إحياء النيل في تجربة(الرحلة) للشاعر جمال مرسي
لنهر النيل أثر في كل مصري ومصرية وسوداني وسودانية، وله حضور معهم ومعهن وأحداث وذكريات؛ فهو مصدر راحة، ومصدر سعادة، ومكان نجوًى، ومكان حوار، إنه نهر خلقَ مصرَ القطر، ومصرَ الموقع الجغرافي، ومصرَ الزراعية، ومصرَ التجارية، ومصرَ السياحية، وجعل أفئدة الناس تهوي إليها، فأقام في هذه البقعة شعبًا. إنه نبع حياة ونبع إحياء، وصدق من قال: إنه هبة مصر، وأزيد: إنه سلوى المصريين: في صيفهم وشتائهم وربيعهم وخريفهم، وكل حياتهم، ومن ثم غنى له المصريون وأشعروا فيه، واحتفوا بأحواله، عبر الأزمنة المديدة، حتى قال قائلُهم:
مصرٌ ومصرٌ شأنها عجيبُ ونيلُها تَجري به الجَنوبُ
وما أدلَّ قول أبي نواس مادحًا الخصيب:
أنت الخصيبُ وهذه مصرُ فتدفقا فكلاكما بحرُ
النيلُ يُنعش ماؤُه مصرًا ونداك يُنعش أهلَها الغَمْرُ
وانطلاقًا من هذه المسلمة الحضارية عن علاقة النيل بمصر والمصريين جاءت خريدة(الرحلة) الشعرية الرومانسية السطرية الحرة لشاعرنا الدكتور جمال مرسي، تعلن عن عظمة النيل، وتأثير النيل حضاريًّا وزراعيًّا واقتصاديًّا واجتماعيًّا، فأحيت فينا النيل، وأحيتنا في النيل، وقد بدأت بهذا الطلب الذي هو رجاء كل مصري ومصرية: (واصل مسيرك)، وقد كرره شاعرنا وقرره في غير سطر من تجربته، من ذلك قول شاعرنا:
و ابعَثْ رَسُولَ النُّورِ فِي كُلِّ الجِهَاتِ
مُحَمَّلاً بِالعِطرِ
و ازرَع فِي فَيَافِيهَا زُهُورَكْ .
ويدندن الشاعر في منزعه الرومانسي على أثر النيل البيِّن في الطبيعة المصرية الخاصة، يقول:
سَقَيْتَهُم مَاءً طَهُوراً
فِي كُؤُوسٍ مِن لُجَينِكَ
واقتَسَمتَ رَغِيفَ خُبزِكَ ..
رَاضِياً ..
و نَثَرتَ فِي آَفَاقِ مَارِقِهِم عَبِيرَكْ .
يا كم فَرَشتَ بِسَاطَ مَوجِكَ
كي يَمُرُّوا .
و عَلَى الضِفَافِ زَرَعتَ نَعنَاعَ المُنَى
كي يَستَقِرُّوا .
وثنائية: (يمروا ويستقروا) دالة على أن أثر النيل في المصريين وغيرهم، وأنه سبب الحركة، وسبب الاستقرار، فلا حركة بمصر وللمصريين إلا بالنيل، ولا استقرار إلا بالنيل، فالنيل مصدر الحركة والسكون معًا!
ويقول:
نَخْلاتُكَ المُتَمِرِّداتُ عَلَى الفَنَاءِ ،
اللاَّمِسَاتُ يَدَ السَّمَاءِ،
الضَّارِبَاتُ عَرَاقَةً فِي المَاءِ ،
و التَّارِيخِ ( مِن عَهدِ الأُلَى)
يَرفُضنَ .. يا نِيلَ الوَضَاءَةِ ..
أَن تُعَكِّرَ رِيحُ مَارِقِهِم نَمِيرَكْ .
جُمَّيزُكَ الأَزَلِيُّ يَأبَى
غَيرَ أَن يَبقَى .. و إِن عَصَفَت بِكَ
الأَنوَاءُ ..
حَتَّى المُنتَهَى
فنباتات النيل(النخلات/ الجميز) تأخذ منه البقاء والخلود في وجه العواصف والأنواء، حتى المنتهى!
وشاعرنا ينسجم مع النيل ويتوحد فيه، كأنه صوفي يردد أنا النيل، والنيل أنا، يخاطبه قائلاً:
و لَم تَنَم عَينَاكَ يَا عَيْنِي
وقائلا في الختام معلنا عن الفناء في النيل:
يا أيُّهَا النِّيلُ المُخَلَّدُ فِي ضَمِيرِي
يا ضَمِيرِي
مُذ رَضَعتُ حَلِيبَ مَوجَتِكَ الشَّهِيَّ
غَدَوتُ مِنكَ و أَنتَ مِنِّي
صِرتُ مِثلَكَ
بَيدَ أَنَّكَ لم تَشِبْ
فالنيل ضمير الشاعر وعينه منذ وجد، كلاهما أصل، وكلاهما فرع، يتبادلان الأصالة والفرعية، غير أن النيل شاب دائما، لم يشب ولم يشخ!
وشاعرنا يعرف أعداء النيل ويعددهم، وينعتهم بنعوت القبح والخسة، يقول في البداية:
مَا كَانَ لِلرِّيحِ العَتِيَّةِ أَن تُضِيرَكْ .
يَا أَيُّها النِّيلُ الأَبِيُّ : أَرَاكَ تَزدَادُ اْئتِلاقاً،
كُلَّما ألقَوْا بِمَجرَاكَ النَّقِيِّ جَنَادِلَ الحِقدِ القَدِيمِ
فهم عتاة، وهم أصحاب حقد عتيق، ولا يستحقون مجرد الذكر، يل يكتفي شاعرنا بضمير الجماعة الواو في (ألقوا)! أو ضمير الغائب للجماعة في قوله:
و نَثَرتَ فِي آَفَاقِ مَارِقِهِم عَبِيرَكْ .
وهم جناة يتمنون أن يطغى الملح على مائه، كما أنهم خفافيش ظلام، في قوله:
لَن تَقوَى خَفَافِيشُ الظَّلامِ و إِن تَمَادَت
فِي تَنَاسُلِهَا البَغِيضِ
و رَقصَةِ النَّارِ المَقِيتَةِ فَوقَ صَفحَتِكَ
الوَضِيئَةِ
أَن تَذُرَّ رَمَادَها بِعُيونِكَ الكَحلَى
لِتَحجُبَ عن عُيُونِ النَّاسِ نُورَكْ .
إننا هنا مع إدانة لكل أعداء نهر النيل داخله وخارجه، في مصبه ووسطه ومنبعه، كل أساء في حق النيل تلويثًا وتعويقًا، عن قصد وغير قصد، عن علم أو جاهلية! ولكنها الإدانة الرومانسية الشفافة...
وإذا ما انتقلنا إلى تقنيات التشكيل في هذا النص وجدنا عجبًا بدءًا من عنوانه، ومرورًا بإيقاعه، وانتهاءً بتعبيره وتصويره:
أما العنوان فهو(الرحلة) عنوان لم يرد في أسطر النص، ولكن ورد ما يدل عليه ويشير إليه من ألفاظ وتعبيرات، مثل:وصل مسيرك/اقتسمت/سقيتهممنثرت/زرعت/مددت/منحتهم...). وكل الأفعال(مضارعة وأمرًا)بالنص تكاد تعبر عن العنوان، (الرحلة) للنيل في ربوع وطننا حياةً وإحياءً، وعمارة، وتعميرًا، صلاحًا وإصلاحًا... ، وهو عنوان مثير جاذب، يستدعي سؤالا: أية رحلة؟ من الراحل؟ وما وجهته؟
هل الراحل الشاعر أو النيل أو هما معًا، أو المتلقي معهما؟ وهل الوجهة إلى النيل ومع النيل، أو الوجهة سير ماء، واستمرار حركتها من نبعها، وفي مسيرها حتى مصبها؟!
لنجد الإجابة في السطر الأول وفي الجملة المفتاح(واصل مسيرك) فالمسير من النيل!
أما الإيقاع فالقصيدة سطرية تفعيلية حرة، مكونة من أربعة وستين سطرًا، على نسق تفعيلة البحر الكامل(متفاعلن) بكل صورها المتاحة. وهي تفعيلة ذات نغم ساحر آسر، ونظمها سهل يسير، ولذا تكاد تكون مطية معظم شعراء المرحلة الآنية. وبالتعبير التراثي(حمارة الشعراء المعاصرين)!
والقافية الموحدة والمنسقة مهيمنة على الشاعر، وتمثل نهايات مريحة في النص لقارئه ومنشدة، ومن أمثلتها هذه الأسطر المنتهية بالراء الموصولة بالكاف(مسيرك/سريرك/مصيرك/عبيرك/نميرك...)وكذا السطران المنتهيان بـ(يمروا/يستقروا)، أو السطران(تجنَّى /تمنَّى)، وكذا الأسطر المنتهية بـ(السماء/الماء/الأنواء).
ويشيع في النص توظيف تقنيتي التدوير والتضمين كرابطين لغويين بين أسطر النص، ولتكوين فقرة شعرية، تنطق دفقة واحدة، كما في قول الشاعر:
يَا أَيُّها النِّيلُ الأَبِيُّ: أَرَاكَ تَزدَادُ اْئتِلاقاً،
كُلَّما ألقَوْا بِمَجرَاكَ النَّقِيِّ جَنَادِلَ الحِقدِ
القَدِيمِ
سَقَيْتَهُم مَاءً طَهُوراً
فِي كُؤُوسٍ مِن لُجَينِكَ
رَاضِياً ..
وتعجبني في النص التصويرات الخيالية الأبولية(الريح العتية/جنادل الحقد القديم/نعناع المنى/خفافيش الظلام/يمينك البيضاء في شمم/بساط موجك/خلودك الأبدي/نيل الوضاءة/تناسلها البغيض/رقصة النار/رسول النور/حليب موجتك الشهي...
ثم يأتي أسلوب النداء للنيل مقروًا بالنعت الجميل الخلاب: يا أيها النيل الأبي/يا كم فرشت.. يا كم مددت...يا نيل الوضاءة.../يا أيها القنديل/ يا أيها النيل المخلد/ يا ضميري...
وما أعظمها من أوصاف مبجلة للنيل في نفوس المتلقين!
ويأتي أسلوب الأمر الالتماسي الرجائي عقب هذه النداءات: واصل مسيرك/ ابعث رسول النور/ ازرع في فيافيها...
كما يهيمن على النص ضمير الخطاب(الكاف) موجهًا إلى النيل في كل الأسطر، فالنيل حاضر لفظًا وضميرًا، ينشده القارئ، ويستمع إليه السامع في كل جملة، وسطر، وفقرة، ومقطع، بدءً ووسطًا وختامًا. أدام الله رحلته، وأدام الله حضوره في مصر وللمصريين!
تأتي المفارقة في النص من التركيز على ثنائية خاصة بالنيل وأعدائه: العطاء المستمر الخالد من قبل النيل، والجفاء والمروق والجحود من قبل أعدائه الكائدين المتربصين!
كما تحقق المفارقة أيضًا عن طريق تقنية يسميها النحاة(الإضمار قبل الذكر) وهذه خاصة بالمطلع، حيث يقول شاعرنا:
وَاصِلْ مَسِيرَكْ .
مَا كَانَ لِلرِّيحِ العَتِيَّةِ أَن تُضِيرَكْ .
يَا أَيُّها النِّيلُ الأَبِيُّ : أَرَاكَ تَزدَادُ اْئتِلاقاً،
فالكاف في (مسيرك) و(يضيرك) تستدعي اسمًا مذكرًا يكون قبلها يفسرها ويبينها، لكنها هنا في النص أتى بعدها، إثارة للذهن وجذبًا للمتلقي، كأن الكاف هذه خاصة بالنيل، فإذا ذكرت تذكر المتلقي النيل مباشرة، وهذا يدل على انسجام شاعرنا وفنائه في النيل لفظًا وضميرًا!
حقًّا: أحيت هذه الخريدة الفريدة فينا قضية نهر النيل أثرًا وتأثيرًا وتأثرًا، مكانًا ومكانة، فهي حوار ماتع مع النيل الأبي، ثم الوضيء، ثم القنديل، ثم المخلد، ثم الضمير...
كما أنها جرس إنذار، وناقوس خطر من الريح العتية، وجنادل الحقد، والمارق، وخفافيش الظلام، وكلها رموز لأعداء متنوعين لنهر نيلنا العظيم، وفك هذه الرموز يرجع إلى ثقافة كل متلق، ورؤيته وأيدلوجيته تجاه نهرنا العظيم...
كما أن القصيدة رسالة أمل وفأل مفادها: النيل جارٍ وسائر، وسيجري إلى المنتهى، وآثارة الطيبة باقية ما بقيت حياة، وكان إنسان، إن شاء الله تعالى..
كل ذلك قاله شاعرنا(جمال) بجمال، وأرساه بنص شفاف عن طريق أنسنة الكلمات، وشخصنة المضمون، بكل الألوان المشبعة بجمرة الحب، في قصيدة مرسومة بحواس الكلمات، يسيرة حيوية تزهو بكل المؤثرات السمعية والبصرية الملموسة، والإحساس فيها نابع من القلب، بكامل رائحة الحب وبدائية غاباته البكر وفطريتها، قصيدة في غاية الرهافة والرومانسية العذبة.
دامت تجارب شاعرنا(الدكتور جمال مرسي) الثرّة، وسمق حرفه الباسق ، وعاش فياضًا بالشعر والحب والإحياء والإبهار!
النص المقروء
قصيدة الرحلة
شعر : د. جمال مرسي:
وَاصِلْ مَسِيرَكْ .
مَا كَانَ لِلرِّيحِ العَتِيَّةِ أَن تُضِيرَكْ .
يَا أَيُّها النِّيلُ الأَبِيُّ : أَرَاكَ تَزدَادُ اْئتِلاقاً،
كُلَّما ألقَوْا بِمَجرَاكَ النَّقِيِّ جَنَادِلَ الحِقدِ القَدِيمِ
سَقَيْتَهُم مَاءً طَهُوراً
فِي كُؤُوسٍ مِن لُجَينِكَ
واقتَسَمتَ رَغِيفَ خُبزِكَ ..
رَاضِياً ..
و نَثَرتَ فِي آَفَاقِ مَارِقِهِم عَبِيرَكْ .
يا كم فَرَشتَ بِسَاطَ مَوجِكَ
كي يَمُرُّوا .
و عَلَى الضِفَافِ زَرَعتَ نَعنَاعَ المُنَى
كي يَستَقِرُّوا .
و مَنَحتَهُم فِي ظُلمَةِ اللَّيلِ الطَّوِيلِ ..
و لَم تَنَم عَينَاكَ يَا عَيْنِي
.. سَرِيرَكْ .
يَا كَم مَدَدْتَ يَمِينَكَ البَيضَاءَ فِي شَمَمٍ
تُصَافِحُ مَن تَجَنَّى ،
أو تَمَنَّى ..
أَن يَزُولَ خُلودُكَ الأَبَدِيُّ ،
أو يَطغَى عَلَيكَ المِلحُ فِي البَحرِ
الخِضَمِّ ،
تَظَلَّ وَحدَكَ فِي عُبَابِ المَوجِ
كَي تَلقَى مَصِيرَكْ .
نَخْلاتُكَ المُتَمِرِّداتُ عَلَى الفَنَاءِ ،
اللاَّمِسَاتُ يَدَ السَّمَاءِ،
الضَّارِبَاتُ عَرَاقَةً فِي المَاءِ ،
و التَّارِيخِ ( مِن عَهدِ الأُلَى)
يَرفُضنَ .. يا نِيلَ الوَضَاءَةِ ..
أَن تُعَكِّرَ رِيحُ مَارِقِهِم نَمِيرَكْ .
جُمَّيزُكَ الأَزَلِيُّ يَأبَى
غَيرَ أَن يَبقَى .. و إِن عَصَفَت بِكَ
الأَنوَاءُ ..
حَتَّى المُنتَهَى
و بقاءِ نبعِكَ في جِنانِ الخُلدِ مَزهُوّاً ،
سَمِيرَكْ .
يا أَيُّهَا القِندِيلُ :
لَن تَقوَى خَفَافِيشُ الظَّلامِ و إِن تَمَادَت
فِي تَنَاسُلِهَا البَغِيضِ
و رَقصَةِ النَّارِ المَقِيتَةِ فَوقَ صَفحَتِكَ
الوَضِيئَةِ
أَن تَذُرَّ رَمَادَها بِعُيونِكَ الكَحلَى
لِتَحجُبَ عن عُيُونِ النَّاسِ نُورَكْ .
وَاصِلْ مَسِيرَكْ .
و ابعَثْ رَسُولَ النُّورِ فِي كُلِّ الجِهَاتِ
مُحَمَّلاً بِالعِطرِ
و ازرَع فِي فَيَافِيهَا زُهُورَكْ .
ما زَالَ دَربُكَ لِلخُلُود تَحُفُّهُ الأَشوَاكُ ،
و النُّسَّاكُ قد خَلَعُوا جِبابَ الزُّهدِ
وامتَشَقُوا خَنَاجِرَهُم لِتَفنَى .
هَل سَتَفنَى ؟
أَم سَتُعلِنُ ياقَدِيمَ المَوجِ
و النَّخْلاتِ ، و الجُمَّيزِ ، و الشَّهدِ المُصَفَّى،
ثَورَةَ البُركانِ ،
تُسمِعُهُم هَدِيرَكْ ؟
يا أيُّهَا النِّيلُ المُخَلَّدُ فِي ضَمِيرِي
يا ضَمِيرِي
مُذ رَضَعتُ حَلِيبَ مَوجَتِكَ الشَّهِيَّ
غَدَوتُ مِنكَ و أَنتَ مِنِّي
صِرتُ مِثلَكَ
بَيدَ أَنَّكَ لم تَشِبْ