أقصوصة (نظرة) للدكتور يوسف إدريس في مرآة المنهج الفني
أ.د/صبري فوزي أبوحسين
أستاذ الأدب والنقد بكلية اللغة العربية بالزقازيق
توطئة تنظيرية:
يكاد يجمع مؤرخو الأدب الحديث ونقاده على أن الأقصوصة جنس أدبي، سردي حكائي نثري، تهدف إلى تقديم حدث وحيد غالبًا ضمن مدة زمنية قصيرة ومكان محدود غالبًا؛ لتعبر عن موقف أو جانب من جوانب الحياة، ولابد لسرد الحدث في القصة القصيرة من أن يكون متحدًا ومنسجمًا دون تشتيت. وغالبًا ما تكون وحيدة الشخصية أو ذات عدة شخصيات متقاربة يجمعها مكان واحد وزمان واحد على خلفية الحدث والوضع المراد الحديث عنه. والدراما في القصة القصيرة تكون غالبًا قوية، وكثير من القصص القصيرة تمتلك حسًّا كبيرًا من السخرية أو دفقات شاعرية قوية لكي تمتلك التأثير وتعوض عن حبكة الحدث في الرواية. وهي نتاج تحرر الفرد من ربقة التقاليد والمجتمع وبروز الخصائص الفردية. ويغلب على القصة القصيرة أن تكون الشخصيات مغمورة، وقلما يرقون إلى البطولة والبطولية، فهم من قلب الحياة حيث تشكل الحياة اليومية الموضوع الأساسي للقصة القصيرة وليست البطولات والملاحم. ويعد "إدغار آلان بو" من رواد القصة القصيرة الحديثة في الغرب. وقد ازدهر هذا اللون من الأدب، في أرجاء العالم المختلفة، طوال قرن مضى، على أيدي موباسان وزولا وتورغينيف وتشيخوف وهاردي وستيفنسون، ومئات من فناني القصة القصيرة. وفي العالم العربي بلغت القصة القصيرة درجة عالية من النضج على أيدي يوسف إدريس في مصر، ومحمد بوزفور في المغرب، وزكريا تامر في سوريا... وغيرهم كثير في عالمنا العربي.
وثمّة اتفاق كبير بين دارسي الأقصوصة على ضرورة توافر ثلاث خصائص فنية رئيسية في أيّة أقصوصة، هي:
-وحدة الانطباع.
- لحظة الأزمة
-اتساق التصميم.
وهاك تطبيقًا لهذه السمات الفنية الفارقة على نص من النصوص الرائدة في هذا الفن، وهي أقصوصة"نظرة" للكاتب المبدع الطبيب يوسف إدريس.وقد نشرت ضمن المجموعة القصصية(أرخص ليال) عام ١٩٥٦م.
نص الأقصوصة:
نظرة
...كان غريبًا أن تسأل طفلة صغيرة مثلها إنسانًا كبيرًا مثلي لا تعرفه، في بساطة وبراءة، أن يعدل من وضع ما تحمله، وكان ما تحمله معقدًا حقًا، ففوق رأسها تستقر "صينية بطاطس بالفرن"، وفوق هذه الصينية الصغيرة يستوي حوض واسع من الصاج مفروش بالفطائر المخبوزة، وكان الحوض قد انزلق رغم قبضتها الدقيقة التي استماتت عليه حتى أصبح ما تحمله كله مهددًا بالسقوط.
ولم تطل دهشتي، وأنا أحدق في الطفلة الصغيرة الحيرى، وأسرعت لإنقاذ الحمل، وتلمست سبلاً كثيرة وأنا أسوى الصينية فيميل الحوض وأعدل من وضع الصاج فتميل الصينية، ثم أضبطهما معًا فيميل رأسها هي، ولكنى نجحت أخيرًا في تثبيت الحمل، وزيادة في الاطمئنان نصحتها أن تعود إلى الفرن، وكان قريبًا، حيث تترك الصاج وتعود فتأخذه.ولست أدرى ما دار في رأسها؟ فما كنت أرى لها رأسًا وقد حجبه الحمل، كل ما حدث أنها انتظرت قليلاً لتتأكد من قبضتها ثم مضت وهى تغمغم بكلام كثير لم تلتقط أذني منه إلا كلمة "ستي".
ولم أحول عيني وهى تخترق الشارع المزدحم بالسيارات ولا عن ثوبها القديم الواسع المهلهل الذي يشبه قطعة القماش التي ينظف بها الفرن، أو حتى عن رجليها اللتين كانتا تطلان من ذيلها الممزق كمسمارين رفيعين.وراقبتها في عجب، وهي تنشب قدميها العاريتين كمخالب الكتكوت في الأرض وتهتز وهي تتحرك ثم تنظر هنا وهناك بالفتحات الصغيرة الداكنة السوداء في وجهها، وتخطو خطوات ثابتة قليلة، وقد تتمايل بعض الشيء ولكنها سرعان ما تستأنف المضي. راقبتها طويلاً حتى امتصتني كل دقيقة من حركاتها؛ فقد كنت أتوقع في كل ثانية أن تحدث الكارثة. وأخيرًا استطاعت الخادمة الطفلة أن تخترق الشارع المزدحم في بطء كحكمة الكبار. واستأنفت سيرها على الجانب الآخر، وقبل أن تختفي شاهدتها تتوقف ولا تتحرك، وكادت عربة تدهمني وأنا أسرع لإنقاذها .. وحين وصلت كان كل شيء على ما يرام، والحوض والصينية في أتم اعتدال.
أما هي فكانت واقفة في ثبات تتفرج ووجهها المنكمش الأسمر يتابع كرة من المطاط يتقاذفها الأطفال في مثل حجمها، وأكبر منها، وهم يهللون ويصرخون ويضحكون. ولم تلحظني، ولم تتوقف كثيرًا، فمن جديد راحت مخالبها الدقيقة تمضي بها، وقبل أن تنحرف استدارت على مهل واستدار الحمل معها، وألقت على الكرة والأطفال نظرة طويلة. ثم ابتلعتها الحارة.
التحليل الفني للأقصوصة:
هذه الأقصوصة تعد أنموذجًا بارزًا لفن الأقصوصة؛ لما فيها من تقنيات فنية عدة، من حيث شكلها ومضمونها، فهي قصيرة الشكل ، تقرأ في زمن قليل ، وتعبر عن موقف محدد ، ولحظة معينة ، وفيها وحدة في الحدث ، والغرض ، والموقف ، والتركيز في بنائها الفني ، فليس بها كلمة يمكن الاستغناء عنها، أو كلمة تعد حشوًا فيها، أو دخيلةً عليها ، كما أنها تتسم بالواقعية ودقة الملاحظة ، والعناية بالتفاصيل الدَالة والموحية ، بحيث جعلنا الكاتب كأننا نشاهد لقطة تمثيلية بكل جزيئاتها، إضافة إلى ما فيها من وضوح اللغة وسهولة الأسلوب. وفيما يلي تحليل موجز لأبرز عناصر الأقصوصة، من خلال تفاعلي مع طلابي وطالباتي في قراءتها وتذوقها:
وحدة الانطباع في الأقصوصة:
وحدة الانطباع لا تعني بالضرورة أن تتجه كل جزئيات الأقصوصة إلى خلق هذا الأثر الواحد بصورة بنائية محكمة، فقد تستطيع أن تحققه من خلال تفاعل عدد من العناصر المتنافرة أو تعاقب مجموعة من المفارقات أو جدل العديد من النقائض أو تراكم أشتات من الذكريات، أو نتف التأملات التي تشبه الشظايا المتناثرة التي تبدو لأول وهلة أن لا رابط بينها، أو تداخل عدد من أشكال الكتابة القصيرة المختلفة وتفاعلها... إلى غير ذلك من الصيغ البنائية التي يبدو أنها تفتقر إلى البناء التقليدي المحكم، ولكنها تخلق انطباعًا وأثرًا جماليًّا واحدًا ، فمن وحدة الانطباع ما يسمى الحبكة أي النسق الذي رتبت به الأحداث، وهو ترتيب يتفق مع ترتيب حدوثها في الواقع، ويحتوي على منطق يربط هذه الأحداث بعضها ببعض وفق نسق؛ فقد دار النص حول حادث واحد، وهو حمل الجارية الحمل الثقيل ، وموقف البطل منها ، وقد جاء في لحظة واحدة ، ومشهد واحد رآه الكاتب السارد وصوره. إنه سرد خطي متعاقب لا يعمد فيه الكاتب إلى تكسير خطية الزمن، فتسترسل الأحداث من بداية معلومة إلى نهاية مرسومة دون ارتداد إلى الماضي أو قفز إلى المستقبل.
كما ركز الكاتب في عنصر الشخصيات على بطلة الأقصوصة فوصفها بعدة أوصاف في ثنايا النص ، فهي في البدء ( طفلة صغيرة ) ، ثم ( طفلة صغيرة حيرى ) ، ثم (كنت أرى لها رأسًا ) ، ثم ( رجليها اللتين كانتا تطلان من ذيلها الممزق كمسمارين رفيعين ) ، ثم ( قدميها العاريتين كمخالب الكتكوت ) ثم ( تنظر هناوهناك بالفتحات الصغيرة الداكنة السوداء في وجهها ) ، ثم ( الخادمة الطفلة ) ، ثم ( وجهها المنكمش الأسمر ).وكل هذه الأوصاف أسهمت في تقديم البطلة والتعريف بها وبيان علامات القهر الاجتماعي البارزة على كل أعضاء جسدها، وهي أوصاف حسية دالة على واقع مأساوي قاسٍ عانت وتعاني منه الطفلة/البطلة. والشخصية الثانية في الأقصوصة هو الراوي السارد لأحداثها بضمير المتكلم الذي وصفه الكاتب ( إنسانًا كبيرًا )، (أنا أحدق )، ( أسرعت لإنقاذ الحمل )، فالإنسانية، وكبر النفس، ودقة الملاحظة، والمروءة والشهامة ملامح أساسية فيها.
كما جاء المكان واحدًا واقعيًّا يدور في سياق واحد، وكذا الزمان: واقعي إذ تدور الأحداث في مجتمع مصري بالنصف الأول من القرن العشرين. والمقصود الأعظم من الفن في الأقصوصة هو تلك الواقعية حيث رسالة النقد والإبلاغ، من خلال القبض على لحظة حياتية عابرة، من غير تسرب جزئيات وتفاصيل، ويحتم هذا الموقف على الكاتب أن يستغني عن كل ما يمكنه الاستغناء عنه من الألفاظ والعبارات، وكل ما من شأنه أن يثقل النسيج القصصي، ويبدو حشوًا يرهل النص، ويضعف أثره الجمالي.
ويضاف إلى هاتين الشخصيتين شخصية (ستي) التي تمثل شخصية القاسي القاهر للطفلة، ولم يذكر الكاتب لها أية تفاصيل، وإنما اكتفى بالإشارة إلى خوف الطفلة منها.
لحظة الأزمة في الأقصوصة:
لحظة الأزمة هي لحظة الأقصوصة الأثيرة، لحظة الكشف والاكتشاف، ولذلك سمى الناقد (جويس) هذه اللحظات بالإشراق أو الكشف، فغالبًا ما يركز كاتب الأقصوصة على شخصية واحدة في مقطع واحد، وبدلاً من تتبع تطورها فإنه يكشف عنها في لحظة معينة... هذه اللحظة غالبًا ما تكون اللحظة التي تنتاب فيها الشخصية بعض التحولات الحاسمة في اتجاهها أو فهمها. وليست لحظة الأزمة بالضرورة لحظة قصيرة، فقد تستغرق عملية الكشف هذه زمنًا طويلاً، ولا تتطلب أن تعي الشخصية ذاتها حدوث هذا الكشف أو حتى وجوده برغم معايشتها له، ولكنّها تستلزم أن يدرك القارئ كلاً من التوتر الصانع للأزمة والمفارقة التي ينطوي عليها الاكتشاف.
وتتمثل لحظة الأزمة في أقصوصتنا في تلك المفارقة بين تلك الطفلة المقهورة المعذبة وهؤلاء الأطفال الذي يلعبون ويتمتعون بحياتهم ووأيسر حقوقهم، الذي جاء في المقطع الختامي للنص حيث يقول الكاتب:" أما هي فكانت واقفة في ثبات تتفرج ووجهها المنكمش الأسمر يتابع كرة من المطاط يتقاذفها الأطفال في مثل حجمها، وأكبر منها، وهم يهللون ويصرخون ويضحكون. ولم تلحظني، ولم تتوقف كثيرًا، فمن جديد راحت مخالبها الدقيقة تمضي بها، وقبل أن تنحرف استدارت على مهل واستدار الحمل معها، وألقت على الكرة والأطفال نظرة طويلة.ثم ابتلعتها الحارة".
اتساق التصميم في الأقصوصة:
اتساق التصميم هو الخصيصة البنائية التي تقودنا في الواقع إلى دراسة الملامح والعناصر البنائية المختلفة التي ينهض عليها أو يتكون منها شكل الأقصوصة من شخصية وحدث وزمن ومان. وظاهر من خلال متابعة تلك العناصر أنها جاءت متسقة متسلسلة متراتبة، كل عنصر يؤدي إلى الآخر ويتصل به في تناغم دال موح مثير! وكذلك نجد المشهد المسرود مكونا من أحداث جزئية مترابطة، حيث سؤال الطفلة البطلة للراوي أن يساعدها، ومساعدة الراوي إياها، والاختراق الفدائي من الطفلة للشارع، ومحاولة إنقاذ الرواي إياها، ثم نظرتها المنكسرة للأطفال أترابها يلعبون ويتمتعون بطفولتهم! ثم كان أن دخلت خضم الحياة/ الحارة، لتبتلعها لأنها ضعيفة مستصعفة!
ومن دلائل الاتساق:
<!--دلالة العنوان:
أحسن الكاتب في صياغة العنوان، فلفظة ( نظرة ) غرض أساسي من الوصول إلى مغزي النص كله؛ وذلك لأن:
أ- النظر هو الأداة الأساسية في النص، ولذا أشار إليه كثيرًا في قوله:" وأنا أحدق في"، و"لم أحول عيني" "راقبتها" "تتفرج" "لم تلحظني". بعكس حاسة السمع التي كانت ضعيفة جدًّا كما في قوله:" لم تلتقط أذني منه" .
ب-ختم الكاتب الأقصوصة بمشهد مثير دال يدور حول نظرة طويلة من البطل، وهي نظرة قهر وتألم وتحسر.
ج- و النص يعد نظرة من صاحبه وكاتبه على مشهد مأساوي في واقعه القاسي .
د- والنص دعوة للجمهور إلى أن يركز نظره على تلك المشاهد الحزينة التعيسة .
ه- إنه عنوان دال ومثير ومعبر، يربط بين الراوي (البطل) وتلك الفتاة الصغيرة فهو ألقى نظرة عليها وعلى واقعها المأساوي، وهي ألقت نظرة علي ما تتمناه ولا تجده. وإذا كان من عنوان مقترح كبديل نرجوه لهذا الأقصوصة فهو عبارة ( ابتلعتها الحارة )؛ عبارة شاعرية مكثفة وموحية؛ إذ تشير في إيجاز إلى قهر شديد قد وقع عليها من مجتمعها القاسي، وتشير إلي أنها نكره مغمورة في العالم. لا يحس بها أحد، ولا تظهر في مجتمعها الشرس المبتلع!· التكثيف والاختزال:
إذ يخلو النص من أية عبارة أو لفظة يمكن أن تكون استطرادا بلا فائدة ، فلغة النص موظفة كلها توظيفًا فنيًّا لإيصال رسالة الكاتب ومغزاه. وكذالك خصيصة الإيجاز؛ فقد جاء النص قصيرًا في حجمه بحيث يُقرأ في أقل من نصف ساعة، وفي جلسة واحدة؛ فقصر الأقصوصة لا يسمح بأي حال بالتراخي أو الاستطراد أو تعدد المسارات، ويتطلب قدرًا كبيرًا من التكثيف والتركيز واستئصال أية زائدة أو عبارة مكررة . إنها تصور قطاعًا عرضيًّا هامشيًّا من الحياة، تحاول إضاءة جوانبه، وتعالج لحظة وموقفًا تستشف أغوارهما، تاركة أثرًا واحدًا وانطباعًا محددًا في نفس القارئ، وهذا يكون بنوع من التركيز والاقتصاد في التعبير وغيرها من الوسائل الفنية التي تعتمدها القصة القصيرة في بنائها العام، والتي تعد فيها الوحدة الفنية شرطاً لا محيد عنه، كما أن الأقصوصة تبلغ درجة من القدرة على الإيحاء والتغلغل في وجدان القارئ، كلما حومت بالقرب من الرؤية الشعرية.
لغة الأقصوصة:
جاءت لغة الأقصوصة سهلة معبرة عن جوها الذي وقعت فيه، ومناسبة لطبيعة أشخاصها، وما بها من ألفاظ تكاد تكون عامية أو قريبة من العامية! فألفاظ ( الفرن / الست / الطبق / الحوض / الصينية ) ألفاظ فصيحة مقبولة لا حرج فيها ولا حياء في استخدامها .
وتثير هذه الأقصوصة قضية نقدية، مفادها أن الدعوة إلى استخدام اللغة العامية في القصة دعوة مرفوضة؛ لأنها تؤدي إلى هدم الأدب ، وتفرق الأمة إلى مجموعة من المتنافرين، فضلاً علي أنها تخفي وراءها أغراضًا خبيثة، فالمراد بالواقعية واقعية التصوير والصدق النفسي ، مع الاحتفاظ بسلامة اللغة وفصاحةالكلام ، فالالتزام في الأدب لا يعنى الفوضى المطلقة ، بل هو سلاح بتار، إن لم يستعمل بحذر.إضافة إلى كثرة العاميات والتباعد الشديد بينها في القطر العربي الواحد، فضلا عن الوطن العربي كله!
إنها ذات لغة فصيحة في عمومها ، سهلة في أسلوبها ، تخلو من أية مخالفات نحوية أو صرفية ، وما فيها من تعبير خاص – فيما يدعّي – بالعامية ( صينية بطاطس بالفرن ) ، ( ستي ) ، لا ينال من إبداع القاص، بل يدل علي صدق فى إبداعه ، وواقعية في لغته، وقد خلت من الحوار الخارجي ووجد بها حوار داخلي نفسي تنفيسي دال على لسان البطلة، وكذا على لسان البطل .
كما اتسمت لغة النص بالشاعرية حينًا كما في قول الكاتب:" حتى عن رجليها اللتين كانتا تطلان من ذيلها الممزق كمسمارين رفيعين . وراقبتها في عجب، وهى تنشب قدميها العاريتين كمخالب الكتكوت في الأرض وتهتز وهى تتحرك ثم تنظر هنا وهناك بالفتحات الصغيرة الداكنة السوداء في وجهها"، كما اتسمت الإيحاء حينًا آخر كما في عبارة الختام:" ابتلعتها الحارة".
أيدولوجيا النص ومغازيه:
التوجه الإبداعي لهذه الأقصوصة توجه اشتراكي، واقعي نقدي، صادق هادف بنَّاء، يحس بالضعيف ويسقط عليه الضوء ويسلطه، ويقف بجواره ،مستخدمًا عينه ذات الملاحظة الدقيقة التي تُعنى بكل تفاصيل المشهد، بلا عُرْي أو إسفاف أو تبذل.
ولهذه الأقصوصة مغاز عدة، هي: الإحساس بالضعيف في المجتمع وتسليط الضوء عليه دائمًا وأبدًا، والدعوة إلى مساعدة الضعيف مساعدة شاملة مستمرة، والعناية بحقوق الطفل، ذم قسوة المجتمع وقهره للأطفال، وذم المجتمع الرأسمالي المفتري .
و أخيرًا يلاحظ على هذا النص أنه يتسم بدقة الملاحظة والعناية بالتفاصيل الدالة الموحية، وضوح اللغة وسهولة الأسلوب وجمال التصوير وبلاغته، فقد جعلنا القاصُّ كأننا نشاهد لقطة تمثيلية بكل تفاصيلها، والدقة في وضع عنوان النص، و فكاهية التعبير عن طريق كوميديا الموقف، وخلطه بالمسحة الدرامية التراجيدية، وواقعية التفكير والتعبير والتصوير، وحسن ختام الأقصوصة؛ فقد بدأ بعنوان دال(نظرة)، وختمها بعبارة دالة وهي ( ابتلعتها الحارة).
أ.د/صبري فوزي أبوحسين
أستاذ الأدب والنقد بكلية اللغة العربية بالزقازيق