تحقيب الأدب العربي

قراءة نقدية في أبجدياته وإشكالياته

 

بحث مقدم إلى المؤتمر الدولي الأول لكلية اللغة العربية بالمنوفية عن (العقل وعلوم العربية)

 المنعقد بمقر الكلية في يومي الثلاثاء والأربعاء(3-4-يناير-2017م).

تأليف الأستاذ الدكتور صبري فوزي أبوحسين

أستاذ الأدب والنقد بكلية اللغة العربية بالزقازيق

ورئيس قسم الأدب والنقد السابق بكلية الدراسات العليا بجامعة الأزهر 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

بسم الله الرحمن الرحيم

المقدمة:

ليس الأدب عبثًا ولا تَرَفًا ولا مَسْلاة أو مَلْهاةً، بل إنه أساس التعرف على الحياة والأحياء, و ديوان علم العرب، أقبل الأصلاء على تعلمه، وتعليمه، والبحث فيه، والعملِ على إحيائه واستدعاء نماذجه الإيجابية في كل عصر ومصر، ودَعَوْا إلى أن يظل في عصرنا- كما كان من قبل- ضرورةً من ضرورات الحياة العقلية، وغذاءً للعقول والقلوب، وتهذيبًا للنفس وتزكيةً للجنان، وتمرسًا على إجادة الفنون المنظومة والمنثورة، وتعرفًا على أساليب العرب وطريقتهم في الإبداع، ورأوا فيه مُقوِّمًا لشخصيتنا، مُحقِّقًا لقوميتنا، عاصمًا لنا من الفناء في الأجنبي، مُعينًا لنا على أن نعرف أنفسنا ونُعرِّف بها؛ لأن الأمم تحيا بآدابها؛ ولذلك ترى المؤرخين يقدمون في تاريخهم تاريخَ الآداب على تاريخ الوقائع، بل أفردوا للآداب تاريخًا قائمًا بذاته يثبت ما يختص بالعلوم والمعارف في كل حضارة، مخبرًا عن نشأة الآداب بينها واتساع نطاقها وأسباب ترقيِّها ودورها الإيجابي في إصلاح الحياة والأحياء.

 وقد صار الأدب في الاستعمال الحديث والمعاصر ذا مفهوم خاص خالص، مقسمًا إلى شعر ونثر، ومشتملًا على فنونهما التراثية التقليدية، تلك التي أضاف إليها العرب في القرن العشرين فنونًا عديدة؛ وذلك بحكم انتشار الطباعة والصحافة والإذاعة، والتليفزيون ووسائل الاتصال والتواصل التكنولوجية الحديثة والمعاصرة؛ مما يتطلب تحديث النظرة إلى هذا الأدب، وتجديد مناهج درسه وبحثه وعرضه وتحليله وتقييمه؛ مراعاة للمستجدات والمستحدثات. والأدب العربي أقدم أدب حي، ترجع نشأته إلى نحو ستة عشر قرنًا، ومن ثَمَّ فلابد أن يعقبه ويتابعه علم يؤرخ له، عن طريق سياحة في مجاميعه، وسباحة مع أعلامه، ومفاتشة لما فيه من إنجازات وإخفاقات، وقد أداها الأسلاف خير أداء، حسب طرائقهم في البحث والتدوين وطبيعة الأنواع الأدبية عصرئذ... أما في عصرنا هذا فإن السياحة مع الأدب العربي والسباحة فيه تحتاج إلى تعرف مناهج بحثه ونقده، وعرض مسيرته وتبيُّن آثاره.

 والمنهج التاريخي في درس الأدب وبحثه ونقده، قد ظُلِم -ويظلم دائمًا- من قبل الباحثين والنقاد بطريقة استعلائية انتقاصية لا مبرر لها؛ على الرغم من أنه ما زال له حضور في قاعات الدرس والبحث والتعليم، كما أنه منهج انبنى على قواعد متينة، هي في حد ذاتها نتاج فلسفات وتيارات فكرية عرفتها الإنسانية عبر سيرتها الطويلة، والمنهج العلمي يقتضي أن يُدرَس الأدب العربي وَفْقَ مقاييسَ تناسب ظروفه البيئية والجغرافية والاجتماعية وغيرها من الحيَوَات التي نبت فيها، والتي تجعله مختلفًا تمام الاختلاف عن البيئات الأدبِية والحَيَوَات المجتمعية الأخرى في العصور التالية، وتجعله يكاد يكون أقربَ الصُّور لرؤية إنسان ذلك العصر وانفعاله وفعله بماجرياته. كما أن المنهج التاريخي أعيد إحياؤه في آننا؛ إذ استُدعي من قبل دعاة الحداثة فيما يسمى"التاريخانية الجديدةNew Historicism"، التي تهدف إلى فهم العمل أو الأثر الأدبي ضمن سياقه التاريخي مع التركيز على التاريخ الأدبي والثقافي والانفتاح أيضًا على تاريخ الأفكار. وبالمثل يطمح في أن يكون الأدب أكثر حيادية تجاه الأحداث التاريخية، وأن يكون أكثر تفهمًا وإدماجًا لهذه الثقافات المختلفة؛ ولذلك ارتبطت التاريخانية بمفهوم التاريخ والتطور التاريخي والثقافي وقراءة النصوص والخطابات التاريخية في ضوء مقاربة تاريخانية جديدة. وكانت تُعنَى باستكشاف الأنساق الثقافية المضمرة، وانتقاد المؤسسات السياسية المهيمنة، وتقويض المقولات المركزية السائدة. جاءت هذه المقاربة النقدية استنادًا إلى فرضية أن العمل الأدبي ينبغي أن يكون نتاج زمان ومكان وظروف، أكثر من كونه نتاج عمل منفرد في خلقه.  وجاءت التاريخانية بمثابة ردة فعل ضد النظرية النقدية الحديثة في تحليلها الشكلي للنصوص الأدبية، والتي كانت محل اهتمام جيل جديد من القراء من منظور آخر، وقد حاول التاريخيون الجدد فهم العمل الأدبي من خلال سياقه التاريخي وفهم التاريخ السياسي والثقافي من خلال الأدب، والذي يقود إلى علم جديد وهو تاريخ الأفكار، كما تنص على ذلك المدونات الخاصة بهم على مواقع الشبكة الدولية للمعلومات.

وهذا البحث يحاول الولوج إلى عالم الإبداع الأدبي العربي من خلال المنهج التاريخي، كما يحاول هذا البحث استنباط تحقيب للأدب العربي بكمِّه الإبداعي الكبير، ومسيرته الزمنية الطويلة، وامتداده المكاني المُنداح، من خلال تتبُّع أحقابه التاريخية، محددة البدايات والنهايات عند عدد من الباحثين المؤرخين، ومن ثم جاء تحت عنوان: " تحقيب الأدب العربي: قراءة نقدية في أبجدياته وإشكالياته". وقد انقسم البحث إلى مدخل ومبحثين، على النحو التالي:

المدخل: مفهوم مصطلحات البحث الأساسية:[ الأدب، النقد الأدبي، تاريخ الأدب، التحقيب].

المبحث الأول: مناهج تحقيب الأدب العربي. المبحث الثاني: قراءة في أحقاب الأدب العربي.

ولعل في ذلك تمهيدًا للقارئ المعاصر للولوج إلى ساحة الأدب العربي عن وعي عقلي مصطلحي، وتتبع زمني، وفقه مكاني بذلك الأدب العريق. ولا أدعي أنني رفضت الجهود السابقة في مجال التحقيب بل عرَّفت بالجهود المبذولة، وبيِّنتُ قيمتها.

 

 

 

المدخل: المفهوم العلمي لمصطلحات البحث الأساسية

لكل علم مصطلحه الذي يُوظَّف في سبيل توصيل محتواه إلى الدارس؛ فالمصطلح "وعاء لغوي ضخم، ومستودع جامع يحتوي في داخله المناهج والدلالات والحقائق والمكونات التي تعكس المخزون الفكري والثقافي لذاكرة الأمة(<!--).  وفي هذا البحث توجد اصطلاحات أساسية للولوج إليه هي: الأدب، وتاريخ الأدب، والتحقيب. وهاك بيانها:

أولاً:مصطلح "الأدب":

الأدب مصطلح له تطور دلالي واسع وتدرج فكري كبير عبر الأعصار والأمصار، وتتبُّعه يدل على مرونة اللغة العربية وسَعتها وقابليتِها للتطور، وقدرتِها على التفاعل مع المستجدات والأحداث، والتلون بألوان كل عصر ومصر. وقد أضحت كلمة (أدب) في العصر الحديث تعني عند كل الأمم التعبير بالكلمات عن كل ما في الحياة و ما في النفس البشرية من خير و شر على السواء، على أن يقود العمل الأدبي (الأصيل) في النهاية إلى الخير دائمًا، مهما كانت نوعية الصور التي يعرضها ذلك العمل الأدبي. و التعبير بالكلمات لابد أن يكون مبنيًّا على أسس جمالية فنية يحدد مواصفاتها ومعاييرها النقد الصحيح النزيه الذي تختلف موازينه من عصر إلى عصر .وقد أخذت الكلمة منذ أواسط القرن الماضي تدل على معنيين:

 -معنى عام:  يقابل معنى كلمة literature في الإنجليزية و literature في الفرنسية، والتي تطلق على كل شيء قيد الطبع أو كل ما يكتب باللغة من البحوث العلمية، والفنون. فيشمل كل ما أنتجته خواطر العلماء، وقرائح الأدباء، مهما كان أسلوبه ومهما يكن موضوعه.
وبهذا المفهوم يكون كل ما ينتجه العقل والشعور أدبًا... (<!--)".وهذا المفهوم كان سائدًا في بداية النهضة الأدبية الحديثة (<!--).

-معنى خاص: وهو الأدب الخالص الذي لا يقصد به التعبير عن معنًى من المعاني فقط، بل يراد به أيضًا أن يكون جميلًا بديعًا مشتملًا على تصور الأخيلة الرقيقة، والمعاني الدقيقة، مؤثرًا في عاطفة المتلقين: قراء وسامعين، مما يهذب النفس، ويرقق الحس، ويثقف اللسان (<!--).

ولهذا المصطلح بهذا المفهوم الخاص في الاصطلاح الحديث والمعاصر مجموعة أخرى من المفاهيم المختلفة تعبيرًا، المتشابهة تفكيرًا(<!--)، ومن العسير أن يتفق المؤرخون والأدباء والنقاد على وضع تعريف موحد للأدب، على الرغم من محاولاتهم العديدة (<!--)... وعناصر العمل الأدبي بصفة تامة تتمثل في أربعة أعمدة تمثل مربع عملية الإبداع، هي:"الواقع"، "المبدع"، و"النص"، و"المتلقي"، وقراءته تتطلب النظر في هذه الأعمدة نظرات متنوعة، على النحو الذي ظهر مع بداية عصر النهضة في أوربا، حيث ظهرت المناهج الخارجية(الناظرة إلى الواقع والمبدع أو أحدهما) والداخلية (المنغمسة في النص والنص فقط)، والمختلطة بين عمودين أو أكثر من هذه الأعمدة.

ويتداخل أو يترادف مصطلح الأدب في كتابات مُحَقِّبي الأدب مع مصطلحين آخرين هما:العمل الأدبي، والنص الأدبي.

أما "العمل الأدبي" فهو "بناء لغوي، يستغل كل إمكانات اللغة الموسيقية والتصويرية والإيحائية، في أن ينقل إلى المتلقي خبرة جديدة منفعلة بالحياة". إنه الشيء القائم الملموس، أما الأدب فهو ذلك الشيء المجرد، الصادر عن عاطفة صادقة مؤثرة (<!--) ...

أما النص الأدبي فهو مصطلح يحل محل العمل الأدبي، ويشمل كل ألوان الأدب المأثورة من المنظوم والمنثور الذي أنتجته العقول وفاضت به القرائح وجادت به الخواطر على مر العصور، ما دام ذلك النص الأدبي يخرج إلى الناس في صورة أدبية معبرة ملتزمة طرائق كل نوع من الأنواع الأدبية في التعبير(<!--). إنه "التعبير عن تجربة شعورية تعبيرًا موحيًا(<!--).

ثانيًا: تاريخ الأدب:

يقصد بهذا العلم: "تطبيق مناهج التاريخ لوصف الأدب في عصر أو في عصور متتالية عند شعب واحد أو عدة شعوب مختلفة، فعلى المؤرخ الأدبي إذن أن يحدد عصورًا أدبية، ذاكرًا اتجاهاتها العامة وأن يحاول الربط بين إنتاج الأديب وغيره من الأدباء، كما يربط أيضًا بين الحدث الأدبي -أينما كان- والأحداث التاريخية العامة سياسية كانت أو اجتماعية. وعليه أن يصف الأدب لا كظاهرة ثابتة، وإنما كظاهرة تتغير وتتطور مع مرور الزمن لرد فعل أو تأثر أو تفاعل بين عناصر أدبية مختلفة عبر العصور(<!--)".

إنه علم مستحدث، لم يُعرَف قبل عصر النهضة، يبحث أحوال الأدب العربي-شعرًا ونثرًا- في عصر ما قبل الإسلام، عن طريق وصف مسلسل مع الزمن، لما رُوِي أو دُوِّن وسُجِّل؛ تعبيرًا عن عاطفة، أو فكرة، أو تعليمًا لعلم، أو فن، أو تخليدًا لحادثة، أو واقعة، مبينًا نشأة هذا الأدب، وتطوره، وأهم أعلامه من الشعراء، والخطباء والحكماء والكتاب. إنه الباحث في الإنتاج اللغوي لعصر محدد زمانيًّا ومكانيًّا، معددًا المؤثرات المتنوعة فيه، محللاً نثرها ونظمها، مبينًا مدى رفعتها أو ضَعتِها، وعما كان لنابغيها من الأثر البيِّن فيها...

ثالثًا: مفهوم التحقيب:

التحقيب: في اللغة مصدر قياسي للفعل المضعف(حَقَّبَ) المولَّد حديثًا، والمشتق من الجذر اللغوي(ح/ق/ب) الذي يدور حول دلالة كلية هي الحبس، قال ابن فارس:"الحاء والقاف والباء أصلٌ واحد، وهو يدلّ على الحبْس(<!--)"، والتحقيب (وكذا فعله حقَّب) لفظ مولد حديثًا، مشتق من لفظة الحِقْبَةُ، أو الحُقب، و: "الحِقبة، بالكسر، من الدَّهْرِ: مُدَّةٌ لا وَقْتَ لها، والسَّنَةُ، ج: كَعِنَبٍ وحُبوبٍ. وبالضم: سُكونُ الرِّيحِ.  والحُقْبُ، بالضم وبِضمتينِ: ثمانونَ سَنَةً أو أكْثَرُ، والدَّهْرُ، والسَّنَةُ أو السِّنونَ، ج: أحْقابٌ وأحْقُبٌ. وسمي بذلك؛ لما يجتمع فيه من السّنين والشّهور(<!--).

ودلالة (الحبس) هذه مرادة في المفهوم الاصطلاحي للتحقيب؛ إذ يقصد به: تلك الدراسات التي عُنيت بقرن معين أو عهد أو حقبة، مع الإقرار باختلاف هذه المصطلحات الثلاث في الكم الزمني، فالحقبة أطول من العهد، وهذا الأخير أطول من القرن، فالحقبة مقولة جامعة لأجناس وأنواع أدبية عديدة لوجود خصائص مشتركة بينها؛ وهي، بهذا الجمع، تنظم الوقائع النصية والتاريخية في الذاكرة حتى لا تبقى تلك الوقائع مجرد ذرات متناثرة لا يجمع بينها جامع ولا ينظمها ناظم. وهذا التنظيم يتم ضمن كل حقبة على حدة ثم ينال الحقب جميعها لاستخلاص نواة جامعة للثقافة العربية: مشارقية أو مغاربية، أو روح موجِّه لها. وهي بهذا الفهم لا ترتبط بكم زمني محدد، وإنما تخضع لاشتراك خصائص معينة لعدة وقائع نصية وتاريخية(<!--).

وقد يتداخل مصطلح "الحقبة" مع مصطلح "العصر"، فتنحو –الحقبة- نحو الاصطباغ بصبغة سياسية. يقول سعيد علوش: "الحقبة عصر يتميز بسمات خاصة، وتغلب مذهب ما، وغالبا ما تنسب إلى وقائع سياسية، غير أدبية. وهي دائرة مغلقة على الشخصيات الأدبية والفضاءات الجغرافية وهي تتسم بفهم مدرسي سطحي للأدب. ولا يمكن تحديد حقبة بتاريخ معين، لنزوع الأحداث إلى الامتداد إلى السابق، أو اللاحق(<!--)"، فعدم انضباط الحقبة للزمن راجع بالأساس إلى حقيقة مفادها أن الأحداث يكون لها امتداد زمني سابق ولاحق لها، كما هو الحال بالنسبة للفكر بصفة عامة إذ يصعب تحجيمه في زمن معين.

والخلاصة أن مصطلح التحقيب مغاربي، وأنه متداخل مع مصطلح التأريخ، والعلاقة بينهما إما ترادف وتشابه، أو علاقة الكل بالجزء، فالتحقيب جزء من التأريخ، وأداة من أدواته، فائدة الدعوة إليه راجعة إلى كونه أكثر تحررًا من التأريخ، ويوسع في مجالات الدرس الأدبي. ويُعنَى علم تحقيب الأدب بالتأريخ للأدب، وبيان نشأته، وتطوره، والتعريف بأهم أعلامه من الشعراء، والكتاب. والأدب العربي يُمثِّل منذ بدايته الأولى إلى حداثته الآنية، نتاجًا كبيرًا ممتدًّا زمانيًّا، ومتشعب مكانيًّا، ومتنوعًا فنيًّا، يصعب عرضه عرضًا كليًّا شاملاً مفصلاً للدارس بمنهج واحد صارم، بل لابد من التنوع في العرض تحديدًا وتقسيمًا...

 وهكذا عرض هذا المدخل التمهيدي لاصطلاحات البحث الأساسية من المادة العلمية المبحوثة (الأدب/النص الأدبي/العمل الأدبي)، والعلم الذي يهتم بهذه المادة(تاريخ الأدب)، والمنهج العلمي المتبع في دراسة هذه المادة (المنهج التاريخي)، والأداة الأساسية التي يستخدمها المنهج، وهي(التحقيب)، وتكاد تكون العلاقة بين هذه الاصطلاحات بهذا التحليل متسلسلة منطقيًّا.

المبحث الأول: مناهج تحقيب الأدب العربي:

يقصد بالمنهج النقدي: الطريقة ذات الرؤية الفلسفية والإجراءات العملية والاصطلاحات العلمية الخاصة، المستعان بها في معايشة النص الأدبي ومحاورته بقصد وصفه وتحليله وتقديره، ببيان ما به من إنجازات أو إخفاقات، بدرجة علمية عالية في أسلوبها ومنطقها، حتى يكاد الحكم النقدي يتحول إلى نتيجة علمية كأنها صادرة في مختبر تجريبي!

وقد شهد العصر الحديث في البلاد العربية تطورات كثيرة، من تعدد الاتجاهات الفكرية، و تنوع العلوم الإنسانية و تطورها، فاستفاد النقد الأدبي كثيرًا من هذا التنوع المعرفي، و وظفه في عالم الأدب وصفًا وتحليلاً وحكمًا وتغذَّى بثمار متنوعة من آداب العالم وفنونه ونظرياته النقدية، وشهدت دوائر البحث الأكاديمي والمؤتمرات والندوات ودور النشر كثيرًا جدًّا من الأعمال التي تناولت الأدب: قديمه وحديثه، تأريخه ونقده، هذا على حين ظلت مناهج الدراسة الأدبية في أغلب المؤسسات التعليمية العربية على اختلاف مستوياتها في واد منعزل، كأنها في صمم عما يدور حولها من تلك التطورات وما فيها من إِضافات وتجديد في الأحكام والمعايير النقدية.

وقد أفرز العصر الحديث عددًا من المناهج النقدية؛ إذ اجتهد عدد كبير من الأدباء والمؤلفين والدارسين في تدوين تاريخ الأدب العربي في كتب تتفاوت في أحجامها ومناهجها، فجاء بعضها في كتاب، وبعضها الآخر في مجلدات، وأخذوا ينهجون مناهج متباينة في كتابتهم تاريخ الأدب العربي وفي تحقيبهم إياه، من أبرز هذه المناهج ما يلي:

المنهج الموضوعي:

ذلك الذي يراعي النوع أو الجنس الأدبي في الدرس، فيدرس النتاج الأدبي في الأنواع الأدبية، كالقصة، والمسرحية، والمقامة، والمقال، والشعر، أو يتناول الظواهر الأدبية، كالنقائض، أو الموشحات، أو الأوزان المستحدثة. وهو ما يسمى أحيانًا المنهج الفني، ويقسم الأدب العربي حسب الأغراض الفنية أو الفنون والأنواع الأجناسية كما فعل مصطفى صادق الرافعي في كتابه "تاريخ الأدب العربي"،وطه حسين في "الأدب الجاهلي" حينما تحدث عن المدرسة الأوسية في الشعر الجاهلي التي امتدت حتى العصر الإسلامي والأموي، وشوقي ضيف في كتابيه" الفن ومذاهبه في الشعر العربي" و" الفن ومذاهبه في النثر العربي"حيث قسم الأدب العربي إلى ثلاث مدارس فنية: مدرسة الصنعة ومدرسة التصنيع ومدرسة التصنع، و محمد مندور في كنابه" الأدب وفنونه"، وعز الدين إسماعيل في" فنون الأدب"، وعبد المنعم تليمة في" مقدمة في نظرية الأدب"، ورشيد يحياوي في"مقدمات في نظرية الأنواع الأدبية". فهؤلاء الدارسون عددوا الأجناس الأدبية وقسموها إلى فنون وأنواع و أغراض وأنماط تشكل نظرية الأدب(<!--)؛ فهو يدرس الجنس الأدبي مستقلا عما عداه من أجناس الأدب حتى ينتهي منه، ثم يتوجه إلى غيره فيفعل معه مثل ذلك؛ مما يسمح بالتعمق في كل جنس والقدرة على سبر أغواره وذكر كل شيء عنه بأدق تفصيلاته، وهو ما لايتاح في الدراسات المجمعة في اعتقاد الداعين إليه، غير أن هذا المنهج على ما فيه من المزايا يحرم الدراس من الإحاطة بالحالة الأدبية في عصر من الأعصار أو مكان من الأمكنة(<!--)!

المنهج البيئي:

ذلك الذي يراعي المكان في الدرس الأدبي فيدرس النتاج الأدبي في مكان معين، فنجد الأدب الأندلسي، والأدب في بلاد الشام، والأدب في العراق، والأدب في الجزيرة العربية، والأدب المغاربي، والأدب المصري... وهكذا دواليك. وهو ما يسمى أحيانًا المنهج الإقليمي، وقد ظهر عند الأستاذ أحمد ضيف في كتابه" مقدمة لدراسة بلاغة العرب"، والأستاذ أمين الخولي(1895-1966م) في كتابه" إلى الأدب المصري"، والأدب العربي في مصر من الفتح حتى العصر الأيوبي للأستاذ محمود مصطفى، وشوقي ضيف في موسوعته" عصر الدول والإمارات"، وكتابه"الأدب العربي المعاصر في مصر"، والعلامة عبد الله كنون(1908-1989م) في كتابيه: " النبوغ المغربي في الأدب العربي"، و"أحاديث عن الأدب المغربي الحديث"، والدكتور كمال السوافيري(1917-1992م) في كتابه: "الأدب العربي المعاصر في فلسطين"…(<!--).

 إنه منهج يدرس الأدب جغرافيًّا في كل إقليم على حدة، وهذا من موروثات الحركة الاستعمارية الاستدمارية الخبيثة القبيحة، التي سعت إلى فصم عرى أمة واحدة في لغتها ودينها إلى أمم ودول عديدة؛ فهو يتنكر لمسلمة يقينية كان لها أثرها في الأدب فلم يعرف أدب للشام إلا وأدباء العراق لهم فيه نصيب، ولم يعرف أدب لمصر إلا وأدباء الشام لهم فيه نصيب، فكيف يمكن فصم ذلك وفصله والتمييز بينه إلا افتعالا ومجافاة للموضوعية(<!--).

وليس نقد هذين المنهجين رفضًا لهما، وطردًا لهما من دنيا البحث الأدبي، بل إن لهما حضورًا وضرورة يقتضيها البحث العلمي، من أجل تسليط الضوء على جانب من جوانب الحياة الأدبية أو ظاهرة بعينها، والحق أن لكل من المنهجين مكانه المناسب في مكتبة الدرس الأدبي ومدونته، فالمنهج الموضوعي يخدم مجال النقد الأدبي أكثر من تاريخ الأدب، والمنهج البيئي يخدم تاريخ الأدب أكثر من النقد الأدبي!     

المنهج الزمني(التاريخي):

ذلك الذي يراعي الزمان في الدرس الأدبي، والذي يتفق مع روح التاريخ ومعناه، فما دامت الدراسة تاريخية فليكن محورها العنصر الزماني، ولكل باحث محق ومؤرخ منهجه في التحقيب والتأريخ، وطريقته في الدرس والتفكير.. وقد ظهر نتيجة للصلة الوثيقة بين النقد والعلوم الإنسانية التي تدرس نشاط الإنسان بوصفه إنسانًا، كالفلسفة بفروعها المختلفة، والتاريخ، وعلوم اللغة، والاجتماع، وهذه العلوم قسيمة للعلوم التجريبية التي تدرس الإنسان نفسه من جانب فسيولوجي، أو بيولوجي.

وكان هذا المنهج هو المختار لدى جمهرة الدارسين في ربوع الوطن العربي، وعند المستشرقين؛ فقد حاولوا تقسيم حياة هذا الأدب إلى عصور وحقب أطلقوا عليها تسميات أو مصطلحات حددوها بفترات زمنية أو فنية معينة، وقسموها عصورًا أدبية.. والتحديدات الزمنية والتسميات المختارة لها قد تعاورتها كتب التاريخ العام وتاريخ الأدب على الخصوص.. وليس هذا الأخير إلا من ذاك الأول(<!--)؛ رغبة في إتمام عملهم هذا وتسهيلاً لمهمتهم فيه وتيسيرًا لفهم الأدب وتفهمه ثم تقديمه مادة دسمة وأكلة فكرية/أدبية طازجة لبني قومهم وجلدتهم، وتعين الدارسين على البحث العلمي في تاريخ الأدب.. وتيسر لهم مهمة إصدار هذا الأدب إلى المتلقي في أبهى صورة، وأخف ظل؛ فالهدف من هذا التحقيب بحثي نقدي تعليمي.

وينبغي أن يعلم أنه ليس المستشرقون(<!--) أول من طبق المنهج التاريخي على الأدب العربي، بل كان هاجس التحقيب للحضارة العربية حاضرًا لدى بعض الدارسين القدماء، كابن سلام الجمحي (ت213هـ) في طبقاته، وابن قتيبة(ت276هـ) في الشعر والشعراء، والأصفهاني(ت356هـ) في أغانيه، والجرجاني (ت392هـ)في الوساطة (<!--)، والثعالبي(ت429هـ) في اليتيمة، وعبد الرحمن بن خلدون(تـ808هـ) الذي حقَّب الحضارة العربية بعد انتقالها من الفرس إلى: حضارة بني أمية وبني العباس، حضارة الأندلس، حضارة المغرب، وبوعيه التام بتسلسل هذه الحقب، والانتقال بينها، يقول:" تنتقل الحضارة من الدول السالفة إلى الدولة الخالفة، فانتقلت حضارة الفرس للعرب بني أمية وبني العباس وانتقلت حضارة بني أمية بالأندلس إلى ملوك المغرب من الموحدين وزناتة لهذا العهد"(<!--)".

 أما جهود المحدثين العرب فكثيرة جدًّا، منها جهدالأستاذ حسن توفيق العدل(1862-1904م)في كتابه"تاريخ آداب اللغة العربية" الذي ألفه في العقد الأخير من القرن التاسع عشر، وحفني ناصف في كتابه "تاريخ الأدب أو حياة اللغة العربية" في جزءين (1910م)، وأحمد الإسكندري(1875-1938م) في كتابه"تاريخ آداب اللغة العربية في العصر العباسي"  (1911م)، و جرجي زيدان(1861-1914م)، في كتابه "تاريخ آداب اللغة العربية" في أربعة أجزاء (1911م) والذي انتهى منه سنة 1914م، وأحمد الإسكندري ومصطفى العناني في كتابيهما "الوسـيط فـي الأدب الـعربي وتـاريـخه" (1919م)، وأحمد حسن الزيات(1885-1968م) في كتابه"تاريخ الأدب العربي"(1925م)، وأحمد أمين(1886-1954م) في كتبه المتسلسلة: "فجر الإسلام"، و"ضحى الإسلام"، و"ظهر الإسلام"، وحنا الفاخوري(1916-2011م) في كتابه المدرسي "تاريخ الأدب العربي"، وعمر فروخ(1906-1987م) في تأريخه للأدب العربي، والدكتور شوقي ضيف(1910-2005م) في موسوعته: "تاريخ الأدب العربي"...إلخ(<!--).

ويعد هذا المنهج أشيع هذه المناهج، ويسمى المنهج المدرسي؛ لأن هذا المنهج كان يدرس في المدارس الثانوية والجامعات في أوربا والعالم العربي، وما زال مهيمنًا على قاعات الدرس الجامعي. وهو يتعامل مع الظاهرة الأدبية من زاوية سياسية، فكلما تقدم العصر سياسيًّا ازدهر الأدب، وكلما ضعف العصر ضعف الأدب. ويتكئ هذا المنهج على كون الطابع التاريخي والسياسي والاجتماعي لازمًا لفهم الأدب وتفسيره, لذا لا يكون الأديب عبقريًّا لو تقدم عصره أو تأخر عنه مادامت عوامل البيئة قد وجهته, وأفرزته إلى هذه الوجهة.

ومن أعلامه في النقد الغربي الفرنسي الناقد فيلمان يعقد صلة وثيقة بين الأدب والتاريخ، واتخاذه التاريخ وسيلة لفهم الأدب وتفسيره وتعليل مزاياه في بيئته إذ كان الأدب صورة للحياة الاجتماعية يتأثر بها كما يؤثر فيها. كما أن فرديناند برونتير(1849-1906)، الناقد والمفكر الفرنسي, طبق النظرية في ميدان الاجتماع والأخلاق على الفنون الجميلة والأدب. فقد لاحظ أن التطور في حقل الظواهر الأدبية كثيرًا ما يؤدي إلى بروز نوع جديد تتضح فيه بقايا نوع سابق على نحو تطور الكائنات العضوية في نظرية(داروين)، فأخذ بمذهب تدرج الأنواع، مطبقًا إياه على فنون الأدب من شعر وكتابة وخطابة وغيرها، دارسًا: كيفية نشأتها وتطورها عبر العصور، وكيفية تأثر لاحقها بسابقها . .

 وهذا سانت بيف ( 1804-1869)، يركز على شخصية الأديب تركيزًا مطلقًا، إيمانًا منه بأنه "كما تكون الشجرة يكون ثمرها"، وأن النص "تعبير عن مزاج فردي"، لذلك كان ولوعًا بالتقصي لحياة الكاتب الشخصية والعائلية، ومعرفة أصدقائه وأعدائه، وحالاته المادية والعقلية والأخلاقية، وعاداته وأذواقه وآرائه الشخصية، وكل ما يصب فيما كان يسميه "وعاء الكاتب" الذي هو أساس مسبق لفهم ما يكتبه، حتى وإن "كان نقده قد سمي بالنقد التاريخي فمن الواجب أن نفهمه على أنه هو النقد التفسيري. ويرى بأن الأدب ليس إلا نتاجًا لشخصية الفرد, وهذا ما دعاه لأن يرسم في كل ما كتب صورة أخلاقية ونفسية وأدبية للأدباء الذين درسهم أكثر مما سعى لتقديم دراسات قيمية بحق أدبهم. فما دامت هذه الآثار صادر عنهم مباشرة فإنها تمثل نفوسهم وتتأثر بعوامل البيئة الفكرية والسياسية والاجتماعية التي خضعوا لها، ولقد دعا "سانت بيف" في ظل منهجية نقده إلى" دراسة الأدباء دراسة علمية تقوم على بحوث تفصيلية لعلاقاتهم بأوطانهم, وأممهم, وعصورهم, وآبائهم وأمهاتهم, وأسرهم, وتربيتهم, وخواصهم النفسية والعقلية, وعلاقاتهم بأصدقائهم, ومعارفهم, والتعرف على كل ما يتصل بهم من عادات وأفكار, ووظيفة النقد الأدبي عنده: هي النفاذ إلى ذات المؤلف لتشف روحه من وراء عباءته بحيث يفهمه قراؤه, وهو بذلك يضع الناقد نفسه موضع الكاتب.

 أما هيبولت تين(1828-1893) (<!--) فكان يلتقي مع "بيف" في الرؤية العامة, بيد أن "تين" أكثر انبهارًا بقوانين العلوم الطبيعية؛ فقد غلا فطبق على الأدب مذهب الجبريين. كان يرى أن الإنسان ينتج الأدب والأشعار والفلسفات بطريقة طبيعية تشبه تمامًا إفراز دودة القز خيوط الحرير. ويعتقد "تين" أن الأديب الذي يعيش داخل إطار منظومة القوانين الطبيعية لابد أن يخضع لها, وينتج ويبدع في سياقها المعرفي والتاريخي. وقد رأى أن ثمة ثلاثة عوامل تؤثر في إنتاج الأديب، وجعل الأدب ثمرة محتومة لها، ودرس النصوص الأدبية في ضوئها:
ــــ العرق أو الجنس (Race)؛ بمعنى الخصائص الفطرية الوراثية المشتركة بين أفراد الأمة الواحدة المنحدرة من جنس معين.
 - البيئة، أو المكان أو الوسط، (Milieu)؛ بمعنى الفضاء الجغرافي وانعكاساته الاجتماعية في النص الأدبي.
 - الزمان أو العصر(Temps)؛ أي مجموع الظروف السياسية والثقافية والدينية التي من شأنها أن تمارس تأثيرًا على النص. مع الاستعانة بالمنهج الإنساني السيكولوجي، حيث الربط بين البيئة والحالة السياسية والاجتماعية والأدب ربطًا علميًّا، والربط بين الحدود التاريخية وحدود الأطوار الأدبية، مع مراعاة النظرة الموضوعية والدقة المنهجية والعمق في طرق الخبر التاريخي بعد نقده وتمحيصه وتوثيقه من خلال التوقف عند مصادره واستبعاد ما حوله من شبهات. وهذا دور المحقق والعالم المحاور والباحث المناقش لأطروحات الآخرين (<!--).

فالنصوص الأدبية –ومنشئوها –خلاصة طبعية لخواص الشعب الذي أظلها في زمن ومكان بعينهما، ورجال الأدب هم الذين يمثلون روح عصرهم بما يقولون أو يكتبون. وعلى دارس الأدب أن يتفهم أولاً هذه العوامل الثلاثة ليستطيع فهم الأدب وإرجاع خواصه إلى مصادره الأولى... ولعل أبرز ما يمكن أن يوجه من نقد لهذا التصور, هو إنكاره أهمية الفرادة واللجوء إلى تعميم التصور القائم على أهمية الزمان والمكان والجنس.

أما المنظر الكبير "كوستاف لانسونG.Lanson"فقد قيد إجراءاته التأريخية الموضوعية بسلسلة من العمليات العلمية المتراوحة بين تحقيق النص وتوثيقه وتحليله وتقويمه وتصنيفه، كي تتكامل في نظره المعرفة الموضوعية التاريخية مع التأثر الشخصي والذوق الخاص، وتراعي خصوصيات المادة الأدبية موضوع الدرس0

ويعد الدكتور شوقي ضيف ممن راعى هذه المعايير وغيرها، رغبةً منه في تحقيق النظرة التكاملية للأدب في تأريخه الأدبي، يقول: "سنحاول أن نؤرخ في أجزاء هذا الكتاب للأدب العربي بمعناه الخاص مفيدين من هذه المناهج المختلفة في دراسة الأدب وأعلامه وآثاره، فنقف عند الجنس والوسط الزماني والمكاني الذي نشأ فيه الأديب، ولكن دون أن نبطل فكرة الشخصية الأدبية والمواهب الذاتية التي فسح لها سانت بيف في دراساته، وكذلك لن نبطل نظرية تطور النوع الأدبي. فما من شك في أن الأنواع الأدبية تتطور من عصر إلى عصر، وقد يتولد بعضها عن بعض فيظهر نوع أدبي جديد لا سابقة له في الظاهر. ولكن إذا تعمقنا في الدرس وجدناه قد نشأ من نوع آخر مغاير له (...) ولا بد أن نستضيء في ذلك بدراسات النفسيين والاجتماعيين وما تلقي من أضواء على الأدباء وآثارهم. وبجانب ذلك، لا بد أن نقف عند أساليب الأدباء وتشكيلاتهم اللفظية وما تستوفي من قيم جمالية مختلفة. ولا بد من المقارنة بين السابق واللاحق في التراث الأدبي العربي جميعه(<!--)."

ويعتمد المنهج التاريخي على وصف وتسجيل الوقائع وأنشطة الماضي ولكن لا يقف عند حد الوصف والتسجيل ولكن يتعداه إلى دراسة وتحليل للوثائق والأحداث المختلفة وإيجاد التفسيرات الملائمة والمنطقية لها على أسس علمية دقيقة بغرض الوصول إلى نتائج تمثل حقائق منطقية وتعميمات تساعد في فهم ذلك الماضي والاستناد على ذلك الفهم في بناء حقائق للحاضر وكذلك الوصول إلى القواعد للتنبؤ بالمستقبل. فالمنهج التاريخي له وظائف رئيسية تتمثل في التفسير والتنبؤ وهو أمر مهم للمنهج العلمي. إنه المنهج الأقدم، والأوسع ذيوعًا واستخدامًا بين الباحثين، والأكثر رسوخًا في الثقافة الإنسانية، والأسهل في التأليف، ويميل إليه صانعو القرارات في مؤسسات التربية والتعليم والثقافة، كما رأوا فيه اتجاهًا وسطيًّا، والناس إلى الاعتدال أقرب وفيه أرغب(<!--).

وهذا المنهج يؤدي إلى معرفة أسباب ارتقاء أدب اللغة وانحطاطه، وتبيُّن أساليب اللغة، وفنونها، وأفكار أهلها ومواضعاتهم، واختلاف أذواقهم في نثرهم ونظمهم، على اختلاف عصورهم، وبيان أحوال النابهين من أهل اللغة في كل عصر، وما كان لنثرهم وشعرهم، وتأليفهم من أثر محمود، أو حال ممقوتة؛ لنحتذي مثال المحسن، ونتنكب عن طريق المسيء... حتى يتهيأ للمتخرج في هذا العلم أن يميز بين صور الكلام في عصر وصوره في آخر، بل ربما صح أن يلحق القول بقائله عينِه.

ولكن جون ليميتري ثار في وجه دعاة المنهج التاريخي وعمل على تخليص الأدب من قيود العلم التي تتناسى ما فيه من جمال فني هو خير ما فيه، ثم يقف بالأدب عندما يبعثه في نفس القارئ من تأثير وانفعال عقب قراءته أيًّا كان هذا التأثير ودواعيه، ولا يُعنَى بعد ذلك بأحكام يصدرها أو قوانين يدونها، فالأدب فن والنقد مثله لا يتسنى لصاحبهما الخلاص من ذوقه وشخصيته. ولا يزال الأدب يعاني في تاريخه ونقده آثار هذا الصراع الدائم بين مذاهب العلماء ونزعات الفنيين...  

وقد درج مؤرخو الأدب العربي على تقسيم العصور الأدبية تقسيمًا يتسق مع تطور التاريخ السياسي؛ لما بين تاريخ الأدب وتاريخ السياسة من تأثير متبادل. ولكن هذا التقسيم لا يعني أن الظواهر الأدبية تتفق مع العصور التاريخية اتفاقًا تامًّا؛ وذلك أن الظواهر الأدبية تتداخل قليلاً أو كثيرًا في العصور التاريخية، ولا ترتبط بالأحداث السياسية ارتباطًا كاملاً؛ فالتغيّر في الأدب، والانتقال من حال إلى حال لا يحصل إلاّ بالتدريج البطيء حتى لا يُشعَر – في الأغلب – بالفروق بين الدرجة القادمة، والدرجة التالية لها" (<!--).

ويلاحظ على هذا المنهج أن الحدود الفاصلة من أحداث التاريخ المشهورة التي يراها رواد هذا المنهج علامات صالحة للفصل بين مرحلة وأخرى من مراحل تطور التاريخ الأدبي، ليست حدًّا فاصلا كالحد بين البر والماء يختلف جوهر جانبيه، وذلك لم يدر بخلد أحد، وإنما هي عملية متواصلة دائمة ترى الشاعر والكاتب يعيش الواحد منهما بين عصرين ولا يقطعه العصر نصفين ولا يشطره الحد شطرين؛ ولهذا فإننا لم نعدم خلافًا بين الدارسين في الحدود الفاصلة بين العصور المتداخلة أو خلافًا في طول هذه العصور وتسميتها (<!--)! ومن ثم تعرضت "النظرة المدرسية" لكثير من الانتقادات والمعارضات التي تتبنى الوجهة التاريخية، والهجمات والحملات الأدبية من طرف ثلة من النقاد والأدباء المحدثين.أمثال الدكتور طه حسين في كتابيه:" ذكرى أبي العلاء" و"في الأدب الجاهلي(<!--)"، والدكتور شكري فيصل الذي أفرد فصلا مهما في كتابه: "مناهج الدراسة الأدبية" لعرض ونقد هذه النظرية المدرسية كما يسميها؛ فالنظرية المدرسية لا تحقق المنهج السليم في الدراسة الأدبية، والأستاذ أنور الجندي، في موسوعته عن مقدمات العلوم والمناهج، وفي كتابه "المنهج الغربي:أخطاؤه وشبهاته"، أن تقسيم الأدب إلى عصور : أموي وعباسي وغيرهما هو تقسيم أجنبي ظالم، فضلا عن وصف عصري الممالك والدولة العثمانية باسم (عصر الانحطاط) بينما هذا العصر عصارة ثمرات تطور الأدب العربي والفكر الإسلامي مما يجعله خليقا بأن يسمى عصر الموسوعات.
وعندما نقد المحدثون النظرية المدرسية لم يكتفوا بالنقد فقط بل حاول بعضهم أن يطرح ال

التحميلات المرفقة

  • Currently 0/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
0 تصويتات / 1940 مشاهدة
نشرت فى 28 ديسمبر 2016 بواسطة sabryfatma

الأستاذ الدكتور صبري فوزي عبدالله أبوحسين

sabryfatma
موقع لنشر بحوثي ومقالاتي وخواطري، وتوجيه الباحثين في بحوثهم في حدود الطاقة والمتاح. والله الموفق والهادي إلى سواء السبيل »

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

327,316