تعد اللغة من أخص الظواهر الإنسانية على الإطلاق . ولقد كرم الله () الإنسان بنعمة . وفضله بها على سائر المخلوقات ، مصداقاً لقوله تعالى : الرَّحْمَنُ {1} عَلَّمَ الْقُرْآنَ {2} خَلَقَ الْإِنسَانَ {3} عَلَّمَهُ الْبَيَانَ [ الرحمن 1-4]." فهذا البيان الذى امتن به المولى على بنى آدم وأكرمهم وشرفهم على سائر المخلوقات يتمثل فى مقدرة الإنسان على استخدام عقله ولسانه فى تحقيق التواصل والتفاهم .
فاللغة والفكر والمجتمع هى ظواهر متداخلة تؤدى إلى تطور الحياة وقيام الحضارة الإنسانية الراقية ، وتقدم فكرى واجتماعى وحضارى وثقافى باهر . ولما كانت اللغة قديما قدم الإنسان والمجتمع الإنسانى فلا نجد تجمعاً إنسانياً إلا ونجد له وسيلة يتفاهم من خلالها مع الآخرين ، وأداة يعبر من خلالها عما يجول فى خلده من أفكار ومعان وإن كانت بسيطة ، وعما يدور فى خلجات نفسه من رغبات وتطلعات وانفعالات وأحاسيس .
فلغة الأمة هى وعاء فكرها وعواطفها عبر العصور ولما كانت ذاك الفكر وهذه العاطفة عرضه للتغيير ، فإن اللغة تخضع بدورها لهذا التغير ، تتغير مع أهلها فى الحالات الحياتية الإنسانية التى تمر بها الجماعة . ولما كانت اللغة تشمل كل ما قاله أو يقوله أو سيقوله أى فرد من أفراد جماعة لغوية ما . فإنها تشكل الإطار الاجتماعى لكلام الفرد والذى يتم فى إحدى صورتين : إما النطق وإما الكتابة .
وباعتبار اللغة نظاماً تركيبياً يؤدى أدواراً وظيفية فى جماعة معينة ، وباعتبارها ظاهرة إنسانية متطورة ، فإن الدراسات اللغوية تكشف عن ميكانيكية النشاط الذهنى فى الفرد أولاً ثم ما يفرضه المجتمع على هذا النشاط النفسى الفردى من قواعد سلوكية اجتماعية ، كما تغطى جانباً مهماً من دراسة التطور الإنسانى وتقدم صورة لتطور النشاط العقلى من مكتسبات دلالية ، ونظم تركيبية ومن دلالات أو تراكيب سقطت من الاستعمال ، قد تساعد معرفته على الكشف عن تطور الحياة العقلية للفرد والمجتمع معاً .
ونتيجة لذلك نرى تنوعاً كبيراً فى تعريف اللغة وبيان مفهومها . لكن يحسن بها أن نعرض للمفهوم لغوياً أولاً قبل أن تناوله فى اصطلاح العلماء .
- وفى البداية تعريف " اللغة " لغوياً واصطلاحياً .
تعريف اللغة :
أولاً : مفهوم اللغة لغوياً :
أصلها لغى ولغو والهاء عوض ، وجمعها لغى ولغات أيضاً ، والنسبة إليها لغوى ، واللغا : الصوت ، ويقال أيضاً لغى به : أى لهج به .
واللغو النطق ، يقال : هذه لغتهم التى يلغون بها أى ينطقون والطير تلغى بأصواتها أى تنغم .
ولغا يلغو لغواً : تكلم .
واللغة هى الألسن ، وهى فعلة من لغوت : أى تكلمت ، أصلها لغوة والجمع لغات ولغون .
ثانياً : مفهوم اللغة اصطلاحاً :
فسرها ابن جنى " بأن حدها أصوات يعبر بها كل قوم عن أغراضهم .
ويشتمل هذا التعريف على أربعة جوانب هى :
1- أن اللغة أصوات .
2- أن اللغة تعبير .
3- أنها تعبير يعبر بها " كل قوم " .
4- أنها تعبير عن " أغراض " .
فى حين أشار ابن خلدون إليها بأنها :
عبارة المتكلم عن مقصودة ، وتلك العبارة فعل لسانى ناشئ عن القصد لإفادة الكلام ، فلابد أن تصير ملكة متفردة لها وهى اللسان . وهو فى كل أمة حسب اصطلاحاتهم .
أما ابن سنان الخفاجى فيذكر أن اللغة هى : " ما تواضع القوم عليه من الكلام " .
ويذكر هذا التعريف الطبيعة الاصطلاحية للغة الإنسانية فاللغة تتيح لمتكلميها ، لتواصل عبرة قناة تواصلية ثابتة بثبات الاصطلاح .
هكذا عرف العلماء العرب القدامى اللغة ، ويلاحظ أن هذه التعاريف تشير إلى كون اللغة هى أصوات أو ملكات فى اللسان تختلف باختلاف الأمة ، وهذه الأصوات يستخدمها كل قوم للتعبير عن أغراضهم ومعانيهم ، وعلى ذلك فهى مواضعه واصطلاح .
ليس هذا فحسب ، لكن تنوعت تعريفات اللغة واختلفت تبعاً للمدارس والاتجاهات الفكرية للعلماء فيما بينهم ...... فمنهم من يعرفها من خلال المنظور الفلسفى الاجتماعى .
ومن هؤلاء " مالينوفسكى" ، الذى يعرفها بأنها " ليست مجرد وسيلة للتفاهم والاتصال ، فهى حلقة فى سلسلة النشاط الإنسانى المنظم وأنها جزء من مواقف العمل هى التى تعمل فى تنويع اللغة " .
وعليه فإن " مالينوفسكى " يرى أن اللغة وسيلة لتنفيذ الأعمال وقضاء حاجات الإنسان فالكلمة فى وجهة نظره إنما تستعمل فى أداء الأعمال وإنجازها لا لوصف الأشياء أو ترجمة الأفكار .
أما " فندريس " فيرى أنها الصورة المثالية التى تفرض نفسها على جميع الأفراد فى مجموعة واحدة ، فاللغة نتاج طبيعى للنشاط الإنسانى نتيجة لتطابق ملكات الإنسان مع حاجاته الاجتماعية .
فى حين وصفها " سابير " بأنها وسيلة لا غريزية خاصة بالإنسان يستعملها لإيصال الأفكار والمشاعر والرغبات عبر رموز يؤديها بصورة اختيارية وقصدية .
ويتضمن تعريف " سابير " أن :
1- اللغة وسيلة للتعبير .
2- اللغة قائمة على رموز .
3- اللغة قصدية .
فهذه التعريفات السابقة جميعاً نظرت إلى اللغة على أنها ظاهرة اجتماعية ، تقتضيها حاجة الإنسان إلى التفاهم مع أبناء جنسه .
وفى ذلك تأكيد على ما قاله دى سوسير " بأن اللغة أساساً ظاهرة اجتماعية ينبغى دراستها فى ضوء علاقتها بالمتحدثين بها ومشاعرهم النفسية ، وأنها دائرة تشمل المسموع والملفوظ والمتصدر ، وهى تحرك قسماً نفسياً وآخر وظيفياً . تستمد قاعدتها من ذاتها وجميع المؤثرات فى اللغة ترجع إلى المجتمع والظواهر الاجتماعية .
يرى " دى سوسير " أن اللغة فى جوهرها " نظام من الرموز الصوتية أو مجموعة من الصور اللفظية التى تختزن فى أذهان أفراد الجماعة اللغوية ، وتستخدم للتفاهم بين أبناء مجتمع معين ، ويتلقاها الفرد عن الجماعة التى يعيش معها عن طريق السماع " .
وهناك العقلانيون وأبرزهم تشومسكى الذى اللغة على أنها :
" نظام عقلى فريد تستمد حقيقتها من أنها أداة التعبير والتفكير الإنسانى " .
ويذهب تشومسكى بهذا التعريف إلى أن اللغة كفاية ، أو طاقة إنسانية قوة إنتاجية توليدية فائقة .
بذلك تكون الفكرة الأساسية التى توجه منهج تشومسكى هى السمة الإنتاجية فى اللغة ، والتى بمقتضاها يستطيع المتكلم أن يؤلف ويفهم جملاً جديدة غير متناهية لم يسبق له أ، سمعها من قبل ، وهى السمة التى تميز الإنسان عن الحيوان .
فى حين ذهب Bangs إلى كون اللغة " نظام من الرموز يخضع لقواعد ونظم ، والهدف من اللغة هو تواصل المشاعر والأفكار " ، وهى تتكون من النظم التالية :
1- النظام الدلالى : Semantic System
وهو الذى يتعلق بمعنى الكلمات ودلالتها وتطورها .
2- النظام التركيبى : Syntactic System
وهو النظام الذى يتعلق ببناء الجمل وترتيب الكلمات فى الجملة وقواعد الإعراب .
4- النظام الصرفى : Morphologic System
وهو النظام الذى يتعلق بالتغيرات التى تطرأ على مصادر الكلمات من الناحية الصرفية .
5- النظام الصوتى : Phonologic System
وهو النظام المتعلق بالأصوات الكلامية ، وبالأصوات الخاصة بالاستخدام اللغوى .
وعرف آخرون اللغة بأنها " مجموعة من الرموز تمثل المعانى المختلفة أو هى نظام عرفى لرموز صوتية يستغلها الناس فى الاتصال ببعض ، وهى مهارة اختص بها الإنسان وتشمل الكلمات واللهجة والنغمة الصوتية والإشارة وتعبيرات الوجه والجسم ، وأية رموز أخرى تستعمل للتعبير " .
ونظراً لهذا التنوع الكبير فى تعريفات اللغة فإننا نحصر تعريف اللغة فى أنها :
" مجموعة من الرموز ذات المعانى المختلفة يستعملها الإنسان فى التوصل مع الآخرين ، وهى تميزه عن غيره من الكائنات الحية وتشمل اللغة جانبين :
جانب مادى ويتمثل فى الألفاظ والكلمات سواء كانت هذه الألفاظ أصواتاً منطوقة أو حروفاً مكتوبة ، وجانب مادى ويتمثل فى الإشارات والإيماءات والرسم والموسيقى .
لكننا نلخص من العرض السابق للتعاريف المختلفة للغة إمكانية الحديث عن خصائص اللغة والتى يمثل بعضها مقومات أساسي للغة ، ويمثل البعض الآخر تطبيقات تربوية يمكن أن تأخذ مكانها فى منهج تعليم العربية وتتلخص هذه الحقائق والتطبيقات فى خصائص اللغة .
ساحة النقاش