((1))

** التصوف والجانب الأخلاقي في الإسلام والارتباط بالكتاب والسنة .

إن للتصوف تعريفات عدة، تناولها كل من عُني بالبحث في ميدانه الرحب الخصب، فقد ذكر الدكتور عبد الحليم محمود أن تعريفات التصوف الإسلامي تكاد تبلغ الألف(1)، وقد قيل إنها زهاء الألفين(2) وإن كان – كما يرى ابن القيم– هناك خيط واحد ينتظمها هو أن التصوف أخلاق(3).

وهذه الأخلاق – بالطبع - التي تدور حولها هذه التعريفات مستمدة من الإسلام، ومن هذه التعريفات ما ورد عن الكتَّاني(ت322هـ/933م ) من أن التصوف خلق، فمن زاد عليك في الخلق فقد زاد عليك في الصفاء، وأيضًا تعريف القصَّاب(ت275هـ/888م ) الذي لم يكتف بربط التصوف الإسلامي بالأخلاق، بل أصَّل له بربطه بأخلاق الرسول (صلى الله عليه وسلم)، حيث ذهب إلى أن التصوف أخلاق كريمة ، ظهرت في زمان كريم، من رجل كريم، مع قوم كرام، أما أبو الحسن النوري( ت 295هـ / 907م ) فإنه ينفي عن التصوف أن يكون رسمًا منهجيًّا تخطيطيًّا أو أن يكون علمًا كسبيًّا، ويجزم أنه خلق، وتخلق بأخلاق الله(4).

على أن هؤلاء الذين ذكروا هذه التعاريف الأخلاقية للتصوف، ذكروا هم أنفسهم تعاريف أخرى، وذلك – على الأقل – يدل دلالة لا لبس فيها على أنهم لم يروا كفاية الجانب الأخلاقي في تحديد التصوف، وتعريفه.

وإذا كان التصوف يمثل الجانب الأخلاقي في بناء الإسلام أو هو زبدة عمل العبد بأحكام الشريعة على حد تعبير الشعراني في الطبقات(5)، فإنه بهذا الاعتبار: روح الإسلام ؛ لأن أحكام الإسلام كلها مردودة إلى أساس أخلاقي(6).

<!--[if !supportFootnotes]-->

 


<!--[endif]-->

(1) د/ عبد الحليم محمود: قضية التصوف، المنقذ من الضلال ، ص47 

(2) أبو بكر الكلاباذي: التعرف لمذهب أهل التصوف، مقدمة أمين النواوي، ص9.

(3) ابن قيم الجوزية: مدارج السالكين، 4: 134-135، د/ عبد الحليم محمود: قضية التصوف ص38.

(4)  القشيري: الرسالة القشيرية، ص280 - 281، و السراج الطوسي: اللمع ص 45.

(5)  عبد الوهاب الشعراني: الطبقات الكبرى, 1: 4 .

(6)  د/ أبو الوفا التفتازاني: مدخل إلى التصوف الإسلامي ، ص 12، ود/ زكي مبارك: التصوف الإسلامي في الأدب والأخلاق، 1: 41-42.

                         ((2))

لأنه من الطبيعي على حد تعبير الدكتورعبد الحليم محمود (ت1397هـ/1978م) أن تكون الأخلاق الكريمة أساسًا من أسس التصوف، وأن تكون الأخلاق في أسمى صورة من صورها ثمرة التصوف، وأن تكون الأخلاق الكريمة شعار الصوفي فيما بين الأساس والثمرة، فهي إذن ملازمة للتصوف، وللصوفي ملازمة تامة (1).

ولذلك ما من صوفي إلا يتحدث عن السلوك إلى الله تعالى ومقاماته أو مراحله التي تبدأ بمجاهدة النفس أخلاقيًّا, ثم بتدرج السالك في منازل متعددة تعرف عندهم بالمقامات والأحوال(2).

ويؤكد الدكتور التفتازاني (ت1415هـ/1994م) على أن البذور الأولى للتصوف الإسلامي, من حيث هو علم للمقامات والأحوال, موجود في القرآن, ومن هنا يكون التصوف من حيث نشأته الأولى مأخوذًا من القرآن والسنة، الذي استمد الصوفية منهما آراءهم في الأخلاق والسلوك، ورياضتهم العملية التي اصطنعوها من أجل تحقيق هدفهم من الحياة الصوفية(3).

كذلك يعتمد الصوفية كثيرًا على حياة محمد (صلى الله عليه وسلم) قبل بعثته وبعدها على السواء، ويرون في تحنثه وعزلته في غار حراء تكمن البذرة الأولى التي نبت منها التصوف، ويذكر الغزالي(ت505هـ/1111م) أن الاستئناس بمناجاة الله تعالى عن مناجاة الخلق من فوائد وتبتل الرسول (صلى الله عليه وسلم) في ابتداء أمره، كما كانت وسيلة له حتى قوي فيه نور النبوة(4)، فكان الخلق لا يحجبونه عن الله، فكان ببدنه مع الخلق، وبقلبه مقبلاً على الله تعالى (5)، وكان ما سبق ورقة استخدمها الصوفية في عزلتهم أو كما يسمونها الخلوة .

أما عن حياة الرسول (صلى الله عليه وسلم) وأخلاقه، وأقواله، بعد نزول الوحي –عليه السلام- فقد كانت المادة الأولى لتصوف الصوفية وما ينطوي عليه من النزعات الزهدية، والمعاني الأخلاقية كالمقامات والأحوال، وما يترتب عليها من ثمرات روحية.

<!--[if !supportFootnotes]-->

 


<!--[endif]-->

(1)  د/ عبد الحليم محمود: قضية التصوف، المدرسة الشاذلية، ص 426 – 427 .

(2) الطوسي: اللمع ص 65-102, والكلاباذي: التعرف ص 109-156، والقشيري: الرسالة ص 51-89، والجيلاني: الغنية 2 : 182- 200، وأبو طالب المكي: القوت 174-465.

(3)  د/ أبو الوفا التفتازاني: مدخل إلى التصوف الإسلامي، ص 44 - 49.

(4) حديث "كان (صلى الله عليه وسلم)في أول أمره يتبتل في جبل حراء، وينعزل إليه..." صحيح البخاري بحاشية السِّندي، كتاب بدء الوحي، باب(3)، ص 7، ط1، 1998م، دار الكتب العلمية بيروت- لبنان.

(5) أبو حامد الغزالي: إحياء علوم الدين، 2: 323 .

                        ((3))

واستمر تأسي الصوفية بعد وفاة الرسول بالصحابة والتابعين –رضي الله عنهم- وحياتهم المليئة بالأقوال والأحوال الدالة على التقشف والزهد والورع والإقبال على الله تعالى، والإعراض عن الدنيا، والذين لم يكونوا سوى متأسين في ذلك بالنبي (صلى الله عليه وسلم)، ولذلك أثنى سبحانه وتعالى عليهم بقوله: " والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان رضي الله عنهم ورضوا عنه"(1)، وعليه فقد وردت في كثير من كتب الصوفية فصولٌ تحمل عنوان "كتاب الصحابة رضوان الله عليهم: باب في ذكر أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وسلم) رضي الله عنهم"(2).

كما يحرص شيوخ التصوف على تأكيد أن التصوف –علمًا وعملاً– مستند إلى القرآن والسنة, ونشير فيما يلي إلى بعض الآراء الدالة على ذلك؛ يقول الجنيد (ت297هـ) : " علمنا هذا مشتبك بحديث رسول الله عليه الصلاة والسلام".

ويقول صاحب " اللمع " : سمعت أبا عمر إسماعيل بن نجيد يقول: سمعت أبا عثمان سعيد بن عثمان الحيرى يقول : "من أمر السُّنة على نفسه قولاً, وفعلاً, نطق بالحكمة ... وقال سهل بن عبد الله التستري: كل وجد لا يشهد له الكتاب والسنة فباطل. وقال أبو سليمان الداراني: ربما تنكت الحقيقة قلبي أربعين يومًا فلا آذن لها أن تدخل قلبي إلا بشاهدين من الكتاب والسنة(3).

ويفرد عماد الدين الواسطي (ت711هـ) فصلاً كاملاً في أحد كتبه أسماه "في بيان المطلوب حقيقة هو في الكتاب والسنة دون غيرهما من الأشياء والطرق" يقول فيه: " من جعل علم الصوفية قبلة قلبه أعطته حالاً مجملاً لا تفصيل فيه، ومن جعلها طريقًا إلى أن يستنبط بها من الكتاب والسنة الحقائق التي أشارت علوم الطائفة إليها، فقد وفق وهدي إلى صراط مستقيم"(4).

       وفي كلام الواسطي (ت711هـ) وغيره من أئمة التصوف دلالة قوية على ضرورة التزام التصوف بكتاب الله تعالى وسنة رسول الله (صلى الله عليه وسلم)، واعتماده في استنباط الحقائق منهما دون غيرهما، وأن من يفعل ذلك فجزاؤه التوفيق والفلاح(5).

<!--[if !supportFootnotes]-->

 


<!--[endif]-->

(1) سورة التوبة: الآية 100 .

(2)  السراج الطوسي: اللمع، ص166- 193، و الهجويري: كشف المحجوب، ص 267، والكلاباذي: التعرف، ص34، والأصبهاني: حلية الأولياء، 1: 237- 238 .

(3)  الطوسي : اللمع، ص 144- 146 .

(4) الواسطي: مخطوط " في السلوك"، كتاب (مفتاح المعرفة والعبادة لأهل الطلب والإرادة الراغبين في الدخول إلى دار السعادة)– القسم الأول- لوحة 20، ص أ .

(5) قدَّم الباحث هذا الأمر في أطروحته للماجستير عن "الفكر الصوفي عند عماد الدين الواسطي ت711هـ"، إشراف د/ السيد الحجر، بكلية دار العلوم، 1425هـ/2004م.

المصدر: مصطفى فهمي : " الفكر الصوفي في مصر في القرن 14هـ/ 20 م " رسالة دكتوراة-كلية دار العلوم-جامعة القاهرة
Dr-mostafafahmy

د/ مصطفى فهمي ...[ 01023455752] [email protected]

  • Currently 15/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
5 تصويتات / 579 مشاهدة
نشرت فى 2 يونيو 2011 بواسطة Dr-mostafafahmy

ساحة النقاش

مصطفى فهمي

Dr-mostafafahmy
فلسفة الموقع مهتمة بتحديد طريقة الحياة المثالية وليست محاولة لفهم الحياة فقط. »

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

461,850