القصة الشاعرة مصطلحًا وبناءً ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

إعداد:

الأستاذ الدكتور/صبري فوزي أبوحسين

أستاذ ورئيس قسم الأدب والنقد بكلية اللغة العربية بالزقازيق بجامعة الأزهر

وعضو اتحاد كتاب مصر

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ التأصيل الاصطلاحي لفن القصة الشاعرة ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قبل أن نسيح ثقافيًّا ونقديًّا مع مصطلح (فن القصة الشاعرة(The poet's story)- ويترجمها دعاتها بالمنطوق العربي هكذا(Alkesa Alsha'era)-لابد من أن نمهد له بتقرير أن اصطلاح الأدبliterature)) في مفهومه الخاص هو الأدب الخالص الذي لا يقصد به التعبير عن معنًى من المعاني فقط، بل يراد به أيضًا أن يكون جميلًا بديعًا مشتملًا على تصور الأخيلة الرقيقة، والمعاني الدقيقة، مؤثرًا في عاطفة المتلقين: قراء وسامعين، مما يهذب النفس، ويرقق الحس، ويثقف اللسان. وهذا الأدب الخالص -من خلال نظرية الأجناس الأدبية(Literary races)- نوعان كبيران: الشعر والنثر. والشّعر(Poetry) شكل من أشكال الفنّ العربيّ الأدبيّ الذي ظهر منذ القِدَم، وهو تعبير إنسانيّ يتّسم بأنّه كلام موزون ذو تفعيلة مُحدّدة، ويلتزم بوجود القافية: وجودًا متفننًا، ويَستخدم الصّور الشعريّة والفنيّة، ويلجأ إلى الرمزيّة، ويحمل في طيّاته أعمق المعاني، والتّشبيهات، وجمالَ الكلمات، ويكتبه الشّاعر ليُعبّر عن أفكاره، ومشاعره، وأحاسيسه، ومُشكلاته، وما يؤمن به، والقضايا الإنسانيّة التي تروق له. وقد كان الشعرُ لسانَ العرب في التّعبير عن أحوالهم، وثقافتهم، وصِفاتهم، وتاريخهم، وحروبهم، وعندما أصبح لكلامهم وزن سمّوهُ شعراً؛ لأنّ العرب شعروا به. وللشعر أربعة أنواع رئيسة، مر بها خلال رحلته العالمية الطويلة، منذ أوليته البدائية العتيقة إلى حالته الحداثية الآنية، وهذه الأنواع هي: الشعر الغنائيّ(الوجدانيEmotional poetry): الذي هوتصوير لوجدان الشاعر وتصوير لانطباعاته التي تنعكس من عواطفه ومشاعره وتخيلاته وتجاربه الذاتية المنداحة في كل مجال وميدان. الشعر القصصيّ (Fiction poetry) الذي هو شعر ملحمي أسطوري طويل القالب، والشعر التمثيليّ (المسرحيّ/الدراميDramatic poetry)، الذي هو شعرٌ موضوعيّ، ويتميّز بالوحدة العضويّة؛ أي ترتيب الأحداث ترتيبًا زمنيّاً أو سببيّاً، ويُكتَب لـيُقال على المسرح على لسان شخصيات ناطقة، وهو أيضًا قليل في الشعر العربي. ورابع الأنواع الشعرية هو الشعر التعليميPoetry tutorial)): الذي يعد قسمًا من أقسام الشعر الكبرى، وهو الشعر الذي من خلاله يتم عرض علم من العلوم، ليسهل فهمه وحفظه. وهو يخلو من عنصري العاطفة، والخيال، ويسمى عند العرب بالنظم.ولعل العرب كانوا أكثر الأمم عناية بالشعر التعليمي.

وبناء على هذه التقسيمة النقدية للأجناس الأدبية والمميزة بينها، آمن بعض نقادنا بالفصل التام بين ما هو شعري ونثري، فهذا الدكتور محمد مندور، مثلاً يرى أن النثر وحده هو المؤهل لاستيعاب القصة، وأن القصة في الشعر هي عبث وتبديد للطاقة الشعرية، يقول في كتابه (محاضرات في الشعر المصري بعد شوقي): ولكن الشيء الذي لا نستطيع أن نفهمه، ونرى فيه عبثًا وتبديدًا للطاقة الشعرية هو أن نرى شاعرًا يحاول أن يكتب قصصًا – ولا أقول أقاصيص – شعرًا، مع أن فن القصة قد نشأ نثرًا، ولا يزال فناً نثريًّا في جميع الآداب، بحكم أن النثر أكثر طواعية ومرونة وقدرة على الوصف والتحليل فضلاً عن السرد والقصص". وننتقل من هذا الفصل بين الأجناس الأدبية في العصر الكلاسيكي إلى الدعوة بالتداخل بل الاندماج بين أنواعهما، في آننا الحداثي، ويتمثل ذلك في فنون: الشعر القصصي، أو القصة الشعرية، أو القصة الشاعرة، حيث الجمع بين نوعين أدبيين، لكل منهما أهمية كبرى في الإبداع الأدبي، وخصائصه الفارقة المميزة. وإذا كان الشعر يصور جانب الحياة كما تنعكس على نفس الشاعر فيوحي بها، ويلقي إلينا بأشعتها وظلالها، وإذا كانت القصة تصور الحياة نفسها في جميع دقائقها ولحظاتها؛ فإن هذه الفنون المبنية على التداخل أو الاندماج تجمع بين هاتين الصورتين وتجعلنا نحيا التجربة النفسية الواحدة في نطاق أوسع وأفق أرحب إذ تطرق أبواب تفكيرنا ومشاعرنا وتسمو بخيالنا وتأملاتنا فنحيا التجربة مرتين أو نحياها على شكل مزدوج: حياة الحادثة الواقعية، وحياة الفكر العلوي والخيال السامي، لهذه الأسباب كلها كانت الإجادة في هذه الفنون المتداخلة أو المندمجة إجادة مضاعفة مزدوجة تقتضي عبقرية خاصة؛ وتقتضي براعة في الأسلوب الذي يفسح المجال للقارئ كي يطوف في مرابع النفس وحنايا الوجدان، ويمكنه من الغوص في أسرار الحياة الإنسانية والإلمام بمذاهبها ومثلها كل هذا في إطار من الأوزان والأنغام.

  إذن نتج عن التداخل بين الشعر والقصة عند أدباء عصرنا الحديث ثلاثة فنون أدبية حديثة ومعاصرة، متشابكة، وتكاد تختلط في أذهان النخبة من المثقفين فضلا عن العامة، وهي: الشعر القصصيّ (Fiction poetry) ، و القصة الشعرية(Poetic story)، وفن القصة الشاعرة (Alkesa Alsha'era)، وهاك بيان هذه الفنون الأدبية الثلاثة المستحدثة: أما الشعر القصصيّ (Fiction poetry) فهو شعر أسطوريّ ازدهر في عصر الشّعوب الفطريّة، الذين تميّزوا في خلط الواقع والخيال والحكاية والتّاريخ، ويُعالج الشّعر الملحميّ بشكلٍ عامّ موضوعًا بطوليّاً يرتكز على فكرة قوميّةٍ، كما يتضمّن الشّعر الملحميّ في الغالب فكرةَ الحرب والدّفاع عن البلاد، وتمجيد أبطال الحرب؛ فهو الذي يروي سِيَرًا و بطولات تاريخية، ويتّسم هذا النّوع من الشّعر بأنّه يُقدّم قصّةً على شكل شعر، وتتوفّر فيه كامل عناصر القصّة الأساسيّة المُتمثّلة في السّرد، وتقديم أحداث القصّة، والوصف في إبراز صفات الأشخاص، والحوار، والنّهاية.  والملحمة، والشعر القصصي مصطلحان مترادفان، ودلي ذلك ما ورد على قلم سليمان البستاني مترجم الإلياذة وناظمها شعرًا في مقدمتها: "وأفردت باباً للملاحم أو؛ منظومات الشعر القصصي"، وكذلك ما ورد في مقدمة الإنيادة لفيرجيل "وإذا كان من الصعب تحديد معنى الملاحم البطولية، فإنه يمكننا القول على الأقل بأنها أشعار قصصية"؛ فالشعر القصصي مصطلح سائغ قامت عليه دراسات معاصرة، نجد هذا لدى الدكتور مصطفى هدارة في كتابه: التجديد في شعر المهجر بعنوان " القصص الشعري " يقول: ولدينا في شعرنا القديم بعض المحاولات لأبي نواس في القصص الشعري. أما القصة الشعرية(Poetic story)فهي أسلوب إبداعي من أساليب القريض، ينسج فيه الشاعر قصيدته على المنوال القصصي؛ بحيث يتوفر فيها من العناصر الفنية ما للقصة النثرية. لا يشترط فيها الطول الإيقاعي، ولا النزعة الملحمية والأسطورية، وهي حاضرة في شعرنا العربي في كل عصوره، بدرجات متفاوتة. وكان الباحثون يدرسونها في الشعر العربي تحت عنوان (القصة في الشعر العربي)، مثل كتاب الأستاذ علي النجدي ناصف طبع سنة 1970م، وكتاب الأستاذ ثروت أباظة، ولم يستخدم هذا الاصطلاح فيما أعلم إلا الباحثة عزيزة مريدين في كتابها القصة الشعرية في العصر الحديث طبع دمشق سنة 1983م. وهذان الفنان: الشعر القصصي، والقصة الشعرية ناتجان بين التداخل-وليس الاندماج- بين فني: القصة والشعر، مع بروز لفن الشعر في كل منهما عن فن القصة، فهما من ألوان وتفريعات فن الشعر في المقام الأول، فالشعر فيهما أساس، والقصة فيهما وسيلة فنية، وحلية تعبيرية أو تشكيلية...   أما القصة الشاعرة(Alkesa Alsha'era) فهي من المصطلحات التى حظيت بجدالات نقدية حادة، قرأتها في مظانها الإلكترونية، فأثمرت عن توصيف خاص بها، يمكننا إيجازه في أن:

<!--هذا المصطلح تركيب وصفي، وُصفت فيه القصة بصفة صنوها الأدبي: الشعر، وقد وصفت باسم الفاعل(الشاعرة)؛ تمييزًا لها عن سابقها من فنون، وبخاصة الشعر القصصي والقصة الشعرية، وبيانًا للغاية من هذا الفن، وهو الجمع الدامج بين جماليات هذين الفنين الآسرين: القصة القصيرة، والشعر التفعيلي، والمستند إلى جماليات أخرى؛ فلذتها من كونها قصًّا وكونها شاعرة في آن واحد، وهذا منبع الجدة في القصة الشاعرة؛ ففكرتها جديدة وغير مسبوقة، على الرغم من أنها مكونة من مادتين كانتا موجودتين قبلها، وهما القصة القصيرة والشعر ولكن كان كل منهما منفصلاً وحده . إننا لو تأملنا تكوين (القصة الشاعرة) من مادتي القصة والشعر نجد أنها تحافظ علي موروثيهما الأصيل معًا وتطورهما معًا  ..بل وتنادي على كل ذي موهبة كتابية أن يكون شموليًّا, أن يكون شاعرًا وقاصًّا في الوقت نفسه يحيط علمًا بمكونات كل منهما .. إن جمال وكمال القصة الشاعرة أنها لا تمدنا بشعر فقط على حدة ولا بنثر فقط على حدة, بل بالاثنين، تمتعنا في إبداع رائق وراق؛ لأنها قد جمعت الفنيين معًا وطورتهما وغيرت من شكلهما وموضوعهما معًا, وكأننا نعيش بهذه التجربة تجربتين.

<!--إن القصة الشاعرة(Alkesa Alsha'era) هي ذلكم الفن الذي يعد تجديدًا أدبيًّا مصريًّا خالصًا من أية تأثرات خارجية: غربية أو شرقية، ويُقصَد به عند مؤسِّسه المصري -المبدع محمد الشحات محمد- أنه "قص إيقاعي تدويري وفقَ نظام التفعيلة، مؤسَّسة على التكثيف والرمز والمرجعيات الثقافية" أو أنها "قص إيقاعي تدويري مكثف لأحداث ترميزية مؤسسة على المرجعيات الثقافية وطاقات إبداعية تشكيلية ذات وحدة وجدانية لرموز متباينة في فضاءات حتمية المغايرة، ترفض سلطة القوالب الموروثة" ..

الخصائص الفارقة في القصة الشاعرة:

<!--بقراءة مقال (القصة الشاعرة بين المصطلح والواقع) للمؤسس يمكننا أن نحدد الخصائص الفنية لهذا الفن  في الآتي:

<!--القَصْدِية الإبداعية تعد القَصْدِية الإبداعية من شرائط هذا الفن الأولى، و مهمة لتفرد هذا الجنس الأدبي وتحقّقه، ويقصد بها قصدية المبدع إلى القص والشعر معًا من أول النص حتى نهايته.. <!--درامية النص: تمثل القصة الشاعرة فضاء لتقاطع العديد من الدلالات والرموز، تتشكل فيه الأحداث بطريقة فنية معقدة تجمع بين التداخل والتشابك وتعدد الأنسجة، فلا تخضع لترتيب زمني أو منطق تنامي الأحداث وتراكمها بقدر ما تتواتر متداعية؛ فالحدث فيها إيحائي رمزي مؤشر إليه وليس مباشرًا،

 وتعتمد بناءً حدَثيًّا يقوم على التهشيم والتشظية والتنوع لإحداث جمالية وذائقة بديلة عما يتوقع القارئ لمشاركته كفاعلٍ ومنفعلٍ له مخزونٌ ثقافي يحتمي بالأساطير والتاريخ.

<!--تفعيلية النص:

النص المنتمي إلى القصة الشاعرة ينبغي أن يكون سليمًا عروضيًّا، خاليًا من أية محاذير خاصة بالوزن، فلا يقع القاص الشاعر في كسر معيب أو تزحيف ثقيل، أو إعلال قبيح. وعليه أن يلتزم نسق الشعر التفعيلي السطري، وهو ذلك الشعر المبني على أن السطر -لا الشطر ولا البيت – هو بنية النص ووحدته الأولى، وفيه تحرر من التقيد الصارم بعدد التفاعيل أو شكلها أو حالة نهاية السطر(الضرب)، وتحرر - كذلك – من نظام واحد صارم للقوافي؛ فالقصة الشاعرة ليست بيتية (عمودية)، ولا تُعنَى بالروي. 

وأسلوب التدوير تقنية عروضية ضرورية ف بناء القصة الشاعرة؛ حيث تجيء مكونة من أسطر مترابطة متصلة ببعضها، عن طريق توزع التفعلية على الكلمات والأسطر، فكل كلماتها تمتزج لبناء التفعيلات، وهذا حقق وحدة إيقاعية ولغوية بارزة، حتى إننا نقرؤها متتابعةً متلاحقةً حتى نقف على القافية؛ إذ لا يُستطاع الوقوف في القراءة إلا عند السطر الأخير. فليس بالنص تفعيلة مكونة من كلمة مستقلة غالبًا. كما يعمد القاص الشاعر إلى توظيف أسلوب التضمين للربط بين جمل نصه وأسطره ربطًا نحويًّا وبلاغيًّا، من خلال جملة أساليب يختارها، تتوزع خلال أعطاف النص كله بدءًا ووسطًا وختامًا.

 

ومن هنا تظهر أهمية الإيقاع وضرورة العناية في فن القصة الشاعرة، وحتمية جعله موسيقا تصويرية مناسبة للبنية الدرامية الموجودة بها! ولذا فالقصة الشاعرة تبرهن على أن التفعيلة لا تمثل قيدًا أمام مساحة الحرية والتعبير التصويري والترميزي المكثف؛ فبالتفعيلة (عبر القصة الشاعرة) يمكن كتابة نص ما بعد حداثي شعرًا وقصًّا في آنٍ واحد.
  • Currently 0/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
0 تصويتات / 496 مشاهدة

الأستاذ الدكتور صبري فوزي عبدالله أبوحسين

sabryfatma
موقع لنشر بحوثي ومقالاتي وخواطري، وتوجيه الباحثين في بحوثهم في حدود الطاقة والمتاح. والله الموفق والهادي إلى سواء السبيل »

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

337,563