقة التي تتوسط الجزيرة العربية، وهي عبارة عن هضبة يتراوح ارتفاعها ما بين (762- 1524م) فوق سطح البحر، مع انخفاض تدريجي من الغرب نحو الشرق.
و"هضبة نجد" تحدها "صحراء النفود" الكبير شمالاً، و"الدهناء" شرقاً، وحدود "الربع الخالي" جنوباً، بينما يحدها من الغرب "جبال الحجاز" ومن الجنوب الغربي "مرتفعات عسير"، أما مقصد المقولة فهو أن من كان قادماً من الحجاز ومتجهاً للشرق ورأى "جبل حضن" الواقع في عالية نجد فقد دخل في نجد.
ويعد "جبل حضن" أعلى نقطة في نجد كلها؛ إذ يصل ارتفاعه إلى (1656م) فوق سطح البحر، ونظراً للمساحة التي تشغلها هضبة نجد بارتفاعها الشاهق، فقد غلب محلياً تجزئتها الى قسمين - نسبةً للارتفاع - هما: قسم غربي وقسم شرقي، القسم الغربي يسمى "عالية نجد" أو "نجد العليا"، والقسم الشرقي يسمى "سافلة نجد" أو "نجد السفلى"، لذا من سافر غرباً قالوا: "سنّد" - بتشديد النون -، ومن سافر شرقاً قالوا: "حدّر" - بتشديد الدال -، وسنتحدث هنا عن قسمها الغربي أو بما يسمى ب"عالية نجد".
عالية نجد
مرتفعات غربية واقعة على حدود الحجاز و"جبل حضن" وأطرافه، وقد غلب عليها تاريخياً الطابع الشعبي، وتبدأ من عند "محافظة الدوادمي" مروراً بمحافظة "مهد الذهب"، وتنتهي عند "محافظة الحناكية" على مشارف المدينة المنورة، وتُعد بعض القرى والهجر من أقدم القرى النجدية التي أصبحت الآن من أهم المحافظات في منطقه مكة المكرمة، وهي "رنية" و"الخرمة"، كما تشتمل على العديد من الهجر والمحافظات المنشأة في بداية القرن العشرين مثل "محافظة القويعية" و"محافظة عفيف" و"عروى" و"الشعراء"، وكذلك "نفي" و"البجادية" و"رويضة العرض" و"سنام".
جمال طبيعة
وتشتهر "عالية نجد" بالعديد من المواقع التي تستهوي عشاق الطبيعة البكر والبحث عن أماكن التنزه الطبيعية التي تجمع بين أصالة التاريخ وعمقه، وبين جمال الطبيعة بأوديتها الفسيحة وجبالها الشاهقة ورمالها الناعمة ورياضها الفسيحة، التي تكتسي الخضرة والجمال، خصوصاً في مواسم الأمطار وفي فصل الربيع الفاتن، ومن هذه المتنزهات "جبلة" الشهير بمحافظة الدوادمي، وهو عبارة عن جبل يأخذك بطبيعته الساحرة، حيث تتدفق من عينه المياه على مدار العام بأعالي قمة الجبل، وكذلك "وادي ماسل" الذي يقع على بعد (50 كم) من محافظة الدوادمي، ويمتاز بنقوشه السبئية الرائعة والضاربة في القدم، وفي محافظة القويعية "هضبة حومل" و"جبال الدخول" و"طخفة"، و"برك" وآبارها على طريق الحج، وتقع إلى الشرق من ضرية غرب منطقة القصيم، إلى جانب "جبال خنوقة" شمال البجادية الواقعة غرب الدوادمي، وهما جبلان يفصل بينهما "وادي خنوقة" الذي هو امتداد ل"وادي طينان"، ويوجد في الجبل الغربي منهما غار كبير، وفي غرب الجبل روضة واسعة، إضافةً إلى العديد من المواقع مثل "جبل غائر" و"هضاب الربوض" و"آبار صلاصل"، و"جبال الحمرة"، و"وادي الفرشة"، وكذلك "هضيبة الصوان" وغيرها التي يجد فيها الزائر المتعة والجمال بعيداً عن صخب المدينة وحياتها الرتيبة.
معجم ومناطق
وقد وثّق حدود "عالية نجد" الشيخ "سعد الجنيدل" - رحمه الله -، وهو من أبناء نجد، ومن مواليد "بلدة الشعراء" ب"عالية نجد" عام 1343ه، وتوفي سنة 1427 ه، ويعد من أهل الاختصاص عبر كتاب أسماه "عالية نجد"، وقال: وعالية نجد، التي تحدثت عنها في هذا المعجم، هي ما دفعه نفود "قنيفذة" و"نفود الخبرا" و"صحراء الساقية" غرباً إلى شرقيُ "جبل حضن" و"جبل عن" و"تغوث" في منطقة "أبو راكة" و"بر الجرد" و"بر بساطة"، و"صحراء رُكبة"، وكذلك "حرة كُشب" و"ماء السّليلة" و"الربذة" و"القوز" غرباً، ويدخل فيما تحدثت عنه أيضاً "هضب الدواسر" و"وادي الدواسر" في الجنوب، وما يقع شمال بلدة "رنية" وبلدة "الخرمة" من بلاد "سبيع"، أما من الناحية الشمالية فإني أقف عند حدود منطقة القصيم الإدارية، وقد عدّد الشيخ "سعد" عدة إمارات تابعة لإمارة الرياض يشملها هذا المعجم، وهي إمارة "الدوادمي"، وإمارة "القويعية"، وإمارة "عفيف"، وإمارة "الخاصرة"، وكذلك إمارة "وادي الدواسر".
"وادي ماسل"
وتشق نجد العديد من الأودية التي تحتفظ بالماء بعد نزول الأمطار في فصل الربيع، مما يسمح بالزراعة، وتقع معظم بلدان نجد على جوانب هذه الأودية التي أشهرها "وادي حنيفة" الذي يخترق مدينة الرياض من الشمال إلى الجنوب، و"وادي الرمة" في القصيم الذي يغوص في رمال صحراء "الدهنا"، ليظهر على الجانب الآخر باسم "وادي الباطن"، حيث توجد بعض المراعي في الجزيرة العربية في فصل الربيع، و"وادي سدير الفقيء" قديماً في شرق نجد، و"وادي الخرج".
وتحتضن "عالية نجد" العديد من المواقع الأثرية والتراثية، والعديد من مواقع التعدين في جل محافظاتها، فإذا جاء الحديث في ذكر "محافظة الدوادمي" مثلاً التي تعد من مناطق "الدرع العربي"، فلابد من الإشارة إلى العديد من المواقع التاريخية التي منها على سبيل المثال لا الحصر "وادي ماسل"، الذي ورد في شعر الشاعر العربي الجاهلي "امرؤ القيس"، وبالتحديد في معلقته المشهورة التي مطلعها:
قِفَا نَبْكِ مِنْ ذِكْرَى حَبِيبٍ ومَنْزِلِ
بِسِقْطِ اللِّوَى بَينَ الدَّخُولِ فَحَوْمَلِ
حيث ورد ذكر "مأسل" في قول الشاعر:
كَدَأْبِكَ مِنْ أُمِّ الحُوَيْرِثِ قَبْلَهَا
وَجَارَتِهَا أُمِّ الرَّبَابِ بِمَأْسَلِ
إِذَا قَامَتَا تَضَوَّعَ المِسْكُ مِنْهُمَا
نَسِيْمَ الصَّبَا جَاءَتْ بِرَيَّا القَرَنْفُلِ
ويوجد في "ماسل" نقش أثري بديع، وقد أولى الباحثون جل عنايتهم بنقش "ماسل" الذي فُرِّغ على لوحتين حجريتين في واجهة "وادي مأسل" كتبا باللغة "السبئية".
قصر المؤسس
وتشتهر المنطقة ب"هضبة جبلة" التي كانت من أيام العرب وشهدت حروباً قبل الإسلام وبعده، كما توجد بالمنطقة قرى وهضبات تحتضن آثاراً موغلة في القدم، ويُعد قصر المؤسس الملك عبدالعزيز - طيب الله ثراه - في الدوادمي أحد معالم المنطقة الأثرية البارزة في هذا العهد الزاهر، أما "محافظة القويعية" فتحتضن هي الأخرى العديد من الآثار المهمة ك"الدخول" و"حومل"، وهما مكانان بارزان يقعان في جنوب غرب القويعية بالقرب من "الحصاة"، ويكتسب هذان المكانان شهرتهما من وردهما في أشهر قصائد الشاعر الجاهلي أمرئ القيس أيضاً حيث قال في مطلع معلقته:
قِفَا نَبْكِ مِنْ ذِكْرَى حَبِيبٍ ومَنْزِلِ
بِسِقْطِ اللِّوَى بَينَ الدَّخُولِ فَحَوْمَلِ
كما يوجد بها "مناجم الذهب" و"كبريتات النحاس" و"الزنك" و"الفضة" و"الرصاص" في كل من منجم "الأمار" و"الخنيقية".
مياه السيول
و"منطقة نجد" تُعد منطقة جميلة بكل ما تحويه هذه الكلمة من معان، كيف لا وقد تغنى الشعراء بمراعيها الخصبة وهواؤها المعتدل العليل، الذي يشفي النفوس، خاصةً في وقت الربيع، اذا امتلأت فياضها بمياه السيول العذبة، وتكونت غدرانها الصافية، وارتمت حولها الأزهار، وأطربت المسامع تغريد الأطيار، إنه سحر الطبيعة النجدية التي جعلت الشعراء يهيمون حباً في ثراها، فمن ذا الذي يودع نجداً بطوعه واختياره، وكدليل على ذلك ها هو الشاعر العربي "الصمة بن عبدالله القشيري" يقول عند الرحيل المر من محبوبته نجد العذية:
قفا ودعا نجداً ومن حل بالحمى
وقل لنجد عندنا أن يودعا
وفي قصيدة جميلة أخرى يقول:
تمتع من شميم عرار نجد
فما بعد العشية من عرار
وها هو الشاعر "عبدالله بن الدمينة" يقول متذكراً نجد ومحدثاً هواؤها العليل ونسماته:
ألا يا صبا نجدٍ متى هجت من نجدِ
لقد زادني مسراك وجدا على وجدِ
رعى الله من نجدٍ أُناسا أحبهم
فلو نقضوا عهدي حفظت لهم ودّي
سقى الله نجدا والمقيم بأرضها
سحاب غوادٍ خاليات من الرعد
وتتعدد القصائد المتتالية حباً وهياماً في نجد، فها هو الشاعر المرهف الحس صاحب السمو الملكي الأمير "خالد الفيصل" يشاركهم في ذلك ويؤكد شعورهم، فيقول في قصيدة إبداعية واصفاً ليالي نجد العليلة:
ليالي نجد ما مثلك ليالي
غلاك أول وزاد الحب غالي
ليالي نجد للمحبوب طيبي
أمانة نور عيني يا ليالي
مُتعة الناظرين
ولا ننسى الشاعر "محمد الأحمد السديري" المفتون بحب نجد فيقول في إحدى قصائده:
أنا من نجد يكفيني هواها
ويبري لوعتي شربي لماها
وهاهو شاعر الآلام شاعر نجد "حمد الحجي" يتذكر نجد أثناء رحلته العلاجية في لبنان، فرغم ما وجده هناك من الخضرة والجمال والتحضر، فإن ذلك لم يجد عنده وجه مقارنة، فأمطر نجداً بقصيدة جميلة رائعة حنيناً وشوقاً إليها، متذكراً مراتع صباه في مسقط رأسه "محافظة مرات" فتراه يقول:
قل للذي زار لبنانا وجنته
فبات من عقله المخدوع مسلوبا
لا تذهبن بك الذكرى مجنحة
وترتقي بك فوق السحب منهوبا
فنجد لبنان في فصل الربيع لذا
أمسى الجمال لنجد اليوم منسوبا
انظر إلى الربوات الفيح قد خلعت
يد الجلال عليهن الجلابيبا
وانشق شذا عرفها الفواح في دعة
وشمَّ فيها نسيما يحمل الطيبا
فمن خزامى إلى رند يضوع بما
يشفي الصدور ويقضي الهم محروبا
ولا تزال نجد بما تحويه من مدن جميلة وتضاريس متعددة، وبما تزخر به من آثار قيمة متعة للناظرين، ومهوى أفئدة المتنزهين، الذين يجدون في سهولها وجبالها وهضابها وأوديتها العريقة المتعة والسرور، كما يحمل من غاب عنها الشوق والحنين إلى تلك المرابع والمراتع ولهفة العودة إليها، لتسكن إليه روحه ويمتع ناظريه بجمالها الأخاذ.
قصر الملك عبدالعزيز في محافظة الدوادمي
جبال ومتنزهات «طخفة»
«جبلة» في الدوادمي
هضبة «حومل»
وادي «ماسل» الشهير