هل يتقيد الشرك في النسك باعتقاد التأثير؟
يقول في ذلك الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن آل الشيخ([1]): «وقد بعث اللهُ محمدًا صلى الله عليه وسلم بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون، وكانت العرب في وقته وزمن مبعثه معترفين لله بتوحيد الربوبية والأفعال، وكانوا على بقية من دين إبراهيم الخليل عليه السلام قال تعالى: (قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمْ مَنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ)([2])، وقـال تعالى: (قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ * سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ) إلى قوله (فَأَنَّى تُسْحَرُونَ)([3])، والآيات في المعنى كثيرةولكنهم أشركوا في توحيد العبادة والإلهية، فاتخذوا الشفعاء والوسائط من الملائكة والصالحين وغيرهم وجعلوهم أندادًا لله ربِّ العالمين، فيما يستحقه عليهم من العبادات، والإرادات كالحب والتعظيم والإنابة والخشية، وغير ذلك من أنواع العبادات والطاعات لأجل جاههم عند الله والتماس شفاعتهم، لا اعتقاد التدبير والتأثير، كما ظنه بعض الجاهلين قال تعالى: (وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ)([4])، وقال عز وجل: (أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ شُفَعَاءَ قُلْ أَوَلَوْ كَانُوا لَا يَمْلِكُونَ شَيْئًا وَلَا يَعْقِلُونَ)([5])، وقال تعالى: (وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى )([6]).
فنهاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم عن هذا، وكفَّر أهله وجهَّلهم وسفَّه أحلامهم، ودعاهم إلى شهادة أن لا إله إلا الله، وبيَّن أن مدلولها الالتزام بعبادة الله وحده لا شريك له والكفر بما يعبد من دون الله. وهذا هو أصل الدين وقاعدته.
إلى أن يقول: وقد بلغ الشيطان مراده من أكثر الخلق وصدق عليهم إبليسُ ظنَّهُ فاتبعه الأكثرون، وتركوا ما جاءت به الرسل من دين الله الذي ارتضاه لنفسه، وتلطف الشيطان في التحيل والمكر والمكيدة حتى أدخل الشرك وعبادة الصالحين وغيرهم على كثير ممن ينتسب إلى دين الإسلام في قالب محبة الصالحين والأنبياء والتشفع بهم وأن لهم جاهًا ومنزلة ينتفع بها من دعاهم ولاذ بحماهم. وأن مَنْ أقرَّ لله وحده بالتدبير واعتقد له بالتأثير والخلق والرزق فهو المسلم ولو دعا غير الله واستعاذ بغيره ولاذ بحماه، وأن مجرد شهادة: أن لا إله إلا الله تكفي مثل هذا، وإن لم يقارنها علم ولا عمل ينتفع به، وأن الدعاء والاستعانة والاستغاثة والحب والتعظيم ونحو ذلك ليس بعبادة، وإنما العبادة السجود والركوع ونحو هذه الزخرفة والمكيدة. وهذا بعينه هو الذي تقدمت حكايته عن جاهلية العرب». انتهى.
وقد ذكر الشيخ عبد اللطيف مثل هذا في الرد على الصحَّاف([7]) وهذا كثير للشيخ ابن عبد الوهاب في الأربع قواعد وغيرها.
ب- موضوع الذبح:
جاء في ”الدرر السنية“ ([8]) نقلاً عن شيخ الإسلام ابن تيمية:
«وقال رحمه الله تعالى في الكلام على قولـه تعالى: (وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ)([9])، ظاهره: أنَّ ما ذبح لغير الله سواء لفظ به أو لم يلفظ به، وتحريم هذا أظهر من تحريم ما ذبحه للَّحم وقال فيه: باسم المسيح ونحوه، وكما أن ما ذبحناه متقربين به إلى الله تعالى كان أزكى مما ذبحناه للَّحم وقلنا عليه: بسم الله، فإن عبادة الله بالصلاة والنسك له أعظم من الاستعانة باسمه في فواتح الأمور، والعبادة لغير الله أعظم كفرًا من الاستغاثة بغير الله، فلو ذبح لغير الله متقربًا إليه، لحرم، وإن قال فيه: بسم الله كما يفعله طائفة من منافقي هذه الأمة، وإن كان هؤلاء لا تباح ذبائحهم بحال لكن يجتمع في الذبيحة مانعان ومن هذا ما يفعل بمكة وغيرها من الذبح للجنِّ». انتهى كلام الشيخ رحمه الله.
فتأمل رحمك الله هذا الكلام وتصريحه فيه بأن من ذبح لغير الله من هذه الأمة فهو: كافر مرتد لا تباح ذبيحته لأنه يجتمع فيه مانعان: الأول: أنها ذبيحة مرتد وذبيحة المرتد لا تباح بالإجماع. الثاني: أنها لما أهل به لغير الله». انتهى.
جـ- أما عن النذر:
فيقول عبد اللطيف بن عبد الرحمن آل الشيخ في ”شرح تحفة الطالب والجليس في كشف شبه داود ابن جرجيس“: «وفي قوله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا)([10])، إشارة إلى ذمِّ الغالين في أولياء الله تعالى حيث يستغيثون بهم في الشدة غافلين عن الله تعالى وينذرون لهم النذور، والعقلاء منهم يقولون: أنهم وسائلنا إلى الله تعالى، وإنما ننذر لله عزَّ وجلّ ونجعل ثوابه للوليّ، ولا يخفى أنهم في دعواهم الأولى: أشبه الناس بعبدة الأصنام القائلين إنما نعبدهم ليقربونا إلى الله زلفى، ودعـواهم الثانية: لا بأس بها لو لم يطلـبوا منهم بذلك شفاء مريضهم ورد غائبهم أو نحو ذلك. والظاهر من حالهم الطلب ويرشدنا إلى ذلك أنه لو قيل: أنذروا لله تعالى واجعلوا ثوابه لوالديكم فإنهم أحوج من أولئك الأولياء لم يفعلوا». انتهى.
أقـول: والحقيقة أن ما يجعلونه لله يصل إلى شركائهم كما قال عز وجل: (فَمَا كَانَ لِشُرَكَائِهِمْ فَلَا يَصِلُ إِلَى اللَّهِ وَمَا كَانَ لِلَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلَى شُرَكَائِهِمْ)([11]).
د- التقييد بالاعتقاد مطلقًا:
يقول الشيخ أبو بطين في ”الانتصار لحزب الله الموحدين“: «لما سمع عديُّ بن حاتم ـ وهو يقرأصلى الله عليه وسلم ـ قول الله تعالى: (اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ)([12])، قال للنبيّصلى الله عليه وسلم: إنَّا لسنا نعبدهم!! قال صلى الله عليه وسلم: «أليس يحرمون ما أحلَّ اللهُ فتحرمونه ويحلون ما حرَّم اللهُ فتحلونه» قال: قلت بلى. قال: «فذلك عبادتهم». فعديُّ بن حاتم رضى الله عنه ما كان يحسب أن موافقتهم فيما ذكر عبادة منهم لهم، وأخبره النبيُّ صلى الله عليه وسلم أن ذلك عبادة منهم لهم مع أنهم لا يعتقدونه عبادة. وكذلك ما يفعله عبَّاد القبور من دعاء أصحابها وسؤالهم قضاء الحاجات وتفريج الكربات والتقرب إليهم بالذبائح والنذور عبادة منهم للمقبورين وإن كانوا لا يسمونه ولا يعتقدونه عبادة». انتهى.
أقـول: قد مرَّ إبطال التقييد بالاعتقاد في شرك العبادة، والنواقض المكفرة له من كلام شيخ الإسلام ابن تيمية في ”الصارم“ و”الإيمان“ وكلام ابن الوزير في ”إيثار الحق على الخلق“ وغير ذلك، وكذلك إبطال التقييد بقصد الكفر، أو شرح الصدر به.
هـ- حكم الدار:
مرَّ ما فصَّلناه أن وجود ظواهر الشرك في النسك في دار الإسلام لا يغير حكمها إلى دار كفر، أو حرب من كلام أبي بطين، وأن غلبة ذلك على الدار وإطباقه عليها يغير حكمها ويجعلها دار كفر وحربٌ من كلام ابن عتيق. وفي كلتا الحالتين: لا تكفير بالعموم، ونفي ذلك نفيًا باتًا قاطعًا.
موقع الشيخ عبد المجيد الشاذلي بتصرف
ساحة النقاش