"ورقة (للنقاش) يتبعها ورقات"
شعار قدسي، أوينا إليه إبان الأيام الأولى لثورتنا المجيدة، فكان المأوى والمقصد الأسمى. ارتشفته أرواح شهدائنا الأبرار فكان آخر ما رددته السنتهم، ليسمع صداه في السماوات العلى بعد أن تصدعت الأرض بفعل وقعه المقدس.
شعار اشتراكي بامتياز، إذا شئنا أن ننسبه إلى الأيدلوجية، إنساني مثالي إذا شئنا أن ننسبه إلى الحقيقة؛ فما علمت الملايين الثائرة في ربوع بلدنا كافة عن هذه الأيدلوجيا شيئا، وعندما وضعت الثورة أوزارها، انسل من فرجة الحرية التي شقتها الثورة أحزاب ـ في معظمها ـ تفوح رائحة برامجها بعطر توجه رأسمالي كريه، أما الأحزاب الاشتراكية ـ القليلة العدد ـ التي أسست بعيد انقضاء الموجة الأولى من الثورة فقد انزوت انزواء الابن غير الشرعي لمجتمع لا يرحب كثيرا بتبني أيدلوجيات غريبة عنه.
أما الإسلامية فأكبر أحزابها "الحرية والعدالة" لا تستبين لدى إطلاعك على برنامجه الاقتصادي وتصريحات قياداته ـ التي تتناول هذا الجانب ـ أدنى اختلاف يذكر بينه وبين الرؤى الرأسمالية لأيا من الأحزاب الليبرالية، ولعل هذا يعود إلى أن الاجتهاد السائد والأكثر شهرة في الفقه الإسلامي الذي يتناول الشق الاقتصادي يغلب عليه النزعة الرأسمالية، فيرى فقهائه ـ على سبيل المثال ـ أنه مادام المسلم يؤدي زكاته للدولة فليس لها أن تطالبه بشئ آخر إلا ما تطوع به، ذاهبين ـ كذلك ـ إلى القول بأن ما أثبتته بعض النصوص من حقوق أخرى للدولة سوى الزكاة يؤديها المسلم يندرج تحت باب المستحب وليس بواجب أو ملزم.
وكما أن هذه الرؤية أثرت وصاغت بشكل أو بآخر العقلية الاقتصادية لمعظم التنظيمات الحركية الإسلامية ـ إن لم يكن جميعها ـ فإن الاجتهاد السائد والأشهر القائل بحرمة الخروج عن الحاكم وإن طغا وإن ظلم........الخ، لتكون السلطة لمن غلب، كان له تأثيره ـ بدرجة أو بأخرى ـ على الرؤية السياسية لتلك التنظيمات الإسلامية، ومن ثم فإن أشدها بأسا في معارضة الأنظمة الطاغوتية ما كان ليتورع عن التعاون وعقد الصفقات مع تلك الأنظمة، في نهج بعيد تمام البعد عن تمثل الجذرية أو الثورية.
تيار بديل
ورغم ما أقررناه فإننا إذا تحرينا هذه الثورية بداخل الدائرة الإسلامية فلن نعدمها، وإن توهجت شعلتها ـ عبر تاريخنا العربي الإسلامي ـ على نحو متقطع، فما أن ينجلي التاريخ عن أحد "المتفردين الإسلاميين" العظام حتى يشتعل أوارها بعد خمود، لتعود إلى هدأتها برحيله.
ولعل أبرز هؤلاء "المتفردون الإسلاميون" العظام هو مولانا جمال الدين الأفغاني (قدس الله روحه)، من أيقظ وحده أمما وشعوبا بأسرها، وسار في البلاد يعلم أهلها الحكمة، ويهديهم سواء السبيل، فكان كالكوكب السيار، يتنقل بين المدارات، فلا يدع سهلا إلا ألقى عليه من ضياءه، ولا يترك أرضا وطئتها قدماه، ولا موضعاً أو مكاناً يلائم دعوته، إلا وبذر فيه من فكره الثوري، ضد الاستبداد والاستعمار.
ولو جوبنا تاريخنا نستقصي نموذجا أكمل للتيار الذي وردت تسميته بعنوان مقالنا لما وجدنا أمثل من نموذج جمال الدين الأفغاني، ففي سيرة السيد ودعوته التي دعا بها نبصر منطلقات هذا التيار متراصة جنبا إلى جنب؛ الثورية أو الجذرية كمنهج تغيير، العدالة الاجتماعية كنظام اجتماعي، الديمقراطية كنظام سياسي، القومية العربية كتطلع وحدوي، والإسلامية كمرجعية نهائية.
أما الثورية فقد سكنت سيرته واستقر مقامها بها، مطمئنة هانئة البال ـ إن جاز لها أن تهنئ ـ ليلتمسها من ينشدها في أعظم صورها وأبهاها حلة، مذ أن غادر السيد بلاده، بلاد الأفغان إلى الهند منتقلا إلى الآستانة مستقرا في القاهرة، منفيا عائدا إلى الهند مرة ثانية، فطهران لينفى مرة أخرى، ليكون مستقره الأخير بعد ذلك بالآستانة، ليسلم الروح شهيدا، بل سيدا من سادات شهداء الحرية.
كذلك فقد كان للسيد موقفا اجتماعيا متقدما، ومنحازا إلى الفكر الاشتراكي، عبّر عنه فيما بثه من تعاليم، ومن أقواله التي كشف فيها عن انحيازه ذاك: (.....إن دعوى الاشتراكية... وإن قل نصراؤها اليوم، فلا بد أن تسود في العالم، يوم يعم فيه العلم الصحيح، ويعرف الإنسان أنه وأخاه من طين واحد أو نسمة واحدة، وأن التفاضل إنما يكون بالأنفع من السعي للمجموع!..)(1)، لكنه انتقد الاشتراكية الغربية، ورأى فيها غلوا ناجما عن نزعة انتقامية من جور الحكام(2)، مشيرا إلى أنه "لما كان مذهب الاشتراكية كبقية المذاهب والمبادئ لها طرفان ـ وخير الأمور أوساطها ـ رأى الشارع الأعظم أن تنعُم فريق من قوم وشقاء فريق آخر في محيط واحد وبمساع ليس بينها وبين مساعي الآخرين كبير تفاوت، مما لا يتم به نظام الاجتماع.."(3)، ورأى في الإخاء الذي عقده المصطفى بين المهاجرين والأنصار "أشرف عمل تجلى به قبول الاشتركية قولا وعملا..."(4)
ولأن هذه القضية كانت حاضرة في الذهن الجمالي بقوة، فقد كان له السبق في تقدمة تفسير أحداث الفتنة الكبرى من خلال تحليل الجانب الاقتصادي والاجتماعي للمجتمع الإسلامي آنذاك، وكيف نشأت الطبقات، وامتاز بعضها على البعض الآخر.
وعن ذلك يقول السيد: "في زمن قصير من خلافة عثمان تغيرت الحالة الروحية في الأمة تغيرا محسوسا، وأشد ما كان منها ظهورا في سيرته، وسير العمال (الولاة) والأمراء وذوي القربى من الخليفة، وأرباب الثروة، بصورة صار يمكن معها الحس بوجود طبقة "أشراف"! وأخرى أهل "ثروة وثراء وبذخ"! ونفصل عن تلك الطبقات، طبقة عمال، وأبناء المجاهدين ومن كان على شاكلتهم من أرباب الحمية والسابقة في تأسيس الملك الإسلامي وفتوحاته ونشر الدعوة...فنتج من مجموع تلك المظاهر التي أحدثها وجود الطبقات المتميزة عن طبقة العاملين والمستضعفين في المسلمين ـ تكون طبقة ـ أخذت تتحسن بشئ من الظلم وتتحفز للمطالبة بحقهم المكتسب من مورد النص ومن سيرتي الخليفة الأول والثاني أبي بكر وعمر. وكان أول من تنبه لهذا الخطر الذي يتهدد الملك والجامعة الإسلامية الصحابي الجليل "أبو ذر الغفاري"(5)".
وإذا ما انتقلنا إلى الفكر القومي عند السيد جمال الدين نستطلعه، سنصادف نضجا مثيرا للإعجاب والإكبار، إذ "قد جرت العادة (في عصره) أن يطلب المفكرون القوميون العرب من الأتراك العثمانيين أن يتركوا العرب ولغتهم وأن يعدلوا عن سياسة "التتريك"..."(6)، لكن جمال الدين ذهب إلى أبعد من ذلك فطالب ب "تعرب" "الدولة العثمانية، وتعرب الأمة التركية(7)، وكان السيد يعتقد أنه "لا سبيل إلى تمييز أمة عن أخرى إلا بلغتها..والأمة العربية هي "عرب" قبل كل دين ومذهب. وهذا الأمر من الوضوح والظهور للعيان بما لا يحتاج معه إلا دليل أو برهان!"، "فالمسلم أو المسيحي، واليهودي في مصر والشام والعراق، يحافظ كل منهم قبل كل شئ، على نسبته العربية فيقول "عربي" ثم يذكر جامعته الدينية..."، مشيرا إلى أنه"ينبغي لكل أمة أن تتمسك بجامعتها القومية في صدور أبنائها، وأن ذلك لا ينافي الإسلام"(8).
ولم يكن الفكر القومي لديه "يعني إدارة الظهر "للتضامن" الإسلامي، بل ولا الرفض "للجامعة الإسلامية"(9)، إذ كان يرى أن الإنسان يتحرك في دوائر ثلاث:
1ـ دائرة الأمة التي ينتسب إليها
2 ـ دائرة الملة التي تعتنق ذات الدين الذي يؤمن به
3 ـ دائرة النوع الإنساني الذي هو أحد أفراده(10)
كذلك ما كانت العروبة لدى جمال الدين الأفغاني تعصبا لعرق، إنما كانت لديه رابطة لسان وتكوين نفسي وآداب وثقافة، ويؤكد ذلك ما جاء برده على الفيلسوف رينان الذي زعم أن أكثر الفلاسفة الذين شهدتهم القرون الأولى للإسلام كانوا كنابهي السياسيين من أصل حراني ، أو أندلسي، أو فارسي، أو من نصارى الشام.."، فدفع قول رينان ذاك بتبيان أن أولئك كانوا عربا لسانا وثقافة، متسائلا في تعجب:"..ماذا يكون لو قصرنا نظرنا على الأصل الذي ينتمي إليه العظيم، ولم نأبه للنفوذ الذي سيطر عليه، والتشجيع الذي لقيه من الأمة التي عاش فيها؟ لو فعلنا ذلك لقلنا إن نابليون لا ينتمي إلى فرنسا، ولما صح لألمانيا أو انجلترا أن تدعي كلتاهما الحق في العلماء الذين استوطنوها بعد أن رحل أصولهم إليها من بلدان أخرى"(11).
وما من شك أن هذه الدعوات التي أطلقها السيد جمال الدين الأفغاني إنما ينتظمها نسيج واحد، هو نسيج الإسلامية، كيف لا؟! وهو إمام المجددين، وفيلسوف الإسلام.
إن كان مولانا جمال الدين الأفغاني هو المثال الأكمل لهذا التيار، ليس فقط لما اتسم به من مواهب فذة وسمات شخصية وتكوين نفسي يلائم طبيعة ما دعا إليه، بل لأن العصر الذي بعث فيه كان تتخلله معضلات ـ من نوع ما ذكرنا ـ تحتم على من كان مثله أن يتصدى لها، ويخوض غمارها مستقصيا ثم مدليا بدلوه ما وسعه علمه، نقول إن كان جمال الدين هو المعبر الأمثل عن هذا التيار فقد سبقته قامات مديدة ألمت بطرف أو بآخر من أطراف الأسس الفكرية لتيارنا ذاك، بحسب ما اقتضته متطلبات العصر الذي انتمى إليه كل منهم، فكان عمر بن الخطاب (رضي الله عنه وأرضاه)، من تسربلت سيرته برداء العدالة الاجتماعية، لتصير علما عليه ويصير ـ كذلك ـ علما عليها، وأضحت مقولاته ـ أمثال "إذا جاع مسلم فلا مال لأحد"، "ولو استقبلت من أمري ما استدبرت لأخذت فضول أموال الأغنياء فوزعتها على الفقراء" ـ أنشودة يترنم بها الفقراء وذوي الحاجة.
وتبع أفول نجم عمر ـ برحيله عن الحياة ـ بزوغ نجم جديد من أنجم هذا التيار الشريف، لكن هذه المرة كان سطوعه في سماء المعارضة ـ وذلك على خلاف سلفه العظيم ـ انه أبو ذر الغفاري (رضى الله عنه وأرضاه)، صاحب الصيحة الشهيرة، (بعد أن تبدلت أحوال المجتمع الإسلامي، وظهرت طبقة من ذوي الثروة والجاه، فتمايزت، وبعدت الشقة بينها وبين الغالبية من الناس) "عجبت لمن لا يجد قوت يومه كيف لا يخرج على الناس شاهرا سيفه"، صيحة أطلقها الصحابي الجليل منذ ما يزيد عن ألف وربعمائة سنة وما زال دويها يتردد في أجواء مجتمعاتنا الرازحة تحت خسف اجتماعي تئن منه عشرات الملايين، منذرة بانتفاضة لا تبقى ولا تذر.
وانتمى إلى ذاك التيار الشريف ـ كذلك ـ المفكر القومي السيد عبد الرحمن الكواكبي الذي رهن حياته لمدافعة الاستبداد، والدعوة إلى الحرية، وإلى "الحكومة الشورية"، واقترنت دعوته تلك بالحض على محاربة الظلم الاجتماعي الذي عده إفرازا من إفرازات الاستبداد، ورأى أن الإسلام أحدث "سنة الاشتراك على أتم نظام ، ذلك أن الإسلامية وضعت للبشر قانوناً مؤسساً على قاعدة: إن المال هو قيمة الأعمال ولا تجتمع في يد الأغنياء إلا بأنواع من الغلبة والخداع"(12)، مؤكدا على أن "العدالة المطلقة تقتضي أن يؤخذ قسم من مال الأغنياء ويرد على الفقراء، بحيث يحصل التعديل ولا يموت النشاط للعمل...."(13)، مادحا النظام الاشتركي، إذ يقول: " ولا غَرْوَ إذا كانت المعيشة الاشتراكية من أبدع ما يتصوَّره العقل، ولكن؛ مع الأسف لم يبلغ البشر بعد الترقّي ما يكفي لتوسيعهم نظام التعاون والتضامن في المعيشة العائلية إلى إدارة الأمم الكبيرة"(14) ، وتضافر ـ كذلك ـ مع دعواته تلك، تبشيره بالقومية العربية، فكان رائدها الأول، لكنه لم "يعزل عروبته وقوميته عن دائرة الجامعة الإسلامية، وكان مصلحاً إسلامياً يعمل لتجديد الإسلام كي تتجدد به دنيا المسلمين، لكنه يؤكد على تميز الأمة العربية في إطار المحيط الإسلامي الكبير".
إن هذا التيار أصيل ـ ما بلغت الأصالة مبلغها ـ بأعلامه ورواده الذين عددنا بعضا منهم، وألمحنا إلى أفكارهم وسيرهم، تلك التي تنساب عبر تاريخنا منشئة ـ بينهم ـ صلة نسب لا تنقطع، مفضية إلى تشكل تيار فكري تمتد جذوره عميقا في تربة مجتمعنا، وهي أصالة لطالما تنكب المجتمع سبيلها، فكان ينشر ـ في الآفاق ـ كشافيه لإدراكها، ليحال بينه وبينها زمانا طويلا، وقد آن آوان نشر أريجها لتعود الروح ـ باستنشاقه ـ إلى بلادنا بعد أن غادرتها منذ أمد بعيد.
لقد تكون هذا الينبوع فوق ذروة البشرية السامقة، فلم يدنسه الأدعياء، إذ اعتصم بين صخور حادةُ حوافها، ردت عنه ظمأهم المدنس، فما تعكرت مياهه يوما. أما وقد ملكنا دوحة المستقبل فقد آن لنا أن نُسيل هذا الينبوع ليروي دوحتنا تلك، فلا نرجو ـ غيره ـ لرى ظمأها إلى النهضة المنشودة.
__________________________________________________
(1) تلاةلاةى
(2) خاطرات الأفغاني ـ آراء وأفكار، محمد باشا المخزومي، ص160 مكتبة الشروق الدولية، الطبعة الأولى،2002
(3) المرجع السابق، ص163
(4) المرجع السابق ص163
(5) جمال الدين الأفغاني، محمد عمارة، دار الشروق، الطبعة الثالثة، ص206
(6) المرجع السابق، ص171
(7) المرجع السابق، ص172
(8) الخاطرات، ص90
(9) جمال الدين الأفغاني، محمد عمارة، دار الشروق الطبعة الثالثة ص185
(10) المرجع السابق، ص195
(11) زعماء الإصلاح في العصر الحديث، أحمد أمين، دار الكتاب العربي، بيروت ـ لبنان، ص91
(12) طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد، عبد الرحمن الكواكبي، دار النفائس، الطبعة الثالثة، ص94
(13) المرجع السابق، ص94
(14) المرجع السابق، ص96
محمد السيد الطناوي
إسلامي تقدمي
ساحة النقاش