(المقامة البغدادية للهمذاني في مرآة النقد القصصي)
إعداد الطالبة/ نورا سلامة الفرقة الثالثة بكلية الدراسات الإسلامية والعربية للبنات بمدينة السادات ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
مراجعة الأستاذ الدكتور/صبري فوزي أبوحسين -
أولاً: ( نبذة فن المقامة ومؤلفها) :
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
المقامة فن ألفه بديع الزمان الهمذاني، تشتمل على مقامات كثيرة هدفها الضحك والفكاهة، مع أخذ الدروس والعبر، وأيضا نشر الألفاظ الغريبة في اللغة لتعليم الناس . - تعريف المقامة: قصة نثرية لها راو وبطل، تدور حول موضوعات النصب والشحاذة والاحتيال، ويلتزم فيها الكاتب السجع والمحسنات والألفاظ الغريبة . - تعد المقامة فنًّا من فنون النثر الجديدة في العصر العباسي، والذي اختلف في أول من أبدع في هذا الفن، فقيل: إنه "بديع الزمان الهمذاني"، وهو الراجح، وقيل: إنه ابن دريد" . - تعريف المؤلف ( بديع الزمان الهمذاني) هو أحمد بن حسين بن يحيى، كنتيه " أبو الفضل "، لقبه : بديع الزمان، والهمذاني هذه نسبة إلى همذان . ولد عام ٣٥٨ه، وتوفي في سنة ٣٩٨ه، أبدع فن المقامات أثناء إقامته بنيسابور . تتشابه المقامة مع القصة القصيرة في أنهما سرد قصير، وفيهما عناصر القص من شخوص وأحداث، وزمان ومكان،وحبكة! مع اختلاف في طريقة العرض والبناء! ويتمثل الفرق بين المقامة والقصة القصيرة في الآتي: -أن اللغة في المقامة مقصودة، وفيها تكلف، وقد تحتوي حشوًا. أما اللغة في القصة القصيرة فطبعية، ومكثفة، لا حشو ولا تكلف ولا لغو فيها! أن الزمان والمكان في المقامة غير موظفين توظيفًا كاملاً، أما القصة القصيرة فالزمان والمكان فيها لابد أن يكونا موظفين. كما أن المقامة لابد أن يذكر فيها المغزى على عكس القصة القصيرة فيعاب على القاصّ ذكر المغزى فيها، ولكنه يترك للقارئ استنباطه .
ثانيًا: (نص المقامة)
ـــــــــــــــــــــــــــــــ
(حدثنا عيسى بن هشام، قال: اشتهيت الأزاذ، وأنا ببغداذ وليس معي عَقدٌ على نَقد، فخرجت أنتهز محالَّه، حتى أحلني الكرْخ، فإذا أنا بسواديّ، يسوق بالجهد حماره، ويطرف بالعقد إزاره، فقلت : ظفرنا والله بصيد، وحياك الله أبا زيد، من أين أقبلت ؟ وأين نزلت؟ وهلم إلى البيت .فقال السوادي: لست بأبي زيد ولكني أبو عبيد . فقلت: نعم، لعن الله الشيطان وأبعد النسيان، أنسانيك طول العهد، واتصال البعد، فكيف حال أبيك؟ أشاب ٌ كعهدي، أم شابَ بعدي؟ فقال: قد نبت الربيع على دمنته، وأرجو أن يصيره الله إلى جنته، فقلتُ: إنا لله و إنا إليه راجعون، ولا حول ولاقوة إلا بالله العلي العظيم، ومددت يد البدار إلى الصدار أريد تمزيقه، فقبض السواديُ على خصري بجمعه، وقال: أنشدتك الله لا مزقته، فقلت: هلم إلى البيت نصب غداءً، أو إلى السوق نشتر شواءً، والسوق أقرب وطعامه أطيب، فاستفزته حمة القرم، وعطفته عاطفة اللقم وطمع ولم يعلم أنه وقع، ثم أتينا شواء يتقاطر شواؤه عرقا وتتسايل جوذاباته مرقا، فقلت: افرز لأبي زيد من هذا الشواء، ثم زن له من تلك الأطباق، وانضد عليها أوراق الرقاق ورش عليه شيئا من ماء السماق ،ليأكله أبو زيد هنيا . فأنخى الشواء بساطوره على زبدة تنوره، فجعلها كالكحل سحقا وكالطحن دقا، ثم جلس وجلست ولا يئس ولا يئست، حتى استوفينا وقلت لصاحب الحلوى: زن لأبي زيد من اللوزينج رطلين، فهو أجرى في الحلوق وأمضى في العروق، وليكن ليلي العمر يومي النشر رقيق القشر كثيف الحشو لؤلؤي الدهن، كوكبي اللون، يذوب كالصمغ قبل المضغ، ليأكله أبو زيد هنيا، فوزنه ثم قعد وقعدت وجرد وجردت، حتى استوفيناه ثم قلت : يا أبا زيد ما أحوجنا إلى ماء يشعشع بالثلج ليقمع هذه العصارة، ويفتأ هذه اللقم الحارة، اجلس يا أبا زيد حتى نأتيك بسقاء يأتيك بشربة ماء، ثم خرجت وجلست بحيث أراه ولا يراني، أنظر ما يصنع، فلما أبطأت عليه قام السوادي إلى حماره، فاعتلق الشواء بإزاره، وقال: أين ثمن ما أكلت؟ فقال أبو زيد أكلته ضيفا، فاطمه لكمة، وثنى عليه بلطمة ثم قال الشواء، هاك ومتى دعوناك ؟ زن يا أخا القحة عشرين، فجعل السوادي يبكي ويحل عقده بأسنانه، ويقول : كم قلت لذلك القريد أنا أبو عبيد وهو يقول أنت أبو زيد، فأنشد : أعمل لرزقك كل آلهْ * لا تقـعدن بكـل حالهْ وانهض بكل عظيمة * فالمرء يعجز لا محالهْ"
إعجام غريب المفردات:
ــــــــــــــــــــــــــــــــ
الأزاذ /نوع من أنواع التمر. بغداذ/ لغة في بغداد. العَقد والنقد / العقد هو السرة من المال والنقد هو المال محالَّه / جمع محل، وهو المكان الذي يباع فيه التمر . التنور/ هو الفرن . و اللوزينج/ هو نوع من الحلوى يتخذ من الخبز ويسقى بدهن اللوز ويحشى بالجوز واللوز .يفتأ / يخفف . والقحة / بمعنى الوقاحة . معنى البيتين: "أعمل لرزقك كل آلة" أي خذ بالأسباب وكن متوكلا ،لا متواكلا. "لا تقعدن بكل حالة" أي لا تكن من القاعدين والمتكاسلين والمعتمدين على غيرهم في أمورهم". "وانهض بكل عظيمة" أي بادر أنت أولاً بالفعل العظيم والحسن". "فالمرء يعجز لا محالة" أي استثمر حياتك في الانجاز؛ لأن الذي تستثمره اليوم، سيأتي عليك وقت لا تستطيع إنجازه" .
ثانيا ( التحليل الفني المقامة )
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1- من حيث العنوان : هذه المقامة تسمى ( المقامة البغداذية)، والذي يستفاد من عنوانها، أن الكاتب أشار به إلى أمور، وهي :أ-إشارة إلى المكان الرئيس الذي دارت فيه أحداث تلك المقامة . ب- أنها تصوير لنموذجين من المجتمع العباسي ( الأول هو النصاب المحتال، والثاني : ضعيف الرأي والشخصية ) ج-أن كلمة ( بغداذ) لغة في بغداد .
2-من حيث الشخوص :
هناك أشخاص أساسية وهم : عيسى بن هشام ( الراوي والبطل )، والسوادي، والشواء . وهناك أشخاص ثانوية وهم : والد السوادي، صاحب الحلوى، والسّقاء. *في هذه المقامة الراوي هو البطل ( عيسى بن هشام ) بخلاف غيرها من المقامات، فيكون بطلها أبا الفتح السكندري، وهذا ما يميزها عن غيرها . *وصف المؤلف البطل بقوله: "اشتهيت الأزاذ وأنا ببغداذ وليس معي عقد على نقد ) ووصف السوادي بقوله: "يسوق بالجهد حماره ويطرف بالعقد إزاره". ووصف الشواء بقوله: "يتقاطر شواؤه عرقا وتتسايل جوذاباته مرقا" .
3-: من حيث المكان والزمان في القصة :
هناك مكان عام وهو( بغداذ )، ومكان جزئي( الكَرْخُ) وهي مدينة ببغداد، ومكان هامشي وهو ( السوق) , وقوله (دمنته) معناها أمام قبره . والزمان: الماضي مسيطر في المقامة "اشتهيت، واستفزته، فأنخى، استوفينا... " والحال في قوله:" يسوق بالجهد، يطرف بالعقد". والأمر: "هلُّم، افرز، اجلس، وافرش". -والزمان والمكان غير موظفين التوظيف الكامل في المقامة _______________________
رابعًا: الحبكة القصصية للمقامة:
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
تكون بناء المقامة من : ( حدث تمهيدي، حدث متأزم ،ثم انفراجة وحل ) فالحدث التمهيدي في المقامة من أول القصة وهي بداية لقاء النصاب بالسوادي( الضحية ) إلى قوله: "نشدتك الله لا مزقته" . والحدث المتأزم على كلا الطرفين وهو إيقاع السوادي في الفخ من قوله:" هلم إلى البيت نصب غداءً"، وفيه إيجاد النصاب طريقا للإيقاع به إلى نهاية قوله:"ويفتأ هذه اللقم الحارة " . ثم الختام وفيه الانفراج والحل لكلا الطرفين وهو "اجلس يا أبا زيد حتي نأتيك بسقاء"، هو خروج النصاب من المأزق ووقوع الضحية، إلى نهاية قوله "فجعل السوادي يبكي ويحل عقده بأسنانه". فهذا الحل بالنسبة السوادي .
خامسًا: المغزى:
ــــــــــــــــــــــــــــ
وهو ملخص في قول السوادي ( أبو عبيد) في البيتين : أعمل لرزقك كل آله لا تقعدن بكل حاله وتنهض بكل عظيمة فالمرء يعجز لا محاله. حيث نجد أن الدرس الأعظم من هذه المقامة هو : - رفض الاتكالية والحياة على حساب الآخرين، والاعتماد على الخداع والنصب والاحتيال . - إعمال العقل وعدم الانخداع والأساليب والسلوكيات البراقة . - الحذر في البيع والشراء، قال تعالى ( يـأيها الذين آمنوا خذوا حذركم ) .
سادسًا: التعليق على المقامة:
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
١)هذه المقامة من المقامات الفكاهية المرحة، والتي تصلح أن تكون نواة لمسرحية كوميدية، ولها أهداف عظيمة منها : إيصال العظات والعبر بأسلوب مميز، توعية الناس من أنواع النصب والاحتيال . ٢)نشر الألفاظ اللغوية الغريبة بطريقة فكاهية إلى عقول الناس بكل سهولة، وهذا ما أراده المؤلف . ٣) تميزت عن غيرها حيث جعل المؤلف الراوي والبطل هما الشخص نفسه. ٤) تعد نموذجا جيدًا لفن من فنون النثر الجديدة، الدال على الأدب بأسلوبها الضاحك. ٥) تعد دليلاً على وجود فن القصة في تراثنا العربي ضمن ثلاثة فنون " كليلة ودمنة، البخلاء، فن المقامات". ٦) المقامة أنموذج للأدب المتصنع في لغته . ٧) ورود بعض الكنايات البلاغية في المقامة مثل: قوله:"عقد على نقد" كناية عن الفقر . قوله:"يطرف بالعقد إزاره" أي معه سرة من المال الكثير . قوله:" قد نبت الربيع على دمنته" كناية عن الموت . وقوله: "ليليّ العمر، يومي النشر، لؤلؤي الدهن، كثيف الحشو"، كلها صفات اللوزينج في جودته . ٨) التزام السجع ولم يتكلف فيه، فقد أجاد الهمذاني في أسلوبه وأحسن.