والعلو في الإنسانية المرتبط بنموذج الإنسان الأعلى لا يقتصر تمثله ـ فقط ـ على فرد أو أفراد معدودين، بل قد يسمو إليه شعب بأكمله في حالة بعينها، الحالة الثورية، كالتي تكون في الثورة على محتل أو مستبد، ففي خضم مثل تلك الحالة ترتقي النفوس، وتتوحد لتصل إلى درجة من الصفاء والسمو هي أعلى ما قد يصل إليه بشر مجتمعون؛ وبرغم الاختلاف والتفاوت بين أفراد هذا الشعب في المعرفة والعلم، والذكاء، والتكوين النفسي والخلقي ….إلخ، إلا أن ذلك لا يخدش حالة العلو التي يرتقي إليها أفراد ذاك الشعب، فالنقص في أحدهم يكمله الأخر؛ والجماهير في هذه الحالة هي وحدة واحدة لا سبيل لتجزئتها، والوطن إن هو إلا البوتقة التي ينصهر فيها الجميع، جميع فئات الشعب وطبقاته، فتذوب الفوارق، وتندمل الجروح، وتصفو النفوس، وتتحد الإرادات، وتعلو الهمم، ويتردد دوي صوت المتجاوز بين أرجاء الوطن، ليغدو الشعب بذلك الإنسان الأعلى في أكمل صوره وأبهاها. والثمن الذي قد تدفعه تلك الجماهير في سبيل علوها ونيل حقوقها ـ من مغتصبيها ـ هو ماء ذُلال يُتطهر به من أدناس المستنقع الذي كانت حياتهم غارقة فيه، مستنقع المحتل الغاصب، أو المستبد الغشوم.

 

والحالة الثورية ـ المشار إليها أعلاه ـ إنما هي الذروة التي لا سبيل لعلو بعدها، قمة الجبل التي تقصدها الجماهير، وكلما صعدت درجة إليها ازدادت التصاقا وتقاربا، وتنسمت عبير الحرية المنعش، فاشرأبت أعناقها متطلعة في لهفة إلى الاعتلاء، وما أن تبلغ تلك القمة، لا يرى الرائي غير كيان واحد، بل كائن عملاق ترتعد لمرآه القلوب، قلوب المحتلين الغاصبين أو الطغاة المستبدين؛ بل قلوب كل من استعداه، ولم يحسب له حساب، وما هذا الكائن العملاق غير الإنسان الأعلى.

 

وهذه الحال إن تمكنت من الأمة تفجرت بها ينابيع القوة، وتدفقت في أوصالها شلالات الحيوية والشباب، فما من مطمح رنت إليه إلا وقد أطبقت بيدها عليه، وما من أمنية تمنتها إلا وأتت إليها تسعى صاغرة في إذعان ورضوخ.

 

ولكي تتبع الجماهير هذا السبيل متجشمة عناء الصعود إلى تلك الربوة المرتفعة، ليُبعث الإنسان الأعلى في صورته المُثلي، لزم بادئ ذي بدء أن يرسخ الإيمان به في قلوبها، ومن إيمانهم هذا يتدفق الجهد والتضحية، فما من عائق حينذاك قد يعوق سبيل صعودهم إلى الذروة المنشودة، وإن كان الاحتلال أو النظام المستبد ـ بطبيعة الحال ـ يسيطر على كافة مقدرات المجتمع أو الدولة، تلك التي وصفها هوبز ب”التنين الجبار”، فما هو إلا أن ينهض الإنسان الأعلى من رقاده نافضا عن نفسه غبار الغفلة، حتى يستحيل ذلك “التنين الجبار” قط مستأنس يموء في ضعف واستكانة عند قدمي إنساننا ذاك.

وحتى إذا ما عادت الجماهير أدراجها، بعد بلوغ المُرام، فهذا الشعور بالقوة والعنفوان، وهذا السمو، لن يبارحهم زمانا طويلا، ليخلف الإنسان الأعلى من بعدُ رابطة قدسية شريفة، هي رابطة ال”نحن”؛ وهذه الرابطة الجامعة هي رابطة بناء ونهضة لا غنى عنها لشعب أراد الحياة الكريمة العزيزة......).

 

هذه الفقرة جزء من أحد فصول كتيب صغير، كتبته قبيل الثورة، واضعا فيه تصوري للإنسان الأعلى كيف يكون؟. وهي تحوي ما تخيلته أن تكون عليه الحالة الثورية، وما يعقبها من مرحلة لاحقة.

والآن بعد مرور 7 أشهر على الثورة أتساءل: (هو مينفعش يكون فيه

try again??

المصدر: للكاتب :/ محمد السيد الطناوى
  • Currently 5/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
1 تصويتات / 274 مشاهدة

ساحة النقاش

tulipe

tulipe
IDB »

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

307,753