ملايين الصفحات رُسِمت وتزينت وتعطرت لتحكي لنا عن حياة الفاروق، وتمنحنا العظة والعبرة والمنهاج المستقيم الذي لابد أن يسير على هديه أي مسلم ولا سيما إذا كان حاكمًا وراعيًا لمن حوله.
وهنا سأستنير ببعض الأقوال والمواقف العمرية الخالدة لأقول لمن يقرأها – وخاصة ممن يلهثون وراء الكراسي التشريعية أو الرئاسية - : أين أنتم من ابن الخطاب –رضي الله عنه-؟!
أين أنتم ممن قال يوم أن بويع بالخلافة: « رحم الله أبا بكر، لقد أتعب من بعده « ؟!
أين أنتم من رجل رُوي أنه لما ولي الخلافة صعد المنبر وهمَّ أن يجلس مكان أبي بكر فقال: « ما كان الله ليراني أرى نفسي أهلاً لمجلس أبي بكر» ، فنزل مرقاة، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: « اقرءوا القرآن تعرفوا به، واعملوا به تكونوا من أهله، وزنوا أنفسكم قبل أن توزنوا، وتزينوا للعرض الأكبر يوم تعرضون على الله لا تخفى منكم خافية، إنه لم يبلغ حق ذي حق أن يطاع في معصية الله، ألا وإني أنزلت نفسي من مال الله بمنزلة ولي اليتيم: إن استغنيت عففت، وإن افتقرت أكلت بالمعروف« ؟!
أين أنتم من رجل خطب المسلمين يومًا فقال:
" بلغني أن الناس هابوا شدتي، وخافوا غلظتي أو قالوا: قد كان عمر يشتد علينا ورسول الله بين أظهرنا، ثم اشتد علينا وأبو بكر والينا دونه؛ فكيف وقد صارت الأمور إليه؟ أيها الناس إني قد وُليت أموركم، أيها الناس فاعلموا أن تلك الشدة قد أُضعفت، ولكنها إنما تكون على أهل الظلم والتعدي، فأما أهل السلام والدين؛ فإنها ألين لهم من بعضهم البعض أو إني بعد شدتي تلك أضع خدي على الأرض لأهل العفاف وأهل الكفاف " ؟!
أين أنتم من رجل شهد له الأعداء قبل الأحباء، فقال عنه المستشرق الاسكتلندي وليم موير في كتابه "صعود وانحدار الخلافة" :
" إن حياة عمر لا تتطلب الكثير لإظهار ملامحها، النزاهة والعدل والتفاني كانت الميزات الرائدة في حكمه، وكانت تثقل كاهله مسؤولية الخلافة حتى أنه كان يقول: "يا ليت أمي لم تلدني". كان حسّه بالعدالة قويّا. وإنه لم يسجَّل عليه أي عمل من الطغيان أو الظلم، وكان اختياره لقادته خاليًا من المحاباة والتفضيلية، وقد أبقت قبضته القوية على انضباط القانون والإمبراطورية، كان يجوب شوارع وأسواق المدينة وسوطه بيده، جاهزًا لمعاقبة المفترين فورًا، وهكذا ظهر المثل " أن درّة عمر (سوطه) مهاب أكثر من سيف غيره". ولكن مع كل هذا، فقد كان رقيق القلب، وسجّلت له أفعال من الشفقة والرحمة لا تعدّ مثل مواساة وتخفيف حاجات الأرامل واليتامى " ؟!
أين أنتم من رجل كان دائم الرقابة لله في نفسه وفي أعماله وفي رعيته، بل إنه ليشعر بوطأة المسئولية عليه حتى تجاه البهائم العجماء فيقول: "والله لو أن بغلة عثرت بشط الفرات لكنت مسئولا عنها أمام الله، لماذا لم أعبد لها الطريق". ؟!
أين أنتم من رجل كانإذا بعث عاملاً كتب ماله، حتى يحاسبه إذا ما استعفاه أو عزله عن ثروته وأمواله؟!
أين أنتم من رجل بلغ من شدة عدله وورعه أنه لما أقام " عمرو بن العاص " الحدَّ على "عبد الرحمن بن عمر" في شرب الخمر، نهره وهدده بالعزل؛ لأنه لم يقم عليه الحدَّ علانية أمام الناس، وأمره أن يرسل إليه ولده "عبد الرحمن" فلما دخل عليه وكان ضعيفًا منهكًا من الجلد، أمر"عمر" بإقامة الحدِّ عليه مرة أخرى علانية، وتدخل بعض الصحابة ليقنعوه بأنه قد أقيم عليه الحدُّ مرة فلا يقام عليه ثانية، ولكنه عنفهم، وضربه ثانية و"عبد الرحمن" يصيح: أنا مريض وأنت قاتلي، فلا يصغي إليه. وبعد أن ضربه حبسه فمرض فمات!!" ؟!
أين أنتم من رجل أعفى عاملاً له لكلمة قالها لذمي، فقد وفد إليه عمير بن سعد -عامله على حمص- فسأله عن أشياء، ثم قال له: عد إلى عملك. فقال عمير: أنشدك الله ألا تردني إلى عملي فإني لم أسلم منه حتى قلت لذمي: أخزاك الله، ولقد خشيت أن يخصمني له محمد ولقد سمعته يقول: (أنا حجيج المظلوم فمن حاججته حججته) ولكن ائذن لي إلى أهلي. فأذن له فأتى أهله ?!
لن أزيد في حديثي عن أبي حفص – رضي الله عنه وأرضاه - ، فقدر ما تسعدني سيرته قدر ما تحزنني صعوبة بل استحالة تطبيقها .. أقول لمن يحكم أرض الكنانة: اتق الله فينا جميعًا .. اتق الله فينا جميعًا .. اتق الله فينا جميعًا .
ساحة النقاش