ثلاثية الكون والحياة والإنسان في ديوان أشواق للشاعر عبدالمجيد فرغلي
بقلم الدكتور/صبري فوزي أبوحسين
أستاذ ورئيس قسم الأدب والنقد بكلية الدراسات الإسلامية والعربية للبنات بمدينة السادات، بجامعة الأزهر

من المسطور في مُدَوَّنة النقد الأدبي عالميًّا وعربيًّا أن الشعر فن من الفنون الإنسانية الجميلة، يعبر عن خلجات النفس الإنسانية، ويكشف عن إحساساتها الدفينة؛ إذ يخاطب الواجدان والعاطفة، ويستلهم الوحي والخيال، وهو لغة القلوب ومرآة النفوس، ودليل الشعوب، وعلامة على المستوى الفكري، وميزان للتطور الاجتماعي، وأنه صورة بديعة من صور الكلام، ولسان اللغة ومظهرها ومبعث حياتها ورصيد قوتها، يهدف إلى كمال الحياة ويتغيا نشر الفضائل، وتوضيح وسائل السعادة ومواطنها.

و" ليس الشعر-كما يقول الدكتور شوقي ضيف في مقالته عن رسالة الشعر- صنعة يمكن لكل إنسان احترافها، ولا أداة يستطيع كل شخص امتلاكها، وإنما هو رسالة يلهمها الشاعر، فإذا هو قد تبدل من نفسه نفسًا أخرى، تنظر إلى العالم نظرة جديدة، تغير قيم الأشياء في رأيه، وتعدل أقدارها نظرته، لا تقف عند القشور، ولا تنحجز عند اللفائف، وإنما تنفذ إلى اللباب، وتتغلغل إلى صميم الجوهر، وما تزال هذه النظرة ترقى بإحساسه وتسمو بقلبه، حتى ترفع له الحجب عن الجمال الهاجع في الكون، وتكشف له الأستار عن سحره البديع وسره العجيب..."

ومن الشعراء الواقعيين الإيجابيين الرساليين شاعرنا الأستاذ عبدالمجيد فرغلي- رحمه الله تعالى_ ذالكم الشاعر المفلق، صاحب الرحلة العجيبة مع فن العربية الأول، حيث العطاء الزاخر المنداح المتنوع  فيه، الذي  ضم ما يزيد على ثلاثة وعشرين عنوانًا في مكتبة الشعر العربي... ويسجل كل قارئي شعر شيخنا عبدالمجيد- من باحثين جامعين محققين، ونقاد محللين مُقيِّمين- أن شيخنا من أغزر الشعراء العرب في النصف الثاني من القرن العشرين نتاجًا، ومن أطولهم نَفَسًا شعريًّا؛ إذ يبلغ مجمل إبداعه ما يبلغ ثلث مليون بيت أو يزيد، ودواوينة تجاوز الأربعين ديوانًا، منها المطبوع ومنها المخطوط، فمن دواوينه المطبوعة(يقظة من رقاد) سنة 1955م، و(العملاق الثائر) سنة 1959م، و(أشواق) سنة 2000م، وديوان (عودة إلى الله)سنة 2006، و(مسافر في بحر عينين) سنة 2006م، و(القصائد العذرية في المعارضات الشعرية) سنة 2006م، و(المطارحات الشعرية بين التراث والمعاصرة بيني وبين أبي نواس)سنة 2006م، و(على برج الخيال) سنة 2007م، و(درة في اللهيب) سنة 2007م، و(محمد الدرة رمز الفدى) سنة 2007م، و(عاشقة القمر) سنة 2007م،و(رسائل الأشواق) سنة 2007م، و(من وحي الطبيعة) سنة 2008م، و(عبير الذكريات) سنة 2008م، و(أكتوبر رمز العبور) سنة 2008م، و(من أبطال الإسلام الخالدين) سنة 2008م.وقد صدر من دواوينه ديوان (وستبقى يا وطني حيا) سنة 2011م، وديوان (دموع تائب) سنة 2013م، وديوان (أصداء وأضواء) سنة 2014م، هذا إضافة إلى ملاحمه ومسرحياته!...  وما زالت هناك جملة دواوين ومجاميع شعرية وقصائد مخطوطة حبيسة أدراج أسرته، تعمل على نشره نشرًا علميًّا سديدًا، إن شاء الله.

وإن هذه الكثرة الإبداعية دالة-بلا ريب- على شاعر متمكن أمكن من موهبته، تلك التي تطيعه في كل زمان ومكان، وفي كل حال ومقام، كما أنها كثرة دالة على هيمنة الشعر على شيخنا ليل نهار، صباح مساء، في معظم سني عمره، إذ ظل يبدع الشعر منذ سن الثانية والعشرين من عمره تقريبًا حتى آخر أنفاسه رحمه الله، إذ طلب منه أحد أصدقائه ارتجال قصيدة عن وردة بيضاء، فأبدعها على البديهة في عشرة أبيات، قبل وفاته بأيام، رحمه الله.

ويعد ديوان (أشواق) -الذي نشر في طبعة حكومية رسمية أولى سنة 2000م- من دواوين شيخنا عبدالمجيد المعبرة –بجلاء- عن أبرز ملامح شخصية شاعرنا عبدالمجيد وحالته في زمن إبداعه بدءًا من خمسينيات القرن العشرين حتى انصرامه؛ فقد ارتحل بنا منطلقًا من ذاته إلى وطنه، إلى كونه، إلى مجتمعه، معبرًا أبين تعبير، ومصور أيسر تصوير، ومفكرًا أطهر تفكير، بوسطية واستنارة وجهارة. وما أدل على ذلك من قوله على لسان مصرنا:

إن روحي وروحَكم في نجاتي      وحياتي فداؤها كلُّ غالِ

فثلاثية الكون والحياة والإنسان بادية كل بَداءٍ في هذا الديوان؛ إذ انفعل شاعرنا مع عالمه المحيط: طبيعة، ومجتمعًا، وبشرًا، فأفادنا وهزَّنا بشيرًا ونذيرًا في كل مشاهده ومرائيه...

وقد تكون هذا الديوان من تسع عشرة تجربة شعرية بين مطولة[خمسين بيتًا فأكثر]، ووسطى[أقل من خمسين بيتًا]، وقصيرة[أقل من عشرين بيتًا]. إنه يمثل الحالة الشعرية المصرية في النصف الثاني من القرن العشرين، إذ تنتاب الشاعر المصري زمانئذ حالات نفسية وفكرية أساسية تجثم على مخيلته: تدينًا وإنسانية ووطنية وقومية واجتماعية...  ومن ثم يمكننا أن نصنف هذه الأشعار على النحو الآتي:

<!--[if !supportLists]-->-     <!--[endif]-->أولاً: أشعار وطنية:

وهي سبع تجارب، تصور موقف الشاعر من أحداث مصرنا الحبيبة في الخمسينيات من القرن العشرين، تتمثل في العناوين الآتية:

<!--بفضل جهاد طويل:

وهي مقطوعة بائية من البحر الطويل، مكونة من سبعة أبيات شعرية، تعلن عن الفرح بزوال الاستدمار الإنجليزي الغاصب، وقد عنونت ببيت الختام حيث يقول:

بفضل جهاد قد بلغنا مرامنا     وما ضاع حق لم يذره مطالبهْ

<!--ظرفكن عصيب:

وهي قصيدة بائية قصيرة من البحر الكامل التام، مكونة من أحد عشر بيتًا، فيها دعوة إلى الثبات والوحدة، في الظرف العصيب، حيث التربص بالوطن من أعدائه الخارجيين! يصرخ شاعرنا قائلاً:

يا أُسْد أمتنا الكرام ألم تروا     أن العدو من الديار قريبُ

متربص بكم الدوائر ولم يزل   مثل الأفاعي في الظلام تجوبُ

فمن الحماقة أن نكيد لبعضنا   ويدب فينا للنزاع دبيبُ

عار علينا أن يضيع جهادنا  ورجاؤنا في المصلحين يخيبُ

<!--ثورة الحق:

قصيدة رائية وسطى من البحر الطويل، مكونة من ثمانية وعشرين بيتًا، وفيها تعديد لإيجابيات ثورة يوليو وإنجازات صانعيها، بدأها قائلا:

علام نوايا السوء تخبو وتظهر   وحول حماة الحق يبدو التنكر؟!

وهم أهل إخلاص وأهل نزاهة   ومن ذا لهاتيك النزاهة ينكر؟

ومن ذا الذي يجحد فضلهم   سوى كل مغرور له البغي عنصر؟

أما أخرجونا من ظلام إلى هدى   وما راعهم باغ ولا متجبر؟

ويظل يعدد هذه الإنجازات حتى يقول في الختام:

بني وطني هاكمُ صحيفة مجدِنا   عليها ضياء للنواظر يسحر

وتلك تفاصيل الحقيقة قد بدت   وما الأكمه الأعمى كمن هو مبصر

<!--المطلب المنشود:

وهي قصيدة قصيرة دالية من البحر الكامل التام، مكونة من تسعة عشر بيتًا، تدور حول أهداف ثورة يوليو الأساسية التي بينها قائلا على لسان قائد هذه الثورة:

تحرير وادي النيل من شرك العدى   ولعل هذا المطلب المنشود

ثم الجلاء وذاك أول ما نرى  مهما بذلنا والعدو يكيد

أرواحنا هذي فدى لبلادنا  وبذاك نحيي للمنى ونعيد

وأعاهد الرحمن ألا أنثني عما عزمت عليه وهو شهيد

<!--عرش طغيان يزول:

قصيدة يائية مطولة من البحر البسيط التام، مكونة من ثلاثة وثمانين بيتًا، فيها تمجيد لثورة يوليو، وتعديد لسوءات النظام الملكي السابق، من جميل ما فيها قول شاعرنا:

ودولة الظلم هل تقوى دعائمها    على الوقوف إذا انهارت أعاليها

ونالها من عذاب الله صاعقة     هوت عليها فدُكَّت من روابيها

وقوله معلنًا عن سلمية هذه الثورة:

وما أريقت دماء رغم كثرتها   أو أحدثت أبدًا في مصر تشويها

بل انتهت بسلام لم يصب أحدٌ   فهل رأت مصر ثورات تضاهيها؟!

<!--في القنال:  

قصيدة لامية طويلة من البحر الخفيف التام، مكونة من ستة وستين بيتًا، وهي دعوة إلى النهوض لمواجهة الاعتداء الإنجليزي الغشوم على مدن القناة ومقاومته، حيث يقول شاعرنا على لسان مصرنا الحبيبة:

يا بني النيل قيدكم حطموه         واشربوا المر في سبيل المعالي

ساعة العز قدرها مثل دهر       من حياة الهوان تحت الظلال

إن حرية الفتى خير كنز      يقتنيه ولا يدانى بمال

فانهضوا من رقادكم واستردوا      مجدكم ما دعا منادي القتال

يا أسود الشرى إلى المجد هيا      مصر نادت تحمسوا يا رجالي

إنني أمكم وعار عليكم            أن أُرى مرتعًا لأهل الضلال

أنقذوا أمكم تعيشوا كرامًا      وافتدوها بكل وح ومال

حرروها من الطغاة وهبوا            كالبلايا أو الخطوب الثقال

إن روحي وروحكم في نجاتي      وحياتي فداؤها كل غالِ

<!--وقفة بورسعيد الخالدة:

قصيدة تائية وسطى، من البحر الطويل، مكونة من اثنين وثلاثين بيتًا، تدور حول المقاومة الباسلة ضد الاعتداء الهمجي  على مدينة بورسعيد الصامدة، يقول منذ مطلعها على لسان مصرنا:

أراد البغاة المعتدون قناتي      فخابت أمانيهم أمام ثباتي

وآمالهم أضحت سرابًا يقيعة    تراءى لهم ماء على الفلوات

فجاؤوا إليه يسرعون كأنما  يريدون صيدًا طار عبر فلاة

وما زال هذا الصيد يجري أمامهم   إلى أن رماهم في يد الهلكات

فعادوا كما جاؤوا يجرون خيبة   وعار انسحاب زاد في الحسرات

وهكذا أدى شيخنا الشاعر رسالته تجاه وطننا مصر خير أداء، واقفًا معها في أصعب أزماتها في الخمسينيات حيث الثورة على الملك، ومواجهة الاعتداء الأجنبي الغشوم الجهول!

<!--[if !supportLists]-->-     <!--[endif]-->ثانيًا: أشعار إنسانية:

وهي ست تجارب شعرية تنفعل مع الكون في أعلى صوره( القمر والكواكب والنجوم) والكون في أبسط صوره(القرية)، وهاكم بيانًا موجزًا بهذه التجارب:

<!--احذري با نجوم

تعد أبرز تجربة، وأكبر قصيدة في الديوان،(مائة وأربعة أبيات)، وقد بدأ الشاعر ديوانه بها، وهي من البحر الكامل المجزوء، فيها خطاب للقمر، وإعلان عن الخوف عليه وعلى كواكبه، يقول شاعرنًا:

ملكَ الكواكبِ في العلا    عذبتَ روحي بالضجرْ

قل للكواكب في السما   جُولي بأفقك في حذرْ

ولتقصري فيه المدى  حظر التجول قد صدرْ

أخشى عليك بني الثرى   بثوا المخاوف والخطرْ

كم دمروا في كوكبي  بلهيب حرب من سقرْ؟

وبعد هذه الرسالة التحذيرية نجد شاعرنًا ينحو منحًى إنسانيًّا فريدًا قائلا:

ما قال آدم: دمِّروا   أو روِّعوا أمن الزُّمرْ

بل قال كونوا إخوة     وكذاك نجزي من شكرْ

في كل نجم جنة     فيها النعيم المستقرّْ

بثوا النجوم حدائقًا    فيها الزهور مع الثمرْ

حيث الهناء لعالم    مضناه أرهقه السهرْ

وتهيمن هذه النزعة الإنسانية على شاعرنا حتى ختام رائعته قائلا:

أدعو شعوب بني الورى  للحب يزهر بالشجر

تدنو ثمار غصونه  حيث الأمان بها وقرْ

من فوقها طير الربا  هزج الغناءَ أو انتقرْ

هتف السلام بغصنه  أو توج الروض الزهرْ

هذا الذي من أجله أشربت حبك يا قمرْ

وهكذا نرى انفعال الذات البشرية مع الجمادات العلوية، مع النباتات والحيوان الرقيقة في لوحة إنسانية ذات رسالة عالمية سامية، ما أحوجنا إليها في زمننا ذا!

<!--حب بين أحضان الشجر:

قصيدة رائية طويلة(مكونة من تسعة وتسعين بيتًا) من قالب البحر الخفيف المجزوء، تمثل نموذجًا فنيًّا أعلى للانسجام الشاعري الهامس مع الطبيعة عند شاعرنا، وفيها تشخيص للريح والشجر والدوح، والربا والطير، وفيها تمجيد طريف للقرية، وكأني به متأثر بمحمود حسن إسماعيل وعلي محمود طه، وغيرهما من الشعراء الرومانسيين والأبوليين! حيث يقول:

قريتي كعبة الهوى         كم بها خاطري اعتمرْ

طفت فيها محلقًا         أملأ الكون بالدرر

ملهمي الشعر وحيُها      رائع اللحن مبتكرْ

ألهمتني قصائدًا       من شذا زرعها العطر

من تراب عشقته       في صبا العمر والكبر

في هواها مشاعري     لم تفتني ولم أذر

في غدوي وروحتي    ما أرى حبها فتر

بت أشكو بكوخها      حيثما قادني الوطر

قريتي الكون كله      ما على أرضها ندرْ

<!--على شاطئ الغردقة:

قصيدة طويلة قافية،(ثمانون بيتًا) على نسق البحر المتقارب، يصف طبيعة مدينة الغردقة ومناخها، وأثر ذلك في إبداعه، خلال حوار معها، يقول:

وقلت لها: يا ابنة الحسن شوقًا        تحييك آمالنا المشرقةْ

رقدت على شاطئ ساحر         بحسن جمالك ما أخلقهْ

سحرت خيالي فتنت فؤادي       كأنك في روضتي زنبقة!

تبثين عطر الجمال الأنيق        وموضع روضك ما آلقهْ!

يضمك بالشوق شط وبحر      وقفت تناغيه معشقه

فواضح مدى إعجابه وانفعاله بالغردقة، ومدى هيمنة العشق والشوق تجاهها!

<!--تحت ظل النخيل:

مقطوعة(ستة أبيات) لامية من البحر المتقارب التام، وهي طبعية واجتماعية، ويبدو أنها تجربة بدائية لما تكتمل!

<!--اصدقيني العهد

قصيدة وسطى (من سبعة وثلاثين بيتًا) رائية من بحر الرمل التام، من وحي قصة فنان يوناني قديم صنع تمثالا من حجر فأعجبه صورته فتمنى أمنيات من الآلهة. من جميل ما فيها:

أنتِ يا أيتها السابي سحرُها    قدري في الحب وحي نادرُ

أنتِ أضرمتِ هوى قلبي به   بيد أني فيه روضي ناضرُ

فيكِ إبداع القدير المبتغى     من يديه الحسن وهو القاهرُ

بهر الخلق وأنهى شأوهم       في الذي فيه مداه باهرُ

آيةُ الحسنِ بديعٌ خلقُها        في بني الخلقِ شبيهٌ نادرُ

<!--ابسمي:

قصيدة طويلة(مكونة من خمسين بيتًا)، وهي  سينية من بحر الرمل التام، مثل القصيدة السابقة في خطابها الرومانسي، ويهيمن عليها المعجم الشعري الرقيق الهامي صوتًا ولفظًا وعبارة، وإيقاعًا!

وبعد هذه التجارب الثلاثة عشرة التي تمثل صلب الديوان والجميل فيه، وجدت تجارب ست، تتنوع إلى:

<!--[if !supportLists]-->-       <!--[endif]-->تجربتين اجتماعيتين، هما: قصيدة دالية قصيرة(مكونة من ثلاثة عشر بيتًا) من البحر الخفيف التام بعنوان(لقمة العيش) تدور حول متطلبات لقمة العيش وقيودها.

 وقصيدة وسطى(مكونة من عشرين بيتًا) فائية من الخفيف التام، بعنوان (شكر وتقدير)، تمثل شعر المناسبات بوضوح، حيث تمكنت المناسبة التي قيلت فيها القصيدة من الشاعر في كل أعطاف القصيدة، فجاءت خطابية تقريرية مباشرة!

<!--[if !supportLists]-->-       <!--[endif]-->تجربتين عروبيتين، هما:قصيدة (الحجر الغاضب)، وهي قصيدة رائية طويلة(مكونة من ستة وستين بيتًا) من البحر البسيط التام، تسجل الانتفاضة الفلسطينية الباسلة، وهي أنموذج لأدب القضية الفلسطينية المقاوم، بدأها بهذا المطلع الجميل:

أقوى من النار هذا الثائر الضجر  لا مدفعًا ثارَ لا صاروخَ بل حجرُ

وختمها بقوله:

ولن يضيع جهاد قد سقى وطنا  دم الفداء وفيه روضُه النَّضِرُ

وتلك أنشودتي في زحف موكبه    يشدو الأصيل بها والليل والسحرُ

والقصيدة العروبية الثانية بعنوان(فقيد العروبة) قافية طويلة، مكونة من ثلاثة وأربعين بيتًا)، من قالب البحر الوافر التام، وفيها تأثر بقصيدة شوقي القاافية: (سلام من صبا بردى أشق...) وكانت رثاء لرئيس عربي، أسهم في حرب أكتوبر المجيدة!  

<!--[if !supportLists]-->-       <!--[endif]-->تجربتين إسلاميتين، جاءتا انفعالاً بدخول شخص عاشره شاعرنا الإسلام، الأولى حكت قصة هذا الدخول، وعبر فيها شاعرنا عن فرحه بذلك، وهي ميمية طويلة(وهي خمسة وثمانون بيتًأ)، من قالب بحر الرمل التام، بعنوان(إني مسلم)، من أجمل ما فيها قول شاعرنا:

يا أخي في الله في بيت الهدى  أنت بالإسلام حل مكرمُ

أنت حب الروح والقلب معًا   أنت نور في عروقي محرم

أنت فيه كعبتي قلب صغا  لم تك المروءة عنه تفصم

أنت من زهر التسامي روضة  من عبير الأرض روح يبسمُ

والقصيدة الثانية (رحلة مع لا إله إلا الله)، وهي قصيرة(مكونة من عشرة أبيات)، وهي ميمية من قالب البحر الطويل، جاءت تهنئة بالدخول في الإسلام، وكانت تقريرية مباشرة، كأنها خبر صحفي! يقول شاعرنا في مطلعها:

يتوق لنفسي أن تهنئ مسلمًا  أتى يدخل الإسلام بالأمس أسلما

وهكذا تنوع الدبوان فكريًّا في مضمونه دينيًّا ووطنيًّا واجتماعيًّا وكونيًّا، كما يلاحظ أن فيه تنوعًا عروضيًّا في إيقاعه؛ فقد جاءت سبع عشرة تجربة تامةَ البحر، و تجربتان مجزوءتي البحر: تمثلت التجارب التامة في أربع تجارب على الطويل، وهو كم لافت للنظر، يدل على مقدرة شاعرنا وتمكنه من ذلك الإيقاع الفخم!  وثلاث على بحري: الخفيف، والرمل، وتجربتين على  أبحر: البسيط، و الكامل، و المتقارب،  و واحدة على الوافر...أما التجربتان المجزوءتان فواحدة على مجزوء الكامل، وثانية على مجزوء الخفيف!

ومن ثم كان عنوان الديوان(أشواق) دالاًّ، وعلامة على مضامينه الكبرى، وعلى العاطفة الأسمى فيه؛ فـ(أشواق) جمع تكسير للشوق، الذي هو مصدر للفعل:شاق يشوق شوقًا، أي نزع إلى الشيء، ورغب فيه، و(الشوق) يعني: نُزوعُ النَّفْس إلى شَيْء أو تعلُّقها به، لهفة لرؤية المحبوب.

 قال الشاعر:

لا يعرفُ الشوقَ إلاّ مَنْ يكابدُه          ولا الصبابةَ إلاّ مَنْ يُعانيها

وقال أحمد شوقي:

يا من هجرت إلى الأوطان رؤيتها     فرحتُ أشوقَ مشتاقٍ لأوطانِ

  فشاعرنا في هذا الديوان وفي تجاربه التسع عشرة لا يعيش شوقًا واحدًا، بل(أشواق): إنه في (شوق) إلى المثالية والنبل والسلام والأخوة الإنسانية، وإنه في (شوق) إلى وطننا مصر الثائرة ضد الحكم المستبد، ومصر المقاومة للمحتل الغاصب، ومصر المستقرة، ومصر القوية، وإنه في (شوق) إلى القرية البسيطة، وإنه في(شوق) إلى فلسطين الصامدة المجاهدة بالحجر والبشر، وإنه (في شوق) إلى (البطولة العسكرية)، ثم إنه في (شوق) إلى الإسلام الهادي الجاذب المنتشر، وإنه في (شوق) إلى كلمة التوحيد، وإنه في (شوق) إلى المكافحين من أجل لقمة العيش الحلال الكريمة!

إنها أشواق إنسانية سامية عالية: (شوق إنساني)، و(شوق وطني)، و(شوق اجتماعي) و(شوق عروبي)و(شوق إسلامي).وما أعظمها من مشاعر وعواطف وأحاسيس! 

وإن مطالعة الإهداء الذي خطه الشاعر بقلمه ليدلنا خلال تلك القراءة الأفقية للديوان السابق ذكرها، على أنه دائر حول هذه الثلاثية: (الوطن العربي)، و(مصر)، و(الإنسانية الخالدة)، ثم كل شبر مشت عليه قدماه، منطلقًا فيه من مفاهيم عدة شاملة للفظة الوطن: قرية، ودولة، وكونًا. وقد بين شاعرنا الدافع على إبداعه تلك المضامين قائلاً: "الأمل المشرق الذي ألهمني حب وطني وحب الإنسانية"، معلنًا عن تعانق ذاته مع الوطن بمفهومه الواسع. وها هو ذا يشير إلى أن مذهبه في هذا الديوان واقعي قائلاً: "وإلى الأرض الطيبة التي أعطتني عرائس فكري، السائر على بحر الواقع بأجنحة من خيال الحقيقة"...

إننا في هذا الديوان لشاعرنا الفحل عبدالمجيد فرغلي، رحمه الله، مع تجارب شعرية غنائية، ذات معجم شعري رقيق هامس، ولغة نقية صافية هائمة، معتمدة على وعي بالتراث العربي، وقدرة على التوظيف المثير للُّغة الرومانسية، وصاحبه حقًّا لا يغني لنفسه، وإنما يغني لأهله، وللإنسان، وللكون، ويتناول أبرز قضايا عصره  بصورة فنية خاصة؛ إذ يتناول بشعره ما يتصل بحياتنا اتصالاً مباشرًا، وليس في هذا الشعر طنين ممقوت أو ضوضاء كاذبة؛ فهو شعر يمتزج بالنفوس، ويتصل اتصالاً طيبًا بالقلوب، ويستمد فنه من الطبيعة التي ينظر إليها نظرة مغايرة، ويتخذ رؤاه من الحياة التي يحيا فيها، فصار الشعر في هذا الديوان نفس صورة صاحبها، وصورة الحياة التي تراها مخيلته، معبرة عن حقيقة الجمال الخالدة، وموسيقاه المؤثرة...

إنه بحق ديوان يمثل عصر إبداعه، ويمثل صاحبه، ويدل على واقعية إيجابية منيرة، ويسلط الضوء على الخير والنصر، ويدعو إلى السلام والأمان، والإخاء والتسامح، وهو أنموذج للشعر المحافظ، وشعر المناسبات، الذي علا على المناسبة، ولم تتحكم فيه المناسبة!

 

المصدر: نشرت هذه المقال في تقديم الطبعة الثانية من ديوان أشواق للشاعر المصري الكبير عبدالمجيد فرغلي
  • Currently 0/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
0 تصويتات / 157 مشاهدة

الأستاذ الدكتور صبري فوزي عبدالله أبوحسين

sabryfatma
موقع لنشر بحوثي ومقالاتي وخواطري، وتوجيه الباحثين في بحوثهم في حدود الطاقة والمتاح. والله الموفق والهادي إلى سواء السبيل »

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

337,305