<!--
<!--<!--
الأدب الإسلامي في رحاب الأزهر الشريف:
بقلم الأستاذ الدكتور صبري فوزي أبوحسين
رئيس قسم الأدب والنقد بكلية الدراسات العليا
في ظل هذه الهجمة الشرسة على الأزهر الشريف : جامعا وجامعة، شيوخا وأساتذة أكاديميين ينبغى لنا ـ نحن الأزهريين المعاصرين ـ أن نقدم للقارئين ما خطته رادتنا في كل فروع المعرفة، وخصوصًا في مجالات أسلمة العلوم، تلك التي لا خلاص للأمة إلا بها، و التي لا يقوم بها خير قيام، غير الأزهريين الأصلاء0
والأدب الإسلامي دعوة جديدة في مصطلحها، أصيلة في مقاييسها، وقد جاءت ضرورة ملحة في مواجهة الغارات والتحديات التي تأتينا من كل صوب وحدب، من أعداء يحاولون طمس هويتنا وتذويبنا وتمويتنا، حتى نصير قالبًا بلا قلب، وشكلاً بلا روح، وبشرًا بلا آمال أو غايات فيسهل ـ في نظرهم، سحقنا عسكريًّا وحضاريًّا وعقديًّا0 ومن ثم قام مخلصو الأمة بالدعوة إلى أسلمة الأدب، وقد آتت دعوتهم ثمارها، فصار لهذا الأدب مبدعون ومنظرون وكتاب ومريدون، ووجد طريقه إلى القلوب والعقول والمواهب، وصار في نظر الخصوم يمثل ـ على الأقل ـ ظاهرة أدبية من الصعب تجاهلها، وقد توالت الكتابة في بحث هذا الأدب، حتى صارت له مصادر أكاديمية كثيرة، متنوعة ما بين رائدة داعية، وباحثة محققة، ودارسة معرفة0
ويقصد بأسلمة الأدب انطلاق الأديب في العملية الإبداعية من رؤية تبرز مصداقيته في الالتزام بتوظيف الأدب لخدمة العقيدة والشريعة والقيم وتعاليم الإسلام ومقاصده، وتبين إيجابيته عند معالجة قضايا العصر والحياة، التي ينفعل بها الأديب انفعالاً مستمرًّا، فلا يصدر عنه إلا نتاج أدبي متفق مع أخلاق الإسلام وتصوراته ونظرته الشاملة للكون والحياة والإنسان، في إطار من الوضوح الذي يبلور حقيقة علاقة الإنسان بالدين، وعلاقته بسائر المخلوقات فرادى وجماعات، وبشكل لا يتصادم مع حقائق الإسلام، ولا يخالفها في أي جزئية من جزئياتها ودقائقها.
وأسلمة الأدب إبداع مدني بشري، حفز إليه وصبغه وحدد معاييره التشريع الإلهي –المتمثل في وحى الله ونبأ السماء العظيم- وتلك خصوصية لحضارتنا الإسلامية تفردت بها دون كل الحضارات؛ لأنها أطول الحضارات المعاصرة عمرًا، وأرسخها قدمًا على درب النهوض من العثرات، وأكثرها استعصاءً على فقدان الهوية والخصوصية؛ لارتباط ذلك فيها بالمطلق الديني و الإلهي الخالد.
وقد استقر مصطلح (الأدب الإسلامي) في التعبير عن هذه الأسلمة، وأسير تعريف له هو: "التعبير الفني الهادف عن الحياة والكون والإنسان في حدود التصور الإسلامي"([1]).
وإن وقفة تحليلية لمفردات هذا التعريف تضعنا على معالم الأدب الإسلامي المتغياة والمستهدفة. وهي:
1- أداة الإبداع : (التعبير الفني):
أي أن هذا الاتجاه لا يرضى التعبير المباشر التقريري الجاف، فهذا اللون من التعبير يدخل في النطاق العلمي أو النطاق الحياتي، ولا صلة له في المجال الأدبي، فالنص لابد أن يكون فنيًّا في المقام الأول، مشتملاً على أساليب إبداعية، وتقنيات أدبية عالية، تكفل له التميز والإثارة والجاذبية، ومن ثم التأثير.
2-غاية الإبداع: (الهادف):
أي أن هذا الاتجاه يدعو إلى الغاية النفعية الاجتماعية للإبداع، فلابد أن يكون الأديب ملتزمًا التزامًا طوعيًّا بقضية ما في إبداعه، فالأدب للحياة، والأدب للمجتمع، وليس الأدب للأدب! وليس الأدب متعة ذاتية، أو مَسْلاة كلامية، أو مَلْهاة فنية !
3- مجال الإبداع: (الحياة والكون والإنسان):
ثلاث مفردات جامعة متدرجة عن طريق أسلوب العطف، تبين مجالات الإبداع، وأظن أنها شاملة لكل المضامين الأدبية قديمًا وحديثًا:
فـمفردة (الحياة) يقصد بها كل ما فيها من مخلوقات وإشكاليات وأفكار ومعتقدات!
ومفردة (الكون) يقصد بها كل ما فيه من مخلوقات سماوية وأرضية، لاسيما غير العقلي والجامد منها، من كواكب ونجوم وذرات ومجرات ورياح وسحاب وغيم ومطر ورعد وبرق وزلازيل وبراكين وطير وطائرات ونبات وشجر وأعاصير وأنهار وبحار وحيوانات ...إلخ
ومفردة (الإنسان) يقصد بها ذلك الكائن الناطق العاقل بكل إشكاليات وقضاياه ورؤاه، وأحلامه وآلامه، ومظاهر عيشته المختلفة، واتجاهاته الفكرية المتنوعة.
4- ضابط الإبداع: (التصور الإسلامي):
وعبارة (وفق التصور الإسلامي) تحدد الضابط الأساس الذي ينظر إليه المبدع الإسلامي ويحتكم، ويقصد بمصطلح "التصور الإسلامي" ما جاء في القرآن الكريم، والسنة النبوية الشريفة، وفهم السلف الصالح من الصحابة والتابعين وكبار الفقهاء قديمًا وحديثًا ومعاصرًا للإبداع الأدبي وقضاياه. والتي تمثل معايير مؤسِّسة لما يسمى "النقد الأدبي الإسلامي".
الأدب الإسلامي في مؤسسات الأزهر:
تدرس نصوص الأدب العربي الموافقة للتصور الإسلامي في مقرر المطالعة في المعاهد الأزهرية الإعدادية، كما يدرس ذلك الأدب حسب عصوره السياسية في المرحلة الثانوية، دراسة تاريخية نقدية، مركزة على القيم التربوية والسلوكيات الأخلاقية بانتقاء النصوص الأدبية الدالة، والظواهر الأدبية المعبرة والهادفة، وإن خلت مناهج المعاهد من مقرر دراسي خاص بنظرية الأدب الإسلامي أو إشارة إليه في مفردة من مفردات مقررات الأدب العربي؛ نظرًا لأن الكتب المؤلفة للتدريس في هذه المقررات ألفت قبل بزوغ هذه النظرية وحضورها في ميدان الأدب المعاصر!
الأزهر البيئة الأولى لأسلمة الأدب:
ويكفي الأزهر أثرًا في هذا المجال أن أول الأنشطة الحركية لأسلمة الأدب العربي ظهرت في رحابه وعلى يد طلابه وشيوخه؛ فإنَّا نجد الدعوة إلى الأدب الإسلامي موجودة في بدايات الشيخ محمد متولي الشعراوي التعليمية والأدبية في رحاب المعهد الأزهري بمدينة الزقازيق، حيث قال في حواره مع الدكتور صابر عبدالدايم: " مقومات الشخصية الإسلامية في الفنون الأدبية تتجلى بوضوح حين نبرز فيها الفضائل ولا نغذي الرذائل... أريد أن يحتفظ الفن بجماله فلا تجعلوه يورثنا قبحًا. أما الدعوة إلى أدب إسلامي فقد فطنا ونحن في الزقازيق للأدب الإسلامي، منذ أكثر من ستين عامًا [أي في أربعينيات القرن الماضي] وقلنا: للشعراء مجالهم ومشاربهم المتعددة، ونحن نخاف أن يجرفنا ميلنا للأدب إلى المهاوي التي يصل إليها التعبير الأدبي المتحرر بدافع حب الأدب، فنحن نحب أن ندرك المعاني الإسلامية ونعطيها النص الذي يعبر عنها([2])".
يتحدث الشيخ الشعراوي هنا بلسان جمعية الأدباء بالزقازيق التي ألِّفت في معهد الزقازيق الديني برئاسته، منذ أن كان طالبًا به، وكان من أعضائها الأعلام: محمد عبدالمنعم خفاجي، وطاهر أبوفاشا، وكامل أبوالعينين، ومحمد فهمي عبداللطيف، وخالد محمد خالد، وأحمد هيكل، وحسن جاد.وتلك الجمعية وهدفها فخر للأزهريين جميعًا، وإن كان غير معروف في جل الكتابات المؤرخة للدعوة إلى الأدب الإسلامي!
الأسلمة الأدبية في الجامعة:
تعد جامعة الأزهر هيئة من هيئات الأزهر الشريف، تختص بالتعليم العالي بالأزهر([3])، و بها كلية اللغة العربية، وشعبة للُّغة العربية بكلية الدراسات الإسلامية والعربية بالقاهرة، وفروعهما الإقليمية: قبليًّا وبحريًّا؛ و تشهد رحابها العديدة نشاطًا تعليميًّا وبحثيًّا وإبداعيًّا في مجال أسلمة الأدب العربي؛ مسايرةً لتلك الدعوة النبيلة. وقد تُوِّج هذا النشاط بجعل مساق "الأدب الإسلامي" مقررًا في السنة الرابعة بهاته الكليات. وفي الدراسات العليا والحوليات العلمية لهذه الكليات عدد كبير من البحوث الأكاديمية الدائرة حول الأدب الإسلامي. ولكنها تحتاج إلى رصد وتحليل. ويعد الدكتور علي صبح أول من اهتم بتدريس مادة الأدب الإسلامي في الجامعة، إذ قام بتدريس مادة ذات صلة به (وهي الأدب الإسلامي الصوفي عام1976م، ثم طالب هو رئيس قسم الأدب بتدريس مادة الأدب الإسلامي بديلاً لـ(الأدب الصوفي) فصدر قرار بتدريسها عام 1996م على الفرقة الرابعة([4]).
ولعل هذا الاحتفاء بالأدب الإسلامي يجد صدى في رحاب كليات: أصول الدين والدعوة، والتربية، واللغات والترجمة، إذا الأهداف العلمية والتعليمية المرجوة من هاته الكليات تقتضي العناية بهذا الأدب اطلاعًا ومدارسة واستئناسًا، وبحثًا وإبداعًا، كل حسب توجهه الأكاديمي؛ ففي ذلك الخير كل الخير لهذه الكليات وللأدب الإسلامي معًا!
وإن نظرة إجمالية إلى الجهد الأزهري في هذا الميدان تعطينا تصورًا له في الأنماط الآتية:
-جهد إبداعي:
وتمثل في ذلك الكم الضخم من الإبداع الأدبي الملتزم المحافظ غالبًا، والمجدد أحيانًا، وهو دائر حول فنون: الشعر والمقال والخطابة!، ومن أبرز الأزهريين في هذا المجال الأساتذة الشيوخ: محمد الخضر حسين، أحمد حسن الباقوري، محمد متولي الشعراوي، ومحمد الغزالي، ومحمد عبدالمنعم خفاجي، وحسن جاد، و إبراهيم نجا، ومحمد رجب البيومي، أحمد عمر هاشم، ومحمد عبدالمنعم عبدالكريم"العربي"، ومحمد أحمد العزب، محمد فتحي نصار، وزهران جبر، ومحمد الغرباوي، وبدر معبدي، ومحمد بدوي جاهين، ومحمد المعصراني، وعبدالحميد محمد بدران، ومصطفي السواحلي، وعصمت رضوان، محمد الجوهري، وكاتب هذه الدراسة...إلخ
-جهد نقدي:
وتمثل في الكتب والبحوث والمقالات المعرِّفة بهذا الأدب والداعية إليه والمنظِّرة له، والمتابعة لكل جديد فيه، و الإسهام في عقد مؤتمرات خاصة به كما حدث في المؤتمر الذي عقد بكلية الآداب، جامعة عين شمس([5]). ومن أبرز الأزهريين في هذا المجال: عبده زايد، وإبراهيم عوضين، وعلي صبح، وصلاح الدين عبدالتواب، وشوقي حمادة، وفتحي أبوعيسى، وحسن الكبير، والسيد عويضة، والسيد الديب، وكاظم الظواهري، وصادق علي حبيب...إلخ
-جهد حَرَكِي:
ويقصد به مدى الإسهام في تلك الأنشطة التي تتغيا الإعلان عن الأدب الإسلامي من روابط وندوات ومؤتمرات ومجلات وحوارات ولقاءات. ومن أبرز الأزهريين في ذلك الدكتور عبده زايد الذي أسهم في التعريف بهذا الأدب ومتابعته في الإبداع المعاصر عن طريق رئاسته تحرير الصفحة الأدبية في مجلات ثقافية إسلامية عديدة، وإشرافه على مكتب الرابطة بالقاهرة مع الدكتور عبدالمنعم يونس. ويعد الأستاذ الدكتور علي صبح أول رئيس لمكتب رابطة الأدب الإسلامي العالمية في مصر([6]).
وللأزهريين الأكاديميين دور غير منكور في تأسيس مجلة الرباط، التي تعد نشرة أدبية غير دورية، تصدر عن رابطة الأدب الإسلامي بالقاهرة([7])...إلخ وهو جهد قليل، نتمنى أن يزيد كمًّا، ويتنوع ويتطور ويتعمق كيفًا...
ومن الأزهريين ذوي الباع العميق المستمر في خدمة الأدب الإسلامي إبداعيًّا وتنظيريًّا وحركيًّا أستاذي الدكتور صابر عبدالدايم من الكتَّاب الأزهريين الأكاديميين المُمَيَّزين، الداعين إلى الفكرة الإسلامية الأدبية. أولئك المتلهفون إلى تجسيدها في حياة الناس واقعًا عمليًّا، ومنهجًا حاكمًا للناس في كل مجالات الحياة. الباحثون عن منافذ النجاة للإنسان عبر رؤية إسلامية متميزة تصاغ معالمها في قالب فني مؤثر. و شيوع نتاجه التأليفي والإبداعي يدفع قارئه إلى معاودة النظر فيه عرضًا وتقييمًا وتقويمًا. . .
إن أستاذنا يتغيا التنقيب عن القيم الإسلامية في أدبنا العربي قديمًا وحديثًا، ومحاولة البحث عن نبض الإسلام في النص الأدبي: شعرًا كان أم نثرًا. وهذه الرغبة تعد علامة مضيئة على طريق طويل، يصلنا بمنابع مقومات الشخصية الإسلامية، ويرد إلينا ما ضاع من هذه المقومات التي قامت عليها حضارة الإسلام الراقية المؤثرة في كل الحضارات … و يأتي هذا كتابه عن الأدب الإسلامي إشارة خضراء على هذا الطريق العسير([8]).
وهذا الهدف في نظري ـ وقد عاشرتُ المؤلفَ في شخصِه ومؤلفاتِه ـ يكاد يكون المشروع الكبير الذي يسخر كل إمكانياته من أجل الإسهام به في سبيل التعريف بالدور الحضاري العظيم للإسلام قديمًا وحديثًا.
وأحسب- و لا أزكي على الله أحدًا- أن شخصيته تتسم بالإخلاص والدقة والإتقان، والعشق الفريد لإيصال الإبداع الأدبي والنقدي إلى قطاع عريض من جمهور المتذوقين، عن طريق المؤلفات الأكاديمية، والمقالات الصحفية، والمؤتمرات الثقافية، والمحاورات الإذاعية والتلفازية حول النصوص الأدبية البارزة والقضايا النقدية المثارة.
كما أن مؤلفاته تتغيا تحقيق لبنات من هذا المشروع الحضاري، وله في هذا المجال مؤلفات: "الأدب الصوفي: اتجاهاته وخصائصه"، "من القيم الإسلامية في الأدب العربي"، "محمود حسن إسماعيل بين الأصالة والمعاصرة"، "الحديث النبوي: رؤية فنية جمالية"، "تاج المدائح النبوية: قصيدة البردة لكعب بن زهير، رؤية نقدية معاصرة"، " هاشم الرفاعي: الكوكب الآفل"، "ديوان الشعراوي: جمع وتحقيق ودراسة"، "شعراء وتجارب، نحو منهج تطبيقي في النقد" …([9]). يدلنا على ذلك نص الإهداء المثبت في صدر كتابه عن الأدب الإسلامي. يشعرنا قائلاً:
"إلى أصحاب الرؤى الإبداعية الدائرة في فلك التصور الإسلامي، وإلى الوطن الإسلامي الكبير، وهو على أبواب مدائن الفجر"([10]).
أرأيت ـ قارئي ـ مدى الحب الكبير الممتد، والإخلاص الطاهر، والتفاؤل الثابت، والإقدام الطموح، تجاه العقيدة والإنسان والمكان. إنه كلم طيب لا يصدر إلا من نفس مؤمنة طيبة حية فاعلة. ناهيك عن التعبير البديع المصور الموحي في قوله:"فلك التصور، الوطن الإسلامي، مدائن الفجر". . .
و يعد فكر الدكتور "صابر" عن "الأدب الإسلامي بين النظرية والتطبيق" سبَّاقًا في التأصيل لمفهوم الأدب الإسلامي وبيان خصائصه؛ إذ له آراء نظرية وأحكام تطبيقية، جديرة بالمناقشة والتحليل. وهى آراء وأحكام تثار في هذه الآونة من قبل العلمانيين وأذيالهم في مواجهتهم لمحاولات المخلصين للإسلام والراغبين في جعله مطبقًا في جميع مناحي الحياة الواقعية والفكرية؛ لذا فإن في التعريف بهذا الفكر وتحليل قضاياه إرشادًا للباحثين، وتوجيهًا لهم إلى تنظير نافع في قضية شائكة لها أنصارها وأعداؤها، هي قضية أسلمة الأدب.
ومن منهجيته الفكرية تقريره أنه لم يتعصب لشكل أدبي محدد، فرؤية الشاعر المسلم تنطلق محلقة لا تحدها أسوار الشكل، وإنما يكون الالتزام في إطار المضمون الهادف، والنبض الإسلامي المؤثر في واقع الحياة، وفى مستقبل الإنسان. كما أنه لم يحصر نفسه في إطار زمني محدد؛ لأن دراساته ليست تاريخية أدبية، ولكنها دراسات تعالج قضية ما زالت في حاجة إلى التحليل والمناقشة والتنقيب، ولبُّ هذه القضية هو النص الأدبي الناطق بأبعاد الرؤية الإسلامية. وفى ذلك ردٌّ غير مباشر من المؤلف على من يأخذ عليه عدم تطبيق تنظيره على نصوص تراثية.
ولا عجب في أن يكون الدكتور صابر بهذا الأثر في ميدان أسلمة الأدب؛ فهو:* واحد من أبناء الأزهر الشريف الذين أفادوا من الأزهر أصالة، وأضافوا إليه حيويةً وتجديدًا، إنه مبدع باحث مفكر، جمع بين الثقافة الواسعة، والرؤية الثاقبة في ميدان اللغة العربية وآدابها. مبدع يتشرف بانتمائه إلى رابطة الأدب الإسلامي العالمية، ودراسته برحاب الأزهر المعمور. وتأكيده على ذلك مرده في نظري إلى إحساسه بالمسئولية والواجب الملقى على عاتقه بوصفه شاعرًا موهوبًا يسخر فنه في الحق والخير والجمال، وهذه أهداف نبيلة للأدب الإسلامي وغيره. . .
وكان انطلاقه الإبداعي المتطور والمتنور سببا في تهور بعض الرويبضات المتأسلمة على شخصه بإصدار فتوى خاطئة مغرضة كفرته واستتابته! لإيراده نصوصًا قرآنية في بعض أشعاره، رغم أنها جاءت في سياقات مناسبة ومقبولة، لا خارجة ولا شاذة، مما أثار معركة اقتباس الشعراء لآيات القرآن الكريم على صفحات الجرائد([11])، وكانت فيها رؤى متناقضة، كان أصوبها منهجيًّا رأى الدكتور صابر عبدالدايم، فقد قسم تأثر الشعراء بالقرآن إلى تأثر شمولي، وتأثر شكلي، وتأثر سلبي([12])!
* و له حضور فعَّال في المشهد الإعلامي والثقافي المعاصر، فهو عضو مجلس إدارة اتحاد كتاب مصر، ومقرر لجنة فروع الاتحاد بالمحافظات، وعضو لجنة الشعر بهذا الاتحاد، وعضو مجلس تحرير مجلة الثقافة الجديدة بمصر، وشارك في عدد من مؤتمرات أدباء مصر في الأقاليم، وفى مهرجان الهيئة العامة للكتاب، وفى مؤتمرات الجنادرية بالسعودية، ومؤتمرات رابطة الأدب الإسلامي العالمية، إضافة إلى إسهامه العلمي والأدبي في العديد من البرامج الإذاعية والتليفزيونية، ونشره نتاجه الإبداعي والنقدي في كثير من الجرائد والمجلات المصرية والعربية، واختياره للتحكيم في كثير من الرسائل الجامعية، والمسابقات الأدبية في فنون الأدب المتنوعة، على النحو الذي يعرفه كل معاصري المؤلف ودارسي إبداعه وناقديه. أدام الله للأزهر هذه الإيجابية البناءة في هذا العصر المُبتَلى بكثير من التيارات المنحرفة غير الجادة، وأعانه على أن يكون درعًا حصينًا لتيار الأصالة في مواجهة التمرد والتخريب.
* و له آثار علمية متنوعة المضمون والاتجاهات يجمعها خيط فكري واحد هو البحث عن نبض الإسلام في الآثار الأدبية شعرًا كان أم نثرًا، قديمة أم حديثة أم معاصرة. ويبرز معالم التأصيل في الأدب الإسلامي، ويوضح مناهج التطبيق على النصوص الأدبية المتنوعة.
الموقف الإعلامي من الجهد الأزهري:
إن الأزهر منبع العلم الأصيل الوسطى النافع، يفد إليه العلماء والطلاب من كل صوب وحدب ليشهدوا في رحابه منافع لهم، وليرتووا من مناهله الطاهرة، يجتمعون على خير، وينفضون في خير، لا تشوبهم شائبة، ولا يعتريهم جمود أو تعصب أو تطرف …
تلك مسلمة يعرفها القاصي والداني عن طلاب الأزهر وشيوخه، لكنهم ـ للأسف ـ ابتُلوا بالتجاهل ـ الذي يكاد يكون متعمدًا في أحيان كثيرة، فأساتذة الأزهر الشريف وشعراؤه ونقاده من الباحثين والدارسين والمبدعين، مغمورون مطمورون عن عمد –غالبًا – لا يهتم بهم حمَلَة الأقلام الصحفية، ولا ألسنة الإعلام المرئية، والمسموعة، والمقروءة طباعيًّا أو إلكترونيًّا، ولا تُعنَى أية قناة ثقافية بنتاجهم في دنيا الأدب والنقد، مع ما فيه من غناء وثراء، وما يحويه من قيم سامية، وأفكار عميقة، ورؤى دقيقة، يدركها كل باحث منصف، حيث تضاهى ما عند غير الأزهريين، إن لم تتفوق عليها كمًّا وكيفًا، وشكلاً ومضمونًا في أحيان كثيرة!!
إن من الغريب العجيب "أن يظل هذا النتاج الأدبي المثالي الثرُّ غُفلًا عن الباحثين والدارسين، لا لشيء إلا لأنه انبثق من الأزهر، وتفجر في رحابه، وانبجس في أروقته … في الوقت الذي ييمم فيه هؤلاء وجوههم شطر نتاج غيرهم دراسة واقتباسًا واستئناسًا. وهو في معظمه لا يرقى إلى نتاجهم الأدبي والفكري"([13]).
إن نتاج غير الأزهريين يحلق ـ بعضه، إن لم أقل معظمه ـ في آفاق هلامية غامضة معقدة، فيها شطط وشذوذ، وخروج على سلطان الإسلام الحق، وبعد عن ضوابط العقل العربي المسلم المعتدل، وتعدٍّ على لغة القرآن الفصحى البيانية الناصعة، ومن ثم فلا كبير فائدة يراها أي باحث عاقل منصف في الاهتمام بمثل هذه الآداب والدراسات المستوردة في شكلها ومضمونها وغايتها!! أما النتاج الأدبي والفكري للأزهريين ففي درسه وتعلمه ونشره والاهتمام به خير عميم لأبناء أمتنا: مبدعين ودارسين ومثقفين.
ولعل في الاستئناس بنظرة أو نظرات في تراث هؤلاء الرواد ما يقرر أن الأزهر كان حصنًا حصينًا للُّغة العربية وآدابها إبداعًا ودرسًا، وما زال كذلك بحمد الله وتوفيقه، وسيظل على الدرب رغم ترهات القانطين والمتربصين...
إن أزهرنا الشريف هو المرشح بقوة لإنجاز مهمة التفاعل مع مستجدات الآخر، مع الاعتماد على ثوابتنا وخصوصياتنا، عن طريق فهم شيوخه وطلابه لوسطية الإسلام فهمًا فكريًّا صحيحًا، وتطبيقًا واقعيًّا سليمًا.
وقد أدى الأزهر ـ جامعًا وجامعة ـ هذه المهمة منذ نشأته [9من رمضان سنة 361هـ] إلى آننا هذا، بنجاح وفلاح رغم القيود والمعقدات … إن الأزهر :
ركـــــــــن ركين يرتقى ويرفرف |
\ |
حامى ثوابـت إرثـنا ومعـرف |
قد واجــــــه الإلحاد صلبا صامدا |
\ |
يطوى ولا يطويه فرد أجوف |
يعـلو بديـن الله أسمـى رتبـــــــة |
\ |
في كل خطـب ثابـت متـوقف |
في كل بيت من هداه رسالـــــــة |
\ |
كل البوادي والحواضر تعرف |
من كل بلدان الســــــلام جميعها |
\ |
يـأوي إلـيـه كـل داع مـرهـف |
تاريخه نـزهو به هو فخرنــــــــا |
\ |
مـن يـلتـجئ لشيوخه لا يرجف |
تـلـك الشـيــوخ منـابـر ومـــــآذن |
\ |
أقلامهـم ذات الضيا لا تقصف |
حفظوا الثوابت كلها وسط الدجى |
\ |
بمروءة وفصاحة لا تضعف([14]) |
لا أقول هذا عن تعصب أو انحياز أحادي التوجه، بل أقوله إحقاقًا لحق يحاول المغرضون هضمه، ودفاعًا شرعيًّا عن النفس، باعتباري ابنًا من أبناء هؤلاء الشيوخ الرواد الشوامخ، يتغيا مواجهة تلك الحملة الموجهة ضد مؤسسة الأزهر الشريف.
إن لهؤلاء الشيوخ الأعلام جهودًا عظيمة في ميدان الدراسات الأدبية والنقدية عامة، وفي رحاب الأدب الإسلامي خاصة، تعريفًا، وتأريخًا وتأصيلاً، و لهم جهد غير منكور في الدعوة إلى هذا الأدب وحث المبدعين على الانضمام تحت لوائه، من خلال مشاركتهم الدؤوب في أنشطة رابطة الأدب الإسلامي العالمية، داخل مصر وخارجها.
وقد أسهموا إبداعيًّا وتنظيريًّا في دفع عجلة الأدب الإسلامي إلى الأمام. وجهودهم مسجلة في مطبوعات متنوعة: بين الديوان والكتاب والبحث والمقال. ولكنها جهود فردية متفرقة، تحتاج إلى توثيق ببليوجرافي إحصائي، على غرار دليل مكتبة الأدب الإسلامي، وقراءات بحثية نقدية في رسائل جامعية أو بحوث علمية متخصصة!
حقَّا إنها جهود طيبة، لكن يعوزها الإعلام بها، والإعلان عنها، والتسويق لها، والعمل على نشرها طباعيًا أو إلكترونيًّا بكل الوسائل الثقافية المتاحة، لاسيما الحكومية منها، بدل كونها حبيسة الأدراج الخاصة، أوالمطبعات التجارية المحدودة، أو المجلات والحوليات الجامعية التي ربما لا يطلع عليها أهلوها!
رجاءات مستقبلية:
إن إسلامية الأدب مشروع ثقافي نبيل، لا توجد مؤسسة تناسبه وتستحق أن تختص بفعالياته وعشاقه وتراثه وواقعه مثل مؤسسة الأزهر الشريف: جامعًا وجامعة؛ لذا وأقترح على القائمين عليه لتحقيق هذه الغاية مايلي:
- أن يحظى هذا المشروع برعاية سامية مباركة من فضيلة شيخ الأزهر شخصيًّا؛ ففي ذلك دعم أدبي ومعنوي كبير لذلك المشروع العظيم.
- توظيف الجهد الثقافي الأزهري الدوري من مؤتمرات دولية وندوات إقليمية ومجلات وجرائد ومسابقات ومنافسات وغير ذلك من الاحتفاليات نحو خدمة هذا المشروع البناء.
- العمل على رعاية الإبداع الأدبي وتوجيهه معنويُّا وماديًّا، وجذب المواهب الأدبية الشابة، بفتح المجال أمامها لتجويد الإبداع وتنويعه وتعميقه.
- إنشاء هيئة أزهرية خاصة بالنتاج الأدبي الإسلامي على غرار الهيئات الثقافية الرسمية والخاصة، والتمكين لأعلام الأدب الإسلامي في فعاليات هذه الهيئة.
- التنسيق بين الأزهر والمؤسسات الراعية للأدب الإسلامي مثل رابطة الأدب