<!--

<!--<!--

الغنادرامية في ديوان طين الأبديةللشاعر:أحمد محمد رمضان

إعداد/

الأستاذ الدكتور صبري فوزي أبوحسين

أستاذ الأدب والنقد بكلية اللغة العربية بالزقازيق

رئيس قسم الأدب والنقد بكلية الدراسات العليا بجامعة الأزهر

 

تتغيا هذه الورقة النقدية- ذات القراءة الأولى في ديوان"طين الأبدية" للشاعر العراقي أحمد محمد رمضان- استبطان التجارب واستنطاقها من خلال مفهوم الغنادرامية وأبرز تقنياتها؛ لإضافة أنماذج جديدة من النص الشعري فيما بعد الحداثة، على نسق هذا الجنس الأدبي المخلط الهجين الجديد.

وقد جاءت الورقة في عنوانات ثلاثة متدرجة بين التأريخ للمبدع، والتنظير للمصطلح، والتحليل للنصوص، على النحو التالي:

أولا: تأريخ: صاحب الطين الأبدي مبدعًا

إنه أحمد محمد رمضان، من إفرازات العراق وطينته في العقد الأخير من القرن العشرين، في نينوى /15/1/ 1992م([1]). شاب شاعرتثقف ثقافة طبية، وتزوج، وأنجب، وكافح بل قاتل في الحياة، لكنه عانى من ويلات بيئته الدامية في صراعها مع الآخر الوافد والمستوطن، والقريب المتربص! يقول من مقطوعته(حياتي):" [حَملتْ حَياتِي/عَلى حُقولِ شُعاعَاتهَا./قَتلٌ/عَلى نَهرِ قَلبكِ مَررتُ بَينَ يَزيدِيّتَينِ... ([2])]

 ويفصل ذلك في قصيدته (مذكرة عيد الميلاد) فيقول:

[عَلى بُقعةٍ صَفرَاءَ لِورَقةٍ قَديمةٍ.../نَثرنِي أَبِي/و اغْتسلَ عَن الذَّنبِ،/أُمِّي لَم تَعدِ الأَيّامُ بَيننَا.../لِنجَمعَ ذُبابَ الغُرفةِ،/أُكاتِبكِ مُستَلقيَا.../عَلى يَمينِي تَشخرُ الصُّحفُ،/فَدفءُ الَّليلِ يَمرُّ.../و قَد انْهارتْ قَصبَتنَا الّتِي عَزفتْ نَهارَا،/سَأودعُ رَدِّي عَلى قَبرِ صَديقكِ سَاعِي البَريدِ.../ مُتفًيّئَا ظِلالَ نَيزكِ.../و كَما المُرورِ بِاحْتضَارةِ رَجلٍ، فلَيلُ الشَّمسِ طَالَ.../كَيفَ أَغسلُ الدُّخانَ عَن وَجههِ؟/نَداوةُ الضُّحى و قَد كَسّرُوهَا عَلى سَواحلِ رَغبَاتِهمْ،/ذَاكَ السَّرابُ و هَذا المَطرُ.../فَأينَ يَا دَفترَ الغَياهبِ([3])]

تلك هي ذات الشاعر المنثورة في بيئة صفراء، وسط ضجيج إعلامي زائف، وضحايا، وسراب وغياهب، فيها قتل، ويزاييد! كما عانى من ابتلاءات مرضية عدة... ولم يثنه ذلك عن إثبات ذاته، والحضور بفوقية في فن الشعر المعاصر، بثلاث مجموعات شعرية، هي: (أغنية الشتاء سنة 2014م، على النسق الفني لقصيدة النثر) ، و(طين الأبدية سنة 2015م على نسق نص ما بعد الحداثة)، و(صوغة نفس : من النص الشعري الشعبي الحديث سنة 2012م).

وظاهر من هذه الأعمال الشعرية مدى حرص المبدع على التنويع في الإبداع، والعصرنة في التشكيل.  كما يظهر لقارئ سيرة أحمد رمضان الذاتية مدى فعل إبداعه في الذائقة النقدية الأكاديمية الآنية على مستوى الوطن العربي كله تقريبًا؛ حيث كثرة المتابعات لإبداعه، والقراءات في شعره؛ ولعل مرد ذلك إلى كونه مثقفًا ثقافة ذاتية عالمية ظهرت بجلاء في روائعه المختلفة التي نشرها أو نشرت له في كثير من المجلات و الجرائد الإلكترونية و الورقية داخل بلاده وخارجها.

ثانيًا: تنظير:الغنادرامية: المفهوم والتقنيات

 

يشتمل مصطلح "الأدب" على صور تعبيرية عديدة ومتنوعة، كالقصيدة والملحمة، والقصة والمسرحية والمقالة وغيرها. ويطلق عليها ما يسمى بالأنواع الأدبية أو الفنون الأدبية أو الأجناس الأدبية([4])؛ ليعبر بها عن صورة خاصة من صور التعبير، لها بواعثها وأصولها وخصائصها ومجالها ([5]). وكان الشعر الدرامي ذا مكانة متميزة بين الأجناس الشعرية الأخرى. حتى قيل: إنه أكمل أنواع الشعر، أو إنه شعر الشعر، يجمع بين العالمين الظاهر والباطن، فيمثل التاريخ والطبيعة والنفس، ولا يزدهر إلا في أرقى الشعوب حضارة، وهو أقوى الوسائل لتعزيز مكانة العقل الإنساني وتنوير الأمة بأسرها([6])"... وقد ظلت الكلاسيكية ثابتة على هذه النظرة، وعلى مبدأ (الفصل بين الأجناس، ونقاء النوع، وصرامة النظام)؛ مما حرض الاتجاهات التالية على هز رسوخ هذه الثبوتية فكرست الرومانسية الجهد الفردي في مواجهة الإجماع القاعدي، وأغرقت الرمزية في عملية تراسل الحواس وتبادل المعطيات في مواجهة الضبط الدلالي وتفعيل العقل في حركة الإبداع الجمالي. ومن ثم زلزلت الكلاسيكية زلزالها وهي تشاهد زحف أنواع مغامرة حداثية كقصيدة النثر التي تعدها جنسًا هجينًا لا تقره الأعراف المستقرة. لقد نظرت إلى تدفق اليومي والعادي والدارج والعرضي في الشعر بريبة شديدة؛ لأن (السامي والشاعري والموروث والمحدد سلفًا) كانت هي القيم الفنية السائدة، أو التي - من وجهة نظرها- يجب أن تسود. وقد جر هذا الموقف إلى تكريس جاهزية القوالب وتأطير الأنواع بحذاقة نقدية متطرفة، واعتماد لغة معينة تخضع لرقابة عقلية صارمة؛ مما جعل للأشكال والمضامين قداسة حجَّرتها في مقولات تأسيسية متعالية، تبتعد عن النص تارة، وتتأبَّى على الإجراءات التطبيقية تارات. ومن ثم صارت الأحناس الأدبية أشبه شيء بإعادة إنتاج ما أنتج لملايين المرات([7])!

فجاءت ثورات الرومانسية والرمزية وقصيدة النثر وسواها، لتطلق أجنحة الإبداع في فضاءات الحرية وجدل الفعل الفني، ولتصبح قادرة على تفجير الأشكال والأنواع، مع التسليم بأن النوع في النهاية قيمة أدبية مهمة، على الأقل؛ لأنه يشكل معيارية إبداعية ينبغي أن تظل صامدة في وجه الفوضى واللاعضويةواللاشكل... على أن الفكر النقدي كان يعي دائمًا قيمة الأعمال الكلاسيكية الخالدة. التي شكلت وتشكل حتى الآن نوعًا من شوامخ الإبداع التي تظل ترسل أضواءها الإبداعية الأصيلة في كل اتجاه.

والغنادرامية: مصطلح من اختراع الدكتور محمد أحمد العزب([8])؛ إذ نظَّر له في سنة 2000م، وأبدع على نسقه منذ2/1/1995م في قصيدته(تنويع) وما بعدها. يقول في بيان مفهومه: 

"العمل الغنادرامي نوع من العدوان الجميل على قداسة النوع[الجنس] وبقائه، بهدف تخليق نوع ثالث من دمج ما هو غنائي بما هو درامي، فيحقق بذلك للعمل الغنائي الاحتفاظ بشخصيته ويتيح للعمل الدرامي الالتزام بجوهره، ويحقق من خلال زواجهما هذا الولد النجيب، ومن ثم يضمن للفصائل الشعرية بقاءها النوعي[الجنسي] نسبيًّا على الأقل، فيبقى الغناء وتبقى الدراما، ولكن على نحو مخلَّط. يمكن من خلاله أن نصل إلى نوع ثالث هو ما نسميه بالعمل الغنادرامي، وهو نحت يشير إلى صميمية الغناء، وصميمية الدراما في مثل هذا المزيج الجديد، على أن مصطلح (الشعري) يظل إطارًا يندرج تحته الغنائي والملحمي والقصصي([9])".

ويشير إلى تكنيك هذا الجنس الأدبي الهجين المخلط وقيمته:"  الجديد في هذه المحاولة الرائدة فيما أظن أن القصيدة هنا تعمل من خلال التدامج العضوي بين الغناء والدراما الشعريين، وتحافظ على شعرية النص بكامله، حتى في الفقرات الرابطة بين موقف وموقف، ومشهد مشهد، تلك الفقرات التي كانت تصاغ نثرًا قبل هذه المحاولة سواء في الغناء أو الدراما فتميت اللحظة الشعرية في العمل ولو إلى حين، وكانت هذه المقدمات النثرية أو التعقيبات النثرية أو وصف المشاهد أو المسلاح أو الصالة أو الإطار الطبيعي والإنساني النثري أو حتى عمل الكورس تتبدى رقعًا ملحقة بنسيج العمل الشعري([10])".

ويفرق بين هذا الجنس الأدبي وما يقاربه بقوله:"والفرق بين هذه المحاولة والقصائد الغنائية الصرف أن مساحة الفعل هنا أرحب وإمكان الجدل أعمق وأعرض وتعدد الأصوات أكثف وتجييش الحركة في النص أوسع وأشمل وتجسيد الموقف أصدق وأقرب، إلى آخر هذه المتتاليات التي تجعل من النص الغنادرامي بهذا المعنى خروجًا من ضائقة النص الغنائي وحرصًا في الوقت نفسه على هذا النص الغنائي؛ لأن مجمل الصيحات النقدية للأسف تتعالى مطالبة بضرورة الخروج من القصيدة الغنائية إلى العمل المسرحي كرط لحل أزمة الشعر الغنائي، وهنا نلحظ أن نوعًا(جنسًا) يمكن أن يلغي نوعًا آخر بلا طائل كبير أو قل بتضحية باهظة! إذن فتطويع تقنيات الدراما شعريًّا في سياق النص الشعري الغنائي فعل تطويري لا يجترح جريمة الهدم، وهو يديل على المستوى النقدي لهذا النوع المخلط من صرخة الاحتجاج بأن المسرح هو البديل الحتمي للقصيدة الغنائية، إذا أريد تطوير هذا اللون الأخير؛ لأن ممكن الدراما- وهو هائل بالفعل- يصبح ممكنًا للقصيدة الجديدة التي نسميها (الغنادرامية)، بشرط أن نمحضها بكاملها للشعر، وأن نحافظ فيها على جدل الصراع، ومشاركة المشهد، والمنظر والخشبة والصالة والعرض والجمهور المفترض؛ حتى تتسع قاعدة الفعل الشعري الغنائي في شكله الغنادرامي([11])...

ويبقى هذا الجنس الأدبي المخترع عند مبدع واحد بحاجة إلى تجارب أخرى تضيف إليه، وتؤسس لجدارته الإبداعية، ومغامرته الجمالية، ورؤياته التقنية، ويحذف منها ما يمكن أن يكون زوائد ضارة أو حشائش متسلقة مشوهة لشجرة الإبداع الأدبي السائرة والثائرة والحائرة في آننا الصاخب!    

ومنذ دخول الأدب عصر ما بعد الحداثة وجد تيار نقدي ينادي بموت الحدود الفاصلة بين الأجناس الأدبية؛ ولذلك وجدت دراسات تلاحق عناصر الشعر في السرد، وبالمثل وجدنا دراسات تتبع عناصر السرد في الشعر؛ لعل السر يكمن في السحر؛ سحر القصة وسيطرتها على النفس الإنسانية، إضافة إلى مقدرتها على الإمتاع والإقناع «الإمتاع: من خلال رؤاها الجمالية المختلفة، ومن خلال نزوعها التواق إلى التداخل أو التفاعل أو التكامل مع الأجناس الأدبية الأخرى، والإقناع: من خلال مناقشة هموم الواقع، وطرح آمال الإنسان العادي الصغيرة، ومرجع ذلك كله إلى مقدرة الكاتب وإلمامه بأدوات وتقنيات القص؛ فالقصة في العصر الحديث تشهد رواجًا وازدهارًا؛ باعتباره العصر الذهبي لها، وباعتبارها فنًّا من فنون النثر التي لا تزال قادرة على مواكبة العصر([12]).

أما الشعر، فكان كله حتى العصر الحديث شعرًا غنائيًّا، تطورت فيه التجربة إلى أشكال إيقاعية مختلفة: قصيدة أو موشحة أو رباعية، أو مخمسة، وما إلى ذلك من تشكيلات...وتناثرت فيه الحكايا والحوارات والصراعات: صرْعاتٍ أو فتوحات... إلى أن خفت النغم في الشعر الحداثي، وظل يخفت رويدًا رويدًا حتى مات في كثير من القصائد، فانتفى عنها الشعر، وأضحينا أمام جثث يزعم أصحابها، ومن يوافقونهم من النقاد على هذا العبث والإفساد المزاعم الطويلة العريضة التي تصم الآذان، ثم كان الإبهام والاستغلاق وفقدان المعنى، وهيمنة الهلوسات والبهلوانيات، أساس كارثة نزلت بالشعر العربي على أيدي هؤلاء المغرمين بالتجريب التدميري في الوقت الذي يملئون الدنيا صياحًا، بأنهم إنما يعملون على إنقاذ الشعر العربي من المأزق الذي وقع فيه، على حين أنهم هم أنفسهم مأزق هذا الشعر ومصيبته وبلواه!

وفي ظل هذا الانهيار الإبداعي ظهر شعر التأملات الفكرية والاستبطانات النفسية، والتهاوين الذهنية، والحوارات الفلسفية، والتناصات مع التراث في المأثور العربي، أو الأساطير الوثنية الشرقية والإغريقية، مما لم يكن الشعراء العرب يفكرون فيه، على النحو الذي نراه في مجموعة"طين الأبدية" الشعرية للشاعر العراقي المأزوم بحاله وعالمه، وتاريخه وواقعه: أحمد محمد رمضان. لاسيما وأن مجموعته المنقودة هذه تقترن بطقوس دينية عتيقة، وتتحاور مع معطيات ثقافية كونية وافدة عن طريق التناص اقتباسًا أو تضمينًا أو تحويرًا؛ ولا عجب في ذلك فهو عراقي؛ وقد قررت الدراسات العلمية معرفة أبناء وادي الرافدين للملاحم والقصص، وقدرتهم الخاصة على الإبداع والاختراع دمجًا بين حاضر جاثم، وماض مُستَدْعًى، وبين اللغة الخاصة واللغة المستلهمة من الآخر([13]). 

ثالثًا: تحليل الغنادرامية في نصوص دالة:

  يعد ديوان"طين الأبدية" مجموعة تجارب من الفن الشعري المنسوب إلى ما بعد الحداثة، ذلك الذي لا يبحث فيه عن إيقاع منتظم أو ثابت، بل متحرك متغير، ولا يُنتَظَر فيه شكل محدد أو مميز، أو متوقع، بل فيه مفاجآت وكسر لكل ما هو متوقع، وقضاء على كل ما يؤمل أو يُرجَى من خلال القراءات السابقة في مُدوَّنة الشعر الحديث، والحداثي!

وقد تكوَّن الديوان من إهداء، وخمس وسبعين قصيدة، تنوعت بين الطويلة الملحمية البناء، والمتوسطة الذاتية، والقصيرة جدا" الأبيجرام" التأملية الموغلة في الرمزية، وعنواناتها:

[نضرة أزلية/جثة/نسمة/قوس قزح/نينوى/ذكرى/إلى داوود سلمان الشويلي/إلى عبد العظيم فنجان/طبول/ليلة /حياة/ذكرى/أسرى/ومضة/عجوز /ثمالة/حسنة/راع/نطفة/ نسيان/ ريلكه/ قصيدة/عين/سنة/ سوزان/إصبع/تقاسيم/حصاد/ أبدية/قصيدة/رامبو /الأرض و السماء / ياسمين/مذكرة عيد الميلاد/حياتي/قتل/نضارة/الأشرعة /أمي/ قصيدة/نبوءة/حفاة/سنبلة/أبدية/ظلال/حفيف/النهر/قصيدة/إلى تحفة/زيتونة الشفق/ قصيدة/أخرس/وجهي/الضحى/كهف/تناص مع الأبدية/ضرار/أمل/بوسافاط/جيروني /ليتي/غويرا/قصيدة/أنكمدو/نبيذ/ظرف من المقبرة/ضفة/قصيدة/قصيدة/قصيدة /قصيدة/ظن الجاهلية/قصيدة/أغنية خريفية/هايكو/قصيدة].

وإن نظرة أولى في هذه العنوانات ترينا الذاتي يختلط مع العام، والداخل مع الخارج، والثنائيات تترى في الديوان من جثة وحياة، إلى قتل ونضارة، إلى ضرار وأمل، إلى حفاة وتحفة، أرض وسماء، إلى الضحى وكهف، إلى أخرس وقصيدة... كما نجد الطينية والأبدية تهيمنان على العناوين! وتوجد تجارب دالة على ثقافة عالمية متنوعة للشاعر كما في قصائد: [رامبو([14])/ وريلكه([15])/وبوسافاط([16])/وجيروني([17])/وليتي([18])/وغويرا([19])/وأنكمدو([20])].

ولعل كثرة التجارب المعنونة بـ(قصيدة)، في إحدى عشرة تجربة، راجع إلى أنها سلواه ونجواه وسلاحه في ظل هذا الخضم أو الأتون! وإن كان الملاحظ على بعض هذه التجارب أن مصطلح القصيدة ذو مفهوم خاص عن الشاعر، يغاير المفهوم المقرر في العقلية العربية السلفية، حيث يدور حول الجزالة في الكم والكيف لشكلها وبنائها! فمن هذه التجارب ما جاء في سطرين فقط، هكذا:

[قَصيدةٌ:

سَفينةُ نَظرَتكِ... 
أَرَّقتْ بُذورَ الأَبدِيّةِ. ([21])]

وفي أخرى يقول:

[قَصيدةٌ

عُميَانَا...

خَرّبُوا نَداوةَ خَدّكِ. ([22])]

والقراءة الإجمالية في ديوان "طين الأبدية" تطلعنا على رؤية خاصة في الوجود، ووصف إسقاطي على الواقع الانكساريحيث يحضر الدمار والضياع والخراب والتشريد والفناء والموت في أعطاف المشهد وتفاصيله. إنه محموعة من التهويمات الشعورية والتخييلات الوجدانية حول معادلة الوجود والفناء، عبر سفر في مواطن عدة من حياة الشاعر الشابة,!

 وقد احتوى الديوان على عدة تقنيات فنية أساسية، أهمها التناص مع عالم الأسطورة العجيب تلك التي "هي إبداع غريزي لخيال الإنسان البدائي الذي يعمل وفق نظرة مذهلة غير مدركة، تحيط بالظواهر الطبيعية... مضمونها، مهما كثفناه، يبقى مضمونًا لا ينضب لها معين([23])". وقد وظفها الشاعر للربط بين ماضيه وواقعه، لتعبر عن حال ضعيف متكسر مأزوم! وتأتي الكتابة الشعرية تقنية ثانية موظفة في الإيحاء بمغزاه ومرماه، هذا إضافة إلى الألوان الأسلوبية الأخرى الشائعة في الشعر الغنائي.

ولعل تفكيك عنوان الديوان[طين الأبدية] يعطينا شاهدًا أوليًّا عنه، فهو مركب إضافي ([24]). وصدر المركب "طين" اسم ذات مجرد من أل التعريفية أو الاستغراقية، وعجزه مصدر صناعي من الظرف الزماني "الأبد".

وفي لفظة "طين" البعد الغنائي حيث يشير إلى أصل الذات، والحسن، والختم، والكتابة؛ فالطِّين في معاجم العربية: "الوَحَلُ، وَاحِدَتُهُ طِينةٌ، والطينة: الخِلْقة والجِبِلَّة. يقال: فلانُ من الطينة الأولى، وطانَهُ اللهُ عَلَى الْخَيْرِ وطامَهُ أَي جَبَله عَلَيْهِ، وأَنشد الأَحمر:

لَئِنْ كَانَتِ الدُّنْيا لَهُ قَدْ تزَيَّنـَتْ          عَلَى الأَرضِ، حَتَّى ضاقَ عَنْهَا فَضاؤُها

لَقَدْ كانَ حُرًّا يَسْتَحي أَن تَضـُمَّه        إِلى تِـلْكَ، نَـفْسٌ طِيـنَ فِيـهَا حَياؤُها([25])

يُقَالُ: طانَه اللَّهُ عَلَى طِينَتِه أَي خَلَقه عَلَى جِبِلَّتِه... وروى ابْنُ الأَعرابي: طانَ فلانٌ وطامَ إِذا حَسُنَ عَمَلُه...وإِنه ليَابِس الطِّينةِ إِذا لَمْ يَكُنْ وَطِيئاً سَهْلًا.والطِّينة: قِطْعَةٌ مِنَ الطِّينِ يُخْتَمُ بِهَا الصَّكُّ وَنَحْوُهُ. وطِنْتُ الكتابَ طَيْناً: جعلتُ عَلَيْهِ طِيناً لأَخْتِمَه بِهِ. وطانَ الكتابَ طَيْناً وطيَّنه: خَتَمَهُ بِالطِّينِ، وطِينَتُه خَاتَمُهُ الَّذِي يُطَيَّن بِهِ.([26]). والدليل على ارتباط الطين بالكتابة ما يُرْوى أنَّ أول من كتب الكتاب العربيّ، والسُّرياني والكتب كلَّها آدم (عليه السلام) قبل موته بثلاثمائة سنة، كتبها في طينٍ وطَبَخَه، فلما أصاب الأرض الغرقُ وجد كل قوم كتابًا فكتبوه... ([27]). فظاهر مدى ارتباط لفظة الطين بالإنسان خِلْقة، وسلوكًا، وثقافة. وتلك دلالات كبرى في الديوان المنقود.

وفي لفظة"الأبدية" البعد الدرامي حيث الزمان والمكان والإنسان خلال هذا الأبد؛ فهو يدور في الاستعمال العربي حول الزمن، والديمومة، والتوحش والاعتياص، والشرود، والغضب. وكلها دلالات درامية واجتماعية في المقام الأول؛ قال ابن فارس:" (أبد) الهمزة والباء والدال يدلّ بناؤها على طول المدّة، وعلى التوحّش([28]).فـ" الأبَد: الدهر، والجمع آبادٌ وأبودٌ. يقال أَبَدٌ أبيدٌ، ولا أفعله أبد الأبيد، وأبد الآبدين، والأَبَدُ أيضاً: الدائم. والتأبيدُ: التخليد. وأَبَدَ بالمكان يَأْبدُ بالكسر أبوداً، أي أقام به. وأبَدَتِ البهيمة تَأْبُدُ وتَأْبِدُ، أي توحَّشَتْ. والأَوابِدُ: الوحوش، والدَّواهي. والتأبيد  التوحش. وتأبد المنزل، أي أقفر وأَلِفَتْهُ الوحوش. وجاء فلان بآبِدةٍ، أي بداهيةٍ يبقى ذكرُها على الأَبدِ. ويقال للشوارد من القوافي، أَوابِدُ. قال الفرزدق:

 لَنْ تُدْرِكوا كَرَمي بلَؤْمِ أبيكُمُ                                وأَوابِدي بتَنَحُّلِ الأَشْعارِ

 وأبد الشَّاعِرُ: أتى بالعَويصِ في شِعْرِه، وما لا يُعْرَفُ معناه([29]).

فالشاعر بهذا العنوان المكثف يشير إلى اتجاهه الفكري، وهويته الجغرافية والثقافية باتنائه إلى العراق: تاريخًا، وحضارة، بكل أفعاله وانفعالاته، وانطلاقاته وانكساراته!  وذلك في ثنائية مهيمنة عبر عنها الشاعر وفسرها بقوله:

[في المَاضِي تَناوَلتْ أَقدَامنَا الطِّينُ

و اليَومَ قَد ابْتلعَ رَغبَاتنَا!

سَلَّتكَ لَم تَعدِ المَوجةُ فَقدْ بَانتْ لِعذُوبةِ تَغشِّيَاتهَا الخَفافِيشُ... ([30])]

والديوان كله تقريبًا حوار خارجي مع الآخر المحدد كالأم والأب في الإهداء، وكما في قصيدتيه:" إلى داوود سلمان الشويلي، إلى عبد العظيم فنجان"، والآخر العام كما في تجارب أخرى. نعم تشيع في الديوان غنائية وذاتية، لكنها مغلفة بدرامية مكثفة وموجزة، لعل قصيدة "أخرس" أدل أعمال الديوان على نزعته الغنائية، يقول فيها:

[لِلزَّيتُونِ و هُو يَغفُو بِسلَالهِ

سَأغنِّي...

لِلوَرقةِ و هِي تُغطِي حَوّاءَ،

لِعرشِ بَلقِيسَ و هُو يَحملُ الزَّمنَ

سَأغنِّي...

لِخوَاتِيمِ أَيّامنَا و نَجلَاوَاتهَا،

لِلخَطيْئةِ فِي عَينِ الرَّبِّ،

سَأغنِّي...

لِحمَلةِ النُّعاسِ و أَجفَانِهمْ،

لِعيسَى و أُمّهِ...

و هُما يَتفَيّآنِ فِردَوسَ النُّبوّةِ،

لِلشَّفقِ و غُصنهِ الأَخضرِ...

لِروحِي مُكلِّلةً نَداوةَ حُبّهَا،

لِليلِ الشَّمسِ و هُو يَنشرُ لُجّةَ نَسيمهِ،

لِلمَلائِكةِ و هُم يُطبِّلونَ بِالنُّورِ عَلى السِّدرةِ،

و لِتهَجدَاتِ نَجمةٍ عَلى صَدرِي،

لِآدمَ و التُّفاحةَ...

لِرغْبتَهمَا،

سَأغنِّي...

لِيونسَ و حُوتهِ  لِصلاةِ الظُّلمةِ

لِلسَّنابلِ و أُغنِياتهَا،

سَأغنِّي...

مُفتَرشَا الفَضاءَ عَلى وَجهِي،

مُتذّكّرَا نَشيدَ نَملةٍ!. ([31])]

فالقصيدة مبنية على بينة التكرار الرأسي لجملة "سأغني" في سطور مستقلة، مع إتباعها بذكر المُغنَّى له وإليه، وهو في المطلع عنصر كوني (لِلزَّيتُونِ و هُو يَغفُو بِسلَالهِ)، وقبيل الختام كذلك:" (لِلسَّنابلِ و أُغنِياتهَا،)، وبينهما يركز الشاعر الحديث عن عنصر فاعل من عناصر القص الأنبيائي: بشرًا كان أو غير بشر. كأني به بدندناته هذه يحاور الشاعر القديم ويستجيب له، في قوله:

تغن بالشعر إما كنت قائله          إن الغناء لهذا الشعر مضمار([32])

[ومن ثم كان الختام:

 سَأغنِّي...

مُفتَرشَا الفَضاءَ عَلى وَجهِي،

مُتذّكّرَا نَشيدَ نَملةٍ!.]

مشيرًا إلى فضائية الرؤية عنده، ورغبته المأثورة عن حديث النملة القرآني، في ألا يحطم القوي وجنوده إخوانه البشر وهم لا يشعرون!

ويأتي نص:"نضرة أزلية([33])" الأنموذج الأعلى للغنادرمية في الديوان حيث يتناص مع ملحمة جلجامش (أوكلكامش) الرافدية ، وهي ملحمة سومرية مكتوبة على أحد عشر لوحًا طينيًّا في نينوى. و يتصور بعض الباحثين أنها أقدم قصة كتبها الإنسان. وتعد أهم وأكمل عمل إبداعي أسطوري شعري، كتبت سطوره منذ العهد السومري في المرحلة الواقعة بين (2750و2350) قبل الميلاد عن الملك جلجامش الذي عاش في مدينة أوروك «الوركاء» الواقعة في وادي الرافدين على الضفة الشرقية لنهر الفرات، وقد تشكلت حول شخصه باقة من الحكايات الأسطورية والبطولية، التي تسرد أخبار أعماله الخارقة، وسعيه المستميت إلى معرفة سر الحياة الخالدة . وقد تناص معها كثير من القصاص والمسرحيين لما فيها من طاقة درامية أسطورية، ومغامرات خيالية، ومواجهات صعبة مع قوى الشر، وجدال حول واقع الإنسان ومشكلاته الأبدية، وواقعية، وحكمة ورمزية. ولعل الشاعر بذلك التناص يد على هويته.

ويتكون النص من بنية الحوار الخارجي بين أنكيدو[رمز الخلود من الآلهة الذي يمرض ويفنى!] وجلجامش[الباحث عن الخلود، وهو فان] الممثلين لنقيضين يكمل أحدهما الآخر، وفالقصيدة سرد لواقع درامي أساسه هذان البطلان، وتنقسم إلى سبعة مقاطع. يأتي المقطع الأول مدخلاً تعريفيًّا بطبيعة العلاقة بين بطلي الحكاية: أنكيدو/جلجامش،  وتتناول الأقسام الباقية، مبينًا علاقته بعشتار، وتطور العلاقة بين البطلين من ماض متربص إلى تعاون في الحاضر، إلى فراق مستقبلي، ويتخلل ذلك ذكريات عن إنجازات ومغامرات في سبيل الوطن "أوروك". ويكون المقطع الأخير حوارًا ختاميًّا، منورًا الدلالة الكبرى من النص. جاء على لسان أنكيدو:

[نَحنُ أَبناءَ الحَياةِ...

حَملنَا وَرقةَ المَوتِ

صَفَحاتُ دُموعنَا

ضَمّهَا البَردُ،]، وجاء على لسانه أيضًا:[دجلة على الدفوف/تبرق فضة حلمتها] إشارة إلى الصراع بين الخير والشر، وانتظار المنقذ المخلص من ذلك الجني الوحشي الجبار الطاغي"خمبايا"!

  وفي سرد الرؤى والأحداث يشار إلى عدة شخوص محددة اسمًا ووصفًا، هي ننسون: أم أنكيدو التي وصفها الشاعر بأنها "العارفة بكل شيء"، وشمس[إله]، وعشتار[آلهة الحب]، وآنو[Anu  إله السماء، أبو عشتار] وأرورو[ربة]، وأنليل الذي وصف بالقوي، وخمبايا الذي وصف بالبطش، أوتناشيم[رجل الطوفان]. كما يشار إلى شخوص عامة هي الطبالون، عصافيلا الآلهة، الملائكة، ثور السماء، حبية أنكيدو، شيوخ أوروك، الأشباح، الخفافيش، الموتى، قوس أنكيدو الذي وصف بالعظيم، صياد البطلينن حورية، آلهة الظلام، الفراشة، أم آنو. كما يشار إلى عدة أماكن محددة هي أوروك، الأرز، ودجلة. وتوجد أماكن عامة مثل غيمة ذهبية، نعش، توابيت، الغاب، قلب العالم، سلة مثقوبة، باب الأبد، مدينة الطير، أبواب الجنان، القبر، الأنهار، شلالات، الحانة...

وتأتي الغنادرامية في الديوان في مجموعة سرديات تاريخية أو إنسانية مكثفة، من أمثلتها ما في الأبيجرام "ذرى"، حيث يكثف الشاعر (أحمد رمضان) تاريخ الأمة الإسلامية بقوله:

حدهَا المَآذنُ...

تَعرفُ حِكايةَ اللهِ،

و قَد تَخلَّلتْ حَياتهَا الحُقولُ. ([34])]

فالمكان(المآذن/الأقطار الإسلامية)، والأيدلوجية(حكاية الله/الإسلام)، والأحداث(الحقول/تاريخ الأمة عبر الأعصار والأمصار) حاضرة بتكثيف شعري عجيب!

ويلخص سيرته الشخصية في ومضته"وجهي" قائلاً:

[نَضارةٌ يَحمِلهَا الغُروبُ...

قَطرةُ مَاءٍ غَريبةٍ

دَم يَتردّدُ ضُحى نَداهُ. ([35])]

فحياته تتأرجح بين نضارة غاربة، وماء غريب، ودم بينهما يقضي على الندى!

ويقدم الشاعر أحمد رمضان سيرة غيرية في ومضته "عجوز" قائلاً:

[عِندمَا يَتخطَّاكَ المُشاهِدونَ...
و تُصاحبُ العُكَّازَ
فِي الظِّلالِ ،
عَلى مَسرحِ أَيَّامكَ ...
تَذكَّرْ.
ثَمةَ أُغنيةٌ لِلشَّجرِ 
و هُو يُسافرُ بِسكُونهِ المُتثَائبِ. ([36])]

فالحوار موجود مع المخاطب(يتخطاك/أيامك/تذكر)، والحدث والعقدة(يتخطا/تصاحب العكاز في الظلال) موجودان، والحل في ترديد أغنية، والصراع نفسي فكري!

 وفي تجربته"ظرف من المقبرة"([37]) يسرد من سيرة أمه، يصف حالها في بيتها:

[سَأخِبرُ المَوتَى عَن خُبزكِ يَا أُمِّي...

عَن يَديكِ النَّاعِمتَينِ،

غَيمةِ جَبيْنكِ...

و أَحدَ عَشرَ كَوكبَا...

سَخّرَهمْ اللهُ عَلى كَتفَيكِ،

ثم يذكر مشهدًا من جهادها:

سَأذْكرُ لَهمْ قِيامةَ جُوعنَا...

و أَنتِ تُرسِلينَ لِلشَّفقِ عَجينةَ قَلبكِ،

لِتَعودَ بِرغِيفٍ ...

يُسامرُ إِخوتِي،

ويشير إلى عطفها وحنانها بقوله:

عِندمَا يَطوفُ الهَواءُ ثَوبكِ،

تَندلقُ هَالةٌ سَماوِيّةٌ...

مِن عَلى خَدّيكِ

تُلمْلمُ حَسرتِي،

و كَأيِّ سُنبُلةٍ تُسبلُ حُبّهَا...

لِندَى اللَّيلِ تَذهبُ نَجمتِي،

آيةٌ تَفرشُ حَلمَتهَا...]

 وذلك في شاعرية آسرة في التصوير الخيالي الاستعاري اللذيذ!

ويقدم لنا مشهدًا دمويًّا من واقعه الانتحاري! يقول:

[عَلى السَّبورةِ...

يَرسمُ الطِّفلُ قَبرهُ،

مُتأمّلَا...

التوابِيتَ مُغطَّاةٍ بِبنَفسجِ الوَرقِ

عَلى طَباشِيرِ أَيّامهِ.] ([38])

فيختلط أو يصطبغ الإبداع والتعليم والثقافة بالواقع المأزوم....

وتأتي أغنيته الخريفية مفصلة هذا الواقع، يقول:

[فِي العَتمةِ،

أَنا الشَّمسُ الذَّاهِبةُ مَع الأَنجمِ...

 هِي الأَنجمُ الذَّاهِبةُ مَع النَّهرِ،

أَنا الغَسقُ المُتثَائبُ فِي الشُّموعِ،

هِي الشُّموعُ المَنسِيةُ فِي النَّهارِ،

أَنا النَّهارُ مُكلّمَ الطِّفلِ،

هِي الطِّفلُ الذِّي ضَاعَ فِي الرِّياحِ،

أَنا الرِّياحُ الصَّامِتةُ فِي السَّواقِي،

هِي السَّواقِي الحَالِمةُ بِالبَسَاتِينِ،

فِي النُّورِ...

هِي البَساتِينُ و ثِمارهَا،

أَنا ثِمارهَا الغَافِيةُ عَلى الوَرقِ،

هِي الظِّلُ الغَارقُ بِالعَتمةِ،

أَنا العَتمةُ السَّابحةُ فِي الشجرِ،

هِي النَّارُ البَارِدةُ

أَنا القَمرُ الدَّافئُ،

نَحنُ الظَّمأُ النَّديّ،

ن�</stron

  • Currently 0/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
0 تصويتات / 614 مشاهدة

الأستاذ الدكتور صبري فوزي عبدالله أبوحسين

sabryfatma
موقع لنشر بحوثي ومقالاتي وخواطري، وتوجيه الباحثين في بحوثهم في حدود الطاقة والمتاح. والله الموفق والهادي إلى سواء السبيل »

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

337,494