أدلة نصية على جاهلية لامية العرب للشنفرى
للدكتور/صبري فوزي أبوحسين
لا ريب في أن قصيدة لامية العرب خريدة مغايرة، ووثيقة شعرية طريفة، لا تقل مكانة عن المعلقات في معجمها الثري، ونسيجها المتواشج، وإعلانها البيِّن عن مبدعها وبيئته، وإنها لتعلو علوًّا كبيرًا في تقنيات الفن الشعري وبراعات اللغة، وتُعلي من قيمة شعر الصعاليك عامة المنسوبة إلى واحد فذِّ منهم، هو الشنفرى، وتعلن عنه وعنهم، ولا يُعرف سبب لتسميتها بـ "لامية العرب"،إلا كونها عبّرت أشد تعبير عن حياة العرب الجاهلية بما فيها من ظروف وأخلاق وطباع. وما فتئ اللغويون والأدباء يشرحونها ويحللونها، منذ القرن الثاني الهجري-تقريبًا- إلى الآن... وقد تعرضت هذه القصيدة الفريدة إلى التشكيك النادر: قديمًا من قبل ابن دريد(ت321هـ)، الذي أشار إلى كونها من إبداع خلف الأحمر(ت180هـ)، وحديثًا من قبل المستشرق الألماني كرنكو(ت1953م)، ومن تبعهما!
وهذا يستدعي منا أن نتبين الأمر؛ بغية الوصول إلى كلمة مقبولة في هذه الإشكالية، وخلال رحلتي مع هذه اللامية -متعلمًا ومعلمًا وباحثًا- أستطيع أن أجزم بجاهليتها؛ فالقراءة الداخلية العميقة لهذا النص العربي الخالد تقدم لنا أدلة نصية على أنها جاهلية الإبداع شكلاً ومضمونًا. ويمكننا أن نعرض هذه الأدلة على النحو الآتي:
أولاً: صعاليكية البناء الفني:
هذه القصيدة تتكون من تسعة وستين بيتًا، تدور حول موضوعات أربعة، تنتمي كلها إلى البيئة الجاهلية الصعاليكية، وهي التمرد على القبيلة والرحيل عنها[من البيت الأول إلى السادس]، وإثبات الشنفرى لذاته والفخر بها: جسديًّا ونفسيًّا واجتماعيًّا [من البيت السابع إلى البيت السادس والعشرين] ، والانتقال إلى البيئة الجديدة (الصحراء وحيواناتها وأحيائها) والانفعال معها وبها، مع رسم لوحة للذئب معادله الموضوعي[من البيت السابع والعشرين إلى البيت السادس والثلاثين]، ثم يعدد الشنفرى صورًا من صعلكته الجاهلية، حيث الغارات والسلب والقتل، حيث يقول مثلاً:
دَعَسْتُ على غَطْشٍ وَبَغْشٍ وَصُحْبَتي سُعَارٌ وإرْزِيزٌ وَوَجْرٌ وَأفَكَلُ
فأيَّمْتُ نِسْوَانَاً وأيْتَمْتُ إلْدَةً وَعُدْتُ كما أبْدَأْتُ واللَّيْلُ ألْيَلُ
والتواشج الفني بين هذه البُنى الفكرية بادٍ ملحوظ؛ فالقصيدة تكاد تكون سيرة شعرية ذاتية من مطلعها حتى ختامها, جاءت مقدمتها طريفة، غير تقليدية، فليست طللية، ولا غزلية، وذلك في ستة أبيات عن وصف الرحلة عن القبيلة إلى بيئة جديدة، ثم انتقل إلى الغرض الأساس من القصيدة، وهو الفخر الذاتي: بنفسه وبأخلاقه وشجاعته، وخبرته بدروب الصحراء وحيواناتها، مع وصف هذه الحياة الصحراوية القاسية، وطبيعتها الجافة، وأحياءها الحادة. وقد جاء الانتقال عن طريق أسلوب الاستثناء بـ(غير) قائلاً:
وَكُـلٌّ أَبِـيٌّ بَاسِـلٌ غَيْـرَ أنَّنِـي إذا عَرَضَتْ أُولَى الطَرَائِـدِ أبْسَـلُ
ثم يأخذ في تعديد شمائله ومهاراته، وتصوير حياة الصعلكة وأحيائها عن طريق أسلوب الاستطراد عند تناوله لوحة الذئب ثم لوحة القطا، ولعل لهما علاقة بحياة الصعلكة حيث يكون (الذئب) معادلاً موضوعيًّا لكل صعلوك, و(القطا) هي أنيسه في هذه البيئة القاسية، كأنها بديل القبيلة أو أمه أو زوجه أو أسرته, وكل من فقدهم في بيئته الأساسية الأولى. وكل قصائد الشنفرى الأخرى على مثل هذا البناء: تخلو من المقدمة الطللية أو الغزلية، وتدور حول موضوع واحد، وتترابط أفكارها.
ثانيًا: جاهلية في الإيقاع العروضي:
جاءت القصيدة من البحر الطويل، الذي دخل زحاف القبض عروضه وضربه، وهو البحر الغالب على مجمل شعر الشنفرى، حيث جاء على نسقه ثلاث عشرة تجربة، مقسمة إلى خمس قصائد، وست نتف، وبيتين يتيمين، وبلغ عدد أبياتها مائة وثمانية وستين بيتًا، من مجموع مائتي، بنسبة84%، وقد جاء مطلعها غير مصرع، يقول:
أَقِيمُـوا بَنِـي أُمِّـي صُـدُورَ مَطِيِّـكُم فإنِّـي إلى قَـوْمٍ سِـوَاكُمْ لَأَمْيَـلُ
وعدم التصريع مناسب لطبيعة الصعاليك عامة، ومناسب لشعر الشنفرى بخاصة؛ إذ لا نجد في مجموع شعره الباقي قصيدة مصرعة إلا واحدة فقط من مجموع تجاربه البالغة عشرين تجربة، متنوعة بين قصيدة ومقطعة ونتفة وبيت يتيم! ولعل عادة التصريع لم تكن متبعة في زمن الشنفرى، فتكون القصيدة من أقدم الشعر الجاهلي.
وقد تناص الشنفرى في هذا المطلع هذا البيت مع بيت عروة بن الورد يستنفر قومه للإغارة على القوافل، حيث يقول:
أقيموا بني لُبنَى صُدورَ مَطِيِّكُمْ فَكلُّ منايا النفسِ خيرٌ منَ الهَزْلِ
وفي هذا دلالة على جاهلية لامية العرب وصعلكتها!
وفي البيت الخامس والأربعين من اللامية جواز نعهده في الشعر الجاهلي من إبدال (مفاعيلن)" الأولى أو الثالثة من البحر الطويل بـ "مفاعلُ"، حيث اجتماع زحافين، هما: قبض الخامس، وكف السابع! وهو جواز لا نجده في الشعر الإسلامي ولا المحدث؛ لتحولهم عن طريقة الجاهليين في الإنشاد، ولاستقرار موسيقا البحر الطويل في الآذان العربية وتعودها عليه، حيث يقول:
طريدُ جِناياتٍ تياسرْنَ لحمَهُ عقيرتَهُ لأيِّها حُمَّ أَوَّلُ
وما أجمل ما قاله أبو العلاء المعري وما أدله في تحليله هذا الخروج العروضي! قال:""قلما تسلم قصيدة جاهلية بنيت على الطويل من أن يستعمل فيها قبض السباعي؛ أما امرؤ القيس فكثير الاستعمال له، وأما النابغة وزهير وأعشى قيس فيستعملون ذلك دون الملك الضليل"...
وقريب من هذه الخروج العروضي في اللامية، خروج آخر يتمثل في قبض (مفاعيلن) في الحشو، فتصير(مفاعلن)، وهو قليل في القصائد التي على نسق البحر الطويل! وقد عدَّها الدكتور إبراهيم أنيس-رحمه الله- صورة نادرة لا تستريح لها الآذان، وذلك في البيت الثامن والعشرين:
غَدَا طَاوِيـاً يُعَـارِضُ الرِّيـحَ هَافِيـاً يَخُـوتُ بأَذْنَابِ الشِّعَابِ ويُعْسِـلُ
وفي البيت الثاني والثلاثين، حيث يقول:
مُهَرَّتَـةٌ فُـوهٌ كَـأَنَّ شُدُوقَـها شُقُوقُ العِصِـيِّ كَالِحَـاتٌ وَبُسَّـلُ
وفي البيت السادس والستين حيث يقول:
وخَرْقٍ كظَهْرِ التُّـرْسِ قَفْـرٍ قَطَعْتُـهُ بِعَامِلَتَيْـنِ ، ظَهْـرُهُ لَيْسَ يُعْمَـلُ
وهو خروج وارد في بقية شعر الشنفرى كما في قوله [ص45من ديوانه]:
فإن تطعنوا الشيخَ الذي لم تُفَوِّقوا مَنِيَّته وغِبْتُ إذْ لم أُشَهَّدِ
وقوله [ص46 من ديوانه]:
ومقرونة شمالها بيمينها أجنب بزي، ماؤها قد تعطرا
ولعل هذا التحليل العروضي يقدم دليلاً ماديًّا على جاهلية اللامية أولاً، ونسبتها إلى الشنفرى ثانيًا وبعدها عن خلف الأحمر ثالثًا!
ثالثًا: حوشية المعجم والتعبير:
لا ريب في أن لامية العرب أنموذج أعلى للجزالة في المعجم؛ حيث كثرة الألفاظ الغريبة النادرة كثرة عالية النسبة فيها، كثرة تناسب عصر إبداعها الجاهلي وتدل عليه، وقد تبدت هذه الظاهرة اللغوية من خلال مقالي السابق المنشور في العدد الخامس عشر بمجلة الديوان، حيث برز مدى اهتمام المعجميين العرب القدامي بالاستشهاد بأبيات من اللامية، إذ بلغ ستة عشر بيتًا، عدا المكرر!
ومن الحوشية كذلك ذكر الأماكن كـ(أحاظة)[اسم قبيلة من ذي القلاع بحمير، وقيل:موضع، أو اسم بلد باليمن] في قوله:
فغَـبَّ غِشَاشَـاً ثُمَّ مرت كأنّـها معَ الصُّبْحِ رَكْبٌ مِنْ أُحَاظَةَ مُجْفِلُ
و(الغميصاء)[وهو موضع في بادية العرب قرب مكة، أو بنجد، في قوله:
وأصْبَـحَ عَنّـي بالغُمَيْصَـاءِ جَالسًـا فَرِيقَـانِ: مَسْـؤُولٌ وَآخَرُ يَسْـألُ
ومن الحوشية في التعبير قَولُ الشَّنْفَرَى في البيت الحادي والستين:
فإنْ يَكُ مِن جنَ لَأَبْرح طَارِقًا وَإِن يَكُ إنْسًا ما كَها الإِنْسُ يَفْعَل
حيث اجتمع في هذا البيت الشرط مع الجواب في الصدر، ودخلت الكاف على الهاء في العجز، وقال المعجميون: يريدُ: مَا هَكَذَا الإنْس يَفْعَل، فتَرَكَ ذا وقدَّمَ الْكَاف. وقد استشهد بهذا البيت النحاة في كتبهم كالعكبري(ت 616هـ) والإستراباذي(ت 686هـ) والبغدادي (ت1093هـ)، وغيرهم.
رابعًا: ذكر اسم المبدع وفخره بسرعة عدوه في اللامية:
ورود اسم "الشنفرى" في البيت الرابع والأربعين من القصيدة، حيث يقول:
فإنْ تَبْتَئِسْ بالشَّنْفَرَى أمُّ قَسْطَلٍ لَمَا اغْتَبَطَتْ بالشَّنْفَرَى قَبْلُ أطْوَلُ
وقد ذكر المترجمون للشنفرى أنه كان من العدائين، وكان سريع العدو، لا تدركه الخيل، حتى ضرب المثل؛ فقيل: "أعدى من الشنفرى"، وهذا التميز بالعدو افتخر به الشنفرى في ثلاثة مواضع من لاميته، حيث يقول معلنًا عن سبقه كل عداء نحو الطرائد:
وَكُلٌّ أَبِيٌّ بَاسِلٌ غَيْرَ أنَّنِي إذا عَرَضَتْ أُولَى الطَرَائِدِ أبْسَلُ
وفي موضع ثان من اللامية يقول مصورًا قدرته الفائقة في العدو بالأماكن الخشنة الوعرة:
إذا الأمْعَزُ الصَّوّانُ لاقَى مَنَاسِمِي تَطَايَرَ منه قَادِحٌ وَمُفَلَّلُ
فالشنفرى هنا يهول في وصف قوة عدْوه؛ فهو حين يعدو تتطاير الحجارة الصغيرة من حول قدميه، فيضرب بعضها بحجارة أخرى، فيتطاير شرر نار وتتكسَّر.
وفي موضع ثالث من لاميته يصور شدة سرعته على أرض خالية مقفرة، ألحق أولها بآخرها!حيث يقول:
وَخَرْقٍ كظَهْرِ التُّـرْسِ قَفْـرٍ قَطَعْتُـهُ بِعَامِلَتَيْـنِ ، ظَهْـرُهُ لَيْسَ يُعْمَـلُ
فألْحَقْـتُ أُوْلاَهُ بأُخْـرَاهُ مُوفِيَـًا علَى قُنَّـةٍ أُقْعِـي مِرَارَا وَأمْثُـلُ
وهكذا نرى لامية العرب قصيدة جاهلية صعاليكية، وصفها القارئون إياها-كما يذكر الدكتور إيميل يعقوب في مقدمة تحقيقه ديوان الشنفرى-بأنها "تتنفس بعبير الصحراء، وترسم جاهلية العرب بكل نقاء، وتصور حياة رجل حمل أحقادًا أورثتها إياه مظالم الناس وعقوق الأخوة وجور العدالة، مما جعله صاحب ثورة على الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية التي كانت في بيئته آنذاك، بعاني الغربة التي يشعر بها كل صعلوك عاش في بيئته. و"يصعب علينا أن نصدق أن رجلاً [خلفًا الأحمر] لطيف الشعور، رقيق التعابير، يقول قصيدة مطلعها:
نأت دار سلمى فشط المزار فعيناي ما تطعمان الكرى
يتوصل إلى نظم قصيدة كلامية العرب خشونة ودقة تصوير وتتبعًا للحقيقة الوضعية"، إنها أصدق قطعة شعرية من أغاني الصحراء، وإذا تناول النحل غيرها فهو عنها بعيد، ولم يمسها ولا حام حولها"!