آيا صوفيا
الكنيسة .. المسجد .. المتحف
أ.د سيد علي إسماعيل
ـــــــــ
آيا صوفيا .. اسم شهير لأغرب بناء في العالم، والسبب في ذلك أن البناء يأخذ طابعين مختلفين دينياً وتاريخياً، حيث إن آيا صوفيا كنيسة ومسجد في آن واحد!! وبسبب هذا الاختلاف أصبحت آيا صوفيا متحفاً للمسيحين والمسلمين في العالم كافة! وقبل الولوج إلى وصف وتاريخ هذا البناء، نتحدث عن الاسم (آيا صوفيا).
يُقال أن آيا صوفيا – ومعناها باليونانية (الحكمة الإلهية) - قديسة قبطية من مصر، وتحديداً من البدرشين – أحد مراكز محافظة الجيزة جنوب القاهرة – كانت تعبد الأوثان في بداية حياتها، ولكنها تعرّفت بنساء مسيحيات من جيرانها، فاعتنقت المسيحية وتعمقت في العبادة: صلاة وصوماً ومعرفة، فذاع صيتها الديني، وسمع بأخبارها الحاكم الوثني أقلوديوس فقبض عليها وحاكمها بتهمة الكفر بعبادة الأوثان، وحاول إبعادها عن المسيحية بكل وسيلة ممكنة؛ ولكنه فشل، فقام بضربها بالسياط، ومن ثم كيّها بالنار، وأخيراً أمرّ بقطع رأسها، فأصبحت آيا صوفيا شهيدة دينها المسيحي، وقامت إحدى النساء بالاحتفاظ بجسد آيا صوفيا بعد أن رشت جنود الحاكم الوثني بالمال، وقامت السيدة بلف الجسد بالأقمشة الثمينة، واحتفظت به في بيتها.
ومع مرور الزمن، استغل الوجدان الشعبي هذه القصة الغريبة لجسد القديسة آيا صوفيا، فكثرت الأحاديث والقصص حول معجزات الجسد الملفوف، مثل إشعاعه للنور، وإفرازه لروائح عطرية ذكية .. إلخ. وهذه القصص تضخمت مع انتقالها من بلد إلى آخر، حتى وصلت إلى الأمبراطور البيزنطي قسطنطين الأكبر – وكذلك إلى الملكة هيلانة زوجة القيصر الروسي – فأمر الأمبراطور بنقل جسد القديسة إلى مدينته القسطنطينية، حيث دفنه وبنى حوله كنيسة ضخمة عام 360م – بأموال الملكة هيلانة الخاصة - تكريماً للشهيدة صاحبة الجسد الطاهر، وأصبحت هذه الكنيسة كاتدرائية ومقراً لبطريركية القسطنطينية.
وهناك قصة أخرى – أقل انتشاراً من السابقة – تقول إن آيا صوفيا امرأة لثلاث بنات صغيرات – أسمائهن: الإيمان، والرجاء، والمحبة - اعتنقت المسيحية وذاع خبر ورعها وتدينها في عصر عبادة الأوثان بروما، فقام الحاكم أوريانوس بتعذيبها، ومن ثم ذبح بناتها الثلاث أمامها الواحدة تلو الأخرى، ورغم ذلك تمسكت بدينها المسيحي، فقام الحاكم بقتلها، فأصبحت شهيدة دينها، ومن ثم دفنت، وبُنيت لها الكنيسة ... إلخ ما سبق ذكره. ومن وجهة نظري أرى أن هذه القصة مختلقة، قام بتأليفها مؤرخو الغرب لإبعاد أية قيمة دينية عن الشرق، باعتبار القديسة آيا صوفيا مصرية.
الكنيسة :
مهما يكن من أمر حقيقة منشأ قصة القديسة آيا صوفيا في مصر أو في روما، فالثابت أن البناء الذي يحمل اسمها في أسطنبول حالياً، كان في الأصل كنيسة بنتها - في عهد الأمبراطور البيزنطي قسطنطين الأكبر - القديسة هيلانة زوجة القيصر الروسي عام 360م؛ ولكن هذه الكنيسة دُمرت وأُحرقت بسبب الزلازل، فقام ببنائها الأمبراطور ثيودوسيوس الثاني عام 515م، ولكنها دُمّرت مرة أخرى في إحدى الثورات عام 532م، فقرر الأمبراطور جوستنيان - في القرن السادس – بناءها للمرة الثالثة، بعد أن رأى في منامه رجلاً مسنّاً واقفاً في موضع الكنيسة المنهارة، حاملاً خريطة بها رسم البناء المطلوب. وعندما استيقظ الأمبراطور استدعى مهندسه المعماري وقصّ عليه حلمه، وأمره ببناء الكنيسة وفق الخريطة التي رآها في منامه، وكان له ما أراد، حيث جُلبت مواد البناء من الحجارة والأعمدة الرخامية من مصر وبعلبك وأثينا وروما، وأنفق على البناء حوالي 360 مليوناً من الفرنكات الذهبية، واستخدم أكثر من عشرة آلاف عامل في البناء طوال خمس سنوات، وقيل (إن هذه البناية لم يشهد مثلها منذ آدم، ولا يمكن تشييدها بعد الآن)، وقد تمّ بناء الكنيسة وافتتاحها عام 537م.
وهذا البناء الفريد مازال قائماً إلى يومنا هذا، وهو مبني على الطراز البازيليكي، ويتميز بوجود قبة من أكبر قباب العالم، يبلغ طول قطرها 31 متراً، وترتفع عن الأرض بعلو 55 متراً، وهي محمولة على أربعة عقود نصف دائرية، ترتكز أطرافها على أربعة أكتاف مربعة، ويحف بها نصف قبة من جهتين متقابلتين، ناهيك عن ألواح الرخام بأنواعه وألوانه البديعة، التي تغطي الجدران، وكذلك النقوش والرسومات والفسيفساء التي تغطي الجدران والأسقف الداخلية.
وأقدم وصف عربي لهذه الكنيسة جاء به أبو عبد اللّه بن محمّد المعروف بابن بطوطة (1304 – 1378م) في رحلته المسماة (تحفة النظار في غرائب الأمصار وعجائب الأسفار)، حيث اعتبرها أعظم كنائس الروم، ووصفها بأنها مدينة كاملة يحيطها سور، وأبوابها ثلاثة عشر باباً، ولها حائطان مرتفعان مصنوعان من الرخام المجزع المنقوش. وخارج باب الكنيسة قبة خشب كبيرة فيها طبلات خشب، يجلس عليها خدام ذلك الباب. وعن يمين القبة مساطب وحوانيت أكثرها من الخشب، يجلس بها قضاتهم وكُتّاب دواوينهم. وعلى باب الكنيسة سقائف يجلس بها خدامها الذين يوقدون سرجها ويغلقون أبوابها، ولا يدعون أحداً بداخلها حتى يسجد للصليب الأعظم عندهم، الذي يزعمون أنه بقية من الخشبة التي صلب عليها شبيه عيسى عليه السلام، وهو على باب الكنيسة، مجعول في جعبة ذهب طولها نحو عشرة أذرع، وقد عرضوا عليها جعبة ذهب مثلها، حتى صارت صليبا. وهذا الباب مصفح بصفائح الفضة والذهب، وحلقتاه من الذهب الخالص.
المسجد :
يوم 29 مايو سنة 1453م يوم مشهود في تاريخ الأمة الإسلامية. ففي هذا اليوم تمّ فتح القسطنطينية على يد السلطان محمد الفاتح، كما أصبح هذا اليوم تاريخاً إسلامياً لعصر إسلامي عظيم وهو العصر العثماني. وعندما دخل السلطان القسطنطينية أمرّ بتحويل كنيسة آيا صوفيا إلى مسجد للمسلمين. وهذا الأمر ذكره المؤرخون بروايتين: الأولى تقول: إن محمد الفاتح توجه إلى كنيسة آيا صوفيا وهي محتشدة بالناس والقساوسة والرهبان، وعندما اقترب من بابها خاف من بداخلها، وقام أحد القساوسة بفتح الباب له فطلب منه تهدئة الناس وطمأنتهم والعودة الى بيوتهم في أمان، فأطمأن الناس وخرج من كان مختبئاً في سراديب الكنيسة. ويقال إن البعض أعلن إسلامه عندما رأى تسامح السلطان الفاتح وعفوه. ويُقال أيضاً إن السلطان الفاتح توجه إلى الكنيسة ودخلها مترجلاً عن فرسه، وصلى فيها صلاة الشكر لله تعالى على هذا الفتح العظيم، ولما حان موعد الصلاة، أمر السلطان برفع الآذان فيها، وصلى ومن معه من القادة والجند صلاة العصر، ثم أمر بتحويلها الى مسجد حتى تُقام بها صلاة أول جمعة بعد يوم الفتح، معتمداً على فتوى شرعية تقول: يجوز تحويل الكنيسة الى المسجد لأن البلد فتحت عنوة والعنوة لها حكمها في الشريعة الإسلامية، وهذه الفتوى قال بها الشيخ آق شمس الدين، وهو أول من ألقى خطبة الجمعة في مسجد آيا صوفيا. وهناك رأي آخر يقول: إن السلطان محمد الفاتح اشترى من ماله الخاص كنيسة آيا صوفيا من بين أملاك الروم، وأوقفها مسجداً جامعاً للمسلمين.
وهناك كتابات تاريخية تؤكد أن السلطان محمد الفاتح عامل أهل القسطنطينية – بعد فتحها - معاملة رحيمة، وأمر جنوده بحسن معاملة الأسرى والرفق بهم، كما افتدى عدداً كبيراً من الأسرى، من ماله الخاص وخاصة أمراء اليونان، ورجال الدين، وأمرهم بتنصيب بطريرك جديد فانتخبوا ( أجناديوس) بطريركاً، الذي توجه بعد تنصيبه إلى مقر السلطان الفاتح، فاستقبله السلطان بحفاوة بالغة وأكرمه كرماً كبيراً، وتناول معه الطعام، وتحدث معه في أمور شتى، فخرج البطريريك يقول : "إني أخجل مما لقيته من التبجيل والحفاوة ".
وقد وصف الفيلسوف الفرنسي الشهير فولتير موقف المسلمين الأتراك من النصارى البيزنطيين بعد هزيمتهم، بقوله : " إن الأتراك لم يسيئوا معاملة المسيحيين، كما نعتقد نحن، والذي يجب ملاحظته أن أمة من الأمم المسيحية لا تسمح أن يكون للمسلمين مسجد في بلادها، بخلاف الأتراك، فإنهم سمحوا لليونان المقهورين بأن تكون لهم كنائسهم". وهذا الأمر يخالف ما قاله المؤرخ الإنجليزي إدوارد شيبرد كريسي في كتابة (تاريخ العثمانيين الأتراك)، عندما أراد تشويه صوره الفتح العثماني للقسطنطينية، فوصف السلطان محمد الفاتح بصفات قبيحة حقداً منه وبغضاً للفتح الإسلامي المجيد، عندما زعم أن السلطان محمد قام باسترقاق غالبية نصارى القسطنطينية، وساقهم الى أسواق الرقيق في مدينة أدرنة حيث تم بيعهم هناك.
أما الرواية التاريخية الأخرى، فتقول: إن سبب تحويل كنيسة آيا صوفيا إلى مسجد أن الجيش الإسلامي حين دخل القسطنطينية وجد هذه الكنيسة الضخمة مهجورة، ولم يعد يستخدمها أحد؛ لأن الأهالي المسيحيين قد تركوا المدينة وهذه الكنيسة خاوية، وانتقلوا إلى مناطق في اتجاه الغرب مثل اليونان وقبرص؛ وبسبب ذلك ستتحول الكنيسة بمرور الوقت لمكان يبيت فيه الثعابين والحشرات والزواحف وطيور النورس البحرية المنتشرة بمضيق البوسفور وبحر مرمرة. وفي الوقت نفسه لم يكن بالقسطنطينية مكان مُعد لأداء الصلاة لكل هذا العدد الضخم من أفراد الجيش العثماني. ولما عرض السلطان ورجال الدولة الأمر على شيخ الإسلام (آق شمس الدين) ومن معه من علماء الإسلام، أفتوا لهم بجواز تنظيف الكنيسة وتحويلها إلى مسجد.
ومهما يكن من أمر وضع هذه الكنيسة وقت فتح القسطنطينية من حيث وجود المسيحيين بها، أو هجرانها لها .. فإن الثابت هو تحويلها إلى مسجد بعد الفتح مباشرة، وهذا التحويل من مظاهره، إزالة الصليب من أعلى القبة ووضع هلال بدلاً منه، وبناء مئذنة في أحد أركان البناء، ووضع منبر خشبي للصلاة بصحن الكنيسة. كما قام العمال بإزالة الصلبان والتماثيل داخل الكنيسة، وطمسوا الصور والنقوش الفسيفسائية بطبقة من الجير والجص. ويُقال إن بعضاً من هذه الصور والنقوش يبيحها الإسلام، والبعض الآخر تُعدّ ممنوعة إسلامياً. فالذي يبيحه الإسلام صور الأشجار والمناظر الطبيعية، فهذه لم تُنزع. أما الصور الممنوعة فهي التي يزعمون أنها صور سيدنا عيسى وأمه عليهما السلام، وصور الأحبار والبطاركة والقديسين. فهذه الصور أبقوها ولم ينزعوها؛ ولكنهم غطوها بطبقة من الملاط، ثم نقشوا على هذه الطبقة آيات من القرآن الكريم.
ومع مرور الوقت بنى محمد الفاتح مأذنة ثانية في الطرف الجنوبي الشرقي لمسجد آيا صوفيا، كما بُنيت المأذنة الشمالية الشرقية في زمن السلطان بايزيد الثاني، أمّا المئذنة الغربية فقد أنشأها المعماري سنان باشا بتعليمات من السلطان سليم الثاني، بحيث أصبح للجامع أربع مآذن. أما دكّة المُبلغ الرخامية الواقعة في داخل صحن المسجد فقد أنشأها السلطان مراد الثالث، والميضة الواقعة في مدخل المسجد بنيت في عام 1740م، كما بُنيت مدرسة للصبيان في عام 1742م في زمن السلطان محمود الأول. كما تقع مجموعة من مقابر السلاطين الأتراك في فناء المسجد، أمثال سليم الثاني وأحمد الثالث ومراد الثالث المتوفى عام 1595م، والسلطان مراد الثالث، هو الذي زاد في المسجد الدعائم العظيمة حفاظاً على جدرانه المتداعية بسبب الزلزال، كما أقام حوله المدارس والمدافن والمآذن العظيمة. أما الكتابات الموجودة في بطن القبة فقام بها الخطاط قاضى العسكر مصطفى عزت أفندي، أمّا الشمعدانان الكبيران الموجودان على طرفي المحراب فقد جلبهما السلطان سليمان الأول. وفي عهد السلطان محمود الأول أُنشأت مكتبة آيا صوفيا سنة 1740م، وتُعدّ من أهم مكتبات أسطنبول، وقد شارك السلطان محمود بنفسه في احتفال افتتاحها. وفى زمن السلطان سليم الثاني أُضيف فناء خارجي للجامع أطلق عليه اسم (الحريم). كما تمّ تحويل قسم التعميد - وقت أن كان المسجد كنيسة - إلى مقبرة للسلطانين مصطفى الأول، وإبراهيم الأول.
كما أضاف الفن الإسلامي – إلى مسجد آيا صوفيا - المحراب والمنبر والدكة والشرفة المغطاة بالقفص الذهبي، وتقع على يسار المحراب، وتسمى (هنكار محفلي)، أي المكان الذي يصلي فيه السلطان يوم الجمعة، وله مدخل من وراء الجامع. وقد عُلق في صدر المكان في الأركان الأربعة فوق الأكتاف ست لوحات مستديرة كُتب على الأولى منها لفظ الجلالة (الله) وعلى الثانية اسم النبي (محمد) صلى الله عليه وسلم، ثم كتبت على اللوحات الأربع الأخرى أسماء الخلفاء الراشدين: أبو بكر، وعمر، وعثمان، وعلي. وهذه اللوحات من عمل الخطاط (تكنجي زاده إبراهيم أفندي).
المتحف :
ظلت آيا صوفيا مسجداً منذ عام 1453 إلى عام 1935م، أي ما يقرب من 481 سنة، ففي عام 1923 عقدت تركيا معاهدة لوزان، وقبلت بشروط الصلح المعروفة بشروط كرزون الأربعة، وهي: قطع كل صلة لتركيا بالإسلام، وإلغاء الخلافة الإسلامية إلغاءً تاماً، وإخراج الخليفة وأنصار الخلافة والإسلام من البلاد ومصادرة أموال الخليفة، واتخاذ دستور مدني بدلاً من الدستور العثماني. وقام بتطبيق هذه الشروط مصطفى كمال أتاتورك، فمنع الخليفة من الخروج إلى الصلاة، وخفض مخصصاته إلى النصف ثم نفاه، ثم ألغى الخلافة الإسلامية، وألغى وزارة الأوقاف، وأغلق أغلب المساجد، ولم يسمح بغير مسجد واحد في كل دائرة من الأرض يبلغ محيطها 500 متراً. كما ألغى منصب شيخ الإسلام والمفتي، واستبدل القوانين الغربية بالشريعة الإسلامية، وغيّر حروف الكتابة التركية من العربية إلى اللاتينية، وأصدر قراراً بقراءة القرآن بالتركية لا بالعربية.
وفي عام 1931 نشرت جريدة (الفتح) المصرية خبر إعدام 28 مجاهداً مسلماً في أنقرة بواسطة المحكمة العسكرية؛ لأنهم طالبوا بعودة الحكم الإسلامي في تركيا، وقد أُعدم هؤلاء شنقاً في صباح يوم 15 رمضان. كما قبض على 32 شخصاً مسلماً في بلدة قوزان بتهمة الاشتراك في حلقات يذكر فيها اسم الله تعالى، وتمت محاكمتهم بهذه التهمة أمام المجلس العرفي.
وأمام هذه التصرفات، لم يسلم مسجد آيا صوفيا من علمانية كمال أتاتورك وتطاوله على المقدسات الإسلامية، ففي يوم 11 رمضان 1353 هجرية (1935م)، كما نشرت جريدة الفتح المصرية: " أن جمهوراً كبيراً من المصلين المسلمين أقبل يوم السبت أول رمضان على جامع آيا صوفيا الشهير لأداء الصلاة فيه، فوجد على بابه (يافطة) كبيرة كُتب عليها (مغلق للتصليح). والأخبار الواردة من أستنبول تدل على أن الحكومة التركية شرعت فعلاً في تنفيذ ما قررته واعتزمته، وهو إفراغ هذا المعبد الديني القديم في شكل متحف للفن البيزنطي والفن الإسلامي بدلاً من أن يكون لدين من الأديان. وهكذا يبطل الآذان من هذا الجامع بعد ما استمر فيه 481 سنة أي منذ افتتاح الترك لهذه العاصمة يوم 29 مايو سنة 1453م". وهذا الخبر نشرته الجريدة بعد صدور قرار من حكومة تركيا يقضي بوقف الصلاة بجامع آيا صوفيا، ونزع سجاجيده ولوحاته الكتابية العربية ومنبره، وتحويله إلى متحف سياحي منذ عام 1934.
عملية تحويل المسجد إلى متحف، قام بها البروفسور (توماس هوتمور) بالمعهد البيزنطي في بوسطون بأمريكا، عندما قام بإزالة طبقة الملاط لإظهار اللوحات والصور الفسيفسائية المسيحية في عام 1934. وأول عمله كان في الأيوان الداخلي وكشف فيه عن اثنى عشر صليباً، وهي صلبان بارزة وملونة بلون أحمر وملبسة بالذهب، وبعضها ملبس بياقوت أزرق أو بالزمرد، وكلها دقيقة الصنع، ويرجع عهدها إلى القرن السادس الميلادي. وأهم ما كشفه البروفسور من فسيفساء صورة فوق باب الأيوان الأوسط ويسمى الباب الملكي، وهذه الصورة تمثل السيد المسيح جالساً على عرش فاخر من الذهب واللؤلؤ والزمرد والميناء، وأمامه الأمبراطور لاون السادس ساجداً، وفي الجانب الأعلى منها دائرة رسم فيها الملاك جبرائيل والسيدة العذراء، والصورة كبيرة الحجم إذ يبلغ ارتفاعها ثلاثين قدماً.
وفي العام التالي 1935، اتفقت الحكومة التركية مع لجنة الآثار على إظهار ما بآيا صوفيا من الصور الدينية القديمة. وقامت اللجنة برفع الأبسطة التي كان المسجد مفروشاً بها فظهر جزء مستطيل الشكل يبلغ طوله نحو ثلاثة أمتار وعرضه مترين، وهو بالقرب من المنبر، مبلط بقطع على أشكال هندسية من أنواع الرخام الملون، الذي استعمل في الأعمدة وفي كسوة الجدران، ويقال إن الأمبراطور جلس على عرشه في هذا المكان يوم الاحتفال بافتتاح الكنيسة. وقد أنزلت اللوحات المستديرة الست، ولم يُمكن إخراجها من الأبواب؛ لأن قُطر كل منها يبلغ ثمانية أمتار، فأعيدت إلى مكانها مرة أخرى، ومازالت موجودة حتى يومنا هذا.
جولة داخل آيا صوفيا :
أسعدني الحظ بزيارة آيا صوفيا في صيف 2007م، ومنذ أن وقع بصري على مبناها شعرت بأنها آية معمارية عظيمة، وأن تحويلها إلى متحف كان بغرض إظهارها ككنيسة أكثر من الحفاظ عليها بوصفها مسجداً. ففي مدخلها الخارجي تفاجأ بلوحة فسيفسائية في أعلى بابها الرئيسي الخارجي بها السيدة مريم حاملة السيد المسيح، وبجوارها راهبان. وهي لوحة ملونة بالوان ذهبية زاهية، وحولها النقوش البارزة، التي ترجع إلى عهد السلاطين العثمانيين. وبعد الدخول من هذا الباب تجد ممراً واسعاً بعرض المسجد، سقفه منقوش بنقوش إسلامية بديعة، وتكثر فيه الأقواس، وعلى اليمين أعمدة رخامية، وعلى اليسار ستة أبواب تؤدي إلى صحن المسجد.
وعند الدخول إلى المسجد من خلال الباب الأول أو الثاني، تجد ممراً على يمين صحن الجامع بطول البناء، على جانبيه عدة أعمدة رخامية ذات رقاب منقوشة بارزة بنقوش إسلامية رائعة. أما النجفات المعلقة في سقف الممر فهي من الطراز المسيحي، أو من النوع المنتشر في الكنائس، كذلك الشبابيك الموجودة بين الأعمدة مبنية على الطراز البيزنطي المسيحي. وفي وسط الممر غرفة محاطة بشبكة حديدية مكتوب عليها مكتبة السلطان محمد. وبداخلها وسائد للجلوس ودكك خشبية وطاولات للقراءة على شكل كراسي المصاحف المنتشرة في المساجد. وهذا الوصف ينطبق تماماً على الممر الآخر للجانب المقابل للمسجد إذا دخلت من الباب الخامس أو السادس.
وإذا دخلت من الباب الثالث أو الرابع، ستجد نفسك أمام صحن المسجد بمساحته الشاسعة، وتجد على يمينك دورين من البناء كل دور محمول على أعمدة رخامية ضخمة رمادية اللون، كما ستشاهد لوحة دائرية على يمينك أعلى الدور الثاني مكتوباً عليها (علي رضي الله عنه)، وإذا نظرت فوق رأسك مباشرة ستشاهد لوحة أخرى مكتوباً عليها (حسين رضي الله عنه)، وأمامها تجد لوحة (عثمان رضي الله عنه)، وبجوارها تجد لوحة (حسن رضي الله عنه). أما الجزء الأيسر الأمامي من صحن الجامع فتعلوه لوحة مكتوب عليها (الفاروق عمر رضي الله عنه)، وبجوارها لوحة مكتوب عليها (محمد عليه السلام)، وأسفلها توجد غرفة رخامية بسور معدني ذهبي مرفوعة عن الأرض بأعمدة رخامية، وهي مُعدّة لصلاة السلاطين والحكام. أما المحراب فمن الرخام الملون ذي النقوش الذهبية، وعلى جانبيه شمعدانان كبيران، وتعلو المحراب آية (كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ). وعلى الجانب الأيمن من المحراب نجد المنبر تعلوه لوحة مكتوب عليها (الله جل جلاله). أما سقف المحراب، وداخل قبته، فتوجد صورة السيدة العذراء حاملة المسيح عليه السلام. وعلى الجانب الأيسر من المحراب نجد لوحة (أبو بكر رضي الله عنه).
ويوجد على باب الدخول جرّة رخامية ضخمة جداً، منحوتة من قطعة رخامية مجزعة واحدة، يخرج من أسفلها ماء الوضوء عبر حنفيات، وحولها كراسي رخامية بنقوش بارزة للجلوس أثناء الوضوء. وعند الخروج من الباب السادس تجد باباً آخر في نهاية ممر الدخول الأول، وهذا الباب يؤدي بك إلى الدور العلوي للمسجد. والصعود إلى هذا الدور يمثل صعوبة للصاعد، حيث يتم الصعود عبر ممرات – لا سلالم بها – مبلطة بصخور ملساء، ترتفع بك تلقائياً أثناء الصعود إلى أعلى.
وفي الأعلى تجد ممراً دائرياً يحيط بصحن المسجد، ويتشابه في نقوشه وأعمدته وشبابيكه بالممرين الأسفلين بجوار الصحن السابق وصفهما. وما يُميز الدور العلوي وجود كمية كبيرة من اللوحات المسيحية التي كشفت عنها التنقيبات وأعمال الترميم، مما جعل حكومة تركيا الحالية تُقيم معرضاً دائماً في هذا الدور للصور المكتشفة، وصور مراحل التنقيب والترميم. وعند نهاية زيارتي لهذا البناء التراثي، تذكرت قصيدة (آيا صوفيا) لشاعر النيل حافظ إبراهيم، عندما نظمها بعد سقوط الخلافة الإسلامية للدولة العثمانية بعد الحرب العالمية الأولى، قائلاً فيها:
(أيا صُوفيا)! حانَ التَّفَرُّقُ فاذكُرِي عُهُودَ كرامٍ فيك صَلَّوا وسَلَّمُـوا
إذا عُدْتِ يوما للصَّلِيب وأهلـه وحلّى نَواحِيك المَسِيحُ ومَرْيَـمُ
ودُقَّّتْ نَواقِيسٌ وقام مُزَمِّــرٌ من الرُّومِ في محرابِه يَتَرنّـمُ
فلا تُنْكِرِي عَهْدَ المآذن؛ إنّـه على اللهِ من عَهد النَّواقِيس أكرَمُ
تباركْتَ، (بَيْتُ القُدْس) جَذْلانُ آمنٌ ولا يَأمَنُ (البَيْتُ العَتيقُ) المُحَرَّمُ!
أَيُرضيكَ أَنْ تَغْشَى سَنابِكُ خَيْلِهمْ حِماكَ وَأَنْ يُمْنَى (الحَطِيمُ) و(زَمْزَمُ)؟
وكيف يَذلُّ المُسْلِمُونَ وبَيْنَهُمْ كتابُكَ يُتْلَى كلَّ يومٍ ويُكرَمُ؟
نَبيُّكَ مَحْزُونٌ، وبَيْتُكَ مُطْرقٌ حَياءً, وأَنْصارُ الحَقيقةِ نُوَّمُ
عَصَيْنا وخالَفْنا فعاقَبتَ عادلاً! وحَكَّمْتَ فينا اليومَ مَنْ ليس يَرْحَمُ!