الوحدة الموضوعية في سورة الضحى
تأليف الأستاذ الدكتور صبري فوزي أبوحسين
أستاذ الأدب والنقد بكلية اللغة العربية بالزقازيق
بحث علمي مقدم إلى المؤتمر العلمي الدولي الخامس (آفاق الإعجاز في القرآن الكريم) المنعقد في كلية اللغة العربية بالزقازيق، بالتعاون مع الهيئة العالمية للإعجاز العلمي في القرآن والسنة، في المدة من 25-27 أبريل 2017م.
المقدمة:
القرآن الكريم حجة الله البالغة وآياته المتجددة ومعجزة الرسول الخالدة، معجزة لكل جيل وقبيل، معجزة في كل عصر ومصر، معجزة للإنس والجن جميعًا في شتى أطوار حياتهما، منذ بدء الخليقة إلى انتهائها بإذن الله تعالى. وقارئ القرآن الكريم يجد نفسه دائمًا أمام سؤال لحوح عن الرابط بين أقسامه المختلفة: بين آياته، بين أرباعه، بين أحزابه، بين أجزائه، بين سوره، بين اسم السورة ومضامينها، وبين السورة وسابقاتها ولاحقاتها. سؤال يدفع إلى البحث عن الخيط الذي يربط هذه الأقسام بعضها ببعض، والمبرر لورودها معًا، والمحور أو المحاور التي تدور حولها، وذلك من وجوه إعجاز قرآننا الكريم ودستورنا الإلهي القويم الخاتم.
وقد سبقني إلى دراسة هذا الإحكام -قديمًا وحديثًا-علماء أفذاذ خدموا الإعجاز في القرآن الكريم خدمات جليلة، أفدت منها، وحاولت الإضافة إليها، من خلال منهج متكامل مناسب لتحليل النص القرآني الكريم، له مصطلحاته وإجراءاته، ويدرس عن طريقه النص القرآني الكريم دراسة شاملة تتغيَّا تحقيق هذا التحدي الذي يواجه الكثير من قراء القرآن الكريم ومتدبريه: خاصتهم وعامتهم. وهذا هو المأمول من الباحثين الآن.
ولعل مصطلح "الوحدة الموضوعية في القرآن الكريمThe objective unity of the Holy Qur'an"" بالمفهوم العلمي المعاصر الخاص بالنص القرآني الكريم، وليس بالمفهوم الأدبي النقدي الضيق، أنسب عنوان لهذا المنهج؛ لما فيه من اشتمال على كثير من إجراءات الاصطلاحات المرادفة له مثل: النظم/ النظام/ التناسب/التفسير الموضوعي/الوحدة النسقية/الوحدة البنائية... إلخ ولكنه يحتاج إلى ضوابط كثيرة وآليات عديدة تناسب مقام النص القرآني الكريم؛ حتى يؤتي ثماره المرجوة بإذن الله تعالى. وهذا أحد التحديات أمام الباحثين المعاصرين!
حقًّا أبدع سلفنا الجليل في اكتشاف إعجاز الآية القرآنية ودراسة العلاقات بين الآيات المتقاربة في تركيبها ومعناها وأتوا بفوائد حقيقية في مجال دقة التعبير والنظم بين الألفاظ، والانسجام بين التعابير، أما دراسة "الوحدة الموضوعية" في السورة القرآنية-بهذا المنهج المتدرج- فلم يُعهد لهم ذكر له، وإن وجد التطبيق لإجراءاته. والسبب يرجع إلى أن النظرة الكلية للقرآن الكريم لم تتبلور عندهم؛ لأن الشكل الأدبي للسورة أمر لم تعهده الثقافة العربية.
وقد أقبلت على تطبيق إجراءات الوحدة الموضوعية في سورة الضحى؛ احتفالاً برسولنا وائتساءً بقدوتنا، وحبًّا له وتقديرًا، وقربًا من دستورنا؛ ولأنها نص قصير في كمه، ومن ثم فهو سهل النظر فيه، ويسير تطبيق الإجراءات فيه، ومناسب لطبيعة بحث مقدم إلى مؤتمر علمي. وقد تمت هذه المعايشة التدبرية في السورة، من خلال معايشة طويلة لها، وقراءات عديدة عنها في عدة تفاسير قديمة وحديثة، وعدة قراءات بلاغية للنظم القرآني، رُزِقت منها خواطر ذاتية إيجابية، تمثلت في الإجابة عن أسئلة عدة، منها:
* لماذا سميت السورة بهذا الاسم؟
* ما صلتها بما قبلها وما بعدها؟ وما الصلة بين مطلعها وختامها؟
* ما الأفكار الأساسية للسورة؟ وما الرابط بينها؟ وما الصلة بين آياتها؟
*ما صلة السورة بفاتحة الكتاب؟ وما أبرز عناصر الواحدة الموضوعية البارز والداخلية فيها؟
وقد استطعت مستعينا بالله -عز وجل، تحقيق تلك الإجابات، من خلال تمهيد ومبحثين وخاتمة، على النحو التالي:
االتمهيد: إجراءات استكشاف الوحدة الموضوعية في النص القرآني الكريم.
المبحث الأول: الوحدة الموضوعية البارزة في سورة الضحى.
االمبحث الثاني: الوحدة الموضوعية الداخلية في سورة الضحى.
<!--
وليس لي في هذا البحث سوى محاولة تحسين العرض ووضوحه، وتقديم تجربة ذاتية أولى في مجال القراءة الأدبية للقرآن الكريم، فإن وفقت فبها ونعمت، وإلا فحسبي نبل الغاية، وإخلاص التوجه.
<!--االتمهيد: إجراءات استكشاف الوحدة الموضوعية في النص القرآني الكريم.
قرر كثير من علماء السلف والخلف أن في القرآن الكريم تناسبًا بين آياته وتناسقًا وتعانقًا بين سوره؛ فالقرآن الكريم وحدة موضوعية واحدة وآياته وسوره بناء واحد:
كالدر يزداد حسنا وهْوَ منتظم وليس ينقص قدرًا غير منتظم
والأدلة على ذلك من مكتبة علوم القرآن وتفسيره وإعجازه قديمًا وحديثًا كثيرة ومتنوعة؛ فهذا الإمام الباقلاني(338-403هـ) في كتابه إعجاز القرآن: "والوجه الثالث من وجوه إعجازه: " أنه بديع النظم عجيب التأليف متناه في البلاغة إلى الحد الذي يعلم عجز الخلق عنه(<!--)... ويقول أيضا:" وقد تأملنا نظم القرآن فوجدنا جميع ما يتصرف فيه من الوجوه التي قدمنا ذكرها على حد واحد في حسن النظم وبديع التأليف والرصف لا تفاوت فيه ولا انحطاط عن المنزلة العليا ولا إسفاف فيه إلى الرتبة الدنيا وكذلك قد تأملنا ما يتصرف إليه وجوه الخطاب من الآيات الطويلة والقصيرة فرأينا الإعجاز في جميعها على حد واحد لا يختلف، وكذلك قد يتفاوت كلام الناس عند إعادة ذكر القصة الواحدة تفاوتًا بينًا ويختلف اختلافًا كبيرًا ونظرنا القرآن فيما يعاد ذكره من القصة الواحدة فرأيناه غير مختلف ولا متفاوت"(<!--). ويقول أيضا: " فأما نهج القرآن ونظمه وتأليفه ورصفه فإن العقول تتيه في جهته وتحار في بحره وتضل دون وصفه.. . ونحن نذكر لك في تفصيل هذا ما تستدل به على الغرض وتستولي به على الأمد وتصل به إلى المقصد وتتصور إعجازه كما تتصور الشمس وتتيقن تناهي بلاغته كما تتيقن الفجر وأقرب عليك الغامض وأسهل عليك العسير، واعلم أن هذا علم شريف المحل عظيم المكان قليل الطلاب ضعيف الأصحاب(<!--). ويقول الإمام الرازي(نحو 544-606هـ) في تفسيره سورة البقرة يقول: " ومن تأمل في لطائف نظم هذه السورة وفي بدائع ترتيبها علم أن القرآن _كما أنه معجز بحسب فصاحة ألفاظه وشرف معانيه_ فهو أيضًا بحسب ترتيبه ونظم آياته،... وأكثر لطائف القرآن مودعة في الترتيبات والروابط... ولعل الذين قالوا: إنه معجز بحسب أسلوبه أرادوا ذلك، إلا أني رأيت جمهور المفسرين معرضين عن هذه اللطائف غير منتبهين لهذه الأسرار وليس الأمر في هذا الباب إلا كما قيل :
والنجم تستصغر الأبصار صورته والذنب للطرف لا للنجم في الصغر(<!--)
وهذا الإمام السيوطي(849-911هـ) يذكر في كتابه "معترك الأقران في إعجاز القرآن، وفي الإتقان" من ضمن وجوه الإعجاز" الوجه الرابع من وجوه الإعجاز: مناسبة آياته وسوره وارتباط بعضها ببعض حتى تكون كالكلمة الواحدة متسقة المعاني منتظمة المباني(<!--).
وفي العصر الحديث نجد الأديب الإسلامي الكبير الأستاذ مصطفى صادق الرافعي(1880-1937م) في كتابه إعجاز القرآن والبلاغة النبوية يقول:" من أعجب ما اتفق في هذا القرآن من وجوه إعجازه أن معانيه تجري في إحكام النظم مجرى ألفاظه على ما بيناه من أمرها -يعني ما سبق أن ذكره عن جمالها وروعتها وبلاغتها – " إن هذا الإعجاز في معني القرآن وارتباطها أمر لا ريب فيه وهو أبلغ في معناه إذا انتبهت إلى أن السورة لم تنزل على هذا الترتيب فكان الأحرى أن لا تلتئم وأن لا يناسب بعضها بعضًا وأن تذهب آياتها في الخلاف كل مذهب، ولكنه روح من أمر الله تفرق معجزًا فلما اجتمع اجتمع له إعجاز آخر ليتذكر به أولوا الألباب". ويقول رحمه الله: " وإنك لتحار إذا تأملت تركيب القرآن ونظم كلماته في الوجوه المختلفة التي يتصرف فيها وتقعد بك العبارة إذا أنت حاولت أن تمضي في وصفه حتى لا ترى في اللغة كلها أدل على غرضك وأجمع لما في نفسك وأين لهذه الحقيقة غير كلمة الإعجاز(<!--).
"ويقول الدكتور محمد عبد الله دراز(1849-1958م): "إن من أدلة صدق القرآن وأنه ليس من البشر الوحدة الموضعية لكل سورة؛ فكل سورة معقودة للتكلم عن موضوع معين، ومع كبر بعض السور وامتداد نزولها على عدة سنوات إلا أن هذه الوحدة لم تنخرم ولم تنُس ولم تتبدل، ثم ضرب لهذا مثلا : فقال: مَثَلُ ذلك كقصر مبني في السماء، ثم ينزل الله منه كل يوم قطعة ، فمرة ينزل النافذة ومرة ينزل السقف، ومرة ينزل الجدار، ويأمر الله نبيه بأن يضع الجزء كذا في مكان كذا، فيفعل وهو لا يدري لماذا، ولكنه هكذا أُمر، فلا ينتهي التنزيل إلا ويتضح للجميع مدى توافق هذا البنيان وإحكامه ودقة تصميمه. ولو أنك أخذت كلام أي إنسان لمدة سنة واحدة فقط ، ثم أردت أن تجعل منه موضوعا متناغما، أو أفكارا منسجمة مع بعض لما استطعت إلى ذلك سبيلا .
ثم دلل على ذلك بأطول سورة في القرآن ، وهي البقرة التي نزلت على مدار تسع سنوات ، ونزل في أثنائها أغلب السور المدنية ، ومع هذا كان بناء سورة البقرة في غاية الإحكام ولم تختلط به أي آية من غيره....واعلم أن هذه السورة على طولها تتألف وحدتها من : مقدمة ، وأربعة مقاصد ، وخاتمة، على هذا الترتيب... ثم قال: إن اجتماع هذه الأسباب في كل سورة متفرقة النجوم ، دون أن تغض من إحكام وحدتها ، ولا استقامة نظمها هو بالتحقيق معجزة المعجزات (<!--)... لعمري لئن كان للقرآن في بلاغة تعبيره معجزات وفي أساليب ترتيبه معجزات، وفي نبوءته الصادقة معجزات، وفي كل ما استخدمه من حقائق العلوم النفسية والكونية معجزات، لعمري إنه في ترتيب آياته معجزة المعجزات(<!--) .
وهناك كتب أمهات ألفت في هذا المجال، منها: "البرهان في تناسب سور القرآن"لأبي جعفر أحمد بن إبراهيم بن الزبير(ت708هـ)، و"نظم الدرر فى تناسب الآيات والسور"لبرهان الدين البقاعي(809-885هـ)، و"تناسق الدرر في تناسب السور" لجلال الدين السيوطي، و"ربط السور والآيات لمحمد بن المبارك المعروف بحكيم شاه القزويني(ت928هـ)، عند السلف. ومن كتب الخلف "فى ظلال القرآن" للأستاذ سيد قطب(1906-1966م)، و"جواهر البيان في تناسب سور القرآن" لعبد الله محمد بن صديق الغماري(1901-1961م)، و"سمط الدرر في ربط الآيات والسور" لمحمد ظاهر بن غلام من علماء الهند (ت 1407هـ)، و"النبأ العظيم" للدكتور محمد عبد الله دراز(ت1958هـ)، و"نظرة العجلان في أغراض القرآن لابن شهيد ميسلون محمد بن كمال الخطيب(1913-2000م)، وفي هذا الكتاب ذهب مؤلفه إلى أن سورة الفاتحة محور للقرآن الكريم كله، و"الوحدة الموضوعية للقرآن الكريم للدكتور محمد محمود حجازي(1914-1972م)(<!--) وفي رسالته هذه يتناول وحدة الموضوع في القرآن... ومن عجب أن يظهر كتاب لعالم غربي(قس كاثوليكي سويسري) متخصص في علم اللاهوت اسمه هانز كَنغ_ يسمى "الإسلام: ماضيه وحاضره ومستقبله"_ يهتم فيه بجزئية من هذا العلم هي أسماء السور القرآنية حث قال: " إنها ليست عناوين بل كلمات مفتاحية تساعد على التذكر عند التلاوة. وهذه الأسماء مأخوذة من اسم شخصية رئيسية مذكورة في السورة، أو ببساطة مجرد كلمة واردة في السورة وغالبًا في آيتها الأولى"أي أن السؤال موجود عن غير المسلمين كذلك، وإجابتهم عنه غير واضحة أو مقنعة موقنة! هذا وللشيخ محمد الغزالي(1917-1996م)كتاب بعنوان: "نحو تفسير موضوعي للقرآن"". وصفه بأنه: "دراسة جديدة للقرآن الكريم، سبق أن قدمت نماذج منها فى بعض ما كتبت. وقد لازمنى شعور بالقصور وأنا أمضى فيها، فشأن القرآن أكبر من أن يتعرض له مثلي، ولكنى حرصت على أن أزداد فقهًا فى القرآن وتدبرًا لمعانيه. وقلت: قد أرتاد طريقًا لم أُسبَق إليه وأفتتح به بابًا من أبواب الخير، والقرآن لا تنقضي عجائبه، ولن نبلغ مهما بذلنا مداه!! والهدف الذى سعيت إليه أن أقدم تفسيرًا موضوعيًّا لكل سورة من الكتاب العزيز. يتناول السورة كلها، يحاول رسم “صورة شمسية” لها تتناول أولها وآخرها، وتتعرف على الروابط الخفية التى تشدها كلها، وتجعل أولها تمهيدًا لآخرها، وآخرها تصديقًا لأولها. لقد عُنِيت عنايةً شديدةً بوحدة الموضوع في السورة". وقد نجح شيخنا الغزالي في رسم صور شمسية لسور القرآن الكريم ملخصًا ما بها من مواضيع من وجهة نظره، لكنه لم ينجح في إبراز وحدة موضوع السورة، ولم يقدمها بالطريقة التي نُريدها! وهذا الشيخ سعيد حوى(1935-1989م) يقول في مقدمة كتابه الأساس في التفسير - ذلك الكتاب الذي يشتمل على نظرية متكاملة في الوحدة الموضوعية للقرآن الكريم، يقول مبينًا سر اهتمامه بهذا الموضوع -: " ولقد سئلت أكثر من مرة من بعض من عرضت عليهم وجهة نظري في فهمي للصلة بين الآيات والسور عن فائدة هذا الموضوع وكنت أجيبه بأن هذا الموضوع فيه رد على شبهة أعداء الإسلام الذين زعموا أن هذا القرآن لا يجمع آياته في السورة الواحدة جامع ولا يربط بين سوره رابط، وذلك لا يليق بكلام البشر فكيف بكلام رب العالمين، إنها لشبهة فظيعة جدا أن يحاول محاول إشعار مسلم بأن كتاب الله ينزل عن كتاب البشر في هذا الشأن، وقد استطعت بحمد الله أن أبرهن على أن كمال القرآن في وحدة آياته في السورة الواحدة وكماله في الوحدة الجامعة التي تجمع ما بين سوره وآياته على طريقة لم يعرف لها العالم مثيلا ،ولا تخطر على قلب بشر، لقد استطعت بهذا أن أرد السهم إلى كبد راميه من أعداء الله في هذه النقطة بالذات ".
وهذا الشيخ صبحي الصالح(1926-1986م): "وكل سورة لاحقة أواصر قربى، كما أن ترتيب الآيات التوقيفي لا يقتضي عقلاً ارتباط إحداها بالأخرى إذا وقعت كل منها على أسباب مختلفة، وإنا يغلب في السورة الواحدة أن تكون ذات موضوع بارز كلي تأتلف عليه جزئياتها كلها في مقاطعها المتلاحقة المترابطة, لكن الوحدة الموضوعية في كل سورة على حدة لا ينبغي أن تكون هي الوحدة الموضوعية عينها في السور كلها مجتمعة. ولم يبلغ المفسرون هذا المبلغ من التكلف، بل اكتفوا بإظهار العلاقة بين ختام السورة السابقة وفاتحة السورة اللاحقة، كأن الترابط بينهما -لولا فصلهما بالبسملة- وقع عن طريق الآيات موقعا جزئيا, لا عن طريق السورتين موقعا شاملا كليا. ومعيار الطبع أو التكلف فيما لمح من ضروب التناسب بين الآيات والسور يرتد في نظرنا إلى درجة التماثل أو التشابه بين الموضوعات، فإن وقع في أمور متحدة مرتطبة أوائلها بأواخرها فهذا تناسب معقول مقبول، وإن وقع على أسباب مختلفة وأمور متنافرة فما هذا من التناسب في شيء. وما أصدق قول القائل: "المناسبة أمر معقول، إذا عرض على العقول تلقته بالقبول!. وأقل ما يعنيه هذا المعيار الدقيق أن وجه المناسبة بين الآيات أو بين السور يخفى تارة ويظهر أخرى ، وأن فرص خفائه تقل بين الآيات وفرص ظهوره تندر بين السور: ذلك بأن الكلام قلما يتم بآية واحدة، فتتعاقب الآيات في الموضوع الواحد تأكيدا وتفسيرا، أو عطفا وبيانا، أو استثناء وحصرًا, أو اعتراضا وتذييلا، حتى تبدو الآيات المتعاقبات كالنظائر والأتراب(<!--). وكل هذه النقول شهادات بأهمية هذا المنحى في دراسة إعجاز القرآن الكريم، وضرورة السير فيه قدمًا بطريقة منهجية تفصيلية، بعد المحاولات الذاتية العمومية السابقة... وحقًّا "قد سمعنا كثيراً عبارة (الوحدة الموضوعية) للسورة، ولكن لم يثبت أحد هذه العبارة بطريقة مُقنعة(<!--)". ولا بجواب شافٍ كافٍ منهجي ذي إجراءات واضحة دالة على هذا الترابط والتناسب والانسجام بين أجزاء القرآن الكريم سورًا وآيات وعبارات!
إنني أتغيا من تسليط الضوء على هذا المجال الحي والحيوي من البحوث القرآنية الكريمة: [مجال الوحدة الموضوعية في القرآن الكريم] إلى أن يوجد فريق من الباحثين مؤسس روحيًّا ومؤهل عقليًّا يخوضون غمار هذا النوع الشريف من البحث العلمي في كل السور القرآنية الكريمة حتى نخرج منها بدراسة موضوعية متكاملة، فتكون لبنة طيبة في هذا المجال الفكري الجديد.
ولعل من أهم الإجراءات المرحلية المتدرجة، المرجوة في تنفيذ هذا المنهج الأدبي البناء على النص القرآني الكريم، ما يلي:
أسئلة المنهج:
تتمثل مشقة خوض غمار هذا البحث في تلك الأسئلة التي يفرضها هذا المنهج الأدبي على الباحث، والتي تتمثل غالبًا في الأسئلة الآتية:
ما مظاهر الوحدة القرآنية بين الآيات والسور؟ وما الحكمة من الترتيب المصحفي؟ وما الحكمة من افتتاح السورة؟ ولماذا جاءت السورة مدنية؟ وهل هناك علاقة بين القرآن المكي والقرآن المدني؟ وإلى أي قسم تنتمي السورة من أقسام القرآن الكريم ؟ وما الحكمة من افتتاح السورة بهذا المطلع؟ وهل هناك وحدة بين السورة والسور المتطابقة أو المتقاربة لها في المفتتح؟ وما أوجه الارتباط والتناسب والتناسق بين الآيات في السورة الواحدة؟ وبين الكلمات في الآية الواحدة؟.. .
ما قبل الاستكشاف:
*إكثار القراءة وإدمانها:
النص القرآني يحتاج إلى قراءات كثيرة جدًّا، قراءات متنوعة، من حيث الهدف، والأسئلة والوسائل، حتى تعطي كل قراءة جديدًا؛ فإدامةُ التأمل والتدبر من أهم ما يفتح على الإنسان من أسرار، ويهديه إلى معان جديدة. ومما يصبُّ فيما نحن بصدد الحديث عنه، العكوف على قراءة القرآن مع التأمل والنظر والتفكر في آياته، وهذا ما حثَّ عليه القرآن نفسه؛ يرشد لهذا العديد من الآيات الداعية إلى التفكر والتدبر في آيات الله، من ذلك - مثلاً - قوله تعالى: {قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا}(<!--) فالتفكر والتدبر والنظر والتأمل يفتح لقارئ كتاب الله كثيراً من المعاني، التي لا يمكن أن يكتسبها قارئ كتاب الله إلا من خلال ذلك.
يقول الإمام ابن القيم :" وليعلم طالب العلم، ودارس القرآن الكريم أنه ليس أنفع له في معاده ومعاشه وحياته الدنيا وآخرته،وأقرب إلى سلامته ونجاته وسعادته من تدبر القرآن الكريم، وفهمه،وإطالة التأمل فيه،والعمل بمقتضاه، وجمع الفكر على معاني آياته؛ فإنها تطلع العبد على معالم الخير والشر بحذافيرهما. وعلى طرقاتهما وأسبابهما وغاياتهما وثمراتهما، ومآل أهلهما، وتَتُل (تضع) في يده مفاتيح كنوز السعادة والعلوم النافعة. وتثبت قواعد الإيمان في قلبه. وتحضره بين الأمم، وتريه أيام الله فيهم. وتبصره مواقع العبر. وتشهده عدل الله وفضله. وتعرفه ذاته، وأسماءه وصفاته وأفعاله، وما يحبه وما يبغضه، وصراطه الموصل إليه، وما لسالكيه بعد الوصول والقدوم عليه، وقواطع الطريق وآفاتها. وتعرفه النفس وصفاتها، ومفسدات الأعمال ومصححاتها وتعرفه طريق أهل الجنة وأهل النار وأعمالهم، وأحوالهم وسيماهم. ومراتب أهل السعادة وأهل الشقاوة، وأقسام الخلق واجتماعهم فيما يجتمعون فيه. وافتراقهم فيما يفترقون فيه. وبالجملة تعرفُهُ الرب المدعو إليه، وطريق الوصول إليه، وما له من الكرامة إذا قدم عليه(<!--).
*التثقيف الذاتي:
ينبغي للباحث في هذا المجال أن يطلع على الجهود السابقة عن السلف والخلف اطلاع تعلم وتفقه؛ فيبدأ بالمأثور عن السورة الكريمة، وينتقل إلى المعقول. ومن ثم يكون على دراية تامة بالنص القرآني المبحوث، فيكون تحليله عن خبرة عقلية منداحة متنوعة، فتأتي أحكامه موفقة. قال ابن عبد الهادي عن شيخه الإمام ابن تيمية: "كان -رحمه الله- يقول: ربما طالعتُ على الآية الواحدة نحو مائة تفسير ثم أسأل الله الفهم وأقول: يا معلم آدم وإبراهيم علمني، وكنت أذهب إلى المساجد المهجورة ونحوها، وأمرغ وجهي في التراب وأسأل الله تعالى وأقول: يا معلم إبراهيم فهمني! ويذكر قصة معاذ بن جبل، وقوله لمالك بن يخامر لما بكى عند موته وقال: إني لا أبكي على دنيا كنت أصيبها منك، ولكن أبكي على العلم والإيمان الذين كنت أتعلمهما منك، فقال: إن العلم والإيمان مكانهما من ابتغاهما وجدهما، فاطلب العلم عند أربعة، فإن أعياك العلم عند هؤلاء فليس هو في الأرض، فاطلبه من معلم إبراهيم(<!--)".
*التسلح بآليات معايشة النص القرآني الكريم:
ينبغي للباحث في هذا المجال أن يتسلح بما يتصف به المفسر عند أسلافنا وفي عصرنا، من آداب وعلوم، على النحو التالي:
<!--إخلاص النية لله تعالى، فيجب أن يكون متوجه الإرادة لله تعالى، وأن يعلم أنه لا يفسر بيتًا من الشعر أو النثر، وإنما يفسر كلام الله تعالى والخطأ فيه ليس كالخطأ في غيره؛ فالمعول في ذلك كله على حسن النية، وخلوص القصد، وصدق التوجه في الاستمداد من المعلم الأول؛ معلم الرسل والأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم، فإنه لا يرد من صدق في التوجه إليه لتبليغ دينه وإرشاد عبيده ونصيحتهم والتخلص من القول عليه بلا علم، فإذا صدقَتْ نيتُه ورغبتُه في ذلك لم يعدَم أجراً إن فاته أجران والله المستعان(<!--).
<!-- التخلص من آفات النفس وحظوظها فلا يكون من هم الباحث تخطئة السابقين أو سرقة نتاجهم والانتفاع المادي بما كانوا يقولون!
<!--اعتقاد الباحث هيمنة القرآن، بأن تصبح الآراء والأفكار والأعمال مستنبطة من القرآن لا أن القرآن يؤيدها !
<!--توجد جملة من العلوم بمثابة أدوات تعصم الباحث من الوقوع في الخطأ وتحميه من القول على الله بدون علم، وهي: اللغة، والنحو والصرف والاشتقاق، والبلاغة[معرفة لغة العرب وأساليبهم البيانية، فلا يخفي أن القرآن الكريم نزل بلغة العرب وبلسانهم، وهو لا يُفهم إلا بفهم ما به نزل، ولذلك وجدنا أهل العلم كافة يهتمون بمعرفة لغة العرب، ويوصون طلبة العلم بذلك]، والقراءات، وأصول الفقه، وأسباب النزول، والناسخ والمنسوخ، والسيرة والتاريخ، والحديث ومصطلحه، أن ينظرَ في الوقف والابتداء وأثر ذلك في الدلالة والتوسع في المعنى أو التقييد فيه وما إلى ذلك. وأن يطالع مسلمات العلوم التجريبية الحديثة، ويعرف الاتجاهات والتيارات الفكرية المعاصرة المختلفة....
<!--النظرُ في السياق؛ فبالسياق يتضح كثير من الأمور ويتضح سبب اختيار لفظةٍ على أخرى، وتعبير على آخر، ويتضح سببُ التقديمِ والتأخير والذكرِ والحذف ومعاني الألفاظِ المشتركة. فالسياق من أهم القرائن التي تدل على المعنى. وعدم النظر في السياق قد يوقع في الغلط أو عدم الدقة في الحكم. كما أن إسقاط النص القرآني على الواقع وتفسيره بما يوافق ذلك؛ إذ إن القرآن الكريم قد اختزل الزمان والمكان، وركز على جنس الإنسان بغض النظر عن زمانه ومكانه، فأحكامه أصول ثوابت لا بد أن تؤخذ بالحسبان أثناء الخوض في هذا الميدان، ليكون التفسير واقعاً في موضعه الصحيح دون إفراط أو تفريط.
<!--مراجعةُ المواطن القرآنية التي وردت فيها أمثال التعبير الذي يراد تبيينه لاستخلاص المعنى المقصود، مراجعةُ المواطن القرآنية التي وردت فيها المفردة التي يراد تفسيرها لمعرفة استعمالاتها ومعانيها ودلالاتها، ومعرفة خصوصياتٍ الاستعمال القرآني وأسراره. والغوص على معرفة المنهج القرآني في تناول وضع الكلمة، أو الموضوع، حتى صار حقيقة واقعة مسلمة.. .
<!--ولعل الجمع بين الاستقراء والتحليل للسورة الكريمة، وأحيانًا الموازنة والترجيح بين الأقوال المختلفة، من الآليات البحثية المطلوبة في مثل هذه البحوث البناءة.
<!-- ثم تأتي الموهبة: وهو علم يورثه الله تعالى لمن عمل بعلمه(<!--)، وإليه الإشارة بقوله تعالى:" واتقوا الله ويعلمكم الله(<!--)".
كيفية استكشاف الوحدة الموضوعية:
في هذه المرحلة يتم النظر إلى السورة القرآنية من خلال جملة إجراءات خاصة بما في خارج السورة، وما في داخلها على النحو التالي:
إجراءات الوحدة الموضوعية البارزة:
يقصد بالوحدة الموضوعية البارزة تلك السياحة مع النص القرآني الكريم من خلال عنوانه، وكمِّه، ومكانه، ومقامه، وزمانه، والجو التاريخي الذي أنزل فيه، وتتم تلك السياحة من خلال المحطات الآتية:
مقام السورة:
يُعنَى الباحث فيه ببيان فضل السورة، وعدد آياتها، وبيان سبب نزولها. كما يُعنَى فيه الباحث بتاريخ السورة، ببيان الزمان والمكان الذي نزلت فيه السورة، وبيان ترتيبها النزولي، والمصحفي، وبيان مناسبة السورة لما قبلها: نزوليًّا ومصحفيًّا. واستنباط الحِكَم من ذلك التاريخ والترتيب.
عنوان السورة
يذكر الباحث اسم السورة التوقيفي، وإذا كان لها أكثر من اسم يذكره، ويبين حكمة تسميتها بذلك الاسم، ويلاحظ الصلة بين اسمها وموضوعها العام، ويُحرص على الاسم الوارد عن النبي - صلى الله عليه وسلم- فإنه ـ بلا شكَّ ـ ما سمَّى السورة إلا لحكمة، وقد تكون هذه الحكمة في التسمية مرتبطة بمقصد السورة. كما يذكر اسم السورة الاجتهادي سواء أطلقه عليها علماء سابقون، أو تمكن هو من إدراكه والربط بين اسمها الاجتهادي وموضوعها. كما يبين علاقة اسم السورة أو أسمائها بمحورها الرئيسي ومقاطعها الفكرية. وذلك انطلاقًا من أن عنوان السُّورة هو محورها الذي تدور حوله وللترابط القويّ بين عنوان السُّورة والوحدة الموضوعية لها، وأنه آلية أساسية في إثبات الوحدة الموضوعيّة للسورة بطريقةٍ علميَّةٍ. .
هيكل السورة:
يقصد به تبيُّن مواطن التأنُّق في السورة المتمثلة في: المطلع، وموطن التخلص من موضوع إلى آخر، ثم موطن الختام. ويشتمل على:
<!--التناسب بين افتتاحية السورة القرآنية وخاتمة السورة التي قبلها.
<!--التناسب بين افتتاحية السورة القرآنية وخاتمة تلك السورة.
<!-- التناسب بين افتتاحية السورة القرآنية وافتتاحية السورة التي تليها في الترتيب.
<!--التناسب بين افتتاحية السورة القرآنية وخاتمة السورة التي تليها.
<!--علاقة السورة بالسور ذات المطالع المتشابهة.
إجراءات الوحدة الموضوعية الداخلية:
يقصد بالوحدة الموضوعية الداخلية تلك السياحة مع محتوى النص القرآني الكريم من خلال محوره الرئيس، وأقسامه الفكرية، فعند تناول المحتوى القرآني، ينبغي -أولًا- أن يحدد محور النص، وهو ما يمكن أن يكون عنوانًا ومغزًى له، وفي الغالب يعالج النص عددًا من القضايا أو الأفكار العامة، ومن المهم أن نقسم النص -من حيث هذه الأفكار العامة- إلى مقاطع، يسمى كل مقطع باسم يحمل الفكرة التي يحتويها، ومن المهم -أيضًا- أن نتناول العناصر الفرعية، أو قل المعاني الجزئية التي يحتويها كل مقطع من خلال آياته التي اشتمل عليها. وبعد تقسيم النص إلى أفكار عامة، وتقسيم كل فكرة منها إلى عناصر فرعية، يأتي تفسير هذا المحتوى فكرة فكرة، ومقطعًا مقطعًا.
وينبغي أن يكون معلومًا أن توضيح هذه الأفكار العامة، وما تحتويه من عناصر ومعانٍ جزئية، يجب أن يكون دقيقًا بلا إطناب ولا ثرثرة. وخلال معالجة المحتوى -على نحو ما تقدم- يقوم قارئ النص بالكشف عن مدى الترابط بين أجزاء المضمون العام للنص التي تمثلها أفكار العامة، وعن مدى الترابط -أيضًا- بين عناصر الفكرة العامة التي تمثلها آيات كل فكرة، بحيث يكشف عن مدى هذا الترابط والتلاحم، ليزيل شبهة التفكك والانفصال التي قد تأتي عند القارئ العادي للنص القرآني. ولا يستطيع أحد أن يتعلل -للتفكك والانفصال- بتعدد موضوعات النص، إذ سيظهر بعد هذا التحليل حسن التلطف، ودقة التخلص في الانتقال من موضوع إلى آخر، فتبدو المقاطع كأن كل مقطع ينادي أخاه، كما يقوم فيه القارئ باستجلاء ما في النص من قيم شعورية ومعانٍ إنسانية. وهذا يدل على تناسق القرآن الكريم وتناسب آياته وسوره وأجزائه.
ويمكن تحديد تلك الوحدة من خلال المحطات التالية:
- المقصد الرئيس للسورة
ويعنى فيه بالتعرف على موضوع السورة الرئيس ومقصدها الأسمى، والاستشهاد على ذلك بآيات السورة. وتقسيم السور الطويلة والمتوسطة إلى أقسام وبيان مقدمة السورة وأقسامها وخاتمتها وتوزيع آياتها على الأقسام. وإذا لم يتيسر تقسيمها إلى أقسام، تقسم إلى وحدات أساسية وذكر موضوع كل وحدة وآياتها وبيان الصلة بين تلك الوحدات. ومن ثم يلزم أن يكون لكل سورة مهما كان حجمها محورٌ واحدٌ وموضوعٌ واحد.
- المحاور الفرعية للسورة:
ويُعنَى بالتعرف على محاور السورة المختلفة وربط هذه المحاور مع عمود السورة، مع استخراج أهداف السورة ومقاصدها الفرعية من خلال القراءة الواعية المتدبرة لآيات السورة عدة مرات، والاستدلال على كل هدف أو مقصد يسجله بمجموعة من آيات السورة.
ثم يستخلص أهم حقائق السورة والدلالات التي تقررها، والإشارة إلى أبعاد السور الواقعية وكيفية معالجتها لمشكلات الإنسان المعاصرة. أي أن الباحث ينتقل من التصور الكامل للنص القرآني إلى بنياته الوسطى ثم بنياته الثانوية.
التناسب بين أجزاء السورة:
وهذا ما يمكن الاصطلاح عليه بأنه بلاغة مكان السورة، حيث تبين مدى التناسب في الآية، وفي السورة كلها، وفي علاقتها بالقرآن الكريم كله، على النحو التالي:
- التناسب في داخل الآية.
- التناسب بين الآيات: ترتيب الآيات واعتلاق بعضها ببعض وارتباطها وتلاحمها وتناسقها..