<!--

النـقد الأدبي الـنبوي الشريـف

قراءة تحليلية في إشكاليته ومعاييره

تأليف د/صبري فوزي عبدالله أبوحسين

 

المقدمة

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين، وخاتمهم أجمعين، وعلى آله، وصحبه، ومن تبعهم إلى يوم الدين. وبعد:

فنحن أمة حوك الكلام وحبكه، وإتقان نسجه وسبكه، للكلمة عند أبنائها شأن وسلطان؛ لأنهم أرباب فصاحة وبيان، فُطروا على ذلك وعاشوا به من لدن الجاهلية الأولى إلى يومنا هذا. وقد عُني الإسلام بتوجيه الكلمة البشرية توجيهًا صحيحًا نحو الحق والخير والجمال، ومن ثَمَّ نجد كثيرًا من النصوص القرآنية والنبوية تقرر أهمية الكلمة وخطورة دورها في حياة الفرد والجماعة، لاسيما تلك الكلمة المحلِّقة المبدعة التي لها فعل السحر في النفوس والعقول، ومن هنا تكمن خطورتها، وضرورة توجيهها.

ومن ثوابت ديننا الحنيف أنه ليس بعد كلام الله تعالى أبلغ من كلام رسوله محمدe؛ إذ بلغ e من الكمال الخُلقي الذروة التي لا تُنال، والسمو الذي لا يُسامى، فهو سلـيم الفطرة، كامل العقل، كريم الأخلاق، صادق الـحديث، عفـيف النفس، عُصم من النقائص، وعلا عن الهفوات، وجلّ مقامه عن أن تلصق به هفوة. ولـم يُعنَ بما كان يُعنَى به قومه من الفخر والـمباراة فـي تـحبـير الـخطب وقرض الشعر. وهو أوفر الناس عقلاً، وأسداهم رأيًا، وأصحهم فكرةً، وأعفهم لسانًا، وأوضحهم بيانًا، يسوق الألفاظ مُفصلة كالدر مشرقة كالنور، طاهر كالفضيلة في أسمى مراتب العفة وصدق اللهجة، وأعدلهم في الحكومة، وأعظمهم إنصافًا في الخصومة يَقِيدُ من نفسه ويقضي لخصمه، ويقيم الحدود على أقرب الناس وأسمى الخليقة روحًا، وأعلاها نفسًا، وأزكاها وأعرفها بالله، وأشدها صلابة وقيامًا بحقه، وأقومها بفروض العبادة ولوازم الطاعة، مع تناسق غريب في أداء الواجبات، واستيعاب عجيب لقضاء الحقوق، يُؤتي كل ذي حق حقه، فلربه حقه، ولصاحبه حقه، ولزوجه حقها، ولدعوته حقها، أزهد الناس في المادة وأبعدهم عن التعلق بعرض هذه الدنيا، يطعم ما يقدم إليه فلا يرد موجوداً ولا يتكلف مفقوداً. ولو لم يكن للنبي e من الفضل إلا أنه الواسطة في حمل هداية السماء إلى الأرض، وإيصال هذا القرآن الكريم إلى العالم، لكان فضلاً لا يستقل العالم بشكره، ولا تقوم الإنسانية بكفائه، ولا يُوفى الناس حامله بعض جزائه. ذلك قبس من نور النبوة، وشعاع من مشكاة الخلُق المحمدي الطاهر، وإن في القول بعد لسعةً، وفي المقام تفصيلاً؛ ولذا العظمة النبوية ماثلة في كل قلب، مستقرة في كل نفس، يستشعرها القريب والبعيد، و يعترف بها العدو والصديق، وتهتف بها أعواد المنابر، وتهتز لها ذوائب المنائر.

 وانطلاقًا من هذه المُسلَّمة الإيمانية والحقيقة التاريخية دار بحثي هذا عن جانب رائع في الشخصية النبوية، وعن كنز ثمين من كنوز السنة النبوية، ندر من تحدث عنه وبحث فيه. وهو" النقد الأدبي"؛ فقد قدم البحث دلائل على أنه كانت للرسول-- وقفات عميقة مع مثلث الإبداع الأدبي: [نصًّا، وناصًّا، ومتلقيًّا] تعليمًا وتوجيهًا وتقويمًا، بما يضمن لهذا المثلث طهارة فكرية وشكلية، تكفل للجميع راحة وسعادة دينًا ودنيا. ويحاول عرض إشكالية مدى جواز إطلاق مصطلح الناقد الأدبي على الشخصية النبوية، برؤية خاصة، بلا تحرُّج أو تأثُّم أو تخوُّف، بل بكل مرونة مُتاحة، وبرؤية وسَطية، صادرة عن حب لهذا المأثور، وإعجاب وتقدير لحقوله المعرفية العميقة، ورغبة في الإعلان عن جانب غير ظاهر في الشخصية النبوية الخالدة بسيرتها وسنتها؛ والباحث في هذه الدلائل النصية يتضح له أنها تقدم جملة من المعايير النقدية الثابتة المستقرة، التي من شأنها أن تؤسس لنظرية نقدية  إسلامية معاصرة، نستطيع أن نواجه بها تلك الإفرازات التي تأتينا من كل صوب وحدب . ومن ثَم كان عنوان البحث:

"النقد الأدبي النبوي الشريف: قراءة تحليلية في إشكاليته ومعاييره"

وقد جاء عرض المادة العلمية لهذا البحث في تمهيد و مباحث ثلاثة، هي:

التمهيد :"النقد: مصطلحًا ومسيرة".

المبحث الأول: "إشكالية علاقة النبي-- بمصطلح النقد الأدبي"

المبحث الثاني: "دلائل نصية على النقد النبوي النظري لفن الشعر"

المبحث الثالث:"دلائل نصية على النقد النبوي التطبيقي لفن الشعر "

 

ثم كانت الخاتمة التي أجملت ما فُصِّل، وعددت ما تُوُصِّل إليه من جديد، في هذا العمل الذي أرجو أن أكون فيه خالص النية، صادق التوجه، أمين الرؤية، موفقًا من ربى، عز وجل.

الباحث

 

 

 

 

 

التمهيد: :" النقد الأدبي: مصطلحًا ومسيرةً"

إن الإشكالية – التي يثيرها هذا البحث – تنبئ عن سوء فهم لدى بعض الباحثين لمفهوم مصطلح النقد الأدبي وتاريخه وقيمته تراثيًّا وحداثيًّا، وعلاقته بفن الشعر. وذلك يستدعي منَّا تحليلاً عميقًا مكثفًا لذلك المصطلح.

ففي اللغة([1]) نجد استعمالات الجذر اللغوي" ن ق د" دائرة حول معنى كلى رئيس، هو بروز الشيء وإبرازه، والكشف عن حاله من جهة جودته ورداءته.

 وقد قرره ابن فارس (ت 395هـ) بقوله:"النون والقاف والدال أصل صحيح يدل على إبراز الشيء وبروزه. من ذلك النقد في الحافر، وهو تقشُّره. حافر نقِد: متقشِّر. . . ومن الباب: نقْد الدرهم، وذلك أن يُكشَف عن حاله في جودته أو غير ذلك"([2]).

 ثم تطور المدلول اللغوي من هذه الدلالة الحسية إلى أخرى معنوية لها صلة بالدلالات السابقة؛ إذ ورد أن:"من المجاز: نقد الكلام: ناقشه، وهو من نَقَدَة الشعر ونُقَّاده، وانتقد الشعر على قائله"([3]).

ويندرج في هذه الدلالة الكلية جملة دلالات جزئية، هي:

الدلالة الأولى: الشيء الحاضر المعجَّل؛ ففي المعاجم:النقْد: خلاف النَّسيئة. . . وقد نَقَدَها ويَنْقُدُها نَقْدًا وانَتَقَدها وتَنَقَّدَها ونَقَدَه إِياها نَقْدًا: أَعطاه فانتَقَدَها أَي قَبَضَها. . .

الدلالة الثانية:النقر والضرب؛ ففي المعاجم:"نَقَد الشيءَ يَنْقُدُه نَقْدًا إِذا نَقَرَه بإِصبعه كما تُنْقَر الـجوزة. والـمِنْقَدَة: حُرَيْرَةٌ يُنْقَد علـيها الـجَوْزُ. والنقْدة: ضربةُ الصبـيِّ جَوْزةً بإِصبعه إِذا ضرب. ونقَد أَرنبَتَه بإِصبعه إِذا ضربها. . ونَقَد الطائرُ الفَخَّ يَنْقُدُه بِمِنقْاره أَي يَنْقُرُه، والـمِنْقاد مِنْقارُه. . . ونَقَد الطائرُ الـحَبَّ ينقُده إِذا كان يلْقُطُه واحداً واحداً، وهو مثل النَّقْر. .

الدلالة الثالثة:اختلاس النظر؛ ففي المعاجم:نقَد الرجلُ الشيءَ بنظره يَنْقُدُه نقْدًا ونَقَد إِلـيه: اختلَسَ النظر نـحوه. وما زال فلان يَنْقُد بصَرَه إِلـى الشيء إِذا لـم يزل ينظر إِلـيه. والإِنسان يَنْقُد الشيءَ بعينه، وهو مخالَسةُ النظر لئلا يُفْطَنَ له.

الدلالة الرابعة: تمييز الجيد من الرديء؛ ففي المعاجم: النقْد والتَّنْقاد: تميـيزُ الدراهِم وإِخراجُ الزَّيْفِ منها؛ أَنشد سيبويه(ت18. هـ):

تَنْفِـي يَداها الـحَصَى فـي كلِّ هاجِرةٍ  نَفْـيَ الـدَّنـانِـيرِ تَنْقـادُ الصَّيـارِيفِ

. . . النقْد تميـيز الدراهِم وإِعطاؤُكَها إِنساناً، وأَخْذُها. الانتقاد، والنقْد: مصدر نَقَدْتُه دراهِمَه. ونَقَدْتُه الدراهِمَ، ونقَدْت له الدراهم وانتَقَدْتُها إِذا أَخْرَجْتَ منها الزَّيْفَ. والدِّرْهَمُ نَقْد أَي وازنٌ جيِّدٌ. و ناقدْت فلانًا إِذا ناقشته فـي الأَمر.

وكل هذه الدلالات مقبولة، تدل من طرف خفي على الوسائل التي يستعين بها الناقد في مواجهته النصَّ الأدبيَّ، فالنص والناقد دائمًا في حالة حضور عاجل، وفي تفاعل، وحوار ومناقشة.

 والناقد في قراءته النصَّ يعتمد على خبرة وفهم بطبيعة فن كل نص، وقدرة على الموازنة والتجريب، وجس نبض للنص ومعايشته معايشة عميقة بكل حواسه المتاحة، كما يُفهم من الدلالات الثلاثة الأولى. أما الدلالة الرابعة فتوضح غاية الناقد ووظيفته وهي تمييز الجيد من الرديء.

أما النَّقَد – بتحريك"فتح" القاف، مصدر الفعل"نقِد" بكسر القاف- فيدور حول دلالة الشيء الصغير المتآكل والمتكسر. وهي مما شذ عن الباب في نظر ابن فارس([4])، وليست مرادة في بحثنا.

و أمَّا ما جاء فـي حديث أَبـي الدرداء -رضي الله عنه-أَنه قال:"إِنْ نقَدْت الناسَ نَقَدُوك وإِن تَرَكْتَهُمْ تركوك؛ معنى نقدتهم أَي عِبتهم واغتَبْتَهم قابلوك بمثله"([5])، فهو يشير إلى جانب سلبي وحيد في هذا الجذر اللغوي، حيث العيب والثلم والتجريح. وهذه الدلالة "من قولهم: نقَدْت رأْسه بإِصبعي أَي ضربته. ونقَدْت الـجَوْزَةَ أَنقُدها إِذا ضربتها([6])، ونقَدَتْه الـحيَّةُ. لدغَتْه"([7]).

وهذا الجانب الدلالي السلبي للفظة"النقد" موجود عند طائفة قليلة من النُّقَّاد، الذي يتركون الموضوعية في النقد، ويتحولون إلى مقاييس نفسية جامدة، أو معايير شخصية متعصبة، بحيث يقلبون الحق باطلاً، ويزينون الباطل حقًّا!!!

ومن ثم استحقوا اللقب القرآني (الغاوون) الوارد في قوله تعالى: {وَالشُّعَرَآءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ}([8]). وجعلت بعض الأدباء يحملون على النقد كفولتير([9])، الذي زعم أن الناقد أديب فاشل([10])!! وكالشاعر الإنجليزي الكبير وليام وردز ورث )William Wordsworth[11]) الذي يعد النقد الأدبي باطلاً لا غَناء فيه، و يرى أن المقدرة على النقد أحط من المقدرة على الإنشاء، ولو أن النقاد أنفقوا أوقاتهم في كتابة شيء آخر في باب ما، بدل إضاعته في هذا الباب، لكان ذلك أجدى عليهم، وأعود على أنفسهم بالتهذيب دون أن يقلقوا غيرهم من الكتاب والشعراء!!([12]).

 وهذا كلام شاعر ضاق ذرعًا من هؤلاء النقاد السلبيين، الذين لا يضيفون جديدًا إلى العمل الأدبي، بل قد يضرونه! و لذلك قال هذا الشاعر، عقب كلامه السابق:"على أن النقد محتوم الضرر إذا تناوله غير الأكفاء"([13]).

فالنقد ضرورة، لا جدال في ذلك، شريطة أن يلتزم الموضوعية، بالحرص على التقويم، والتعليم والتوجيه، وبالبعد عن التشهير وتكلف المآخذ ونشرها!!

وفي الاصطلاح استخدم مصطلح النقد الأدبي [Literary Criticism] منذ منتصف القرن الثالث الهجري عند العرب، مضافًا إلى الشعر، كما عند قدامة بن جعفر (ت337هـ) وغيره من جهابذة النقد العربي القديم.

واستخدم في الغرب منذ القرن السابع عشر الميلادي([14])، دائرًا حول:"دراسة الأشياء ووصفها وتفسيرها وتحليلها وموازنتها بغيرها المشابهة لها أو المقابلة، ثم الحكم عليها ببيان قيمتها ودرجتها، يجرى هذا في الحسيات والمعنويات، وفي العلوم والفنون وفي كل شيء متصل بالحياة"([15]). وهذا مفهوم عام.

 أما المفهوم الخاص فهو" تقدير النص الأدبي تقديرًا صحيحًا وبيان قيمته ودرجته الأدبية"([16]).

 وقد تطور في عصرنا حتى صار - كما يقول هارى شو([17])-:" تلك العملية التي تزن وتُقَيِّم وتحكم، وخلافًا لبعض الآراء: لا يتعامل النقد مع العيوب فحسب، فالنقد الحصيف يحدد خاصيات الجودة وخاصيات الرداءة، الفضائل والنقائص، وهو لا يعنى الإطراء أو الازدراء، بل يقابل بين مظاهر الإخفاق ومظاهر التميز، ثم يصدر الحكم المتأني"([18]). ومن عجب أن لفظة Criticismمنحدرة من اللفظة الإغريقيةKritikos التي تعني القاضي([19])، فالناقد قاضٍ، وفي ذلك تشريف لمهمته، ومزيد تكليف له وإلزام عليه بالدقة والإتقان فيما يصدر عنه من تحليل وتقييم وتقويم.

إنه فن تفسير الأعمال الأدبية, عن طريق محاولة منضبطة يشترك فيها ذوق الناقد وفكره, للكشف عن مواطن الجمال أو القبح في الأعمال الأدبية. والأدب سابق للنقد في الظهور، ولولا وجود الأدب لما كان هناك نقد أدبي لان قواعده مستقاة ومستنتجة من دراسة الأدب.

إن الناقد ينظر في النصوص الأدبية: شعرية كانت أو نثرية ثم يأخذ الكشف عن مواطن الجمال والقبح فيها معللاً ما يقوله ومحاولاً أن يثير في نفوسنا شعور بان ما يقوله صحيح وأقصى ما يطمح إليه النقد الأدبي، لأنه لن يستطيع أبدًا أن يقدم لنا برهانًا علميًّا يقينًا، ولذا لا يوجد عندنا نقد أدبي صائب وأخر خاطئ وإنما يوجد نقد أدبي أكثر قدرة على تأويل العمل الفني وتفسيره من غيره واختلاف مناهج النقد معناه اختلاف في وجهات النظر.

والذوق هو المرجع الأول في الحكم على الأدب والفنون لأنه أقرب الموازين والمقاييس إلى طبيعتها، ولكن الذوق الجدير بالاعتبار هو الذوق المصقول لذوق الناقد الذي يستطيع أن يكبح جماح هواه الخاص الذي قد يجافي في الصواب ،الخبير بالأدب الذي راضه ومارسه،وتخصص في فهمه ودرس أساليب الأدباء ومنح القدرة على فهم أسرارهم والنفوذ إلى دخائلهم وإدراك مشاعرهم وسبر عواطفهم، بفهمه العميق وحسه المرهف وكثرة تجاربه الأدبية...

وممارسة تلك العمليات أقدم عهدًا من مصطلح النقد، إذ إنها موغلة في القدم؛ ذلك أن الإنسان منذ عرف طريقه إلى الحضارة وهو يحاول أن يجد الأفضل ليعيش موفور السعادة، حيث يسعى إلى الوقوف على حقائق الحياة وقيمها ليرسم لنفسه طريقًا آمنًا واضح المسلك فيها.

ولما كانت اللغة أساس تفاهم كل أمة، وكان الأدب ديوانَها وسجلَ أيامها ومصور مشاعرها، كان النقد مهذِّبَ اللغة ومنقِّحها ومطوِّرها، وكان ملازِمًا للأدب أينما حلَّ وارتحل: يرتبط به ليرسم له طريقه المستقيمة، بما يضع من قوانين ونظريات تكشف عن الجوانب المضيئة في النص الأدبي، وتميزها عن الجوانب المظلمة مع الشرح والتعليل والتحليل.

ومن ثم اتصل النقد بالحياة وبالنص الأدبي اتصالًا وثيقًا، بحيث صار فنًّا - أو علمًا- طبيعيًّا في حياة الإنسان، متى أُوتي حظًّا- ولو كان هينًا -من قوى الإدراك والشعور، فذلك يمكِّنه من فهم الأدب وتذوقه والحكم عليه أو له.

وقد أدرك الناقد العربي المبدع حازم القرطاجني (ت684هـ) حتمية وجود النقد مع الإنسان بكل عصر ومصر، في قوله:"ولا شك أن الطباع أحوج إلى التقويم في تصحيح المعاني والعبارات عنها من الألسنة، إلى ذلك في تصحيح مجاري أواخر الكلم؛ إذ لم تكن العرب تستغني بصحة طباعها وجودة أفكارها عن تسديد طباعها وتقويمها، باعتبار معاني الكلام بالقوانين المُصحِّحة لها، وجعْلها ذلك علمًا تتدارسه في أنديتها"([20]).

ولم يثبت في مسيرة النقد التاريخية أنه وقع في سُبَّة أو منقصة تهوي به أو تُشوِّهه، منذ بدايته اليونانية حتى وضعه الراهن، اشتغل به كثير من الوُجَهاء والفلاسفة والعلماء والحكماء، وأقبل عليه العامة والخاصة، بلا استثناء. وكانت لهم مكانتهم السامقة.

ويكفي في هذا المقام أن نعرف أن الناقد في الجاهلية" كانت تُضرَب له قُبَّة في سوق عكاظ، فتأتيه الشعراء فتعرض أشعارها عليه"([21]). بل كان بلاطُ الأمراء - في كل أعصار الأدب العربي وأمصاره -مُنتدًى أدبيًّا ونقديًّا شهد محاورات ومجادلات وموازنات باهرة([22]).

ومَن يتابع النصوص النقدية الدائرة عند العرب قبل الإسلام يجد أن العربي كان يحيا فيما يشبه أن يكون متحفًا لروائع الفن القولي، وأن الناقد المتخصص كان موجودًا على مستويات مختلفة، وجد لنفسه سوقًا رائجة، وأندية متعددة، لها جمهور متنوع إبداعًا وتذوقًا. ولما ظهر الإسلام نهض الأدب نهضة جديدة أعانتها رؤية نقدية جريئة فيها اتجاه عقيدي أخلاقي مثالي بارز.

حقًّا تمتع العربي في الجاهلية بحظ كبير من الحرية في القول والعمل ضمن إطار مجتمعه القبلي ووهبته الطبيعة الصحراوية ذهنا صافيا وشجاعة نادرة وصقلته أيام العرب. ووجدت الأسواق التي يلتقي فيها الناس في مواقيت معينة من كل عام، ليقضوا حوائجهم من تبادل الأسرى والتجارة والزواج وتبادل الخطب، وإلقاء الشعر الذي يعدد مناقب القبيلة أو يعبر خصومها. وفي الأسواق ومواسم الحج بدأت اللغة العربية الفصحى لغة القرآن الكريم في التبلور وكان ذلك قبيل نزول القرآن الكريم واعتز العربي منذ الجاهلية بالفصاحة والبلاغة وكان الشعر أظهر فنون القول عند العرب أسيرها ذكرًا.

ثم أنزل القرآن الكريم فانتهى العصر الجاهلي ونادى الإسلام بقيم جديدة ونهى عن العصبيات القبيلة وأصبح الولاء للدين الجديد والطاعة لله والرسول صلى الله عليه وسلم والخلفاء من بعده . وبظهور دعوة الإسلام ،نشب صراع بين المشركين والمسلمين ووجدت للشعر وظيفة جديدة هي المنافحة عن الدين الجديد والرد على شعراء المشركين اللذين تصدوا للدين الجديد يحاربونه بألسنتهم وظهرت نقائض شعرية بين شعراء المسلمين والمشركين أن الناس بدءوا يهتمون بالشعر الذي يصدر عن الفريقين...

وفي العهد الأموي جدت على الدولة الإسلامية في هذا العهد متغيرات كثيرة منها :
إن رقعة الدولة قد اتسعت وكثرت الحواضر مثل دمشق والبصرة ومكة والمدينة، وأصبحت هذه الحواضر مراكز حضارية وثقافية تجمع الأدباء، وتستقطبهم في قصور القادة والأمراء والقادة ممن تذوقوا الشعر والأدب فاستقبلوا الشعراء في قصورهم وأغدقوا عليهم ...

 

ثم تطورت هذه الرؤية تطورًا بارزًا في العصور التالية، جعل للنقد مكانة بارزة عبرت عنها مقولة أبى عمرو بن العلاء (ت 154هـ):"انتقاد الشعر أشد من نظمه، واختيار الرجل قطعة من عقله"([23]). وقال قائل لخلف الأحمر([24]):" إذا سمعت أنا بالشعر أستحسنه، فما أبالي ما قلته أنت فيه وأصحابك!! قال: إذا أخذ ت درهمًا فاستحسنته، فقال لك الصيرفي: إنه رديء، فهل ينفعك استحسانك إياه ؟([25]) وقد دار بين الخليل بن أحمد(ت17. هـ) وابن مناذر(ت198هـ)([26]) كلام، فقال له الخليل: إنما أنتم معشر الشعراء تبَعٌ لي، وأنا سكان السفينة، إن قرظتُكم ورضيتُ قولَكم نفقتُم، وإلا كسدتُم"([27]). وقديمًا قالوا:"الناقد بصير"([i]). . . وغير ذلك من الأخبار والمقولات التي تشير إلى قيمة النقد وسمو مكانة النقاد في كل عصر ومصر؛ فالنقد الأدبي ظاهرة اجتماعية لا غنى عنها مطلقًا، ما دام الإنسان مدنيًّا بالطبع، ينشىء ما ينشىء، ويقصد بهذا الإنشاء إمَّا تعبيرًا عن نفسه، وإمَّا تهذيبًا لغيره، بالإفادة أو التأثير، ثم يعرض آثاره على الناس لتُقرَأ في زمنه أو بعد زمنه، فإذا قرأها الناس أثارت في نفوسهم أفكارًا وملاحظاتٍ، هي مع الأديب أو عليه، أو استدعت آراءً أخرى متصلة بالأدب عن قُرب أو بُعد، ومن حق هؤلاء القُرَّاء أن يعبروا هم - أيضًا- عن مشاعرهم وآرائهم فيما قرءوا أو سمعوا، ومن حقهم أن يسايروا الأديب أو يعارضوه، فإذا فعلوا كانوا هم النقاد، وكان كلامهم نقدًا، يفيدهم في شتى جوانب حياتهم الثقافية والاجتماعية، ومن ثم فإن النقد تجربة إنسانية، لها دورها الفاعل إيجابًا أو سلبًا، حسب شخصية موظِّفها.

***

المبحث الأول: "إشكالية علاقة النبي الخاتم -e- بمصطلح النقد الأدبي"

توطئة:

هل في إطلاق مصطلح النقد الأدبي على الذات النبوية ما يشين أو ينال- معاذ الله -من مكانة نبينا الخاتم، e؟

سؤال يفرض نفسه بقوة على أي باحث موضوعي يجول في واحة عصر فجر الإسلام، محاولاً تدبُّر النص الأدبي وما دار حوله – عصرئذ-من حركة نقدية تحاول أن تكون مرشدة، تأخذ بيده إلى الكمال الفني، وتجنِّبه معاطب الطريق.

و هو سؤال جديد ندر مَن فكر فيه من الباحثين، إذ تناول معظمهم هذه الإشكالية تحت عناوين مكرورة معهودة في ساحة الدرس الأدبي والنقدي، مثل:"الإسلام والشعر"، "النبي والشعر"، "موقف الرسول من الشعر"، " الشعر في ميزان الرسول"، "النظرة النبوية في نقد الشعر"، "موقف السنة المطهرة من الشعر"([28]). . . وغير ذلك مما نراه في كثير من الدراسات الأدبية والنقدية الحديثة والمعاصرة، المتناولة لتلك القضية الشائكة.

وقد أجاب الدكتور محمود حسن زيني([29]) عن هذا السؤال إجابة تستفز أي باحث، وتدفعه دفعًا إلى محاورتها، يقول:

"يجب علينا، بعد استعراض الموقفين المتميزين للرسول e من الشعر:[موقف المشجِّع للشعر الملتزم، وموقف المقوِّم للشعر المعوج] أن نكون على حذر فيما يصدر عنا من قول أو حكم في هذا الصدد، فلا نسرف في القول ونزعم أن رسول الله - e- كان فيما صدر عنه من تعليقات وملحوظات، ومن تقويم وتشجيع وحض وثناء وتحذير للشعر والشعراء المسلمين، ناقدًا للشعر من الطراز العالي. وحاشا وكلا، بل كان خاتم الأنبياء والمرسلين، عليه أفضل الصلاة والسلام، لقد بعثه الله للعالمين بشيرًا ونذيرًا، ولم يبعثه ناقدًا أدبيًّا، أو حكَمًا بين الشعراء والناس. و لقد أحسن الأديب العقاد([30]) - رحمه الله - في دفاعه عن الرسول -e- باعتبار تعقيباته وتوجيهاته وتشجيعه الشعر من قبيل كلام الأنبياء، وليس من قبيل كلام" النقاد"([31]).

وهذه الرؤية غير منطقية ولا يُستطاع قَبولها على أنها مُسلَّمة شرعية - كما يزعم الباحث - إذ لا يوجد دليل نقلى صريح يعضِّد ما ذهب إليه، فلم ينهَ الرسول الخاتم -e- ولا الصحابة الأجلاء، ولا الأسلاف الأماجد، عن ذلك الإطلاق: إطلاق مصطلح النقد الأدبي - بمفهومه في عهد النبوة- على التعليقات النبوية على النصوص الأدبية عهدئذ.

وليس في إطلاق هذا المصطلح على الذات النبوية ما يناقض- أو يمانع- كونه بُعِث بشيرًا ونذيرًا. حقًّا وصدقًا، إنه بشير و نذير: بشير للأدباء الملتزمين، ونذير للعاصين الفاسقين، الخارجين على أعراف الإسلام وثوابته في ميدان الكلمة المتأدبة. وصدق الله العظيم؛ إذ يقول: {وَأَنِ احْكُم بَيْنَهُمْ بِمَآ أَنزَلَ اللَّهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَآءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَن يَفْتِنُوكَ عَن بَعْضِ مَآ أَنزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ فَإِن تَوَلَّوْاْ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَن يُصِيبَهُم بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيراً مِّنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ}([32]) ويقول: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِّكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ}([33]) ويقول: {فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيماً}([34]) .

فهذه نصوص قرآنية تقرر شمولية ما جاء به النبي -e- لأمور الدنيا والآخرة: حكمًا وتبيانًا وحلاًّ للقضايا المُشتَجَر فيها، ومنها أمر الأدب والأدباء، بلا شك أو جدال!!! وهي كذلك تدحض ما قاله الباحث من أن الرسول لم يبعث حكمًا بين الشعراء والناس!!!

وليس في الاستئناس بكلام الأستاذ العقاد دليل يؤيد زعم الباحث، إذ لم يظهر فيه الفارق بين كلام النقاد وكلام الأنبياء حول الشعر.

بل إن الرجوع إلى نص العقاد في ذلك يوضح الرؤية ويضيف جديدًا في الإشكالية المطروحة. يقول:" وقد نقلت إلينا تعقيبات معدودة عن رأي النبي[e] في الشعر والشعراء، لا تدخل في النقد الفني، وتدخل في كلام الأنبياء، الذين يقيسون الكلام بقياس الخير والصلاح، والمطابقة لشعائر الدين وسنن الصدق والفضيلة. . . وقد استحسن ما قيل من الشعر في النضح عن الإسلام والذود عنه وعن أهله، فكانت آراؤه هذه وشبيهاتها آراء الأنبياء فيما يحمدون من كلام؛ لأنهم قد بُعثوا لتعليم الناس دروس الخير والصلاح، ولم يبعثوا ليلقِّنوهم دروسًا في قواعد النقد والإنشاء"([35]).

كأني بالعقاد-رحمه الله تعالى- من الداعين إلى علمية أو علمانية النقد الأدبي؛إذ ينطلق هنا من المقولة الخطيرة السائدة في الوسط الثقافي، والزاعمة بأن الفن للفن[Art for art، sake]، أو التغيِّي بلا غاية([36])، وبأن الدين بمعزل عن الفن([37])، وهي مقولة وافدة تمثل أساسًا فلسفيًّا للمدرسة البرناسية([38]). . . إن هؤلاء يذهبون إلى أن بين الدين والفن علاقة النفور والخصام! وأن كلام الأنبياء ومن سار في ركبهم، كلام كهنوتي، صادر عن رجال دين[بالمفهوم الغربي للكلمة]!! فالأديان تبحث عن الحقيقة، والفن يبحث عن الجمال. وفرق بين الحقيقة التي تتقيد بأنها حقيقة، وبين الجمال الذي لا يتقيد بشيء؛ لأنه هائم طليق يسبح في عالم الخيال. . ثم هناك الناحية الخلقية؛ فالأديان تحرص على الأخلاق، والفن يكره القيود كلها، بما فيها قيود الأخلاق. لابد إذن أن الفن الإسلامي مجموعة من الحكم والمواعظ والإرشادات!!

ونتج عن تلك الرؤية أن صار التيار الإبداعي والنقدي، المضاد لها- الذي يُعرَف باسم الأدب الهادف[الأدب الإسلامي]- في موقف الرد؛ إذ نص أصحابه على أن هذه الرؤية تقوم على"فهم ضيق للدين والفن على السواء. إن الدين يلتقي في حقيقة النفس بالفن؛ فكلاهما انطلاق من عالم الضرورة، وكلاهما شوق مجنِّح لعالم الكمال؛ وكلاهما ثورة على آلية الحياة. . . والفن الإسلامي ليس بالضرورة هو الفن الذي يتحدث عن الإسلام! وهو على وجه اليقين ليس الوعظ المباشر والحث على اتباع الفضائل[فقط]، وليس هو كذلك حقائق العقيدة مجردة، مبلورة في صورة فلسفية. إنما هو الفن الذي يرسم صورة الوجود من زاوية التصور الإسلامي لهذا الوجود. . . هو الفن الذي يهيئ اللقاء الكامل بين الجمال والحق؛ فالجمال حقيقة في هذا الكون، والحق هو ذروة الجمال([39]).

كما أن قراءة نص العقاد بعمق يدلنا على أن له مفهومًا خاصًّا بالنقد الأدبي إذ حجَّم مفهومه وقصَّره على تلقين الناس دروسًا في قواعد النقد والإنشاء!!!

وتظهر خطورة كلام العقاد في تلك النتيجة التي رتَّبها الدكتور محمود حسن زينى، في قوله:" ونحن نؤمن، بل ونعتقد اعتقادًا يقينًا أن رسول الله-e- لم يكن ناقدًا أبدًا، ولم يكن شاعرًا كذلك، فحاشا وكلا لرسول الله -e- أن يتصف بصفات الشعراء أو الأدباء أو النقاد لا لعيب فيهم جميعًا، وإنما لدفع الظِّنَّة عنه، e"([40]).

وهذه نتيجة خطيرة؛ إذ ما الظِّنَّة التي ستنال من الرسول -e - إذ قيل عنه: إنه كان ناقدًا أدبيًّا، وإنه أُثرِتْ عنه نَقَدات أدبية رائعة، وما زال لها تأثير في حركة الأدب حتى الآن، وفي كل آن؟!! وما المساوئ الموجودة في النقاد، والتي لا يُراد أن يُوصَم بها النبي e ؟!!

ويقدم الدكتور محمود حسن زينى - فيما يزعم - دليلاً آخر على رؤيته، بقوله:

" وهذا ما دافع به المأمون([41]) عن رسول الله - e- في حديثه مع أبي على المعروف بأبي علي المنقري([42])، وقد سأله عن ثلاثة عيوب فيه، فقال: بلغني أنك أمي، وأنك لا تقيم الشعر، وأنك تلحن في كلامك!! فقال: يا أمير المؤمنين: أما اللحن فربما سبقني لساني بالشيء منه، وأما الأمية وكسْر الشعر، فقد كان النبي -e- أميًّا، وكان لا ينشد الشعر!! فرد عليه المأمون بقوله: سألتُك عن ثلاثة عيوب فيك، فزدتني عيبًا رابعًا، وهو الجهل يا جاهل! إن ذلك في النبي[-e-] فضيلة، وفيك وفي أمثالك نقيصة. وإنما مُنِع ذلك النبي -e- لنفي الظِّنَّة عنه، ولا لعيب في الشعراء والكتَّاب. وقد قال الله - تبارك وتعالى-: {وَمَا كُنتَ تَتْلُو مِن قَبْلِهِ مِن كِتَابٍ وَلاَ تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذاً لاَّرْتَابَ الْمُبْطِلُونَ}([43]).

وهذا الخبر لا يحمل أية دلالة على ما يريده الباحث، فنفي الشعر والكتابة عن الذات النبوية أمر مقرر قرآنيًّا لا جدال فيه، لكن لا يعنى نفي إدراكه -e - لبعض آليات النقد الأدبي، وقدرته على معرفة الجيد من الرديء من الأدب، وتقديمه رؤيةً نقديةً إسلاميةً وسطيةً مرنةً، قابلةً للتجديد والتطور والتحديث. وإلا فكيف نفسر شمولية الرؤية النبوية للدين والدنيا معًا؟!

***

هذا، ويذهب الدكتور عبد الوارث عبد المنعم حداد([44]) مذهب الدكتور محمود حسن زيني، إذ يطرح سؤالاً صريحًا في هذه الإشكالية:"هل كان الرسول -e- ناقدًا ؟!

ويجيب عليه قائلاً:" إن الرسول -e- إن كان قد أشار بشيء مما أسلفنا - [ من موقف النبي -e- من الشعر والشعراء] فلأنه نوع من التوجيه الذي قامت الدعوة عليه. وقد صادف هذا التوجيه قالبًا يتعلق بلغة من لغات الخطاب، وهو الشعر. أما حقيقة الأمر فالرسول -e- إنما بُعِثَ هاديًا ومبشرًا ونذيرًا، ولم يشغل نفسه بالنقد، ولم ينصب له قومه قُبَّة يؤمُّها الشعراء كما ضُرِبتْ لحسان بن ثابت [هكذا!!] وغيره"([45]).

وقد سبق تحليل هذا الكلام لوروده سلفًا في رؤية الدكتور "زيني"، ويضيف الدكتور عبد الوارث معللًا رؤيته:" ذلك أن الناقد لابد له من أدوات إذا اكتملت فيه رضيه الشعراء حكمًا، من هذه الأدوات: البصر الدقيق باللغة، والذوق الرهيف، والإحاطة بما قال شعراء العصر حتى يستطيع الحكم الصائب الصادق على الشعراء، ويكون بمقدوره الفصل بين أقدارهم اللغوية والشعرية. ولا يتحقق ذلك للناقد إلا إذا شغل نفسه بهذا العمل وما يتصل به، أو شغله العمل حتى يجيد الفصل فيه. . ولم يحدث أن شغل الرسول نفسه بهذا العمل، ولم يحدث أيضًا أن استغرق عليه نقد الشعر وتوجيهه كل الوقت أو بعضه" ([46]).

و أرى أن في هذا الطرح تعميمًا في العبارة الأخيرة، إذ لا ينكر أحد أن في السنة النبوية نصوصًا نقدية دارت حول الأدب: مدحًا، وقدحًا، توجيهًا وتصويبًا، بغية الوصول إلى الطهارة القولية والكتابية، في كل ما يصدر عن المسلمين عامة، والأدباء المبدعين[شعراءَ ونُثَّارًا] منهم بخاصة. كما أن في تلك المقولة دليلًا مساندًا لمَن يزعم أن النقد احتاج إلى زمن طويل في الإسلام حتى يؤسس على قواعد ثابتة!!! ([47])، وهذا الزمن-بلا شك – بعد عصر صدر الإسلام: عصر الوحي والخير !!!. وفي هذه المقولة -كذلك- دليل لمَن يزعم أن النقد الأدبي لم يكن نشيطًا في هذا العصر، تبعًا لعدم نشاط الإبداع الأدبي، أن أول النقاد في تلك الفترة هو عمر بن الخطاب، رضي الله عنه([48])!!!

إن الرسول -e- إنسان عربي، يمتلك طبعًا متمكنًا، وسليقة واعية، جعلته من أفصح العرب في عصره، بل في كل العصور، إذ كيف يُنفى عن فصيح بليغ مثلِه، مثلَ هذه الأدوات؟! تلك الأدوات التي عددها الدكتور عبدالوارث، رحمه الله تعالى، وكأنها شروط صارمة لابد من وجودها في كل ناقد. ومع ذلك فإني أراها موجودة - بدرجة معتدلة تناسب المقام الشريف، وظروف الحياة النبوية الشريفة - في شخصية النبي -e- إذ لا يمكن أن ينكر أحد أن النبي -e- فُطِر على الفصاحة والبلاغة وجمال اللغة، فالرسول e بشر يتأثر بالكلمة والموقف وعربي في قمة الفصاحة، يقدر التعبير الفني، ويعرف خطره وعمق تأثيره في النفوس ويطرب له حين يعبر عن مبادئ خلقية وجمالية مقبولة من وجهة الدين الجديد، ويرفضه ويقبحه حين يكون دعوة للشر أو الشقاق أو الرذيلة أو تحريضا على طرح الجدية في الحياة والاستسلام لمباذلها"([49]).

 وقد رُزِق ذلك توفيقًا من الله - تعالى- وتوقيفًا([50]). وليس في هذا الطرْح أية مبالغة؛ يقول الجاحظ(ت255هـ):" ولعل مَن لم يتسع في العلم، ولم يعرف مقادير الكلام، يظن أننا تكلفنا له[-e-] من الامتداح والتشريف، ومن التزيين والتجويد، ما ليس عنده، ولا يبلغه قدره. وكلا. والذي حرم التزيد عند العلماء، وقبح التكلف عند الحكماء، وبهرج الكذابين عند الفقهاء- لا يظن هذا إلا مَن ضل سعيه"([51]).

كما لا يُستَطاع إنكار أن له -e-ذوقًا مرهفًا ومعرفة بأهم الشعراء حوله من صحابته، ومن أعدائه، وقد ثبت - تاريخيًّا - أنه - e- سمع نصوصًا شعرية عديدة، من مطلعها إلى خاتمتها، وكانت له فيها ملاحظات خاصة، وتعليقات إيجابيه بنَّاءة.

 يقول الأستاذ مصطفى صادق الرافعي ([52]):"على أنه - e- فيما كان وراء عمل الشعر وتعاطيه وإقامة وزنه، يحب هذا الشعر و يستنشده، ويثيب عليه ويمدحه متى كان في حقه ولم يعدل به إلى ضلالة أو معصية. والآثار في هذا المعنى كثيرة لا نطيل باستقصائها، ولولا أن ذلك كان منه - e- لماتت الرواية بعد الإسلام، ولما وجد في الرواة من يجعل وكده حمل الشعر وروايته وتفسيره، واستخراج الشاهد والمثل منه. . . "([53]).

*****

ويتصل بهذه الإشكالية وجوب الفصل بين أمرين؛ الأول:إنشاء الرسول -e- الشعرَ، والثاني:إنشاده وتذوقه، وتبيينَه للجيد والرديء منه؛ لأن عدم الفصل في ذلك الشأن هو الذي تسبَّب في وجود الإشكالية؛ فقد اتفق المفسرون والباحثون قاطبةً على أن الله - تعالى - لم يجعل في طبع النبي [-e-] القدرة على نظم الشعر، وقد فطره على النُّفرة بين ملَكته الكلامية والملَكة الشعرية، أي لم يجعل له ملَكة أصحاب قرض الشعر؛ لأنه أراد أن يقطع من نفوس المكذبين دابر أن يكون النبي -e- شاعرًا، وأن يكون قرآنه شعرًا؛ ليتضح بهتانهم عند من له أدنى مُسكة من تمييز الكلام. وليس المراد نفي إنشاء الشعر عنه؛ لأن إنشاء الشعر غير تعلُّمه، فكم من راوية للأشعار ومن نقَّاد للشعر لا يستطيع قول الشعر. وكذلك كان النبي -e - قد انتقد الشعر ونبَّه على بعض مزايا فيه، وفضل بعض الشعراء على بعض، وهو مع ذلك لا يقرض الشعر([54]).

لقد حسم القرآن الكريم صلة النبي الخاتم -e- بالشعر إنشاءً وإنشادً وتذوقًا وتوجيهًا، فنفى الإنشاء للشعر والإبداع له عن الرسول -e-نفيًا قاطعًا؛ تنزيهًا لشخصه العظيم، وتنزيهًا للقرآن الكريم، وحفظًا له من الظنون المشوِّهة والشكوك المشوِّشة.

 وينبغي ألا يُفهَم هذا النفي فهمًا خاطئًا، ويؤدي إلى نتائج منافية للفهم الصحيح، أو مُجافية للحقيقة الجلية([55]).

قال الحافظ ابن حجر: "وأما الشعر فكان نظمه محرمًا على الرسول _عليه الصلاة والسلام_ باتفاق. قال الله عز وجل: {وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ}... لكن فرَّق البيهقي وغيره بين الرجز وغيره من البحور فقالوا: يجوز له الرجز دون غيره، وفيه نظر فإن الأكثر على أن الرجز ضرب من الشعر، وإنما ادعي أنه ليس بشعر الأخفش وأنكره ابن القطاع وغيره، وإنما جرى البيهقي ذلك لثبوت قوله _صلى الله عليه وسلم_ يوم حنين:" أنا النبي لا كذب أنا ابن عبد المطلب". فإنه من بحور الرجز، وليس جائزًا أن يكون مما تمثل به لأن غيره لا يقول: أنا النبي، ويزيل عنه الإشكال أحد أمرين: إما أنه لم يقصد الشعر فخرج موزونًا وقد ادعى ابن القطاع وأقره النووي الإجماع على أن شرط تسمية الكلام شعرًا أن يقصد له قائله ،وعلى ذلك يحمل ما ورد في القرآن والسنة. وإما أن يكون القائل الأول قال: أنت النبي لا كذب، فلما تمثل به النبي _صلى الله عليه وسلم_ غيره والأول أولى. هذا كله في إنشائه. ويتأيد ما ذهب إليه البيهقي بما أخرجه ابن سعد بسند صحيح عن معمر عن الزهري قال: لم يقل النبي _صلى الله عليه وسلم_ شيئًا من الشعر قيل قبله أو يروى عن غيره إلا هنا. وهذا يعارض ما في الصحيح عن الزهري أيضا: لم يبلغنا أن النبي _صلى الله عليه وسلم _تمثل ببيت شعر تام غير هذه الأبيات. زاد ابن عائذ من وجه آخر عن الزهري: إلا الأبيات التي كان يرتجز بهن وهو ينقل اللبن لبناء المسجد وأما إنشاده متمثلاً فجائز يدل عليه حديث عبد الله بن عمرو عن النبي _صلى الله عليه وسلم_ قال: "ما أبالي شربت ترياقا أو تعلقت بتميمة أو قلت الشعر من قبل نفسي" أخرجه أبو داود وغيره. فقوله: "من قبل نفسي" احتراز عما إذا أنشده متمثلاً فقد وقع منه ذلك كما ثبت في الأحاديث الصحيحة"([56]).

فالرسول  -e- لم يكن من أولئك الذين يقولون القصائد أو يجتذبهم حفظ الشعر، بل كان بعيدًا كل البعد عن ذلك؛ لأنه مهيأ لسماع النغمات القدسية والألفاظ الربانية، لسماع الوحي المعظم؛ لذا لم يكن شاعرًا وما ينبغي له. إذ رتبته التي هيئ لها أسمى المراتب على الإطلاق ومنزلته أعلى المنازل بالاتفاق.

ولا ينبغي أن يقودنا هذا إلى تبني رأي بعض الباحثين بأن ثمَّة قطيعة كاملة بين الرسول -e- والشعر، وأنه - e- يبغضه بغض الكاره المُجافي، وأنه لا يستسيغه أولا يُقبل على سماعه حين ينشد أمامه؛ إذ إن واقع الأمر، الذي تُثبته الأخبار والروايات، ينافي ذلك تمامًا.

والأمر الطبعي الذي يتفق مع سجية العربي وجِبِلَّته أن يتذوق الشعر تذوقًا يمتِّعه، ويُعجب بفنيته إعجابًا يبلغ فيه أعماق النفس، ويعبر عن هذا الإعجاب تعبيرات تتنوع إيجازًا وإطنابًا، إجمالاً و تفصيلاً، كليةً وجزئيةً، ذاتية وموضوعيةً، حسب طبيعة كلِّ شخص، وظروف كل عصر ثقافيًّا ولغويًّا وأدبيًّا. يقول ابن رشيق(ت456هـ):" سمعت بعض الحُذَّاق يقول: ليس للجود في الشعر صفة، إنما هو شيء يقع في النفس عند المميِّز كالفرند في السيف والمَلاحة في الوجه"([57]).

 ولا يُشترَط في النفس الممارِسة للنقد الأدبي أن تكون شاعرة أو متعلمة الشعر، فتاريخ النقد الأدبي يدلنا على أن كثيرًا من النقاد كانوا غير شعراء، وأن كثيرًا من الشعراء كانوا غير نقاد. و هذه الحقيقة مقررة في النقد منذ بدايته اليونانية؛ إذ ذهبوا إلى أن القدرة على تأليف الشعر ليست هي ذاتها القدرة على إعطاء تعليل عقلي له([58]). وقد سجل تلك الرؤية النقد العربي في قول ابن رشيق:" وقد يميز الشعر من لا يقوله كالبزاز يميز من الثياب ما لم ينسجه، والصيرفي يخبر من الدنانير ما لم يسكبه ولا ضربه، حتى إنه ليعرف مقدار ما فيه من الغش وغيره فينقص قيمته"([59]).

وقد تطور الأمر فصار الفصل بين الناقد والأديب أمرًا يكاد يفرض نفسه على واقع الحياة النقدية، بل أوجبه بعض النقاد من أمثال شابيرو( href

المصدر: نشر بعض هذا البحث في مجلة كلية اللغة العربية بجامعة الإمام
0 تصويتات / 830 مشاهدة
نشرت فى 20 مارس 2015 بواسطة sabryfatma

الأستاذ الدكتور صبري فوزي عبدالله أبوحسين

sabryfatma
موقع لنشر بحوثي ومقالاتي وخواطري، وتوجيه الباحثين في بحوثهم في حدود الطاقة والمتاح. والله الموفق والهادي إلى سواء السبيل »

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

333,858