المقدمة
يستطيع المجتمع البدائي إنجاز وظائفه التربوية بدون مدارس أو مناهج معترف بها، لأن الفجوة بين ما يحتاج أن يعرفه الجيل الصاعد وبين ما يفعله المجتمع ،يمكن عبورها عن طريق ما يعرف بالمشاركة المباشرة في خبرات الحياة اليومية . ولكن الأمر جداً مختلف في المجتمعات الحديثة والصناعية حيث المعرفة المعقدة في نموها من جانب ، والتركيبة المعقدة للمجتمع من جانب آخر ، الأمر الذي يجعل من المدرسة وما يعرف بالمنهج ضرورة حتمية لتمكين الجيل الصاعد من اكتساب ما يحتاجه من تفكير ومعارف ومهارات لبناء مجتمع أفضل.
ويتناول هذا الفصل المعرفة كأساس من أسس بناء المنهج ، مع توضيح وجهات النظر المتعددة حول طبيعة المعرفة في المنهج المدرسي ، والمعرفة وتصميم المنهج ، وتجارب حول وضع المعرفة بشكل مناسب في المنهج ، والمعرفة وعصر التكنولوجيا ، ووحدات المعرفة ومستوياتها في المنهج.
أولا : المعرفة كأساس لبناء المنهج
بدأ بتزايد التركيز على المعرفة كأساس للمنهج منذ عقد الستينات من القرن العشرين حيث كان ينظر للنمو الإنساني وعملية التعلم وطبيعة المجتمع فقط كأساس لتخطيط المنهج وبنائه ، ثم أصبح ينظر إلى طبيعة المعرفة كأساس من أسس المنهج وتحسينه وبصفة خاصة ما يتعلق منه باختيار المحتوى ، وذلك بسبب زيادة الدور الذي يلعبه ما أصح يعرف بالانفجار المعرفي
ويمكننا التعرف إلى أسباب وكيفية ازدياد المعرفة على النحو التالي :
<!--إن المعرفة التي كانت – يوما ما – جزءا من كل ، أصبحت كلا في ذاتها ، فمثلا نظرية الفئات كانت تستخدم يوما ما بشكل واسع في حل مسائل رياضيه معينة أصبحت في ذاتها اليوم مادة دراسية كاملة ، وكذلك بالنسبة للمعارف الأخرى
<!--كانت توجد معارف مقبولة ومعترف بها بشكل رسمي ، أصبحت الآن غير ذلك .
<!--تزايد عدد النظريات والفروض عم الظواهر بشكل لم يختبر الكثير منها وبعد. وعند اختبارها سوف تقدم لنا معارف أخرى جديدة تضاف إلى رصيد المعرفة الحالية .
<!--يتسم العصر الحالي بسمة التخصص بشكل دقيق سواء على المستوى النظري أو على المستوى التطبيقي. ومما يؤكد ذلك التفريعات ، أو التشعيبات المختلفة للعمل في المجال الواحد سواء كان علماً نظريا أو تطبيقيا.
وظهور فكره التخصص الدقيق ، الذي أصبح واضحا الآن في التفريعات المتعددة للعلم الواحد في مجاله’وظهور علوم وليده وعديدة ، منه ما نعرفه أو ما سنسمع عنه في المستقبل.
إن هذا التطور الذي طرأ على انقسام المعرفة وتشبعها ، يفرض على رجال التربية والمتخصصين في تخطيط المناهج وتطويرها ، قضية إعادة وحدة المعرفة وتأكيدها في محتوى المنهج لتحقيق أكبر إستفادة ممكنة للمتعلم وإزالة الحواجز المصطنعة بين فروع المعرفة المختلفة .
ثانيا :نظرات حول طبيعة المعرفة في المنهج
تتمثل أهم تلك النظرات فيما يأتي :-
<!--النظرة البنائية : حيث ينظر بعض العلماء إلى المعرفة على أنها عبارة عن بناء منظم من الحقائق والمفاهيم ، ويعتقدون بأن المعارف التي اكتشفها الإنسان ونعلمها قد تم جمعها وتصنيفها وتنظيمها في بناءات أكثر إفادة ، وينظر هؤلاء إلى وظيفة المدرسة إلا أن تبحث عن قبول تنظيمات المعرفة التي تمت صياغتها من قبل كما هي ، وما على المدرسة إلا أن تبحث عن الطرق التي تساعد كل متعلم على اكتساب اكبر قدر من المعرفة كلما أمكنه ذلك .
<!--النظرة الوظيفية : هناك ثمة من ينظر إلى المعرفة نظرة أكثر مرونة على أنها نتاج لخبرة الإنسان . أنهم ينظرون إلى تنظيم المعرفة الذي يقدمه العلماء على أنه وظيفي بالنسبة لخبرات الحياة أو المشكلات والمواقف الجديدة ، ويقرون بأن تجديد بناء نظام معرفي معين يجب أن يكون من إبداعات الإنسان ، كما أنه يجب أن ينفتح ويعدل في ضوء المعرفة الجديدة . وأن تلك النظم المعرفية الجديدة يجب أن تصاغ كلما دعت الحاجة إليها.
وينظر المعلمون ، بالإضافة إلى مخططي المنهج الذين يتبنون النظرة الثانية في فهم طبيعة المعرفة ، إلى بناء المنهج وتدريسه بطريقة مغايره للنظرة الأولى . فعم ليسوا على يقين من أهم النظم المعرفية التقليدية التي يجب أن تكون مرشدا لبناء محتوى المنهج وتنظيمه . كذلك لا يمكن أن يكون المنهج وفقا للمواد الدراسية المنفصلة مرتبطا بالقوى الاجتماعية
<!--النظرة التوفيقية : ينظر الموقف الثالث إلى المعرفة واستخداماتها في تخطيط المنهج وتدريسه وتنفيذه نظرة مركبه من النظرتين السابقتين ، حيث يعتقد المخططون للمنهج الذين يتبنون هذا الموقف الوسط بأن النظم المعرفية المتداخلة والمرتبطة ببعضها وكذلك مدخل المشكلات والمداخل البنائية للنظم المعرفية كلها في أمور مرغوب فيها بالنسبة لمخططي المنهج ، وذلك من منطلق ووجود أنواع مختلفة من المعرفة وكذلك وجود احتياجات بشرية مختلفة للمعرفة .
تعقيب على وجهات النظر السابقة :
<!--يمكن القول بأن وجهة النظر الأولى تنظر إلى المعرفة وفقا لترتيبها داخل بنائها المنظم في مجال الدراسة المتخصصة لها ، وتقدمها للمنهج في ترتيبها المعروف دون تغيير أو تعديل إضافة أو تقديم أو تأخير حفاظا على البناء الهرمي للمعرفة ، وذلك من مطلق أن المعرفة يتم تقديمها كغاية في ذاتها ، وما على المتعلم إلا أن يتعامل معها كما هي وحفظها واستيعابها بترتيبها ، وذلك من منطلق أن هذا يكفي لتنشئة المواطن الصالح أو أن تلك المعرفة بترتيبها الطبيعي تكسب المتعلم ترتيبا في عقله وتفكيره .
<!-- أما الموقف الثاني فقد نظر إلى طبيعة المعرفة نظرة سيكولوجية ،بمعنى أنه رأى أن المعرفة يجب أن تتمشى في تقديمها وتنظيمها للمتعلم بما يتفق وخصائص نموه واحتياجاته ومشكلاته الخاصة والعامة ومن ثم تخضع المعرفة للمتعلم في المقام الأول . أي أن المعرفة هنا يعاد النظر في طبيعة تقديمها وتنظيمها للمتعلم بما يقابل أو يشبع مطالب نموه .
<!--وتجتمع النظرة الثالثة في فهمها لطبيعة المعرفة بين كل من تنظيم المنطقي والتنظيم السيكولوجي على أساس أن كل تنظيم له مزايا التي يمكن الاستفادة منها في خدمة المتعلم دون إحداث خلل في طريقة تنظيم المعرفة وتقديمها له وذلك من منطلق أن التنظيم المنطقي للمعرفة قد يخدم طبيعية تفكير المتعلم ويصبغه بتلك الصبغة المنطقية في الوقت الذي يشيع فيه التنظيم السيكولوجي احتياجات ومطالب نمو المتعلم ومن ثم ينتج المزج بين التنظيمين معا في تقديم ومعالجة المعرفة في محتوى المنهج بالشكل الذي يحقق أكبر استفادة ممكنة للمتعلم من جراء ذلك.
ولقد قدمت النظرة الأولى للمعرفة تنظيما منهجيا يعرف بمنهج المواد الدراسية المنفصلة بينما قدمت النظرة الثانية للمعرفة تنظيما منهجيا آخر يعرف بمنهج النشاط ومنهج الوحدة القائمة على الخبرة واهو على شاكلته في الوقت الذي قدمت فيه النظرة الثالثة للمعرفة منهج الوحدة المختلطة والمنهج المحوري وما يتابعهما .
ويمكن القول على وجه العموم أن دور المعرفة بالنسبة للمنهج قد اختلفت عن ساقه من منظور الجهود المعاصرة التي تحاول إعادة تحديد ذلك الدور ونسوق على سبيل المثال – لا الحصر – عددا من الخطط وأنشطة المشروعات في علوم الفيزيا والكيميا والتاريخ الطبيعي والرياضيات والاقتصاد والجغرافيا واللغة الإنجليزية في الولايات المتحدة الأمريكية من حيث الآتي:
<!--تستهدف تلك المشروعات تقديم الطلاب للحياة أو بلغة أوضح لأساليبها ممثلة في مجالات العلم أو المعرفة وما على الطلاب إلا أن يقوموا بأنشطة تحاكي ما قام به عالم الفيزيائي والكيميائي ورجل الاقتصاد .
<!--على الرغم من أن معظم المشروعات السابقة قدمت برامج لمجموعات خاصة من الطلاب إلا أن الانطباع العام لها يؤكد ضرورة تقديم مداخل مشابهة لجميع الطلاب وتعد النظم المعرفية – من وجهة النظر هذه – ليست مهمة فقط للمتخصص ولكنها مهمة أيضا للإنسان الموسط أو العادي .
المعرفة وتصميم المنهج
عندما ننظر في بناءات النظم المعرفية ونسأل عن بناء المنهج الذي يتضمن في داخله المجالات المختلفة للمعرفة ،تواجهنا مشكله أكثر تعقيدا ممثله في التساؤل الآتي:
ما طبيعة المعرفة التي سوف تقدمها المدرسة ؟خاصة بعد أن وصلت المعرفة المتزايدة والمتراكمة إلى المعدلات في نموها بشكل يمثل انفجارا معرفياً على النحو الذي سبقت الإشارة إليه ، ومن هنا ظهر تساؤل منذ فتره طويلة ،قدمه سبنسر spencer مؤداه ما طبيعيه المعرفة الأكثر قيمه؟
إن مثل هذا التساؤل أصبح إلحاحا من ذي قبل . وقبل وجد أصحاب الفكر التقديمي في مجال التربية أجابه لهذا التساؤل تمكن فيما يعرف بطريقه العلمي أو (طريقه الذكاء).
ولكن مازال السؤال قائما حول ما الطبيعة المعرفة التي تستحق أن نضمها في المنهج؟
وهنا نجد مدخلين متا قضين في الإجابة عن هذا السؤال، لكل منهما أهميته ووجاهته نشير إليهما على النحو الآتي :
<!--المدخل الأول : يهتم ذلك بتقديم المدخل بتقديم الطلاب للمصادر الفكرية الأساسية في ثقافتهم .وقد اختلف المفكرون فيما بينهم في هذا المدخل حول النظم المعرفية التي تمثل الاهتمامات الثقافية الرئيسية للمجتمع نذكر منهم على سبيل المثال لا الحصر الآتي :
<!--رأي كونانت Conant الذي يتلخص في ضرورة أن يتضمن المنهج في شكله العام ثلاثة مجالات أساسيه متمثلة في :
<!--الإنسانيات ( الفن والأدب ).
<!--العلوم الاجتماعية والفلسفية على أن يتم الربط بينهما وبين الإنسانيات .
<!--العلوم الطبيعية والرياضيات .
<!--وذهب برودي broody إلى أن الطلاب يحتاجون للمعرفة التي تساعدهم في إدراك وفهم علاقاتهم بكل من البيئة الطبيعية والبيئة الاجتماعية والبيئة المتعلقة بأبدانهم ومن ثم فإنه ينظم منهجه حول ثلاثة مجالات أساسية متمثلة في :
<!--العلوم الطبيعية متضمنة الرياضيات .
<!--العلوم الاجتماعية .
<!--علوم الإنسان ( الأدب والفنون الحرة والفلسفة ) .
<!--وقد حدد سيدني هوك Sidney Hook برنامجا للدراسات يتضمن :
<!--العلوم والرياضيات .
<!--العلوم الاجتماعية .
<!--الفلسفة والمنطق .
<!--اللغة والأدب .
<!--الفن والموسيقى .
وتعتبر هذه الأفكار توجهات تربوية وفلسفية مختلفة لكنها تتفق فيما بينهما حول النظم المعرفية والمجالات الواسعة التي يجب أن يتضمنها المنهج بالنسبة لجميع الطلاب مثل : العلوم الطبيعية والرياضيات والعلوم الاجتماعية والإنسانيات .
<!--المدخل الثاني : حيث ينظر هذا المدخل إلى عالم الأفكار الذي يجب تقديم الطلاب له نظرة مختلفة فمثلا يهتم بعض العلماء بالأساليب للنشاط العقلي حيث يوجه بترسون Petersen أنظار المربين للتفكير في التعليم العام في ضوء المعرفة بما يتمشى مع الأساليب الأساسية للنشاط العقلي المتمثلة في : النشاط المنطقي والنشاط الامبريقي أو التطبيقي والنشاط الإبداعي والتذوق
وعموما فقد أكد المدخلان السابقان في فهم طبيعة المعرفة بالنسبة للمنهج الآتي :
<!--ضرورة تخطيط محتوى المنهج اعتمادا على بناءات المجلات الرئيسية الأربعة للمعرفة واستراتيجياتها ممثلة في : العلوم الطبيعية والرياضيات والعلوم الاجتماعية والإنسانيات .
<!--تركيز الاهتمام في تدريس تلك المجالات على ألأنماط المختلفة للتفكير والاستخدامات المختلفة للغة التي تخاطبها .
وعموما يجب أن يؤخذ في الحسبان عند بناء المنهج ، العلاقات القائمة بين المواد الدراسية أو النظم المعرفية المتعددة. ويمكن أن يقوم بذلك المتخصصون في المجالات المختلفة للمعرفة عند بناء المنهج وعند التدريس، هذا بالإضافة إلى ضرورة أن ينتبه المتخصصون في مجال المناهج إلى الدور الحرج والحاسم الذي يمكن أن يؤديه البرنامج التعليمي ككل . ومن ثم يجب عليهم تحديد مجالات المعرفة المختلفة للكشف عن العلاقات القائمة بينهما ، ومراعاة تلك العلاقات والروابط في بناء المنهج . هذا من جانب ، ومن جانب آخر ، فإن عليهم بناء المناهج التي تساعد الطلاب في رؤية المصادر العقلية المرتبطة بثقافتهم من أجل صالح حياتهم الخاصة كعمال منتجين ، وكمواطنين وكأفراد ، وذلك من منطلق أن، الهدف الأسمى من التربية ليس مساعدة الطلاب على أن يحلقوا عاليا فوق عالمهم الذي يعيشونه بل مساعدتهم على الاندماج بوعي في تلك الحياة من أجل انجاز المهام المطلوبة فيها.
ساحة النقاش