من الجدير بالملاحظة أن رواد الفلسفة الإسلامية المحدثين من أمثال الأفغاني والكواكبي ومحمد عبده وشكيب أرسلان وأمثالهم قد واجهوا بكل شجاعة تلك الحملة التي أثارها الغربيون ضد الإسلام والمسلمين، خلال القرن التاسع عشر وأوائل العشرين، والتي كان ملخصها أن الدين الإسلامي قرين التخلف، وحجتهم في ذلك أنه بما أن المسلمين الحاليين – حينئذ – متخلفون سياسيًا واجتماعيًا وثقافيًا، فإن السبب في ذلك يرجع إلى تمسكهم بدينهم وكان رد هؤلاء الرواد جميعًا قويًا ومفحمًا، حيث أن تخلف المسلمين الحالي حينئذ إنما يرجع إلى مجموعة من الأسباب كلها بعيدة عن الدين الإسلامي، بل إنهم أجمعوا على أن السبب الرئيسي في تخلفهم يرجع إلى عدم فهمهم وتمسكهم بالإسلام الصحيح، الذي غطت عليه تصورات كثيرة وفاسدة عبر العصور، أما السبب الثاني فهو أن الغرب الذي احتل بلاد المسلمين لفترات طويلة قد عمل على إبعاد المسلمين عن هذا الفهم الصحيح للإسلام من خلال تحكمه في أنظمة الحكم والقضاء والتعليم ...الخ، ويمكن للقارئ أن يجد نموذجًا واضحًا لتلك الأفكار في رد الأفغاني على المستشرقين الفرنسي رينان، وكذلك في كتاب الكواكبى (أم القرى)

وفي رأيي أن تلك (الأفكار) هى ما يمثل جانبًا هامًا من الدور الجديد الذي قامت به الفلسفة الإسلامية خلال القرنين التاسع عشر والعشرين، أما بقية جوانب دور الفلسفة الإسلامية الجديد فهو ما سوف نتناوله في الفقرات التالية :

بيان المفهوم الصحيح والمتكامل لإسلام :

لقد تعرض الإسلام منذ ظهوره وحتى اليوم إلى خطرين كبيرين؛ كان لهما أثرهما المباشر على فهمه لدى المسلمين من ناحية، وعلى طريقة عرضه وتناوله لدى غير المسلمين من ناحية أخرى، وأول هذين الخطرين هو الفهم الخاطئ للإسلام، وأقصد به الابتعاد عن حقيقة هذا الدين، من خلال تأويل مقولاته الثابتة بالإضافة إلى تفسير نصوصه الواضحة بصورة شخصية أو مذهبية، وقد وجد ذلك كله تربة خصبة في التصورات الشعبية اللامعقولة والتي ظلت كامنة ومستقرة لدى المجتمعات التي اعتنقت الإسلام بدون استثناء، أما الخطر الثاني (الفهم المنقوص) فقد كان وما زال يتمثل في تجزئة المفهوم المتكامل للإسلام، والتمسك فقط ببعض أجزائه مع إهمال الأجزاء الأخرى، وقد كان السبب وراء هذا العمل دائمًا سياسيًا، يسعى أصحابه للإطاحة بأنظمة الحكم القائمة، ومحاولة إحلال أنظمة أخرى في مكانها (الخوارج والشيعة) ولعل أوضح مثال على ذلك ما نشاهده حاليًا لدى معظم الجماعات الدينية من إعلاء (الجهاد) على جميع العناصر الأساسية الأخرى للإسلام.

إن الإسلام في مفهومه الصحيح والمتكامل يقوم على أربع مقومات رئيسية؛ هي العقيدة والشعائر والأخلاق والتشريع، ويهمنا أن نقول إن هذا الفهم ليس على الإطلاق شخصيًا أو مذهبيًا ، وإنما هو مستمد ومعتمد على المصدر الأساسي للإسلام: القرآن الكريم، ثم على مصدره الثاني: السنة النبوية الصحيحة.

أما العقيدة فإنها تقوم على قاعدتين هما الإيمان بالله الواحد الأحد والإيمان بالبعث بعد الموت، ولو أننا ذهبنا نستقصي السور والآيات القرآنية المكية بالذات لوجدناها تدور كلها تقريبًا حول هاتين القاعدتين (حوالي 63% من حجم المصحف الشريف).

وأما الشعائر فإنها تتوالى على النحو التالي: الصلاة، الصوم، الزكاة، الحج – وهذا هو الترتيب الذي نزلت به، وفرضت بالتالي على المسلمين، لكن المهم هنا أمران؛ أولهما أن تؤدى هذه الشعائر بصورة صادقة وليست شكلية أو ظاهرية، والثاني أن يتحقق مردودها الاجتماعي الذي يربط المسلم بسائر المسلمين، حتى يصدق عليهم قول الرسول(صلى الله عليه وسلم) أنهم في توادهم وتراحمهم مثل الجسد الواحد، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الأعضاء بالسهر والحمى !!

وأما الأخلاق فهي ما تضمه كلمة "الفضيلة" في ردائها الرحب من صدق واستقامة، ووفاء بالوعد، والتزام بالعهد، ونصرة للمظلوم، وأمر بالمعروف، ونهى عن المنكر، وهنا نلحظ أن الأخلاق الإسلامية لا تحصر المسلم في نطاق جماعته فحسب، بل إنها تمتد لتشمل الإنسانية كلها ، بل إنها تقدم له أروع النماذج التي يتعامل بها مع الحيوان والنبات والجماد، أى بالبيئة المحيطة بها.

وأما التشريع فهو عبارة عن مجموعة الأحكام التي تنظم حياة الجماعة الإسلامية سياسيًا واقتصاديًا واجتماعيًا وأمنيًا، وهنا لابد من الإشارة بوضوح إلى أن الإسلام قد جعل من التشريع مجالاً مفتوحًا لاجتهادات المسلمين لكي يتمكنوا أن يتصرفوا تبعًا لمصالحهم حسب ظروف الزمان والمكان، ولعل هذا هو الذي جعل التشريعات الإسلامية قائمة على "المبادئ" في حين أن تحديد التفصيلات لا يمثل إلا عددًا قليلاً جدًا من "الأحكام".

* أما بالنسبة إلى السياسة ، فقد وضع الإسلام ثلاثة مبادئ يهتدي بها المسلمون في كل العصور؛ وهى العدالة والمساواة والشورى، تاركًا لهم الطرق والوسائل والأساليب والمناهج التي يحققون بها تلك المبادئ.

* وبالنسبة للاقتصاد، حرم عليهم ثلاثة مخاطر هي الربا والغش والاحتكار.

* وبالنسبة للنظام الاجتماعي أوصاهم بالحفاظ على مؤسسة الزواج، لكنه أباح لهم الطلاق عند الضرورة، كما بين لهم بكل التفاصيل قواعد الميراث منعًا للظلم أو الاختلاف بين الأقارب.

* وأما الأمن؛ فهناك الجيش الذي يدافع عن حدود المجتمع الإسلامي من الخارج، والشرطة التي تحفظ فيه الأمن من الداخل، ثم قال للمسلمين جميعًا: كلكم راع، وكلكم مسئول عن رعيته، وهو مبدأ لو تم الالتزام به لتحقق حصر الشر في أضيق نطاق، ولما تطاير شرره من الفرد والأسرة إلى بقية أرجاء المجتمع ويبقى بعد ذلك كله – وليس قبله – مجموعة الحدود والتعزيرات للخارجين عن النظام العام للمسلمين، وهى المتعلقة بالجرائم الكبرى والحوادث الأصغر، ولكل منها عذاب "رادع" وميزة الردع أنه بالإضافة إلى عقاب المجرمين على ارتكاب جرائمهم، فإنه يمنع غيرهم من الاقتراب منها، وقد ثبت –ونحن إليه الآن أحوج - أن في هذا الحسم أفضل سياج لحماية المجتمع، وتحقيق الأمن الاستقرار لجميع أفراده.

وهكذا بهذا العرض المختصر للمفهوم الصحيح والمتكامل للإسلام، يمكن تمييز تلك الدعوات التي تملأ المجتمعات الإسلامية حاليًا ضجيجًا حول أمور جانبية أو هامشية، وهذا ما يجعل المسلمين واقفين في نفس مكانهم منذ قرنين من الزمان، لا يتقدمون بينما العالم كله مندفع بأقصى سرعة من حولهم، وهنا يبرز دور الفلسفة الإسلامية في إعادة بيان هذا المفهوم، وتنبيه المسلمين إلى الحقيقي والزائف من المشكلات الدينية التي يضيعون أوقاتهم وجهودهم فيها.

 

Dr-mostafafahmy

د/ مصطفى فهمي ...[ 01023455752] [email protected]

  • Currently 25/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
7 تصويتات / 422 مشاهدة
نشرت فى 2 يونيو 2011 بواسطة Dr-mostafafahmy

ساحة النقاش

drkhaledomran

مقال رائع يا د/مصطفي
نعم نحتاج إلي الفلسفة الاسلامية في كل وقت وحين
ونحن الآن في أشد الاحتياج لها .

مصطفى فهمي

Dr-mostafafahmy
فلسفة الموقع مهتمة بتحديد طريقة الحياة المثالية وليست محاولة لفهم الحياة فقط. »

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

507,315