فى موقعة الغاز التى بدأت قبل خطاب السيد المشير، وتضاعفت بعد خطابه بساعة أو أقل، يستغرب المرء من تشابه الظروف، ومن تطابق التفكير، ومن عدم قدرة الإنسان على الاتعاظ بغيره.
فى الخامس والعشرين من يناير شممنا من الغازات ما يكفينا لبقية العمر، ولم نكن نعلم أن نصيب الثائر المصرى من الغازات لم ينته بقدوم يوم الحادى عشر من فبراير، وأن الدولة المصرية قد قررت أن (تصرف) لكل ثائر مصرى غازاً فاخراً يبقى معه إلى الأبد، ويوصله إلى الدار الآخرة عبر بوابة السرطان كما سلكها إخوة له من قبل بالمبيدات والأغذية.
ألغازُ هذا الغاز كثيرة، هل هو غاز الخردل؟ هل هو نوع من أنواع غازات الأعصاب؟ الدولة (بكل هيبتها) تقول إن هذا الكلام غير صحيح، ولكن العلم يقول غير ذلك، فأعراض مئات المصابين فى المستشفيات الميدانية تقول إن ما ألقى على الثوار لم يكن مجرد غاز مسيل للدموع، بل كان شيئا أكثر جدية من ذلك.
سيادة المشير قال كلمته، وكان تأثيرها على الثوار لا يقل عن تأثير الغازات التى ألقيت قبل الكلمة أو بعدها، بل من الممكن أن نقول إن تأثير كلمة المشير قد سمم أجواء الوطن أكثر مما سممته القنابل، فكلمة الأسف لم تكن تكفى لتضمد جرح الشهداء الذين ألقيت جثثهم فى الزبالة، وكلمة الاستفتاء على شرعية المجلس هى أكثر القنابل سمية فى سماء الوطن مذ عرف هذا الجيل معنى الحرية.
هناك قناع واق من القنابل المسيلة للدموع، صينى الصنع، محدود الفاعلية، ولكن قنبلة (الاستفتاء) لا قناع يقى من آثارها، اللهم إلا الاعتصام فى ميدان التحرير تحت رحمة القنابل والغازات.
كيف نستفتى المصريين على شرعية المجلس؟ هل نقول لهم فى ورقة الاستفتاء اختاروا بين المجلس والفراغ؟ أو لعلنا نكتبها لهم صراحة بأنكم تختارون بين المجلس العسكرى وبين الفوضى، تماما كما قال مبارك ذلك قبل عدة شهور!
لو أردنا أن نستفتى الناس بحق على شرعية المجلس فلنمنحهم بعض الاختيارات، لنقل لهم مثلاً: هل تختارون مجلسا رئاسيا مكونا من محمد البرادعى، وعبدالمنعم أبوالفتوح، وحمدين صباحى، وحازم صلاح أبوإسماعيل، (على سبيل المثال)، أم تختارون المجلس العسكرى؟
لماذا لا نخير الناس فى الاستفتاء فيختارون بين السادة أعضاء المجلس العسكرى وبين حكومة إنقاذ وطنى برئاسة وعضوية شخصيات وطنية محترمة؟
لماذا نلجأ لأسلوب حسنى مبارك المخلوع ومن قبله السادات حين كان يخيرنا بنعم أو لا، بدلاً من إعطائنا فرصة الاختيار بين بدائل واضحة؟
هل يجرؤ أحد على لومنا حين نقول إننا ما زلنا نعيش فى نفس العصر، عصر الاستبداد محدود الذكاء والكفاءة؟
قنابل الإعلام وغازاته السامة أيضاً استمرت، فالثوار يريدون مهاجمة وزارة الداخلية، والسادة الضباط مسالمون كما تعودنا على ذلك خلال الثلاثين عاما الماضية، الإعلام يبث سمه فى آذان المصريين بكل ما أوتى من باطل، وقنابل الإعلام لا يبطلها إلا الحساب العسير لكل من أطلق غازاته السامة، وأول هؤلاء السيد وزير الإعلام الذى نسى نفسه، ولم يعتبر بوزير الإعلام السابق الملقى فى السجن حالياً، وكأن السجن أمر بعيد.
إن تصوير الثوار وكأنهم هم من يهاجم الوزارة يشبه الغازات السامة التى ألقيت على الميدان، ولكنها ألقيت فى ميدان أكبر، فهو بحجم مصر كلها، والحقيقة أن الثوار لم يفعلوا شيئا سوى الدفاع عن الميدان وذلك بعمل منطقة عازلة لكى لا يقترب أشاوس الشرطة فتصل قنابلهم إلى المعتصمين، وسمع المصريون فى ذلك كما من الكذب عبر وسائل الإعلام التى تعيش من ضرائبهم حتى تسممت آذانهم، ويكفى أن نعرف أن الأشاوس قصفوا المستشفى الميدانى ست مرات فى يوم واحد.
انتظر الناس اعتذاراً رسمياً، ولكنه تأخر، تماما كما انتظروا خطاب السيد المشير لست ساعات أو يزيد، وحين جاء الاعتذار كان الوقت قد تأخر، لأنه جاء فى الوقت الذى كانت تستقبل فيه المستشفيات الميدانية مختنقا بالغاز كل خمسين ثانية، لذلك تساءلت: ترى هل يعرف اللواء العصار كم ضحية سقطت فى ميدان التحرير أثناء إلقائه اعتذاره؟
ما فائدة الاعتذار والقتل مستمر؟ كيف يقبل الثوار اعتذاراً وبعض أطباء المستشفى الميدانى قد ماتوا مختنقين بفعل القنابل والغازات؟
أليس قتل الأطباء بهذه الطريقة وبهذه الغازات جريمة دولية لا تسقط بالتقادم؟
ترى هل تسقط هذه الجريمة باعتذار متكبر جاء متأخراً؟
يقول المجلس إننا لسنا امتداداً للنظام السابق، والغازات السامة المسرطنة التى تقتل فى محيط قطره عدة كيلومترات تقول غير ذلك.
يقول المجلس العسكرى على لسان المشير إنه لا يطمح للحكم، ولكن الغازات تقتل العصافير، ترى هل يعلم المشير كم عصفوراً من ذوى الكمامات أو ذوى الأجنحة قد قتل فى ميدان التحرير؟
أيها السادة، لن تقتلوا العصافير، ولا بارك الله فى شاعر لا يدافع عن العصفور ضد القنبلة، وليجر لى ما يجرى!
ساحة النقاش