تقنيات الفن الصوفي في تجربة (ببابك روحي هديل) للشاعر المغربي أمجد مجدوب

إعداد: الأستاذ الدكتور /صبري فوزى عبدالله أبوحسين

أستاذ ورئيس قسم الأدب والنقد في كلية الدراسات الإسلامية والعربية للبنات بمدينة السادات

وعضو اتحاد كتاب مصر

رغم الحالة الواقعية السوداوية الغشوم التي تعيشها منطقتُنا، ويتأثر بلظاها كونُنا، إلا أن  شعر التفعيلة ما زال رومانسيًّا، يهيم في الخيالات والذهنيات، يعيش في الوجدان! ويطوف بنا في أجواء محلقة تشكيليًّا وتصويريًّا، ودليل ذلك تلك التجربة الوافدة إلينا من دولة المغرب الشقيق، بلد الأصالة العتيقة والحداثة الأنيقة، تجربة(ببابك روحي هديل) للشاعر المغربي أمجد مجدوب رشيد؛ ولكي نقرأها ونقاربها لابد أن ننتقل مع مبدعها خلال تقنيات بنائيها: الشكلي والفكري، على النهج الآتي:    

أولا: تقنية العنوان:

جاءت هذه التجربة معنونة بالعبارةـ:(ببابك روحي هديل)، وهي جملة اسمية، مرتبة ترتيبًا خاصًّا، ذا دلالة خاصة، إذ تكونت من جار ومجرور، هو (ببابك) متعلق بالخبر(هديل)، والمبتدأ هو(روحي). والأصل (روحي هديل ببابك). والهديل:صوت الحمام، أو فرخ الحمام، أو صوت الهدهد، والجذر اللغوي له يدور حول الاسترخاء، والتصويت، والحيوان الرقيق، والهديل مصدر يقال:هدَل القُمري يهدِل هديلاً، إذا صوَّت وأطرب. وفي مختار الصحاح:" و الهَدِيل : فرخ كان على عهد سيدنا نوح -عليه السلام- فصاده جارح من جوارح الطير، قالوا: فليس من حمامة إلا وهي تبكي عليه"!  ومن خلال هذه الدلالات اللغوية للفظ(هديل) يمكننا أن نحلل التشبيه في العنوان، على أن الروح طائر رقيق كالهدهد أو الحمام، أو أنها ذات صوت جميل لذيذ، أو أنها فرخ مذبوح!   وضمير الخطاب في الجار والمجرور(ببابك) جاء غير مضبوط بفتح أو كسر، فلا يعلم المخاطب أذكرًا كان أو أنثى؟!

وفي هذا العنوان تتبدى تقنية الإضمار قبل الذكر، إضمار في (ببابك) والذكر خلال النص، وإن كنت أرى أنه لا ذكر يفسر هذا الضمير الهائم الغائم الغائب! كل ما يشير إليه الضمير(محبوب معشوق) غير مبين ولا محدد ولا مفصل! على عادة الرومانسيين أو الصوفيين!

وهذا العنوان افتتح الشاعر به المقطع الخامس الختامي. وهذا يدل على أنه جملة محورية مسهمة في تفكيك النص وتأويله!

ثانيًا: تقنية التقسيم الكتابي:

جاءت التجربة مكونة من سبعة وثمانين سطرًا، صاغها الشاعر في خمسة مقاطع:المقطع الأول في سبعة أسطر، والمقطع الثاني في ثمانية أسطر، والمقطع الثالث في سبعة وعشرين سطرًا، والمقطع الرابع في ستة وعشرين سطرًا، والمقطع الخامس مكون من تسعة عشر سطرًا!

 وواضح مدى التلقائية من قبل الشاعر في صياغة التقسيم الكتابي لتجربته، فليس في التجربة تساو أو توازن بين مقاطعها، كل مقطع جاء كما ألهمه الشاعر دون إعمال عقل أو وعي منه، فقد خرج من القلب إلى القلم إلى الورق مباشرة !  

ثالثًا: تقنية الإيقاع العروضي

جاءت هذه التجربة تفعيلية سطرية حرة، مبنية على أنساق عروضية أربعة، نسق تفعيلة المتدارك(فاعلن) في المقطع الأول، ونسق تفعيلة الرجز(مستفعلن) في المقطعين: الثاني والثالث، وتفعيلة المتقارب(فعولن) في المقطعين: الرابع والخامس!

 وظاهر –أيضًا- التلقائية في بناء النص تفعيليًّا، فليس فيها تنسيق ولا توزيع تفعيلي متساو متوازن!

والتلقائية تظهر في مواضع من الخروج في بناء تفعيلة بعض الأسطر!

ففي السطرين المدورين الخامس والسادس من المقطع الأول الذي تفعيلته (فاعلن) يقول الشاعر:

من صحف أولى

يا صورة العشق البهي

والتحليل العروضي له:

من صحُ(/O//فاعلُ)/فٍ أو(/O/ O فَعْلُنْ) لى

يا(/O/ O فَعْلُنْ / صورة لْ(/O// O فَاعلُنْ) /عشق لْ(/O/ O فَعْلُنْ) بَهِي(// Oفعو).

فهذه التفعيلة الأخيرة(بهي) تحولت من [فاعلن) إلى // Oفعو]، ولو تحول السطر هكذا:

[يا صورة للعشق البهيْ] لحلت مشكلة هذا الخروج!

وفي السطرين التاسع والعشر المدورين:

رنم قصيدًا

ساحرًا حرفه

نجد خروجًا من تفعيلة (مستفعلن) إلى تفعيلة (فاعلن)، ولو قال: (ساحرًا من حرفه) لحلت المشكلة!

وتجد المشكلة ذاتها في البيتين الثامن عشر والتاسع عشر:

يا شاعرًا

للناس يهدي حلمه

كشفه قلبه

ولو قال: (بل كشفه من حلمه) لحُلَّت المشكلة!

 كما ينبغي أن يعدل السطر الخامس والخمسون من: (وقوس سهمي) إلى: (ويا قوس سهمي)!

حتى تتحقق تفعيلة المقطع(فعولن)!

أما عن القافية في التجربة فقد جاءت منوعة، حسب السياق والمقام والجو العاطفي، فجاءت مرسلة حينًا، حيث نجد جملة أسطر ينتهي كل سطر فيها بحرف مخالف، كما في الأسطر الأولى:

اِفْتَحْ بَابَ الرُّؤْيَا

بِالْحَدْس

اُكْتُبْ رَعْشَتَكْ..

لَا وَصَايَا  تَتْلُوهَا

مِنْ صُحُفٍ أولَى..

كما جاءت قافية كم كبير من الأسطر متقاطعة، حيث نجد الختم بصيغة التعجب المختومة بضمير الخطاب (الكاف) رويًّا، في السطر السابع(ما أروعك) وكرره في السطر الحادي والأربعين، وفي السطر الثاني عشر(ما أعذبك)، وفي السطر السابع عشر(ما أجملك)، ويترك صيغة التعجب ويلتزم روي الكاف في  السطر الحادي والثلاثين(إذ أذهلك) وكذا في السطر الثامن والثلاثين(واقطف عناقيد الفلك)، وكذا في السطر الثاني والأربعين(جللك)، وفي السطر الحادي والسبعين يلتزم الألف ردفًا قبل كاف الخطاب(خيالك) وكذا في السطر الأخير(جمالك).

رابعًأ: تقنية اللغة :

وتشيع في الروح الصوفية الهائمة لفظًا وتعبيرًا، فألفاظ وتعبيرات:(باب/ روحي/العشق البهي/الوجود المشتهي/كشف/بحار النفس/شعاع الحلم/رؤيا كون/خاطر/أنوار/باب الرؤى/ أنوار الفلك/ انجذاب/انسكاب) خاصة بالمعجم الصوفي نثرًا وشعرًا، ودالة على حالات في العشاق الصوفيين !

وقمة النزعة الصوفية نجدها في قول شاعرنا أمجد:

فَيَا عين عِشْقِي

ويَا نور  عَيْنِي

وَقَوْسَ سَهْمِي

وَكَأْسَ  اْنشِراحِي

وتاج التجلي

ويَا نار  شوْقٍ تلأْلَأَ

وَخُلْوَةَ  نَايِي

ويَا مِيمَ  مَوْتِي

وغيْنَ اغْتِرابي

وَرَاءَ رُبَاكْ

وروح رضاك

وَيَا بَاءَ  بَوْحِي

إلَيْكَ انْجِذَابي

وَمِنْكَ انْسِكَابِي

فَكُنْ

لِي دثَارَ فُيُوضٍ 

ونهر شُمُوسٍ

وَحُذْ عاشِقاً جامِحاً

في خيالك

فهذه النداءات، بهذه الطريقة اللغوية خاصة بأهل الحب المتصوفين والصوفيين على السواء!

والنداءات كلها ترجع إلى الشاعر وكل من سار في ركبه من شعراء الهيام الصوفي:صورة العشق البهي/يا شاعري/يا ناينا/يا عاشقًا/يا كشفنا/يا فاتحًا باب الرؤى/يا عين عشقي/يا نور عيني....

وقمة الإبهام والإغلاق في السطر:

أنَوْرِسُ أفْقَ بهائِكْ

فلا أعرف ما النورس؟ ولا أعرف علام نصبت كلمة(أفق)؟!

وقد بدأ نصه مخاطبًا غيره، قائلا:

ِفْتَحْ بَابَ الرُّؤْيَا

بِالْحَدْس

اُكْتُبْ رَعْشَتَكْ..

وفسر هذا الغير بأنه صورة العشق البهي، أو أنه الشاعر فيه، الشاعر به، قائلا في المقطع الثاني:

يا شَاعِرِي

رنِّمْ قصيداً

وختم النص بأسلوب ذاتي شخصي، فيه كشف عن النفس وحالتها، قائلا:

بـِبَابِك رُوحِي هدِيلْ...

ويُسْكِرُني حاجبٌ

صَدَّ  تِيـهي

أدُورُ...

وتَعْصِفُ بي نشوَةٌ

ج ........ذْ ........بَ......... ةٌ

في  قَمِيصِي

بُروقٌ...وَيُوسُفُ ...يحْيَا

وظلي  يتيهُ

وَتَهْدلُ عينٌ، وتُوحي

لفَقْري بِتِبْرِ الإشارَه

أبوحُ

أصيحُ

أُرِيحُ خيولَ الذُّهولْ

أزَوِّجُ دفْقِي لفَقْدِي

بَيَاضِي لِغاسِقِ جُرْحي

أكَحِّلُ حَدْسي بِبَرْقِ رُؤَاكْ

ويَخْفِقُ نُونِي

بِكَافِ جَمَالكْ

فهو واقع في سكر، وتيه، وعصف، ودوار، وبوح، وصياح، وتنقل من الراحة إلى التعب، ومن الدفق للفقد، ومن البياض للغسق، استعدادًا للجمال الكافي في معشوقه! وما أشعر عبارة(خيول الذهول)، وعبارة(أكحل حدسي ببرق رؤاك)!

إن بهذا النص ألفاظًا خاصة الدلالة في ذهن المبدع، ورموزًا عديدة حمَّالة التأويل، ومعنى باطنيًا، لا يمكن كشفه وتحديده، فهو نص هائم، سائر في رحاب تجربة الحب الروحي الشفافة، وتجربة العشق الصوفي الخالدة الراشدة حينًا، والحائرة أو المحيرة أحيانًا!...

النص المقروء:

ببابك روحي هديل

شعر : أمجد مجدوب رشيد

1

اِفْتَحْ بَابَ الرُّؤْيَا

بِالْحَدْس

اُكْتُبْ رَعْشَتَكْ..

لَا وَصَايَا  تَتْلُوهَا

مِنْ صُحُفٍ أولَى..

يَاصُورَةَ  العِشْقِ  الْبَهِيْ

مَا أرْوَعَكْ..

2

يا شَاعِرِي

رنِّمْ قصيداً

ساحرا  حرفه

يَا نَايَنَا

ما أعْذَبَكْ !

يَا عَاشِقاً

عَطِّرْ  بأنسام الهوى

وجْه الوجود المشتهى

ما أجْمَلَكْ

3-

يا شَاعِراً

للناس يُهدي حلمه

كشفه... قلبه

يا كشفنا

غص في بحار النفس

غُصْ في شعاع الحُــــلم

واقطف سرَّهُ

قدْ باحَ لكْ

رؤياك كونٌ

ينطق

في خاطري،

قد أذهلتْ أنواره

نجماتنا

إذ أذْهَلَكْ !

وابْذُرْ   رُؤاكَ

في مدى أشْواقنا

الكون لك

الكوْنُ لك

سَافِرْ بنَا

في سره

واقْطِفْ عناقيد الفلكْ

يَا فَاتِحاً بَابَ الرُّؤَى...

يَا صُورَةَ  العِشْقِ  الْبَهِيْ

مَا أرْوَعَكْ..

ما أرْوعَ الألحانَ يرْويها جمالٌ

جَلَّلَكْ

4

بفيك أقول:

إلَيْك انْجِذابي

وفِيك انْسِكابي

لَهيبُ هَواكَ جنَاحِي...

أرَاوِدُ حرْفِي

وَيَمْنَعُ عَنِّي طُيُوفَهْ

أقرِّبُ كلَّ القرابينِ عَلِّي

أنَوْرِسُ أفْقَ بهائِكْ

فَيَا عين عِشْقِي

ويَا نور  عَيْنِي

وَقَوْسَ سَهْمِي

وَكَأْسَ  اْنشِراحِي

وتاج التجلي

ويَا نار  شوْقٍ تلأْلَأَ

وَخُلْوَةَ  نَايِي

ويَا مِيمَ  مَوْتِي

وغيْنَ اغْتِرابي

وَرَاءَ رُبَاكْ

وروح رضاك

وَيَا بَاءَ  بَوْحِي

إلَيْكَ انْجِذَابي

وَمِنْكَ انْسِكَابِي

فَكُنْ

لِي دثَارَ فُيُوضٍ

ونهر شُمُوسٍ

وَحُذْ عاشِقاً جامِحاً

في خيالك

5

بـِبَابِك رُوحِي هدِيلْ...

ويُسْكِرُني حاجبٌ

صَدَّ  تِيـهي

أدُورُ...

وتَعْصِفُ بي نشوَةٌ

ج ........ذْ ........بَ......... ةٌ

في  قَمِيصِي

بُروقٌ...وَيُوسُفُ ...يحْيَا

وظلي  يتيهُ

وَتَهْدلُ عينٌ، وتُوحي

لفَقْري بِتِبْرِ الإشارَه

أبوحُ

أصيحُ

أُرِيحُ خيولَ الذُّهولْ

أزَوِّجُ دفْقِي لفَقْدِي

بَيَاضِي لِغاسِقِ جُرْحي

أكَحِّلُ حَدْسي بِبَرْقِ رُؤَاكْ

ويَخْفِقُ نُونِي

بِكَافِ جَمَالكْ.

 

  • Currently 0/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
0 تصويتات / 135 مشاهدة
نشرت فى 28 أغسطس 2020 بواسطة sabryfatma

الأستاذ الدكتور صبري فوزي عبدالله أبوحسين

sabryfatma
موقع لنشر بحوثي ومقالاتي وخواطري، وتوجيه الباحثين في بحوثهم في حدود الطاقة والمتاح. والله الموفق والهادي إلى سواء السبيل »

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

331,511