محمود مفلح الشاعر العروبي المخضرم

للدكتور/صبري فوزي أبوحسين

أستاذ ورئيس قسم الأدب والنقد بكلية الدراسات الإسلامية والعربية للبنات بمدينة السادات

عاش جيلي والذي قبله منذ سبعينيات القرن الماضي مع أشعار حماسية جهادية استنهاضية ودعوية تربوية مؤثرة آسرة لشاعر فلسطيني يُسمَّى (محمود مفلح)، تُنشَر في كبريات مجلات العالم العربي والإسلامي(مثل المجلات السورية: حضارة الإسلام، الموقف الأدبي، الأسبوع الأدبي، المعلم العربي، صوت فلسطين، والجرائد السعودية: الجزيرة، الرياض، البيان، والمجلات السعودية:الفيصل، المجلة العربية، اليمامة. ومن الإصدارات القطرية الأمة، وفي الإمارات منار الإسلام، والرافد، وفي الكويت: الوعي الإسلامي، المجتمع، العربي، وغير ذلك من إصدارات العالم العربي والإسلامي في زمن الصحوة، إضافة إلى مجلة الأدب الإسلامي...) فكنا نسمع أشعاره تُنشَد، ونُنشدها، في كل حدث وحادثة، ونكبة ونكسة وبلية وشتات تخص فلسطين الحبيبة وأخواتها المنكوبات: سوريا، العراق، لبنان، وغيرها من أمكنة التراجيديات الإسلامية والعربية، فقد امتلك بحق وقدرة :

لسانًا حازمًا لا حشوَ فيه      وشعرًا لا يُلوِّثهُ النفاقُ

 فكان أحد ألسنة الصحوة الإسلامية البارزة زمانئذٍ، خرج شعره من حدود وطنه وسبقه وجاب دولاً، ربما لم تطأها قدم شاعرنا،  حيث طوَّف شعره العديد من الدول، وتم تدريسه في عدد كبير من الدول العربية وغير العربية مثل السعودية والأردن ومصر والكويت وإيران؛ ليقترن اسم (محمود مفلح) باسم الشاعر الكبير (محمود درويش) في التعبير عن الهم الإنساني العام والهم الفلسطيني على وجه التحديد معبرًا عن قضاياه وهموم وطنه إلى الحد الذي جعله يقول: إنه "متهم بأنه شاعر وطني حتى النخاع"! والوطنية هنا وطنية جهادية مقاومة، وليست تجارية أو غنائية ! ولم يخرج في شعره عن القضية الفلسطينية إلا قليلاً، ولو استعرضنا عناوين دواوينه لوجدناها تعبر عن القضية الفلسطينية، منها "مذكرات شهيد فلسطيني"، و"حكاية الشال الفلسطيني"، بالإضافة إلى موضوعات أخرى عن الغربة والقضايا الاجتماعية، وهو من المتشددين جدًّا  في قصائده يعود إليها كثيرًا ويغير ويبدل، ومن ثم فهو من عبيد الشعر، الذين يحتكون بأشعارهم كثيرًا، ويقفون معها طويلاً، وينقحونها ويثقفونها.

وحتى عهد قريب لم أكن أعرف عن شاعرنا المخضرم، وعن شعره، شيئًا ذا بال إلا اسم ديوانه(غرد يا شبل الإسلام)! بسبب أن التواصل بين أقطار الأمة حيئنذ كان ورقيًّا ولم يكن إلكترونيًّا كحالتنا الآنية... فكنت في شغف إلى أن أتعرف عليه: شخصًا وفنًّا عن قرب، وقد حقق الله مرادي بلقاءات عدة في رابطة الأدب الإسلامي بالقاهرة، وفي مقر اتحاد الكتاب، وفي مؤسسة الحسيني الثقافية، كان فيها الإنسان الأصيل الصموت البسَّام الذي يتلقَّى قبل أن يُلقي وبعد أن يُلقي، وقد تبادلنا خلالها الابتسامات والسلامات العَجْلى، مع مزيد انبهار مني به شخصًا عربيًّا شاميًا فلسطينيًّا أصيلاً نبيلاً يعيش في ظلال القاهرة العامرة الهادرة الجامعة، يعشق مصر مكانًا وإنسانًا، ماضيًا وحاضرًا، ولكن لم يحدث خلال هذه اللقاءات حوار أو مجالسة أو معاشرة! وقد سمعته يلقي شعره، ويلقي كلماته الفكرية والنقاشية، فازداد حبي إياه، كما سمعني ناقدًا ومعلقًا، ويبدو أنه قد أعجب بي، فازدادت علاقتي به وازدانت باختياره إياي كي أعلق نقديًّا على ديوانه الأحدث (بعيدًا تضيء العناقيد) فأهداني إياه، واسمًا شخصي بلقب (أخي الناقد الكبير) في 7/9/2019م، وما أعظمه من تلقيب حين يصدر من شاعر عربي أصيل فحل مخضرم كأستاذنا محمود مفلح حفظه الله!

ثم كانت جلسة مناقشة الديوان في ندوة مؤسسة الحسيني الثقافية يوم السبت (5 من أكتوبر ٢٠١٩م)، فحضرت وعلقت على الديوان، وأبنت جمالياته وجديداته، وما فيها من مؤخذات طباعية! تداركها شاعرنا الكبير في الطبعة الثانية من الديوان الذي أهداني إياه في 13/10/2019م، ثم امتن علي يأن أهداني النسخة الوحيدة الباقية لديه من أعماله الكاملة، وكل يوم تزهر العلاقة بيننا حبًّا وقربًا وتقديرًا، وما ذلك إلا لموهبته الشعرية الفذة، وثقافته العربية الأصيلة، إنني كلما نظرت إليه، ونظرت فيه أراه كأنه أحد شيوخي في الأزهر، أو أحد أعلام الفصحى العظام المدهشين عبر أعصارها وأمصارها...   

وها أنذا أقف مع سيرته العطرة سعيدًا، إنه" محمود حسين مفلح" شاعر وأديب فلسطيني من رجال أكناف بيت المقدس، الشوام المباركين المرابطين، يرى الشعر سيد الفنون الأدبية. ولد عام1943م في بلدة (سمخ)، وهي  قرية فلسطينية تبعد 10 كيلومتر جنوب شرق مدينة طبرية، تقع عند أقصى الشاطئ الجنوبي لبحيرة طبرية. كما كانت أكبر قرى القضاء من حيث المساحة وعدد السكان، ودلالتها اللغوية من قولهم: "سمخ: الزرع : طلع أولاً"، و" زرع حسن السمخة"، أي حسن النَّوع والطَّلْعة، وقد أنجبت شعراء كبارًا، منهم يحيى يخلف وهو روائي أيضًا، وفواز عيد-وقد تعلم منه شاعرنا الشعر، وصالح هواري، وأحمد مفلح، وعدنان عمامة، ومحمود درويش.

أخبرني شاعرنا(محمود) أنه ينتمي إلى عشيرة (القُضاة)، التي تسكن جبل عجلون في الأردن، وفي بلدة عين جنا بالتحديد، وهذه العشيرة عرفت بكثرة شعرائها، ولكن جده (مفلح) انتقل إلى فلسطين الحبيبة في مطلع القرن الثامن عشر، لأسباب غير مسجلة تاريخيا  ولا يعرفها شاعرنا! و شاعرنا(محمود) من أسرة شاعرة بالأساس: جده كان شاعرًا، وأبوه كان شاعرًا شعبيًّا، وأخوه أحمد أيضًا كان شاعرًا، وصدر له ثمانية دواوين، وأخوه محمد أيضًا كان شاعرًا، فورث  الشعر عن أسرته ونمَّى موهبته، إنه إذن شاعر بالوراثة والاكتساب معًا.

وفي عام1948م حلت النكبة بفلسطين فهاجر مع أسرته إلى سورية، واستقر في مدينة درعا، وقد درس المراحل التعليمية الأولى في مدارس مدينة درعا، ودرس شهادة أهلية التعليم الابتدائي في مدينة السويداء، ودرس اللغة العربية في جامعة دمشق، ونال إجازتها عام1967م. وبعد حصوله على الشهادة الجامعية عمل في التعليم الثانوي في مدينة القامشلي ثم في مدينة درعا ثم أعير للتدريس في المملكة المغربية عام 1976م، ثم عمل في المملكة العربية السعودية في مجال التربية والتعليم ثم عمل موجهًا تربويًّا لمادة اللغة العربية. ثم هاجر شاعرنا إلى القاهرة بعد الأزمة السورية سنة 2011م، واستقر هناك وغدا ناشطًا في المنتديات الأدبية والمهرجانات الشعرية وعلى صفحات الفيس بوك. وهكذا صارت القاهرة ملاذه ومأمنه، وهي مأمن المبدعين والمبدعات، والمبعدين والمبعدات في كل عصر ومصر، وهذا ما دلل عليه وقرره شاعرنا بقوله:

إذا مت في مصرٍ فضموا قصائدي

          إلى جسدي حتى أظل أشمُّها!

فليس سواها كان في مصرَ سلوتي 

              أقبِّلها حينًا وحينًا أضمُّها

أغار عليها، وهي تزهو صبيةً    

             وأهجو الذي قد كان يوما يذمُّها!

وأخشى إذا نامت هناك وحيدة 

                  بغير ذراعي أن يُضاعَف همُّها!

***

ومن عجب أن شاعرنا(محمودًا) تأثر بالشعراء وروائعهم أكثر من الشيوخ ومعلمي العربية، لاسيما الشاعر العراقي عبدالرازق عبدالواحد، الذي يعد في نظر شاعرنا(محمود) شاعر القرنين، وأشعر من المتنبي، وهو ليس معروفًا للكثيرين، وقد توفي غريبًا منفيًّا في باريس، والشاعران السوريان: بدوي الجبل، وعمر أبوريشة، والشاعر العظيم محمود حسن إسماعيل، والشاعر اليمني عبدالله البردوني وغيرهم.

إن شاعرنا من أبرز شعراء فلسطين المعاصرين المكثرين، تناول في شعره المقاومة والكفاح، كما تحدث عن معاناة الشعب الفلسطيني حيث أُجبرت عائلته على النزوح عام 1948م، وما زال يحلم أن يعود إلى وطنه ليعانق تربه ويعطر كفيه بشذاه؛ فقد انتقل انتقالات عديدة بين سوريا ولبنان والعراق والسعودية ومصر، فهو إذن عاش في وطنه خمس سنوات فقط، ثم صار المهاجر، المتغرب، الجوال في الوطن العربي، وقد قدر الله له أن يكون من مخضرمي الألفيتين، إذ شهد ستة عقود في الألفية الأولى، وعاش عقدين من الألفية الثانية، بارك الله فيه عمرًا وقلبًا وعقلاً ولسانًا. وهو فيها الشاعر الشادي، والناقد الهادي، والقاص المثير المشوق، والكاتب الصادق بالحق وللحق بكل فن وجرأة، وما زال حفظه الله تعالى!

والخضرمة الزمانية والمكانية والفنية جعلته يصرخ قائلا:

قرأتُ من الأسفار مالا أطيقه 

            وروّضت قبل البحر عاصفةَ البحرِ

ظننت بأني كنت أدري وعندما

             بلغت يقيني قال: إنّك لاتدري!

فيا ليت أنَّ الصمتَ قد طال صمته 

         وياليت أنَّ النهر قد جف في نهري !

وياليت أنَّي قد تعهدت نخلة 

                وما حفرت كفاي في ذلك الصخرِ

وما كنت أستجدي فلانًا لكي أرى 

          وميض رضىً عني وخيطًا من الشكرِ

وعلى الرغم من أن شاعرنا يختلف مع محمود درويش سياسيًّا، لكنه يرى فيه شاعرًا كبيرًا وعالميًّا، وليس فقط محليًّا. ويذكر أن محمود درويش قبل وفاته أوصى بدفنه في بلده ولم تسمح السلطات بذلك، ومصر هي التي احتضنت محمود درويش وكان لها فضل كبير عليه.

ومن المقولات -التي يرويها شاعرنا وينتهجها، يعمل بها ويطبقها وينصح الشباب أن يعملوا بها فلا ينشرون من شعرهم إلا الأفضل- : "الشعر هو فن الحذف أكثر منه فن الإضافة"، وهي لشاعر لبناني اسمه شاؤول، وهي تعني أن الشاعر لا ينشر كل ما يكتب، بل يختار مما يكتب الأجود وينشره في النهاية، وهذه مقولة كما يرى أننا لسنا في زمن الرواية  أو القصة؛ فالشعر سيد الفنون الأدبية، والشعر موهبة أما الرواية والقصة فهي حرفة، وأن المشكلة أننا في مجتمع غير قارئ، وأننا نعيش مرحلة تخلف ثقافي، وأن الشعر لا يقدر حق قدره في بلادنا، على عكس أي بلد آخر يٌقدّر الشعر قدره، ويمكن أن يمنح الشاعر جائزة يمكن أن يعيش منها عن ديوان واحد، كما يرى أن الشعر لم يمت، ولن يموت. الشاعر الحق هو الذي يكتب ما يشعر به. المهم أن يكون صاحب موهبة ويكون على اطلاع وثقافة عالية يقرأ ويتابع الآخرين، فلا يجوز للشاعر أن ينعزل فالشعراء مثل الخيول يجب أن تعرف من يجري خلفها وعن يمينها ويسارها. 

كما يرى شاعرنا أنه ليس هناك تنسيق بين مؤسسات الثقافة العربية، وكثير من الكتاب يرفضون الانتماء لاتحادات الكتاب ويقولون: إنها مسيسة، مثل محمد الماغوط ونزار قباني لم يكونا عضوا في اتحاد كتاب دمشق، ويعدان الشعراء الذين ينتمون إليها ضعافًا ومتهافتين لأنهم دخلوا الاتحاد لأسباب القرابة أو حسابات أخرى هناك، ويرى أنه يجب أن تُعطي الثقافة مساحة خاصة للأدب، فنحن لدينا كتاب كبار ونقاد كبار، فلماذا لا نستغل ذلك في برامج ثقافية؟!

وفي قصيدته (جوائز) يعلن عن ثباته والتزامه، قائلاً:

سَأَبْقَى بَيْنَ مَمْنُوعٍ وَجَائز     وَغَيْرِي يَحْصُدُ اليَوْمَ الجَوَائز ؟

فَلَوْ أنّي عَزَفْتُ كَمَا أَرَادُوا       وَأَرْقَصْتُ الشُّيُوخَ مَعَ العَجَائِز

لَكُنْتُ اليَوْمَ أَوَّل مَنْ تَلَقَّى         جَوَائِزَهُمْ وَهَذَا الجَيْبُ جَاهز !!

وَكُنْتُ إمَامَ مَنْ كَتَبَ القَوَافِي      وَكُنْتُ رَكِيْزةً بَيْنَ الرَّكَائز

وَلَكِنِّي بَقَيْتُ على عنَادِي          أُوَاصِلُ رِحْلَتِي بَيْنَ المَفَاوز

وَأرْعَى في الظَّلَامِ نَجُوْمَ أهْلِي     وأرْعىَ فيِ النَّهَار قَطِيِعَ مَاعِز!!

وَلَيْسَ سِوَى ضَجِيج الحَرْفِ خَلْفِي

    وَأُنْثَى فِي الطَرِيْقِ يُقُالُ .. نَاشِز !

و أَحْسَبُ أنَّ كُلَّ النَّاسِ غُفْلٌ 

             وَوَحْدِي بَيْنَ كُلِّ النَّاسِ رَاكِزْ .

و قد نال شاعرنا ثناء عدد من المثقفين المعاشرين إياه والقارئين شعره، منهم الأستاذ محمود محسن الذي قال عنه:"الشاعر الفلسطيني العربي الكبير الأستاذ / محمود مفلح ، واحد من أهم الشعراء المعاصرين ، له تجربته الإبداعية المتفردة ، وإنتاجه الأدبي الغزير ، شاعر يحمل قضية كبرى وهمًّا إنسانيا عظيما ، له لغته الفخمة وقصيدته الشاهقة التي تَحُكَّ رأسها في السحاب متطاولة متشامخة ، شاعر ينتسب مباشرة لكبار شعراء العربية عنترة وابن أبي ربيعة والمتنبي وشوقي وغيرهم نسبا عريقا لكنه لا يفتأ يثبت القول القديم :"ليس الفتى من قال كان أبي"، محمود مفلح ظُلم كما ظُلم مجموعة كبيرة جدا من الشعراء العرب المهمين نقديا ، كما أن استحقاقاته من التقدير والجوائز العربية الكبرى لم يصل إليه بعد، لكنه لا شك وصل بشعريته ورتبتها إلى قلوب المهتمين بالثقافة والأدب العربي الفاره والمتقن والجيد" .

وقال الدكتور الناقد والشاعر المغربي حسن الأمراني المعروف: "قطع محمود مفلح في درب الشعر عمراً طويلاً تمرس خلاله بالكلمة الشعرية المتوهجة التي لا تنتزع منك الإعجاب فحسب". وقال الأديب والمؤرخ العراقي المشهور د. عماد الدين خليل: "مهما يكن من أمر فإن محمود مفلح يمنح قارئه القناعة بقدراته الشعرية بمضامينها وتقنياتها على السواء، حيث يعرف كيف يُطوّع الأداء للتعبير عما يريد أن يخاطب به الآخر".

وقال أ.د. كمال أحمد غنيم من فلسطين: "تمثل محمود مفلح بصدق فني واقع الأمة المكفهر، وفجرها المشرق في الزمن الجديد، واستطاع أن يمزج ذلك بفنية عالية، منحت النص قدرة على التماهي بشكل كبير مع الواقع، ومنحت المتلقي قدرة أوسع على التفاعل والمشاركة".

وقال د. خليل أبو ذياب من لبنان: "لعلنا لا نجانف الحقيقة إذا ما زعمنا أن الشاعر محمود مفلح من أبرز الشعراء المعاصرين الذين ينتمون إلى المنهج الحق، بل لعلنا لا نبعد إذا ما زعمنا تميزه عن كثير من الشعراء بما حقق لشعره من إبداع وجمال على المستويين، الفكري والفني".

وقال د. محمد عادل الهاشمي من سوريا: "لقد واكب نظرة محمود مفلح إلى الفن الشعري موهبة أدبية وشاعرية خصبة تتدفق بصدقها وعذوبتها ورنينها العفوي في النفس، فتنساب قوافيه رخية عذب كالماء السلسبيل".

وما أجمل وأعمق ما قاله الدكتور حسام عقل في قراءته ديوانه الأحدث(بعيدًا تضيء العناقيد): إن محمود مفلح شاعر الهم وشاعر البوح، وهو اسم مهم جدًّا يوضع إلى جوار محمود درويش، لكن مشكلته أنه لا يجيد فن الميديا ولا يريدها، ومع ذلك نجح في تحقيق حضور قوي على الساحة الثقافية، موضحًا أن مفلح في ديوانه "بعيدا تضيء العناقيد "ذهب إلى مساحة العام من إسلاميات وقضايا وطنية عامة، ولم يغفل سيرته الذاتية، حيث بث خيوطا منها في شعره، وأن "مفلح" لديه نزوح إلى الحكمة أو المثل الشعبي ممثلا بقول مفلح "ما كل مَن ذكر الغرام متيم أو كل مَن زرع النخيل عراق".و أن مفلح لديه دفق رومانتيكي يتبدى في قصيدة "طوق النجاة" وكذلك في قصيدة "مزاج"، وهي رومانتيكية تعني أن تسترد فطرتك وإنسانيتك، من خلال أحلام بسيطة جدا، لكن الرومانتيكيين يرون الجمال بهذا الشكل وبهذه البساطة، مضيفا أن قصيدة الربابة من أجمل ما قرأت من ديوان بعيدا تضيء العناقيد، والربابة هنا تحمل معنى المنافق ذي الوجهين "فإذا لم تكن تجيد النفاق والعزف على الربابة ومسح الجوخ فلن تستطيع أن تصل أو تكون شيئا".وقد أخلص محمود مفلح في ديوانه "بعيدا تضيء القناديل" للهم العام وأدان الشخصية العربية لأعلى سقف، كما لم يدنها في أي ديوان سابق له، فهو في هذا الديوان يؤمن بالبطولة الفردية وأن تكون فارسًا وحدك في عين العاصفة.

وما أصدق مقالة الناقد والشاعر الكبير الدكتور راشد عيسى: "قصائد أخي الشاعر المتميز محمود مفلح قلائد ذهبية مرصعة بالماس تتدلى من أعناق ربات الشعر. والله ما قرأت له قصيدة الا وطار بي حصان الشعر الى غيمة قصيدة تحوم في بالي. شاعر محترف للعفوية التعبيرية الطاهرة من التكلف والذهنيةوالمصانعة. لديه شجن شعري لا ينضب وهمة شبابية التخييل معتقة في اصالتها ومعاصرتها وحداثتها. لو كان بيدي لكرمته على اعماله الشعرية تكريما عربيا تتناقل بهاءه الأجيال، حتى الآن لا أدري لماذا كلما قرأت له قصيدة تكاد عيني تسقط من دمعتي لأنه بات وحيدًا في جغرافية باهظة الشتات لا أنيس له سوى ما يتساقط من رذاذ خجول من سحابة حزينة تعضها ذئاب المجاز".

****

 وشاعرنا(محمود) شخص مثقف ميداني، له نشاط أدبي واسع في المنتديات الأدبية، يحضر فاعلاً ومنفعلاً في كل ناد وصالون وتجمع للمبدعين والمبدعات بوطننا العربي، فهو عضو اتحاد الكتاب العرب بدمشق منذ عام ١٩٧٦م، وعضو رابطة الأدب الإسلامي العالمية، وعضو اتحاد كتاب مصر، وعضو رابطة الأدب الحديث، مثل بلده فلسطين في العديد من المهرجانات الشعرية، وقد فاز شعره بعدد من الجوائز في سوريا والسعودية والكويت ومصر، ونال شعره حضورًا بارزًا في الدرس التعليمي والنقد الأكاديمي في غير بلد عربي؛ فقد دخلت قصائده في المناهج الدراسية، في كثير من الأقطار العربية، كما درس شعره في أكثر من ثلاث جامعات عربية، ونوقش شعره في أكثر من عشر رسائل جامعية بين الماجستير والدكتورة في أكثر من بلد.

آثاره الأدبية والنقدية:

 تنوعت نتاجات شاعرنا الأدبية بين القصة والنقد والرواية والشعر وشعر الأطفال، ثم انفرد به الشعر،  وله أكثر من واحد وعشرين عملًا مطبوعًا. وله كثير من المقالات والقصائد والقصص، التي نشرت في معظم المجلات الأدبية العربية.

له أربع مجموعات قصصية، هي (المرفأ) سنة 1977م، بدار المعرفة بدمشق، بسورية، ومجموعة(القارب)، سنة 1979م، طبع مؤسسة الرسالة في بيروت، بلبنان، ثم مجموعة(إنهم لا يطرقون الأبواب) سنة 1405 هـ/ 1985م، طبع مكتبة الأديب في الرياض، السعودية، ثم مجموعة (ذلك الصباح الحزين)،  طبع الرياض، السعودية. هذا إضافة إلى كتاب نقدي مخطوط بعنوان (قراءات في الشعر السعودي المعاصر)، يمثل تجربة النقد الأدبي الذوقي الانطباعي عند شاعرنا.

وقد انفرد به الشعر وهيمن عليه، إذ له ثلاثة عشر ديوانًا شعريًّا، هي: الديوان الأول، طبع سنة1976م، بعنوان (مذكرات شهيد فلسطيني)، وقد قدمه إلى اتحاد الكتاب العرب بدمشق بسورية، وهو لا يقبل إلا الشعر القوي الجيد الذي يستحق النشر، فصدر عنه الديوان ومن ثم تعرض أول شعره لاحتكاك نقدي أصيل دقيق، وخرج منه نجمًا بارزًا في دنيا الشعر، ثم طبع الديوان الثاني بعنوان (المرايا)، ، سنة1979م، في مؤسسة الرسالة في بيروت، بلبنان، ثم طبع الديوان الثالث بعنوان(الراية)، سنة 1983م، في دار عمار في عمان، بالأردن، ثم طبع الديوان الرابع بعنوان (حكاية الشال الفلسطيني)، سنة1984م، في مطبعة دار العلوم في الرياض، بالسعودية، ثم طبع الديوان الخامس بعنوان(شموخًا أيتها المآذن) عام 1987م، في عمان بالمملكة الأردنية الهاشمية، ثم تعهدت دار نشر بليبيا طباعة الديوان السادس (البرتقال ليس يافويًّا) سنة 1985م، ولكنه لم يطبع، وقد أضاعه الليبيون، ولا يملك شاعرنا نسخة منه! جمع الله بين شاعرنا وشعره، وأعاد إليه ديوانه المفقود سالماً! ثم طبع الديوان السابع بعنوان:(إنها الصحوة.. إنها الصحوة) ، عام 1408ه 1988م في المنصورة في جمهورية مصر العربية، ثم طبع الديوان الثامن بعنوان: (نقوش إسلامية على الحجر الفلسطيني)، عام 1991م في المنصورة، ثم طبع الديوان التاسع بعنوان (لأنك مسلم) عام 1415ه 1995م في المنصورة، ثم طبع الديوان العاشر بعنوان: (فضاء الكلمات) عام 1987م في الرباط بالمملكة المغربية. ثم كان الديوان الحادي عشر بعنوان(غرد يا شبل الإسلام)، طبع سنة 1991م، بعمان بالأردن، ثم طبع عام1424=2004م، كإصدار أول من سلسلة أدب الأطفال الصادرة عن مكتب البلاد العربية لرابطة الأدب الإسلامي العالمية. ثم كان الديوان الثاني عشر بعنوان (ابتسمي ليخضر الكلام) الذي طبع بورصة الكتب بالقاهرة سنة 2015م، وقد ضم تجارب شعرية بدولة المغرب في الفترة بين 1976-1978م، ثم كان الديوان الثالث عشر بعنوان(لا تهدموا البرج الأخير)، طبع سنة 2016م.ثم كان الديوان الرابع عشر بعنوان (بعيدًا تضيء العناقيد). وقد طبع طبعتين: واحدة عن مؤسسة الحسيني الثقافية، وبها أخطاء طباعية كثيرة، والثانية عن دار فنون بالقاهرة سنة 2019م. وشاعرنا يضع الآن اللمسات الأخيرة من ديوانه الخامس عشر (آخر الحصاد أول البذر)، ويعده للنشر والطباعة، باركه الله وأعانه.

وهكذا قدر الله تعالى لشعر إنساننا الفلسطيني الشامي الجميل أن يصدر  في عدد متنوع من البلاد العربية، كما قدر الله لمصرنا أن يكون لها نصيب الأسد في طبع أعماله؛ فقد طبعت بها تسعة دواوين، وصدرت الأعمال الكاملة في مجلدين هنا في مصر.

 

وقد صدرت أعماله الشعرية الكاملة في مجلدين كبيرين سنة 2017م، في طبعتين: الأولى في فلسطين، والثانية، في مصر. إن هذه الأعمال جاءت في مجلدين كبيرين،، تكون من(436) قصيدة، ضم المجلد الأول (183) قصيدة منها، و ضم المجلد الثاني (253) قصيدة، وتعبر أشعارهما مجتمعة عن تجربة الشاعر، وعن مراحل التطور الإيقاعي للقصيدة عنده. وقدم شاعرنا الفلسطيني أعماله بكلمات تعبر عن روح فنية عالية وواقعية تعايش واقع قضيته التي آمن بها وعبر عنها. قال محمود مفلح بهذه المناسبة: "هذه أعمالي الشعرية... الحصاد الفني على مدى أربعين عاماً أو تزيد، قد يجد القارئ فيها ما يروقه وما يطربه وقد لا يجد"، وصور أعماله بالنهر الكبير الذي يجرف في طريقه القش والحصى والتراب، وهو يعمق مجراه ويركض إلى مصبه. وعبَّر (مفلح) في هذه المناسبة التي طال انتظاره لها عن شكره العميق إلى الأستاذ الدكتور كمال أحمد غنيم رئيس (مؤسسة إحياء التراث وتنمية الإبداع)، الذي كان له الفضل في أن ترى هذه الأعمال النور بعد سجن طويل، وشكر الدكتور خضر أبو جحجوح، الذي شدَّ من أزره وشجعه. وأكد (مفلح) أن حجم الفرح في هذه القصائد قليل، وأن مساحة الأسى والحزن والعذاب فيه أوسع. فالشاعر صوت أمته، ومن غير المعقول أن تطلب من شاعر فلسطيني رضع من ثدي النكبة وعانى شوك الطريق وشقاء الخيام، ومصادرة الهوية، وهوان الحدود أن تطلب منه أن يرقص في الزفة وأن يكون قارعاً للطبل في الأعراس. وبيّن شاعرنا (مفلح) أنه بقي يتنفس هواء القضية قدر ما يستطيع، موجهاً بوصلته الأدبية - شعراً وقصة - إليها، دون تكلف. وأنه قرأ الكثير من كتب النقد قديمة وحديثة، ومن الإبداعات الشعرية القديمة والمعاصرة ليحقق المعادلة الصعبة والهاجس الكبير: صوت الواقع وصوت الفن، عمق التفكير وجمال التصوير.

 

وقد تناول  شعره عدد من النقاد الأكاديميين، في ندوات، خصصت لهذا الغرض، منهم الدكتور عماد الدين خليل، والدكتور محمد عادل الهاشمي، والدكتور حسن الأمراني.

ومن أبرز هذه الدراسات:

- درسة بعنوان" شعر محمود مفلح: دراسة فنية"، رسالة دكتوراة للباحث محمد عبد المقصود محمد عبد الهادي، أنجزت هذه الدراسة في كلية دار العلوم بجامعة الفيوم في مصر، عام 2001م، وقد تحدث الباحث فيها عن محمود مفلح باعتباره أحد الشعراء المجيدين الذين لم ينالوا حظهم من البحث والدراسة، كما تناول شعر مفلح من خلال حديثه عن المحاور الأساسية لشعره، وهي: الوجدانيات، والاجتماعيات، والسياسيات، والمناسبات، كما تحدث في دراسته عن أهم الملامح اللغوية والأسلوبية لشعر مفلح،  ودرس الصورة ووسائلها لديه، كما تحدث عن التناص الوارد في قصائده، وناقش بعض قضايا الموسيقى في قصائد الشاعر.

-دراسة "في الاتجاه الإسلامي في الشعر العربي الحديث، دراسة موضوعية فنية في ضوء شعر محمود مفلح"، للدكتورة: سمية بنت رومي عبدالعزيز الرومي، وقد تحدثت الكاتبة في هذه الدراسة عن الاتجاه الإسلامي في الشعر العربي الحديث وعوامل ظهوره عامة، وأتبعت ذلك بالحديث عن الاتجاه الإسلامي في شعر محمود مفلح خاصة من خلال حديثها عن مظاهر الاتجاه الإسلامي في شعره، كما تحدثت عن الخصائص الفنية من حيث المضمون الذي يشمل التجربة الشعرية والموضوعات الشعرية والمعاني، ومن حيث الشكل الذي يشمل الألفاظ والأساليب والموسيقى والقوافي.

-دراسة "منمنمات الصورة في ديوان (لا تنتظر أحدًا سواك)، للدكتور خضر أبو جحجوح، وقد نشرت هذه الدراسة في مجلة الجامعة الإسلامية  مجلد 26، عدد 2 (2018م)، يهدف هذا البحث إلى استكناه منمنمات الصورة، في ديوان، وتحليل جزئياتها المكونة لمعالم الجمال فيها، ووصف بنيتها بالمنهج الوصفي التحليلي، وقد تناول الباحث مفهوم المنمنمات للإفادة من الفن التشكيلي، وما يحمله من جمال الرسومات التوضيحية وزخرفاتها، على اعتبار تكامل الفنون لتوضيح جماليات الصورة الشعرية وطاقتها التعبيرية، بما يتخللها من تقنات أسلوبية وجمالية، مع عدم إغفال جماليات البلاغة العربية.

-دراسة "الرؤية الواقعية والمثالية في شعر محمود مفلح"، للأستاذ الدكتور كمال أحمد غنيم، وهي دراسة قدمها الكاتب للرابطة الأدبية في اليوم الدراسي الذي حمل عنوان محمود مفلح شاعر وقضية، وقد تحدث الكاتب في دراسته عن: تمثيل الشاعر بصدق فني واقع الأمة الصعب، وفجرها المشرق في الزمن الجديد، وأشار أن مفلح استطاع أن يمزج ذلك بفنية عالية، راوحت بين توظيف التراث وبين توليد معان جديدة، وصور مستمدة من البيئة، والخيال المحلق في فضاءات قريبة، منحت النص قدرة على التماهي بشكل كبير مع الواقع، ومنحت المتلقي قدرة أوسع على التفاعل والمشاركة.

- دراسة"البنية الإيقاعية في الأعمال الشعرية الكاملة للشاعر محمود مفلح" للباحثة آلاء عصام عبدربه. قررت فيها الباحثة أن شعره جاء نموذجًا لاستخدام أشكال الإيقاع المختلفة، فقد كتب الشعر العمودي، وشعر التفعيلة، وشعر النمطين، كما عرج على قصائد النثر، وكتب على أغلب بحور الشعر، ومن هنا كان لهذا أثر بارز واضح في فهم البنية الإيقاعية بكل ما تضم من موضوعات،فكانت الموسيقى متدفقة في شعره، فوهب الإيقاع قصائده رونقًا قادها لمستويات البلاغة، فلامست الحس الأبلغ في قلب المتلقي وأذنه... وقد اعتمدت الباحثة على المنهج الوصفي التحليلي، فقامت بوصف الظواهر الإيقاعية ثم تحليلها وتفكيكها واستخراج إيقاعها الداخلي والخارجي، وتحديد أهم الملامح البارزة التي تميز بها شعر محمود مفلح، كما واستعانت بالمنهج الإحصائي لحصر متغيرات البنية الإيقاعية ودورها في البناء الفني، وقامت الباحثة بملاحظة وتحليل وإحصاء جميع الأعمال الشعرية الكاملة، وتصنيفها إيقاعيًّا وتنازليًّا، بحسب كثرة ما نظم عليه محمود مفلح.


وما زال قلمي بحول الله -تعالى-يسجل الطريف والجديد في سيرة شاعرنا العربي الشامي الفلسطيني المقاوم (محمود مفلح)، من خلال ما كتب عنه، ومن خلال محاورات ومهاتفات ومراسلات بيني وبينه، أثمرت في تقديم أهم ترجمة وأدق سيرة لشاعرنا، لا سيما في الحديث عن دواوينه التي عرضت عرضًا خاطئًا في كثير من المصادر المطبوعة والمواقع الإلكترونية التي ترجمت له، حفظه الله وبارك في عمره وقلبه ولسانه وشعره وقلمه.

 

 

  • Currently 0/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
0 تصويتات / 382 مشاهدة

الأستاذ الدكتور صبري فوزي عبدالله أبوحسين

sabryfatma
موقع لنشر بحوثي ومقالاتي وخواطري، وتوجيه الباحثين في بحوثهم في حدود الطاقة والمتاح. والله الموفق والهادي إلى سواء السبيل »

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

327,141