الإيقاع السمعي والبصري في القصة الشاعرة:

قراءة أولى في إبداع المؤسس: محمد الشحات محمد

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

إعداد:

الأستاذ الدكتور/صبري فوزي أبوحسين

أستاذ ورئيس قسم الأدب والنقد بكلية اللغة العربية بالزقازيق بجامعة الأزهر

وعضو اتحاد كتاب مصر

المقدمة:

منذ عام 2006م ظهر على الساحة الأدبية أو فيها ما يسمى( القصة الشاعرة) لتضاف إلى الكم الاصطلاحي والتعابيري الكبير الذي ملأ المدونة الكلامية العربية المعاصرة، أمثال: الشعر القصصي، والقصة الشعرية، والشعر المسرحي، والمسرح الشعري، والشعرية الروائية... وقد عقد لهذا المصطلح الجديد والفن التجريبي الطريف ندوات ومؤتمرات دعائية كثيرة في أماكن ثقافية سامقة، ومنتديات إبداعية مرموقة، في مصر وخارجها، فنال حضورًا ونال فاعلية وقراءة من قبل كثيرين متنوعين بين نقاد مؤيدين يرونها إنجازًا، وخصوم يرونها مسخًا! ولكل وجهة هو موليها، وللناس فيما يعشقون مذاهب! ومن عجب أن بعضهم حكم لهذا الفن أو عليه بذهنية مسبقة، ومن خلال نظرية المؤامرة، أو نزعة الاستعلاء والفوقية المريضة!

وقد ارتأيت ألا أحكم على هذا الفن أو له من خلال القراءة عنه، بل القراءة فيه عند مُؤَسِّسه الأول: إبداعيًّا ونظريًّا: الشاعر القاص الفنان المتكامل، المصري الجميل النبيل: محمد الشحات محمد، وذلك من خلال العينة العشوائية، المتمثلة في القصة الشاعرة (تسريح)؛ فهي أول ما وقعت عيني عليه من إبداع المؤسس. فكانت هذه النظرة التدبرية الأولى لروائع هذا الفن، من خلال البنية الشعرية الأساسية فيه، وهي الإيقاع. وقد جاءت بعنوان: (الإيقاع السمعي والبصري في القصة الشاعرة: قراءة أولى في إبداع المؤسس: محمد الشحات).

وقد جاءت في تمهيد ومبحثين، على النحو التالي:

التمهيد: مصرية المؤسس

المبحث الأول: النص المقروء، ومصطلح الإيقاع

المبحث الثاني: الإيقاع السمعي في القصة الشاعرة

المبحث الثالث: الإيقاع البصري في القصة الشاعرة.  

والله الموفق والهادي إلى سواء السبيل.

 

 

 

التمهيد: مصرية المؤسس

ما زالت مصر -رغم الأزمات والمتاهات والغيابات والمعوقات والتحديات...- منجبةً ولادةً في دنيا الشعر، بدأت إحياءه على يد البارودي ومجايليه، ونهضته على يد شوقي ومعاصريه، وأحدثت تجديده على يد شكري والعقاد والمازني، وأتباعهم، وكان لها اليد الطولى في عالم شعر التفعيلة السطري على يد أحمد زكي أبي شادي وجماعته، ومحمود حسن إسماعيل وتفرده التصويري، وصلاح عبدالصبور واقتحاماته، ولا تزال تقود مصرنا قاطرة التحديث والتجريب في آننا المريض المنكوب هذا!

والدليل على ذلك فن القصة الشاعرة، ذلكم الذي يعد فنًّا أدبيًّا مصريًّا خالصًا من أية تأثرات خارجية: غربية أو شرقية، ويُقصَد به عند مؤسِّسه المصري أنه "قص إيقاعي تدويري وفقَ نظام التفعيلة، مؤسَّسة على التكثيف والرمز والمرجعيات الثقافية" ظهر في النصف الثاني من سنة 2006م، على يد الشاب المصري محمد الشحات محمد؛ ذلكم الذي تقول لنا سجلات حياته، أنه ولد في سنة 1966م، وأُهِّل ثقافيًّا وحياتيًّا؛ ليكون أديبًا ومفكرًا وشاعرًا وناقدًا، حيث وشارك إبداعيًّا في مختلف الفنون :شعرًا، وقصة، ومسرح، ومقالا،ً ونقدًا أدبيًّا، ورسمًا، وعزفًا على آلة الناي . إنه أنموذج الفنان المتكامل على النحو الذي نجده عند الدكتور أحمد زكي أبي شادي. له عدد من المحاضرات بعنوان "القيادة والتفكير الإبداعي، وصدر له حوالي أربعون كتابًا  بين الشعر والنقد والقصة القصيرة و القصة الشاعرة والمسرح والمقالات؛ ففي مجال فن الشعر نجد له -على سبيل المثال - دواوين، هي: (زغاريد الألم) عام 1990م، و(عناقيد الورق)  عام1995م، و(للتاريخ كلمة أخرى) عام 2012م، و(آه ياراسي) عام 2013م، و(ثورة وتراتيل)  عام 2015م، و(الصمت من وحي الرنين) عام 2015م،  و(أشعار نسرية) عام2015م، و(الدائرة المستقيمة) عام 2016م،... وغير ذلك.

وفي مجال فن القصة نجد له  -على سبيل المثال -مجموعة قصصية قصيرة بعنوان: (لانجوم بعد اليوم)، طبعت عام 2013م...إلخ

وفي مجال الدرس الأدبي والنقدي نجد  -على سبيل المثال -أربع دراسات هي: (من النقد إلى الشعر نطير) عام1994م، و(الموج الساخن) عام2007م، و (موسقة الغضب) عام2010م، و (القصة الشاعرة وآفاق التجريب) (جمع وتنسيق لأبحاث المؤتمر العربي السادس للقصة الشاعرة) عام 2015م...إلخ

 وصدق قاصُّنا الشاعر حين قال في قصيدته(أهلا بالقصة الشاعرة) بديوانه(الصمت من وحي الرنين ص5):

وما الإبداعُ إلا من بصيرٍ         فـكم زاغتْ عوالمنا ارتباكا
ومن ثم قدر الله تعالى له أن يكون هذا البصير الذي ينتقل بالإبداع الأدبي نقلة جديدة، فيبتكر فن (القصة الشاعرة) بديوانه الفذ (أنفلونزا النحل) الذي بني على جملة من القصص الشاعرة، وصدر عام 2008م.كما عمل على الدعاية لــ(القصة الشاعرة). كما أسس لمؤتمر عربي سنوي خاص بها، هو "المؤتمر العربي للقصة الشاعرة"، بلغ الدورة التاسعة فيها، ، سنة 2019م، وجاءت تحت عنوان: (القصة الشاعرة بين المسايرة والمغايرة في مواجهة الإرهاب).

وقد أوجز جهده في القصة الشاعرة بقوله في ختام قصيدته(أهلا بالقصة الشاعرة):

أرانا "قصّةً" بالحبّ تحيا    تُصلّي الآن "شاعرةً" بـ ذاكَا

إذا فنٌّ كتابيٌّ جديدٌ         فأهلًا بالذي حل اشتباكا

هذا فضلاً عن تأسيسه جمعية دار النسر الأدبية، واكتشافه ورعايته عددًا كبيرًا من المواهب في مجالات شتى، ناهيك عن آرائه ونشاطاته السياسية والاجتماعية، ودوره البارز من خلال حرفه وفنه في ربيع الثورات العربية، وخصوصًا ثورة مصر الغراء .. وكذلك أسس مهرجانًا أدبيًّا بعنوان "لاحجر على فكر"، ونادى بتفعيل العمل الأهلي والاجتماعي في تطوير الأمم. إنه إنسان مصري عاشق مصريته فخور بها، أبدع فيها فخرًا، يردده في كل مكان:

يا مصرُ وجهكِ أزهرُ    والشعرُ فيكِ الأطْهرُ

أشدو بِوَحْيكِ باسمًا         ويذوبُ منكِ الأبْهرُ

هذي عيونُ المجدِ         تقـْرأُ سورةً لا تُقْهرُ(<!--)

فالمصرية والشاعرية عشقاه وسلواه وصنواه...

المبحث الأول: النص المقروء، واصطلاح الإيقاع

أولاً: النص المقروء إيقاعيًّا

                            تسريح

 فتَحَ الموقعَ في منتصف الليل ، ونادى :

 أيها العمّال مَنْ منكمْ يُغنّي ثورةَ الشكّ بصوت العنْدليب الحرّ ، مَنْ

يُمكنه عزفَ كمان ، أو لديْه النكتة الغير وشكوى من مديرٍ؟

 ليس عاديًّا من العمال في ليلة عيدٍ كلُّ هذا الصّمْتِ .. ما يشغَلُهم ،

أين ينام الحارسُ المسكين .. يا مُسعدُ هلْ تسمعني؟

ردّتْ ثريّا:

ومتى تفهم أنّ الكهرباء انقطعتْ مُنذ خروج الليثِ في نشرة أصحاب

المعالي؟ ..

شدّ بطّانية الغاب ،

استراحتْ (<!--)

ثانيًا: مصطلح الإيقاع:

جاء العصر الحديث بتياراته الشعرية المتوالية فحدثت ثورة عميقة في دنيا الشعر، بفعل الثقافة الوافدة، والمؤثرات الجديدة، فكانت الدعوة إلى التحرر من تلك الأشكال الإيقاعية السابقة، لاسيما الثالوث المرعب:الوزن الواحد، والقافية الواحدة، والتزام تكرارهما في كل النص. وتمثل هذا التحرر في: اختراع أوزان جديدة، والجمع في القصيدة الواحدة بين أكثر من بحر فيما عُرف بـ"مجمع البحور"، والشعر المرسل، وهو المطلق من القافية، والشعر التفعيلي السطري، وهو المتحرر تحررًا منتظمًا في بناء الوزن والقافية، والمعتمد على السطر والتفعيلة الواحدة المتحررة، والقافية المتنوعة المتناغمة المتحررة بديلاً للبيت ذي الشطرين، والتفعيلة أو التفعيلتين المحددتين من حيث صورتها وكمها،  والقافية الواحدة...ثم تطور هذا التحرر الشكلي -بطريقة عبثية- عند مدعي الشعر وأصفاره إلى شكل غير مقبول عند جلة النقاد وجهابذتهم، سُمِّي –زورًا وبهتانًا- قصيدة النثر، وهو نثر -يكون أحيانًا فنيًّا- لا أثر فيه للوزن  ولا للقافية، ومع ذلك يضيفون إليه ذلك المصطلح التراثي النفيس(قصيدة)!

و(الإيقاع) هو البنية الأساسية في كل أنماط التجديد، والتغيير، والتخليط، والشذوذ، الماثلة بخارطة الشعر العربي الحديث، ومن ثم كان لابد من وقفة لغوية واصطلاحية معه على النحو التالي:

<!--(الإيقاع) في المعاجم اللغوية العربية مأخوذ من إيقاع ألحان الغناء، وهو أن يُوقع الألحان ويُبيِّنها تبيينًا، كما أنه يعرف بـ" اتفاق الأصوات وتوقيعها في الغناء. وترتبط فكرة الإيقاع فى الأساس بالحركة حيث إنها ترديد للحركة بصورة منتظمة تجمع بين الوحدة والتغيير ويمكن تحديد الإيقاع على أنه تكرار لعنصر ما... (<!--).

<!--و(الإيقاع) هو الترجمة العربية للمصطلح الأوروبي( (rhythm في الفرنسية، ,وفي الإنجليزية(Rhythm ) وهما مشتقتان من rhuthmos) )اليونانية، وهي في أصل معناها الجريان والتدفق، والمقصود به التواتر بين حالتي الصوت والصمت.  فهو حركة منتظمة فيها تكرار في الموسيقى وتناظر، ويقصد به الحركة بتسلسل منتظم في درجة صوت قوية أو ضعيفة.

<!--و(الإيقاع) غير (الوزن) في مجال الدراسات العروضية؛ فـ(الوزن) هو كم التفاعيل التي يستغرق نطقها زمنًا ما، وكل انواع الشعر لابد أن يكون البيت فيها مقسمًا إلى تلك الوحدات، وهي بعد قد تكون متساوية كالرجز عندنا مثلا، وقد تكون متجاوبة كالطويل، حيث يساوي التفعيل الأول التفعيل الثالث والتفعيل الثاني التفعيل الرابع، وهكذا، أما (الإيقاع) فهو رجوع ظاهرة صوتية ما على مسافات زمنية متساوية او متجاوبة(<!--)" سواء أكانت وزنًا أو غير وزن، فالإيقاع عام، والوزن خاص.

 وهو أنماط عديدة في الدراسات الحداثية، سأقف هنا مع نمطين منه، هما: الإيقاع السمعي، والإيقاع البصري، في المبحثين التاليين:

المبحث الثاني: الإيقاع السمعي في القصة الشاعرة:

يقصد بالإيقاع السمعي كل تقنية يوظفها القاص الشاعر في نصه للتأثير الإيجابي الممتع في أذن المتلقي، وللدلالة على مغزاه ومراده ومرماه.

 وهو يتمثل في القصة الشاعرة المبحوثة(تسريح) في:

<!--التفعيل

يقصد بمصطلح التفعيل: تفكيك البيت من الشعر إلى أجزاء ووضع تحت كل جزء ما يناسبه من التفعيلات العروضية ؛ فبعد التقطيع العروضي نحول الرموز التي أثبتناها إلى إحدى التفاعيل العروضية الثمانية، المناسبة والمتوافقة تمامًا مع هذه الرموز؛ لمعرفة صحة الوزن أو انكساره(<!--).

وبالتحليل العروضي للقصة الشاعرة المبحوثة يتضح أنها جاءت على هذا النحو:

فتَحَ المَوْ(///5/5)- قِعُ في مُنْ(///5/5)- تَصَفِ الْلَيْ(///5/5)- لِ ، ونادى(///5/5)- : أَيُّهَا الْعُمْ(/5//5/5)-مَال مَنْ مِنْ(/5//5/5)-كُمْ يُغنّيْ(/5//5/5)- ثورةَ الشكْ(/5//5/5)-كِ بِصَوْتِ الْ(///5/5)- عنْدليب ال(/5//5/5)- حرّ ، مَنْ يُمْ(/5//5/5)- كِنُهُ عَزْ(///5/5)- فَ كمانٍ(///5/5)- ، أو لديْه النْ(/5//5/5)- نكتة الغي(/5//5/5)- ر وشكوى(///5/5)- مِنْ مديرٍ؟(/5//5/5)- ليس عاديْ(/5//5/5)- يًا مِنَ العُمْ(/5//5/5)- مالِ في لَيْ(/5//5/5)- لَةِ عِيدٍ(///5/5)- كلُّ هذا الص(/5//5/5)- صمْتِ .. ما يش(/5//5/5)-غَلُهُمْ ، أَيْ(///5/5)- نَ يَنامُ الْ(///5/5)- حارسُ المس(/5//5/5)- كين .. يا مُسْ(/5//5/5)-عَدُ هلْ تَسْ(///5/5)- مَعُنِي؟ رَدْ(///5/5) -دَتْ ثًرَيّا(/5//5/5)-: ومتى تَفْ(///5/5)- هَمُ أنّ الْ(///5/5)- كَهْرَبَاءَ انْ(/5//5/5)- قَطَعَتْ مُنْ(///5/5)-ذُ خُرُوج الْ(///5/5)- لَيْثِ في نَشْ(/5//5/5)- رَةِ أَصْحا(///5/5)- بِ الْمعاليْ؟(/5//5/5)- .. شدّ بطّا(/5//5/5)- نِيَةَ الْغًا(///5/5)- بِ ، اسْتَرَاحَتْ(/5//5/5).

وبقراءة هذا التفعيل العروضي للنص المبحوث قراءة استنباطية يظهر لنا الآتي:

<!--أن النص سليم عروضيًّا، إذ خلا من أية محاذير خاصة بالوزن، فلم يقع القاص الشاعر في كسر معيب أو تزحيف ثقيل، أو إعلال قبيح؛ فقد جاء على نسق الشعر التفعيلي السطري، وهو ذلك الشعر المبني على أن السطر -لا الشطر ولا البيت – هو بنية النص ووحدته الأولى، وفيه تحرر من التقيد الصارم بعدد التفاعيل أو شكلها أو حالة نهاية السطر(الضرب)، وتحرر - كذلك – من نظام واحد للقوافي. وله إطلاقات كثيرة عند الدارسين، أهمها الشعر الحر، وشعر التفعيلة، والشعر الصافي، والشعر الطلق... والمرجعية الإيقاعية لهذا الشكل ترجع إلى الخليل الثاني، الشاعرة العراقية القديرة: نازك الملائكة في كتابها قضايا الشعر العربي المعاصر(<!--)،...

<!--وقد بنى القاص الشاعر نصه على التفعيلة الأساسية لبحر الرمل (فاعلاتن /5//5/5) المكونة من سببين خفيفين بينهما وتد مجموع؛ فقد كرر هذه التفعيلة أربعين مرة، بالإضافة إلى بناء العنوان(تسريحٌ) على صورة طريفة من هذه التفعيلة، وهي (فالاتنْ) بوزن(/5/5/5وقد دخلها زحاف جار مجرى العلة يسمى التشعيث، وهو حذف أول الوتد المجموع، أي المتحرك الأول من التفعيلة، المقابل حرف العين منها، فتصير (فاعلاتنْ) إلى (فالاتنْ). وبوجود حرفي مد في هذه التفعيلة يتضح لنا مدى الطول الإيقاعي في النص.

<!--أن القاص الشاعر قضى على رتابة تكرار هذه التفعيلة؛ فقد نوَّع فيها بين صورتين من الصور المقبولة عروضيًّا منها، هما:

<!--الصورة السالمة((فاعلاتنْ/5//5/5)؛ فقد جاءت اثنتين وعشرين مرة، من أمثلتها في النص:[ أَيُّهَا الْعُمْ(/5//5/5)-مَال مَنْ مِنْ(/5//5/5)-كُمْ يُغنّيْ(/5//5/5)- ثورةَ الشكْ(/5//5/5)].

<!--الصورة المزاحفة(فَعِلاتنْ///5/5)؛ فقد دخلها زحاف الخبن، وهو حذف الثاني الساكن من التفعيلة. وقد وردت بالنص ثماني عشر مرة. ومن أمثلتها في النص: [فتَحَ المَوْ(///5/5)- قِعُ في مُنْ(///5/5)- تَصَفِ الْلَيْ(///5/5)- لِ ، ونادى(///5/5)].

<!--هذا إضافة إلى الصورة المزاحفة بالتشعيث في عنوان القصة الشاعرة(تسريح فالاتنْ).

<!--وقد جاءت الصور الثلاثة لـ(فاعلاتن) في مواطنها المناسبة، فالصورة المشعثة(فالاتن) جاءت في العنوان (تسريح)، وجاء الساكن الأول فيها صوتًا صامتًا هو "السين"؛ مما عجَّل وأسرع بالإيقاع؛ ليجعل القارئ يدخل النص بلا كثير توقف، وجاء الساكن الثاني فيها صوتًا صائتًا هو الياء الممدودة، لينتقل الشاعر من إيقاع حاد صارم إلى إيقاع لين منخفض، ولعله يناسب الحالة الدرامية المسيطرة على النص. أما الصورة السالمة (فاعلاتن) فقد جاءت بكثرة في وسط النص حيث تأزم الأحداث، الذي يناسبه الصوتان الصائتان، وبينهما الصامتان؛ مما يحدث مدًّا ومطًّا للإيقاع يناسب ما في الأحداث من طول وامتداد رغم تكثيفها لكونها قصة شاعرة... وهذا ما أدى إلى مجيء ختام النص [بِ ، اسْتَرَاحَتْ(/5//5/5)] على نسقها؛ لأنه يمثل النتيجة المتوقعة من دراما النص. ولعل في الجناس الناقص بين العنوان(تسريح) والكلمة الأخيرة في النص(استراحت) ما يدل على ذلك، فمن التسريح تكون الراحة، والراحة في التسريح... أما الصورة المخبونة(فعلاتن) فقد جاءت في مطلع النص الذي فيه الأحداث سريعة، لا تحتمل المدة الزمنية لنطق حرفين صائتين، فاكتفت بصائت واحد، ثم قامت هذه الصورة بدور التنويع والتلطيف للإيقاع، مما ينقل المتلقي من إيقاع إلى آخر، فلا يحس بثقل أو ملل من رتابة التفعيلة الواحدة.

ولعله بهذا التحليل الإيقاعي للوزن في القصة المبحوثة يتضح لنا أهمية الإيقاع وضرورة العناية في فن القصة الشاعرة، وحتمية جعله موسيقا تصويرية مناسبة للبنية الدرامية الموجودة بها!  

 

<!--التدوير

أسلوب إيقاعي يوظف بشكل كبير في القصيدة التفعيلية السطرية الحرة، و يسمى الشعر الجاري أو الجريان في الشعر. و يقصد به: اشتراك السطرين-لا الشطرين كما عند الخليل- في كلمة واحدة. إنه تتابع التفعيلات في عدة أسطر بلا قواف فاصلة بينها، حتى ينتهي الشاعر إلى قافية بعد عدة أسطر، ثم يبدأ مقطعًا جديدًا، ويختمه بقافية مماثلة أو مخالفة لقافية المقطع الأول. ويرى بعض العروضيين المحدثين أن الشعراء قد أكثروا من استخدام هذا اللون إلى حد ضياع الإيقاع الشعري في خضم هذه التفاعيل!(<!--) ولكن الواقع أنّ التدوير مظهر عروضي يؤكدّ مبدأ التعالق بين الأبيات الشعرية في القصيدة الجديدة "فالبيت في الوعي الشعري المعاصر لا يوجد خارج الصّلة مع أبيات أخرى"  وهي صلة تتعدّى في الشعر الحرّ مستويي التركيب والدلالة إلى دمج الأبيات دمجًا عروضيًّا "مّما يلغي استقلال البيت وتصوّره وحدة مكتفية بذاتها"(<!--). وهكذا نتبين أنّ اشتراط استقلال البيت الحرّ عروضيًّا ـــــ وهو الأساس الذي بنت نازك الملائكة موقفها القائل بامتناع التدوير ـــــ ما هو سوى محاولة لإخضاع الشعر الجديد للعروض القديم (<!--)...

.وبالنظر في التفعيل السابق للقصة الشاعرة المبحوثة يتضح لنا أن القاص الشاعر(محمد الشحات محمد) لجأ إلى أسلوب التدويرالعروضي لبنائها؛ فجاءت هذه القصة الشاعرة من أسطر مترابطة متصلة ببعضها، عن طريق توزع التفعلية على الكلمات الأسطر، فكل كلماتها تمتزج لبناء التفعيلات، وهذا حقق وحدة إيقاعية ولغوية بارزة، حتى أننا نقرؤها متتابعةً متلاحقةً حتى نقف على القافية؛ إذ لا يُستطاع الوقوف في القراءة إلا عند السطر الأخير. فليس بالنص تفعيلة مكونة من كلمة مستقلة، ولا من كلمتين مستقلتين إلا تفعيلة واحدة هي قوله: (مِنْ مديرٍ فاعلاتن(/5//5/5). ولعل ذلك للقضاء على الرتابة والثقل الناشئ من كون القصة الشاعرة مدورة كلها، ولإعطاء المتلقي فرصة للوقف الحسن في وسط النص، وللتدبر في الدلالة المكثفة في لفظة وشخصية (مدير)!

 وهذا النص المدور كله يذكرنا بشعر البند في تراثنا العربي بالعصر العثماني، ذلك الكلام الموزون غير المقيد بعدد محدد من النفعيلات، والذي كان يكتب كالنثر متصلاً، لا كالشعر مقطعًا(<!--)..

 

<!--التضمين

يقصد بالتضمين في الشعر التقليدي: ألا تكون القافية في بيت مستغنية عن البيت الذي يليه.         وهو عيب عند بعض القدامى الذين يؤمنون بوحدة البيت لا القصيدة(<!--)، لكنه –كما يقول الدكتور شكري عياد-: يفرض نفسه بما يشبه الحتمية الفنية"(<!--). إن الشاعر بالتضمين " يتعمد تحطيم استقلال الشطر تحطيمًا كاملًا، لذلك لا نجد له وقفات ثابتة حتى مع وجود القافية في نهاية كل شطر، وإنما يترك الشاعر حرًّا يقف حيث يشاء. ومعنى ذلك أن الشاعر، في الشعر الحر، ليس ملزمًا أن ينهي المعنى والإعراب عند آخر الشطر، وإنما يجعل من حقه أن يمدهما إلى الشطر التالي أو ما بعده. وعلى هذا تترك مسألة الوقوف للشاعر يتصرف فيها بما يملي عليه ذوقه"  (<!--). إن الأساس الذي قام عليه هذا الفن العربي عين الأساس الذي قام عليه شعرنا القديم. فقد كان الشطر أو البيت يتخذ وحدة ويحافظ الشاعر على عزلة هذه الوحدة بتحاشي التضمين... مراعيًا المسافات المضبوطة بينها وبين سائر الوحدات التي يتكررها إلى نهاية القصيدة (<!--).

 وقد ربط القاص الشاعر(محمد الشحات محمد) في نصه(تسريح) بين جمل نصه وأسطره ربطًا نحويًّا وبلاغيًّا، من خلال جملة أساليب، تتوزع خلال أعطاف النص كله بدءًا ووسطًا وختامًا، هي:

<!--أسلوب الاستئناف بالفعل الماضي في قوله بالاستهلال: (فتح الموقع..)، وقوله: (ردت ثريا)، وقوله بالختام: (شد بطانية الغاب..استراحت). والاستئناف بالنفي في قوله: (ليس عاديًّا...)، والاستئناف بالاسم الموصول المشترك(ما) في قوله: (ما يشغلهم...) والاستئناف بالنداء في قوله: (يا مسعد هل تسمعني....)، والاستئناف بالاستفهام في قوله: (من يمكنه عزف كمان).

<!--أسلوب العطف بالواو في قوله: (ونادى)، (وشكوى)، (و متى تفهم)، والعطف بـ (أو) في قوله: (أو لديه). 

<!--أسلوب الحوار بين الشخصيتين: مسعد وثريا، المفيد إيضاحًا بعد إبهام، في قوله: (يا مُسعدُ هلْ تسمعني؟ ردّتْ ثريّا: ومتى تفهم أنّ الكهرباء انقطعتْ مُنذ خروج الليثِ في نشرة أصحاب المعالي؟).

<!--والتفصيل بعد الإجمال في قوله: (ما يشغَلُهم ، أين ينام الحارسُ المسكين ..)، وقوله: (نادى: أيها العمال من منكم يغني ثورة الشك). كما أحدث التضمين بجعل (من) الاستفعامية في نهاية السطر وبقية جملة الاستفهام في السطر التالي(يمكنه)، وبجعل المضاف في نهاية سطر(أصحاب) والمضاف إليه في بداية سطر تال(المعالي).   

وبهذه التقنيات اللغوية والبلاغية صار النص كتلة واحدة، تُقرأ معًا، من ألفها إلى يائها، ومن مطلعها إلى ختامها، كأنها بيت شعري واحد، فهو دفقة شعورية مقذوفة، ولفتة سردية منظورة، وليس لفظة أو جملة أو سطرًا أو فقرة، بل إنه نص كلي متماسك متمازج . وهذا ما يعرف بظاهرة الجريان، وهو استمرار الوحدة الموسيقية دون توقف بالتضمين والتدوير إلى أكثر من جريانها العادي في قصائد الشعر العربي، وقد يستغرق هذا الاستمرار بعض القصيدة السطرية أو كلها (<!--). وكذا الحال مع القصة الشاعرة، بل إن الجريان أساس إيقاعي فيها.

<!--التقفية

تأتي القافية في النص مرسلة في الأغلب الأعم؛ فلو بحثنا عن قافية موحدة لما وجدنا إلا نهايات متفقة، لكنها متباعدة، ومن ثم فهي توازنات جاءت عفو الخاطر بلا قصد أو صنعة أو تصنيع، مثل قوله: (أيها العمال) في السطر الأول، مع قوله(من العمال) في السطر الرابع، مع قوله في السطر الأخير(أصحاب المعالي) مع اختلاف بينها في حركة الروي فهو مرفوع في الأولى، ومجرور في الثانية والثالثة. ومثل قوله(المسكينِ) مع قوله: (تسمعني)، مع اختلاف بينهما في ردف الأولى بالياء وعدم ردف الثانية!

وينبغي في إبداع القصة الشاعرة من العناية بالقافية؛ لأنها" ركن مهم في موسيقية الشعر السطري الحر؛ لأنها تحدث رنينًا وتثير في النفس أنغامًا وأصداءً. وهي فوق ذلك فاصلة قوية واضحة بين الشطر والشطر، والشعر الحر أحوج ما يكون إلى الفواصل خاصة بعد أن أغرق بالنثرية الباردة. تقول الشاعرة نازك الملائكة: "ولذلك يؤسفنا أن نرى الناشئين متجهين اليوم إلى نبذ القافية في شعرهم الحر. وذلك يضيف إلى نثرية ما ينظمون وضعف الموسيقى فيه. فكأنهم لم يكفهم أن يوردوا في شعرهم تشكيلات متنافرة، وأن يخرجوا على الوزن، وأن يتنقلوا من بحر إلى بحر، وأن يرتكبوا الأخطاء النحوية واللغوية، وأن يأتوا بالعامي والسقط، كأن لم يكفهم ذلك كله، فأهملوا القافية وهي لو يدرون سند شعرهم وحليته المتبقية! (<!--)".

إن القصة الشاعرة بنت الشعر التفعيلي السطري، ومن ثم هي موزونة مقفًاة: موزونة بطريقة تختلف عن الوزن في الشعر البيتي أو المقطعي، ومقفًّاة؛ لأنها تعتمد غاية القافية لا شكلها، باستغنائها عن حرف الروي، وتلزم مبدعيها بنوع من القافية المتحررة، والمرتبطة بسابقاتها ولاحقاتها ارتباط تآلف وانسجام دون إشراك ملزم في حرف الروي، وبذلك أصبحت القافية هي النهاية التي تنتهي عندها الدفقة الموسيقية الجزئية التي ترتاح إليها النفس في ذلك الموضع(<!--).

المبحث الثاني: الإيقاع البصري في القصة الشاعرة

يقصد به ذلك الإيقاع الذي يركز على السيطرة على عين المتلقي، بتوظيف تقنيات لغوية وكتابية تحقق هذه الغاية، فكل ما يمنحه النص للرؤية سواء أكان على مستوى البصرأي العين المجردة، أم على مستوى البصيرة أي عين الخيال. و القصة الشاعرة تعتمد على الإيقاع البصري المكتوب بأدواته، بجوار الإيقاع الصوتي المسموع بأدواته. ويمكن إيجاز أدوات الإيقاع البصري في القصة الشاعرة: (تسريح)، في الآتي:

<!--الإيقاع بالعنوان:

يتفاجأ القارئ لهذا النص بأن عنوانه كلمة واحدة، هي (تسريح) مصدر الفعل المضعف (سرَّح). فيطرأ على خاطره الدلالات المختلفة له، فنجد دلالة الجذر اللغوي المحددة بالانطلاق والخروج؛ حيث قال ابن فارس في مقاييسه: "السين والراء والحاء أصلٌ مطّرد واحد، وهو يدلُّ على الانطلاق‏.‏ يقال منه أمر سريح، إذا لم يكن فيه تعويق ولا مَطْل‏‏(<!--)".‏ ثمَّ دلالة الطلاق، حيث يحمل على هذا السَّراح وهو الطَّلاق؛ يقال سَرَّحت المرأةَ‏. وفي كتاب الله تعالى‏:‏ ‏{‏أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ‏}(<!--)‏ ‏‏.‏ ودلالة الإطلاق حيث يقال: سرح الراعي الماشية: أطلقها. ومن الدلالات المعاصرة للفظة (التسريح): تسريح العمال، أي: فصلهم، وعزلهم، والاستغناء عنهم لعدم الحاجة إليهم!  ولعل هذه الدلالة هي الأقرب إلى جو القصة الشاعرة وحركة أحداثها!

<!-- الإيقاع بمواطن التأنق:

حيث نجد القاص الشاعر يوظف مواطن التأنق من استهلال ووسط وختام في الجذب بالدلالة والإيحاء، فالمطلع الاستهلالي جاء جملة فعلية، هي: "فتَحَ الموقعَ في منتصف الليل ، ونادى : أيها العمّال مَنْ منكمْ يُغنّي ثورةَ الشكّ بصوت العنْدليب الحر؟" ففيها حدث الفتح، وحدث المناداة، وفيها الزمان(منتصف الليل)، وفيها المكان(الموقع)، وفيها تحديد للمنادَى(العمال)، وإضمار للمنادِي، وفيها غموض لذيذ في عبارة(ثورة الشك)، وعبارة(العندليب الحر)...   

وتأتي جملة الوسط: (ليس عاديًّا من العمال في ليلة عيدٍ كلُّ هذا الصّمْتِ .. ما يشغَلُهم ، أين ينام الحارسُ المسكين) لتزيد السرد غموضًا جاذبًا في ألفاظ: الصمت/الحارس المسكين!

أما الختام فكان جملة فعلية مركبة أيضًا، هي: (.. شدّ بطّانية الغاب ، استراحتْ ).

 وواضح فيها أن الغموض ما زال موجودًا في عبارة(بطانية الغاب) وأن النص مفتوح، وصالح لغير قراءة، وغير تأويل، وأن طرفي القصة: ضمير المذكر في (شد)، وضمير الغائبة في (استراحت) قد انتهيا إلى حالهما المحتوم غير المفهوم فهمًا واحدًا ولا محددًا.

<!--الإيقاع باللغة:

جاء هذا النص في ثمان وستين كلمة، توزعت بين أربعين اسمًا، وخمسة عشر حرفًا، وثلاثة عشر فعلاً، أدت الأسماء دورها في تحديد زمان القص ومكانه وشخوصه، وللمركب الإضافي حضوره الفاعل في النص حيث نجد(منتصف الليل/ثورة الشك/صوت العندليب/عزف كمان/ليلة عيد/كل هذا الصمت/خروج الليل/أصحاب المعالي/بطانية الغاب) وكلها ذات دلالة غائمة مطاطة، تذهب فيها النفس كل مذهب، وتحدث الجذب والتشويق.وكذا شأن المركب الوصفي في عبارات: (العندليب الحر/النكتة الغير/شكوى من مدير/الحارس المسكين). وكل هذا يفعل إيقاعًا فكريًّا. كما أدت الحروف دورها في الربط بين أجزاء النص، وأحداث القصة، وأدت الأفعال دورها في تسيير الأحداث. وكان الفعل الماضي(فتح/نادى/ليس/ردت/انقطعت/شد/استراحت) خاصًّا بالاستهلال والختام، والفعل المضارع(يغني/يمكنه/يشغلهم/ينام/تسمعني/تفهم) خاصًّا بوسط النص.

<!--الإيقاع بالنص

جاء النص في عشرة أسطر، مكتوبة بطريقة دالة، وكله نفثة واحدة، وإيقاع واحد، ومشهد متماسك، وأحداث محبوكة مكثفة، ومن ثم حُقَّ لنا أن نقول: إن القصة الشاعرة وليد شرعي ونسخة معدلة من فني القصة القصيرة، والشعر التفعيلي السطري؛ ففيه أبرز عناصر القصة القصيرة من إيجاز ووحدة وتكثي�

  • Currently 0/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
0 تصويتات / 189 مشاهدة

الأستاذ الدكتور صبري فوزي عبدالله أبوحسين

sabryfatma
موقع لنشر بحوثي ومقالاتي وخواطري، وتوجيه الباحثين في بحوثهم في حدود الطاقة والمتاح. والله الموفق والهادي إلى سواء السبيل »

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

337,643