"يحتفل العالم في اليوم الثالث من ديسمبر باليوم العالمي للإعاقة، الذي خصصته الأمم المتحدة يوماً علمياً لذوي الإعاقة منذ عام 1992م للتوعية بقضايا الإعاقة لضمان حقوق المعاقين وإدخالهم في الحياة السياسية والاقتصادية والثقافية، ويركز موضوع هذا العام على "تحقيق أهداف التنمية المستدامة الـ17 للمستقبل الذي نريد".
في ظل واقع صعب يعيشه مليار معاق حول العالم من أصل 7 مليار نسمة منهم 80 في المائة في دول العالم النامية التي تشهد تحديات كبيرة نتيجة الفقر والأمية والاضطرابات السياسية والاجتماعية المتعاظمة مما قد يمثل عائقاً للتنمية المستدامة التي ترجو الأمم المتحدة تحقيقها في مجتمعاتهم. ولأنني أحد أصحاب الإعاقة رأيت من المناسب أن أشارك العالم في احتفالية اليوم بتجربتي مع الإعاقة وكيفية تحويلها إلى نموذج للتنمية المستدامة عسى أن يسترشد بها لمعالجة حالات مماثلة قد تحدث في أي من دول العالم.
فلقد ولدت في العام 1962م صحيح البدن بمدينة جدة، والتحقت بالعمل في الخطوط السعودية في العام 1980م كمضيف جوي وخلال هذه الفترة أصبت بضعف بصر شديد نتيجة التهاب صبغي وراثي في قاع العين على إثره أحلت إلى عمل أرضي كمدرب للملاحين وكانت هذه بداية دخولي إلى عالم الإعاقة البصرية، وبحكم خبرتي في مجال خدمة الطعام بالتزامن مع إصابتي بضعف البصر فكرت في تحسين خدمة الركاب المكفوفين على الطائرات فابتكرت منظومة خدمة متكاملة تمكنهم من الاعتماد على أنفسهم بصورة أكبر على الطائرة تسهل خدمتهم أطلقت عليها "وجبة الراكب الكفيف" ونفذت على الرحلات في حينه من العام 1992م.
في غضون ذلك تدهورت حالتي البصرية فأحلت للتقاعد المبكر بعد 13 عاماً من الخدمة وأنا في الـ 32 من عمري فانعكس ذلك القرار علي بأضرار مادية ومعنوية لأني كنت في أوج عطائي وقد تزامن ذلك بمشاركة الخطوط السعودية بفكرة بوجبة الراكب الكفيف في المؤتمر السنوي للاتحاد العالمي لتموين الطائرات IFCA للعام 1992م على إثره نالت جائزة الشرف الكبرى، اتبعه فوزها بجائزة الاتحاد العالمي للخدمة الجوية IFSA في نفس العام، ثم الفوز بجائزة مجلة أون بورد سيرفس On-board Service Magazine في العام 1993م.
في هذه الأثناء كان فقدان البصر والعمل معاً بمثابة معاناة خصوصاً وأن إعلان الفوز كان حافزاً قوياً لي للاستمرار في العمل والعطاء، فأمضيت أكثر من سنتين وأنا أحاول العودة للعمل والبحث عن حلٍ لمعاناتي مع ضعف البصر من عيادة طبية إلى أخرى دون جدوى فأدى ذلك إلى يأس وإحباط كاد أن يفتك بي لولا لطف الله الذي قادني إلى السفر إلى نيويورك في العام 1994م للحصول على تقويم بصر بمركز لايت هاوس لضعف البصر وعلى اثر الخدمة التي حصلت عليها والإرشاد أصبحت ممسكاً بخيط من الأمل والتفاؤل، ومتطلعاً نحو أفق وحلم مشرق.
والأهم من ذلك كله أنني تعلمت أن فقدان البصر لا يعني فقدان العمل، فكل ما علي هو الحصول على تدريب وإعادة تأهيل لتحقيق ذلك إلا أن الظروف المادية لم تمكنني من القيام بذلك في حينه فعدت إلى جدة عاقداً العزم والإصرار للعودة، وفي العام 1996م تمكنت من العودة إلى أمريكا والالتحاق ببرنامج تدريب وإعادة تأهيل بمعهد الجمعية الوطنية للمكفوفين بمنيابلس اكتسبت من خلاله العديد من المهارات التي مكنتي من الاستقلال الذاتي فوثقت ذلك بتصوير فوتوغرافي وفيديو استخدمتهما بمجرد عودتي في تنفيذ حملة إعلامية للتوعية بأهمية إعادة التأهيل لذوي الإعاقة البصرية وضرورة إيجاد مراكز متخصصة لذلك في عالمنا العربي.
فأسفرت تلك الحملة عن اجتذاب قناة ART التلفزيونية آنذاك لإنتاج فيلم وثائقي عن تجربتي بعنوان "رحلتي في الظلام الأبيض" واستخدمت ذلك الفلم مع ملف لفكرة مشروع عربي يهدف إلى إنشاء مركز متخصص لتلبية الاحتياجات التعليمية والتأهيلية والطبية وتوفير المستلزمات الشخصية لكافة فئات المعاقين بصرياً والعاملين على خدمتهم، معتبراً أن هذا المشروع سيقوم بتحويل خدمات المعوقين من دائرة الدعم الخـيري إلى الاستثمار في مشروع يساهم في نمو الاقتصاد ومكمل للخدمات الإنسانية في المجتمع، وقدمت المشروع مدعماً بالفلم إلى العديد من المنظمات لدعمها فتبناها برنامج الخليج العربي للتنمية والبنك الإسلامي للتنمية ومستشفى مغربي للعيون بجدة على أساس أنها تندرج ضمن أولويات برنامج الخليج العربي للتنمية.
فنفذ المشروع وأسس في 04/11/2003م كأول جمعية سعودية للتأهيل وخدمة الإعاقة البصرية باسم جمعية إبصار الخيرية وسجلت بوزارة العمل والتنمية الاجتماعية برقم 265 في 24/02/1425هـ وعينت للعمل على إدارتها وعلى مدى 13 عام أصبحت إبصار جمعية رائدة محلياً وإقليماً في مجال خدمات الإعاقة البصرية وإعادة التأهيل لتقديمها العديد من البرامج والخدمات التي استفاد منها حتى نهاية العام 2015م أكثر من (8000) معاق بصرياً من الذكور والإناث و(2200) مختص في طب العيون والبصريات وإعادة التأهيل والتربية الخاصة بكلفة بلغت 51631747 ريال وإيرادات قدرها 47746124ريال.
وهكذا كانت إعاقتي البصرية سبباً في إدخال المسئولية الاجتماعية في مجال الطيران الاجتماعي عبر وجبة الراكب الكفيف وإيجاد مشروع للتنمية المستدامة في مجال الإعاقة البصرية في الدول النامية، وذلك وفق التقرير الذي أصدره البنك الإسلامي للتنمية في ديسمبر 2007م بشأن مشروع جمعية إبصار وخلص إلى أنها "إضافة تنموية تعمل على توفير خدمات صحية كانت غير موجودة في المملكة". ومع ذلك، فإن الأثر التنموي الحقيقي لإبصار يكمن لا في عدد المستفيدين من خدماتها فحسب، بل وفيما توجد من إمكانية نشر وتنمية خدماتها في أرجاء المملكة، ومنطقة الخليج خاصة، وفي الدول النامية الأخرى بصفة عامة.
كما أكدت تجربتي على أن التدريب وإعادة التأهيل هما الوسيلة الناجعة والفاعلة للتكيف مع الإعاقة وتجاوز آثارها وتحويلها من نقطة ضعف إلى نقطة قوة فلقد تمكنت بفضل الله أن استأنف حياتي العملية مع جمعية إبصار وأمارس كافة الأعمال التي كنت أمارسها قبل إحالتي للتقاعد من الخطوط السعودية وأكثر من ذلك، فأصبحت خبيراً دولياً وناشاطاً في مجال الإعاقة البصرية وإعادة التأهيل وأسهمت في تأسيس مراكز للعناية بضعف البصر وإعادة التأهيل ومعامل حاسب آلي للمكفوفين بالقاهرة وتونس واليمن، بالإضافة إلى تأليف كتابين الكتاب الأول "حصاد الظلام" قصة تجربتي مع فقدان البصر والكتاب الثاني "الماسة السمراء.. بابا طاهر زمخشري القرن العشرين" مختصر للسيرة الذاتية عن الأديب الرحل طاهر زمخشري..
بالإضافة إلى إجراء العديد من اللقاءات التلفزيونية والصحفية مع كبرى وسائل الإعلام المقروءة والمسموعة والمرئية، وأسست شركتين تجاريتين غير ربحية واحدة متخصصة في الخدمات الطبية البصرية وأخرى للنشر. وعلى إثر ذلك نلت جائزة الأميرة صيتة بنت عبد العزيز للتميز في مجال العمل الاجتماعي في دورتها الثالثة 1436/2015م بمبلغ 500 ألف ريال.
وختاماً أدعو الدول خصوصاً في عالمنا أن تعطي خدمات الإعاقة وإعادة التأهيل أولوية في مشاريعها التنموية وخططها المستقبلية على أساس التنمية المستدامة."
ساحة النقاش