غزوة أحد عام (3هـ) :
اتفقت قريش على أن تقوم بحرب شاملة ضد المسلمين تأخذ فيها بثأرها مما حدث لها فى غزوة بدر وأخذت فى الاستعداد للخوض فى مثل هذه الحرب وأول ما فعلوه بهذا الصدد أنهم احتجزوا العير التى كان قد نجا بها أبو سفيان والتى كانت سبباً لمعركة بدر وفتحوا باب التطوع لكل من أحب المشاركة فى غزو المسلمين من الأحابيش وكنانة وأهل تهامة واتبعا فى ذلك أسلوب التحريض ودعا جبير بن معطم غلاماً حبشياً له اسمه وحشى وكان راميا قلما يخطئ فقال له أخرج مع الناس فإن أنت قتلت حمزة بعمى طعيمة فأنت حر وخرجت قريش بزعامة أبو سفيان بن حرب فى 3000 مقاتل وسمح للنساء بالخروج مع الجيش لإثارة حمية المقاتلين وتحرك الجيش فى السنة الثالثة للهجرة متجهاً نحو المدينة وعسكر أسفل أحد ، وهو تل يبعد عن المدينة ثلاثة أميال ، وأطلقت قريش خيلها وإبلها ترعى زروع يثرب المحيطة بها.
أما رسول الله (صلى الله عليه وسلم) فقد بلغه الخبر من كتاب بعث به إليه عمه العباس ابن عبد المطلب الذى لم يخرج مع المشركين فى هذه الحرب محتجاً بما أصابه يوم بدر وكان الرسول (صلى الله عليه وسلم) قد رأى فى ذباب سيفه ثلماً وفسر ذلك بأنه سيجرح وأنه حمى صدره بدرع وفسر ذلك بأنه من المستحسن أن يبقى فى المدينة وأن بقرة له تذبح وفسر ذلك بأن أحد أهل بيته يقتل واستشار النبى أصحابه فى الأمر .
فكان من رأى النبى أن يبقى المسلمون فى المدينة للذود عنها ورد المعتدين ، وانحاز إلى رأى النبى أصحابه ذوو السن ، وكان مع هذا الرأى أيضاً عبد الله ابن أبى بن سلول ، كبير المنافقين ، ولكن كان رأى الأغلبية ، وجلها من الفتيان المتحمسين ، الخروج لملاقاة العدو خارج المدينة ، وكانت حجتهم أن العدو قد يؤول عدم خروجهم بضعفهم عن ملاقاته ، فيطمع فيهم ، وإنه لما يخدش الكرامة – كما قالوا – أن يروا مزارعهم تنهب وهم صامتون ، لا يحركون ساكناً ، ونزل النبى عند رأى الأغلبية ، ولب لأمته ، وخرج بهم من المدينة عند غروب الشمس ، على رأس قوة مؤلفة من 1000 مقاتل .
أمضى المسلمون ليلتهم خارج المدينة ، وفى صبيحة اليوم التالى استأنفوا سيرهم ، ولما لمحوا قوات العدو ، انخذل ابن أبى مع أصحابه وبقى النبى ومعه سبعمائة مقاتل من المؤمنين لمقابلة جيش عدته أربعة أمثالهم ، ثم سار الجيش حتى نزل الشعب من أحد وجعل ظهره للجبل ووجهه للمدينة ، أما المشركون فنزلوا ببطن الوادى من قبل أحد وكان على ميمنتهم خالد بن الوليد ، وعلى الميسرة عكرمة بن أبى جهل ، وعلى المشاة صفوان بن أمية فجعل عليه السلام الزبير بن العوام بإزاء خالد وجعل آخرين أمام الباقين واستحضر الرماة وكانوا خمسين رجلاً يرأسهم عبد الله بن جبير الأنصارى فوقفهم خلف الجيش على ظهر الجبل وقال : لا تبرحوا : إن رأيتمونا ظهرنا عليهم فلا تبرحوا ، وإن رأيتموهم ظهروا علينا فلا تبرحوا ثم عدل عليه السلام والصفوف وخطب أقصى رزقها لا ينقص منه شىء وإن أبطأ عنها . فاتقوا ربكم وأجملوا طلب الرزق لا يحملنكم استبطاؤه أن تطلبوه بمعصية الله ، والمؤمن كالرأس من الجسد إذا اشتكى تداعى له سائر جسده ، ثم ابتدأ القتال بالمبارزة فخرج رجل من صفوف المشركين فبرز له الزبير فقتله ، ثم حمل اللواء طلحة بن أبى فقتله على فحمل اللواء أخوه عثمان فقتله حمزة فحمل أخ لهما اسمه أبو سعيد فرماه سعد بن أبى وقاص بسهم قضى عليه فتناوب اللواء بعده أربعة من أولاد طلحة ، كلهم يقتلون ثم حملت خيالة المشركين على المسلمين ثلاث مرات وفى كلها ينضحهم المسلمون بالنبل فيقهقرون . ولما التقت الصفوف وحميت الحرب ابتدأ نساء المشركين يضربون بالدفوف وينشدون الأشعار تهييجاً لعواطف الرجال ، وكان عليه السلام كلما سمع نشيد النساء يقول (اللهم بك اجول وبك أصول وفيك أقاتل حسبى الله ونعم الوكيل) .
مصرع أشد الله حمزه بن عبد المطلب :
يقول قاتل حمزة وحشى بن حرب : كنت غلاماً لجبير بن معطم وكان عمه طعيمة بن عدى قد أصيب يوم بدر ، فلما سارت قريش إلى أحد قال لى جبير : إنك إن قتلت حمزة عمى محمد بعمى فأنت عتيق . قال فخرجت مع الناس – وكنت رجلاً حبشياً أقذف بالحربة قذف الحبشة فلم أخطئ بها شيئاً – فلما التقى الناس خرجت أنظر حمزة وأتبصر ، حتى رأته فى عرض الناس مثل الجمل الأورق ، يهد الناس هذا ما يقوم له شىء ، فو الله إنى لا تهيأ به أريده ، فاستتر منه بشجرة أو حجر ليدنو منى ، إذا تقدمنى إليه سباع بن عبد العزى فلما رآه حمزة قال له : هلم إلى قال : فضربه ضربة كأنما أخطأ رأسه .
قال : وهززت حربتى ، حتى إذا رضيت منها دفعتها إليه ، فوقعت ثنته – أحشائه – حتى خرجت من بين رجليه ، وذهب لينوء نحوى فغلب ، وتركته وإياها حتى مات ، ثم أتيته فأخذت حربتى ثم رجعت إلى العسكر فقعدت فيه ولم يكن لى بغيره حاجة وإنما قتلته لأعتق فلما قدمت مكة عتقت .
وظهرت طلائع النصر للمسلمين وتراجعت قوات قريش وولوا الأدبار ونساؤهم يبكين ويولون وتبعهم المسلمون يجمعون الغنائم الأسلاب من الفارين .
فلما رأى ذلك الرماة الذين يحمون ظهور المسلمين فوق الجبل قالوا ما لنا فى الوقوف من حاجة ، ونسوا أمر السيد الحكيم (صلى الله عليه وسلم) فذكرهم رئيسهم به فلم يلتقوا وانطلقوا ينتهبون . أما رئيسهم فثبت وثبت معه قليل منهم . فلما رأى خالد بن الوليد أحد رؤساء المشركين خلو الجبل من الرماة انطلق ببعض الجيش فقتل من ثبت من الرماة وأتى المسلمين من ورائهم وهم مشتغلون بدنياهم ؛ فلما رأوا ذلك البلاء دهشوا وتركوا ما بأيديهم وانتقضت صفوفهم واختلطوا من غير شعور حتى صار يضرب بعضهم بعضاً .
وقتل مصعب بن عمير صاحب اللواء وأشاع أن محمداً قد قتل فدل الفشل فى المسلمين حتى قال بعضهم : علام نقاتل إذا كان محمد قد قتل ؟ فارجعوا إلى قومكم يؤمنوكم ؛ وقام جماعة من المسلمين من بينهم الوليد بن عقبة ، وخارجة بن زيد ، ورفاعة بن المعلى ، وعثمان بن عفان ، وتوجهوا إلى المدينة ولكنهم استحيوا أن يدخلوها بعد ثلاث وثبت رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ومعه جماعة من المسلمين وأصيب الرسول بجراح فى وجنته وشج فى رأسه .
(وقد) أصاب أصحاب المسلمين الذين كانوا يحوطون رسول الله كثير من الجراحات لأن الخص منهم كان يلتقى السهم خوفاً أن يصل للرسول فوجد بطلحة نيف وسبعون وشلت يده ، وأصاب كعب بن مالك بسبع عشر جراحة . أما القتلى فكانوا نيفاً وسبعين منهم ستة من المهاجرين والباقون من الأنصار . (ومن) المهاجرين حمزة بن عبد المطلب ومصعب بن عمير . ومن الأنصار سعد بن الربيع .
ومثلت قريش بقتلى أحد أن هنداً زوج أبى سفيان بقرت بطن حمزة وأخذت كبده لتأكلها فلاكتها ثم أرسلتها ، وفعلوا قريباً من ذلك بإخوانه الشهداء . ثم إن أبا سفيان صعد الجبل ونادى بأعلى صوته : نعمت فعال إن الحرب سجال يوم بيوم بدر ، وموعدكم بدر العام المقبل.
ثم تفقد عليه السلام القتلى وحزن على عمه حزناً شديداً وفدن الشهداء كلهم بأحد كل شهيد بثوبه الذى قتل فيه ، وكان يدفن الرجلين والثلاثة فى أحد واحد ، لما كان عليه المسلمون من التعب ، فكان يشق عليهم أن يحفروا لكل شهيد حفرة ... ولما رجع المسلمون إلى المدينة سخر منهم اليهود والمنافقون وأظهروا ما فى قلوبهم من البغضاء وقالوا لإخوانهم : ) لَّوْ كَانُوا عِندَنَا مَا مَاتُوا وَمَا قُتِلُوا( .
وهذا الذى ابتلى به المسلمون درس مهم لهم يذكرهم بأمريني عظيمين تركهما المسلمون فأصيبوا : أولهما طاعة الرسول فى أمره فقد قال للرماة لا تبرحوا مكانكم إن نحن نصرنا أو قهرنا ، فعصوا أمره ونزلوا ، الثانى أن تكون الأعمال كلها لله غير منظور فيها لهذه الدنيا التى كثيراً ما تكون سبباً فى مصائب عظيمة ، وهؤلاء أرادوا عرض الدنيا والتهوا بالغنائم حتى عوقبوا ، وفذى أنزل الله فى سورة آل عمران فصلت غزوة وأحد : )وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُم بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الأَمْرِ وَعَصَيْتُم مِّنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُم مَّا تُحِبُّونَ مِنكُم مَّن يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنكُم مَّن يُرِيدُ الآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفَا عَنكُمْ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى المُؤْمِنِينَ( .
كان لمأساة أحد أثر سىء على المؤمنين ، فقد ذهبت ريحهم ، وزالت هيبتهم عن النفوس ، وزادت المتاعب الداخلية والخارجية على المؤمنين وأحاطت الأخطار بالمدينة من كل جانب ، وكاشف اليهود والمنافقون والأعراب بالعداء السافر ، وهمت كل طائفة منهم أن تنال من المؤمنين ، بل طمعت فى أن تقضى عليهم ، وتستأصل شأفتهم .
بعث الرجيع :
فى شهر صفر من السنة الرابعة من الهجرة – قدم على رسول الله (صلى الله عليه وسلم) قوم من عضل وقارة . وذكروا أن فيهم إسلاماً . وسألوا أن يبعث معهم من يعلمهم الدين ، ويقرئهم القرآن ، فبعث معهم ستة نفر – فى قول ابن إسحاق وفى رواية البخارى أنهم كانوا عشرة – وأمر عليهم مرثد بن أبى مرثد الغنوى – فى قول ابن إسحاق وعند البخارى أنه عاصم بن ثابت جد عاصم ابن عمر بن الخطاب – فذهبوا معهم ، فلما كانوا بالرجيع – وهو ماء لهذيل بناحية الحجاز بين رابغ وجدة – استصرخوا عليهم حياً من هذيل يقال لهم بنو لحيان ، فتبعوهم بقرب من مائة رام ، واقتصوا آثارهم حتى لحقوهم ، فأحاطوا بهم – وكانوا قد لجأوا إلى فدفد – وقالوا : لكم العهد والميثاق ‘ن نزلتم إلينا أن لا نقتل منكم رجلاً . فأما عاصم فأبى من النزول ، وقاتلهم فى أصحابه ، فقتل منهم سبعة بالنبل ، وبقى خبيب وزيد وبن الدئن ورجل آخر فأعطوهم العهد والميثاق مرة أخرى ، فنزلوا إليهم ، ولكنهم غدروا بهم وربطوهم بأوتار قسيهم ، فقال الرجل الثالث : هذا أول الغدر ، وأبى أن يصحبهم ، فجرروه ، وعالجوه على أن يصحبهم ، فلم يفعل ، فقتلوه ، وانطلقوا بخبيب وزيد فباعوهما بمكة ، وكانا قتلاً من رؤوسهم يوم بدر ، فأما خبيب فمكث عندهم مسجوناً ، ثم أجمعوا على قتله ، فخرجوا به من الحرم إلى التنعيم ، فلما أزمعوا على صلبه قال : دعونى حتى أركع ركعتين ، فتركوه فصلاهما ، فلما سلم قال : والله لولا أن تقولوا إن ما بى جزع لزدت ، ثم قال أحصهم عدداً ، وأقتلهم بدداً ، ولا تبق منهم أحداً ، فقال له أبو سفيان : أيسرك أن محمداً عندنا نضرب عنقه ، وإنك فى أهلك ؟ فقال : لا والله ما يسرنى أنى فى أهلى وأن محمداً وأن محمداً فى مكانه الذى هو فيه تصيبه شوكة تؤذيه .
ثم صلبوه ووكلوا به من يحرس جثته ، فجاء عمرو بن أمية الضمرى ، فاحتمله بخدعة ليلاً ، فذهب به فدفنه ، وكان الذى تولى قتل خبيب هو عقب ابن الحارث وكان خبيب قد قتل أباه حارثاً يوم بدر .
وأما زيد بن الدثنة فابتاعه صفوان بن أمية فقتله بأبيه .
مأساة بئر معونة :
وفى نفس الشهر الذى وقعت فيه مأساة الرجيع وقعت مأساة أخرى أشد وأفظع من الأولى ، وهى التى تعرف بوقعة بئر معونة .
وملخصها أنا أبا براء عامر بن مالك قدم على رسول الله (صلى الله عليه وسلم) المدينة ، فدعاه إلى الإسلام فلم يسلم ولم يبعد ، فقال : يا رسول الله لو بعثت أصحابك إلى أهل نجد يدعونهم إلى دينك ؛ لرجوت أن يجيبوهم ، فقال : " إنى أخاف عليهم أهل نجد " ، فقال أبو براء : أنا جار لهم ، فبعث معه أربعين رجلاً – فى قول ابن إسحاق ، وفى الصحيح أنهم كانوا سبعين ، والذى فى الصحيح هو – الصحيح – وأمر عليهم المنذر بن عمرو أحد بنى ساعدة وكانوا من خيار المسلمين وفضلائهم وساداتهم وقرائهم ، فساروا يتخبطون بالنهار ، يشترون به الطعام لأهل الصفة ، ويتدارسون القرآن ، ويصلون بالليل ، حتى نزلوا بئر معونة – وهى أرض بين بنى عامر وحرة وبنى سليم – فنزلوا هناك ، ثم بعثوا حزام بن ملحان أخا أم سليم بكتاب رسول الله (صلى الله عليه وسلم) إلى عدو الله عامر ابن الطفيل ، فلم ينظر فيه ، وأمر رجلاً فطعنه بالحربة من خلفه ، فلما أنفذها فيه ورأى الدم قال حرام : الله أكبر ، فزت ورب الكعبة .
ثم استنفر بنى سليم ، فأجبته وجاءوا حتى أحاطوا بأصحاب رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ، فقاتلوه حتى قتلوا عن آخرهم ، إلى كعب بن زيد بن النجار ، فإنه ارتث من بين القتلى ، فعاش حتى قتل يوم الخندق .وكنا عمرو بن أمية الضمرى والمنذر بن عقبة بن عامر فى سرح المسلمين ، فرأيا الطير تحوم على موضع الوقعة ، فنزل المنذر ، فقاتل المشركين حتى قتل مع أصحابه ، وأسر عمرو بن أمية الضمرى ، فلما أخبر أنه من مضر جز عامر ناصيته ، وأعتقه عن رقبة كانت على أمه .
ورجع عمرو بن أمية الضمرى إلى النبى (صلى الله عليه وسلم) حاملاً معه أنباء المصاب الفادح ، مصرع سبعين من أفضل المسلمين ، تذكر نكبتهم الكبيرة بنكبة أحد ؛ إلا أن هؤلاء ذهبوا فى قتال واضح ؛ وأولئك ذهبوا فى غدرة شائنة .
ولما كان عمرو بن أمية فى الطريق بالقرقرة من صدر قناة ، نزل فى ظل شجرة وجاء رجلان من بنى كلاب فنزلا معه ، فلما ناما فتك بهما عمرو ، وهو يرى أنه قد أصاب ثأر أصحابه ، وإذا معهما عهد من رسول الله (صلى الله عليه وسلم) لم يشعر به ، فلما قد أخبر رسول الله (صلى الله عليه وسلم) بما فعل ، فقال : لقد قتلت قتيلين لأدينهما وانشغل بجمع دياتهم من المسلمين وخلفائهم اليهود ، وهذا الذى صار لغزوة بنى النضير .
وقد تألم النبى (صلى الله عليه وسلم) لأجل هذه المأساة ، ولأجل مأساة الرجيع اللتين وقعتنا خلال أيام معدودة تألما شديداً ، حتى دعا على هؤلاء الأقوام والقبائل التى قامت بالغدر والفتك فى أصحابه ، ففى الصحيح عن أنس قال : دعا النبى (صلى الله عليه وسلم) على الذين قتلوا أصحابه ببئر معونة ثلاثين صباحاً ، يدوع فى صلاة الفجر على رعل وذكوان ولحيان وعصية ، ويقول : " عصية عصت الله ورسوله " ، فأنزل الله تعالى على نبيه قرآنا قرأناه حتى نسخ بعد " بلغوا قومنا أن لقينا ربنا فرضى عنا ورضينا عنه ، فترك رسول الله (صلى الله عليه وسلم) قنوته " .
إجلاء بنو النضير سنة (4هـ) :
توترت العلاقة بين النبى (صلى الله عليه وسلم) وبين يهود بنى النضير وذلك عندما ذهب إليهم فى محلتهم على مقربة من قباء فى عشرة من كبار الصحابة وطلب منهم معاونتهم فى دية الرجلين اللذين قتلهم عمرو بن أمية الضمرى وهمامه ابن عامر وكان قد قتلهم دون أن يعلم أن معهما عقد جوار من النبى (صلى الله عليه وسلم) وكان بين النبى (صلى الله عليه وسلم) وبين نبى النضير عهد ، وطلب إليهم معاونتهم فى دية القتيلين قتل خطأ ومن غير أن يعلم أن محمداً أجارهما .
فما ذكر لهم ما جاء فيه أظهروا الغيظة والبشر وحسن الاستعداد لإجابته لكنه ما لبث أثناء تبسط بعضهم معه أى رأى سائرهم يتأمرون ، على رب العالمين بأن يأخذ أحد منهم صخرة ويلقيها عليه من علو ونزل جبريل من عند رب العالمين على رسوله (صلى الله عليه وسلم) يعلمه بما هموا به فاطلع (صلى الله عليه وسلم) على قصدهم لذلك ما لبث أن انسحب من مكانه تاركاً أصحابه وراءه ، يظنون أنه قام لبعض أسره . أما اليهود فقد اختلط عليهم الأمر ولم يعودوا يعفرون ما يقولون لأصحاب محمد ولا ما يصنعون بهم . فإذا هم غدروا بهم فمحمد لا ريب منتقم منهم شر انتقام . وإن تركوهم فلعل ائتمارهم بحياة محمد وأصحابه لا يون قد افتضح فيظل ما بينهم وبين المسلمين من عهد قائماً . وحالوا أن يقنعوا ضيوفهم المسلمين بما يزيل ما قد يكون رابهم من غير أن يشيروا إلى شىء من . لكن أصحاب محمد استبطئوه فقالوا فى طلبه ، فلقوا رجلاً مقبلاً من المدينة عرفوا منه أن محمداً دخلها وأنه قصد توا إلى المسجد فيها ، فذهبوا إليه ، فلما ذكر لهم ما رابه من أمر اليهود ومن اعتزامهم الغدر به وتنبهوا إلى ما كانوا رأوا ، آمنوا بنفاذ بصيرة الرسول (صلى الله عليه وسلم) وما أوحى إليه . وبعث النبى يدعو إليه محمد بن مسلمة وقال له : " اذهب إلى يهود بنى النضير وقل لهم : إن رسول الله أرسلنى إليكم أن اخرجوا من بلادى ، لقد نقضتم العهد الذى جعلت لكم بما هممتم به من الغدر بى . لقد أجلتكم عشراً ، فمن رئى بعد ذلك ضرب عنقه " .
ومكث القوم على ذلك أياماً يتجهزون وإنهم لكذلك إذ جاءهم رسولان من عند عبد الله بن أبى يقولان : لا تخرجوا من دياركم وأموالكم ، وأقيموا فى حصونكم ؛ فإن معى ألفين من قومى وغيرهم من العرب يدخلون معكم حصنكم ويموتون عن آخرهم قبل أن يوصل إليكم .
وعن ذلك يقول الله تعالى فى كتابه العزيز : ) أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلاَ نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَداً أَبَداً وَإِن قُوتِلْتُمْ لَنَنصُرَنَّكُمْ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ لَئِنْ أُخْرِجُوا لاَ يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَلَئِن قُوتِلُوا لاَ يَنصُرُونَهُمْ وَلَئِن نَّصَرُوَهُمْ لَيُوَلُّنَّ الأَدْبَارَ ثُمَّ لاَ يُنصَرُونَ( .
ولكن اليهود طمعوا بهذا الوعد وتأخروا عن الجلاء فأمر (صلى الله عليه وسلم) بالتهيؤ لقتالهم ، فلما اجتمع الناس خرج به واستعمل على المدينة ابن مكتوم ، وأعطى رأيته علياً . أما بنو النضير فتحصنوا فى حصونهم وظنوا أنها ما نعتهم من الله فحاصرهم النبى (صلى الله عليه وسلم) ست ليا ، ثم أمر بقطع نخيلهم ليكون أدعى إلى تسليمهم قفذف الله فى قلوبهم الرعب ولم يروا من عبد الله بن أبى مساعدة بل خذلهم كما خذل بنى قينقاع من قبلهم ، فسألوا رسول الله أن يجليهم ويكف عن دمائهم وأن لهم ما حملت الإبل من أموالهم ، إلا آلة الحرب ، ففعل وصار اليهود يخربون بيوتهم بأيديهم كيلا يسكنها المسلمون . ولما سار اليهود نزل بعضهم بخيبر ، ومنهم أكابرهم حيى بن أخطب وسلام ابن أبى الحقيق ، ومنهم من سار إلى أذرعات بالشام وتركوا وراءهم للمسلمين مغانم كثيرة من غلال وسلاح بلغ خمسين درعاً وثلاثمائة وأربعين سيفاً ، ثم كان ما خلت اليهود من الأرض التى كانوا يملكون خير ما غنم المسلمون . على أن هذه الأرض لم تعتبر أسلاب حرب ، وذلك لم تقسم بين المسلمين ، بل كانت لرسول الله خاصة يضعها حيث يشاء ، وقد قسمها على المهاجرين الأولين دون الأنصار بعد أن استبقى قسماً خصصت غلته للفقراء والمساكين . وبذلك أصبح المهاجرين فى غنى عن معونة الأنصار ، وأصبح لهم مثل ثروتهم ولم يشترك فى القسمة من الأنصار إلا أبو دجانة وسهل بن حنيف فقد ذكرا فقراً فأعطاهما (صلى الله عليه وسلم) كما أعطى المهاجرين . ولم يسلم من يهود بنى النضير غير رجلين أسلما على أموالهما فأحرزاها .
غزوة الأحزاب أو الخندق (عام 5 هـ) :
لم يهدأ زعماء بنو النضير بعد إجلائهم عن المدينة بل راحوا يدبرون المكائد للرسول (صلى الله عليه وسلم) والمسلمين ففكروا فى تأليب العرب على المسلمين وتنفيذاً لذلك ذهب جمع منهم إلى مكة على رأسهم حى بن أخطب وقابلوا رؤساء قريش وحرضوهم على حرب رسول الله ومنوهم المساعدة فوجدوا منهم قبولاً لما طلبوه .
ثم جاءوا إلى قبيلة غطفان وحرضوا رجالها كذلك وأخبروهم بمبايعة قريش لهم على الحرب فوجدوا منهم ارتياحاً . فتجهزت قريش وأتباعها يرأسهم أبو سفيان ويحمل لواءهم عثمان بن طلحة بن أبى طلحة العبدرى وعددهم أربعة آلاف معهم ثلثمائة فارس وألف بعير . وتجهزت غطفان يرأسهم عيينة بن حصن وتجهزت بنو مرة وبنو اشجع وبنو سليم وبنو أسد وعد الجميع عشرة آلاف محارب قائدهم العام أبو سفيان .
ولما بلغه (صلى الله عليه وسلم) أخبار هذه التجهيزات استشار أصحابه فيما يصنع أيمكث بالمدينة أم يخرج للقاء هذا الجيش الجرار ؟ فأشار عليه سلمان الفارسى بعمل الخندق وهو عمل لم تكن العرب تعرفه فأمر عليه السلام المسلمين بعمله وشرعوا فى حفره شمالى المدينة من الحرة الشرقية إلى الحرة الغربية ، وهذه هى الجهة التى كانت عورة تؤتى المدينة من قبلها . أما بقية حدودها فمشتبكة بالبيوت والنخيل لا يتمكن العدو من الحرب جهتها . وقد قاسى المسلمون صعوبات جسيمة فى حرف الخندق لأنهم لم يكونوا فى سعة من العيش حتى يتيسر لهم العمل . وعمل معهم عليه الصلاة والسلام فكان ينقل التراب ، واصل المسلمون عملهم فى حفره ، فكانوا يحفرونه طول النهار ، ويرجعون إلى أهليهم فى المساء حتى تكامل الخندق قبل وصول جيش الأحزاب وخرج الرسول فى جيش مكون من ثلاثة آلاف وأن لواء المهاجرين مع زيد بن حارثة ولواء الأنصار مع سعد بن عبادة .
أما قريش فنزلت بمجمع الأسيال ، وأما غطفان فنزلت جهة أحد ، وكان المشركون معجبين بمكيدة الخندق التى لم تكن العرب تعرفها ، فصاروا يترامون مع المسلمين بالنبل . ولما طال المطال عليهم أكره جماعة من أفراسهم على اقتحام الخندق منهم عكرمة بن أبى جهل وعمرو بن ود وآخرون ، وقد برز على بن أبى طالب رضى الله عنه لعمرو بن ود فقتله وهرب إخوانه ، وهوى فى الخندق نوفل بن عبد الله فاندقت عنقه ، ورمى سعد بن معاذ رضى الله عنه بسهم قطع أكحله وه وشريان الذراع واستمرت المناوشة والمراماة بالنبل يوماً كاملاً ، وجعل (صلى الله عليه وسلم) على الخندق حراساً حتى لا يقتحمه المشركون بالليل ، وكان (صلى الله عليه وسلم) يبشر أصحابه بالنصر والظفر ويعدهم الخير ، أما المنافقون فقد أظهروا فى هذه الشدة ما تكنه ضمائرهم حتى قالوا : )مَّا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلاَّ غُرُوراً( وانسحبوا قائلين : إن بيوتنا عورة نخاف أن يغير عليها العدو )وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِن يُرِيدُونَ إِلاَّ فِرَاراً( واشتدت الحال بالمسلمين فإن هذا الحصار صاحبه ضيق على فقراء المدينة ، والذى زاد الشدة عليهم ما بلغهم أن يهود بنى قريظة الذين يساكنونهم فى المدينة قد انتهزوا هذه الفرصة لنقض العهود ، وسبب ذلك أن حيى بن أخطب سيد بنى النضير المجلين توجه إلى كعب بن أسعد سيد بنى قريظة فحسن له نقض العهد ولم يزل به حتى أجابه لقتال المسلمين ، ولما بلغت هذه الأخبار رسول الله (صلى الله عليه وسلم) أرسل مسلمة بن أسلم فى مائتين وزيد بن حارثة فى ثلاثمائة لحراسة المدينة خوفاً على النساء والذرارى ، وأرسل سعد ابن معاذ يستجلى له الخبر . فلما وصلهم وجدهم حائقين يظهر على وجوهم الشر ونالوا من رسول الله (صلى الله عليه وسلم) والمسلمين أمامه . فرجع وأخبر الرسول بذلك وهناك اشتد وجل المسلمين وزلزلوا زلزالاً شديداً لأن العدو جاءهم من فوقهم ومن أسفل منهم وزاغت الأبصار وبلغت القلوب الحناجر وظنوا بالله الظنون ، وتكلم المنافقون بما بدا لهم .
وأخذ المنافقون كعادتهم يبثون فى الناس الرعب بدلاً من أن يحثوهم على الثبات ، فيقولون : " كان محمد يعدنا أن نملك كنوز كسرى وقيصر ، وأحدنا اليوم لا يأمن على نفسه أن يذهب إلى الغائط " . وأخرج الرسول جنده لشغلهم عن أحاديث اليأس ، وصفهم وراء الخندق ، جاعلاً ظهورهم إلى جبل سلع .
)وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِّنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِن يُرِيدُونَ إِلاَّ فِرَاراً وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِم مِّنْ أَقْطَارِهَا ثُمَّ سُئِلُوا الفِتْنَةَ لآتَوْهَا وَمَا تَلَبَّثُوا بِهَا إِلاَّ يَسِيراً( .
فأراد (صلى الله عليه وسلم) أن يرسل لعيينة بن جصن ويصالحه على ثلث ثمار المدينة لينسحب بغطفان فأبى ألنصار ذلك قائلين إنهم لم يكونوا ينالون مناً قليلاً من ثمارنا ونحن كفار أفبعد الإسلام يشاركوننا فيها ؟
وكانت صفية خالة الرسول فى أعلى حصن حسان بن ثابت ، تلاحظ الأعداء ، وكان حسان بجانبها ، فمر بهما رجل من اليهود يطيف بالحصن فقالت لحسان : يا حسان ، إن هذا اليهودى كما ترى يطيف بالحصن ، وإنى والله ما آمنه أن يدل على عورتنا ورائنا من يهود ، وقد شغل عنا رسول الله وأصحابه ، فأنزل إليه فاقتله ، فقال : " يغفر الله لك يا بنت عبد المطلب والله لقد عرفت ما أنا بصاحب هذا ، إنى شاعر ولست بصاحب حرب " .
فلما رأت ، صفية منه ذلك ، أخذت عموداً ثم نزلت من الحصن إلى اليهودى ، فضربته بالعمود على رأسه حتى قتلته ، لما فرغت منه رجعت إلى الحصن فقالت لحسان : إنزل إليه فاسلبه ، فإنه لم يمنعنى من سلبه إلا أنه رجل " .
وهنا ظهره دور نعيم بن مسعود وكان قد أسلم وكتم إسلامه عن قومه وهو صديق لقريش واليهود وبنى غطفان .
توجه إلى بنى قريظة الذين نقضوا عهود المسلمين فلما رأوه أكرموه لصداقته معهم ، فقال : يا بنى قريظة تعرفون ودى لكم وخوفى عليكم وإنى محدثكم حديثاً فاكتموه عنى ، قالوا : نعم ، فقال لقد رأيتم ما وقع ببنى قينقاع والنضير من إجلائهم وأخذ أموالهم وديارهم وأن قريشاً وغطفان ليسوا مثلكم فهم إذا رأوا فرصة انتهزوها وإلا انصرفوا لبلادهم . وأما أنتم فتساكنون الرجل – يريد رسول الله (صلى الله عليه وسلم) – ولا طاقة لكم بحربه وحدكم فأرى ألا تدخلوا الحرب حتى تستيقظوا من قريش وغطفان أنهم لن يتركوكم ويذهبوا إلى بلادهم بأن تأخذوا منهم رهائن سبعين شريفاً منهم ، فاستحسنوا رأيه وأجابوه إلى ذلك . ثم قام من عندهم وتوجه إلى قريش فاجتمع برؤسائهم وقال : أنتم تعرفون ودى لكم ومحبتى إياكم وإنى لمحدثكم حديثاً فاكتموه على ، قالوا تفعل ، فقال لهم : إن بن قريظة ندموا على ما فعلوه مع محمد وخافوا منكم أن ترجعوا وتتركوهم ، وإنهم عاملون لاسترضائه وكسب مودته بأن يقدموا له من أشراف قريش من يضرب أعناقهم . ولذلك نصح لهم أن بعث إليهم اليهود يلتمسون رهائن من رجالهم ألا يبعثوا منهم أحداً . وصنع نعيم مع غطفان ما صنع من قريش وحذرهم مثل ما حذرهم . ودبت الشبهة من كلام نعيم نفوس قريش وغطفان . فتشاور زعماؤهم ، فأرسل أبو سفيان إلى كعب سيد بنى قريظة يقول له : قد يا كعب طالت إقامتنا وحصارنا هذا الرجل ، وقد رأيت أن تعمدوا إليه فى الغدة ونحن من ورائكم ، فعاد رسول أبى سفيان إليه يقول زعيم قريظة : إن غداً السبت ، وإنا لا نستطيع القتال والعمل يوم السبت ، فغضب أبو سفيان وصدق حديث نعيم ، وأعاد الرسول يقول لقريظة : اجعلوا سبتاً مكان هذا السبت ، فإنه لابد من قتال محمداً ؛ ولئن خرجنا لقتاله ولستم معنا لنبر أن من حلفكم ولنبدأ بكم قبل محمد ، فلما سمعت قريظة كلام أبى سفيان كررت أنها لا تتعدى السبت ، وقد غضب الله على قوم منهم فجعلهم قردة وخنازير . ثم أشاروا إلى الرهائن حتى يطمئنوا لمصيرهم . فلما سمع ذلك أبو سفيان لم يبق لديه فى كلام نعيم ريبة ، وبات يفكر ماذا عسى أن يصنع ؛ وتحدث إلى غطفان فإذا هى تتردد فى الإقدام على قتال محمد متأثر بما كان قد بدأها به من وعدها ثلث ثمار المدينة وعداً لم يتم أن اعترضه سعد بن معاذ وسادة المدينة من الأوس والخزرج ومن أصحاب مشورة رسول الله .
فلما كان الليل عصفت ريح شديدة ، وهطل المطر غزيراً ، وقصف الرعد ، ولمع البرق ، واشتدت العاصفة فاقتلعت خيام الأحزاب وكفأت قدورهم وأدخلت الرعب إلى نفوسهم ، وخيل إليهم أن المسلمين انتهزوا فرصة لعبروا إليهم وليقعوا فيهم . فقام بن خويلد فنادى : إن محمداً قد بدأكم بشر فالنجاة . وقال أبو سفيان ، يا معشر قريش إنكم ولله ما أصبحتم بدار مقام . لقد هلك الكراع والخف ، وأخلفنا بنو قريظة ، وبلغنا منهم ما نكره ، ولقينا من شدة الريح ما ترون فارتحلو فأنى مرتحل . فاستخفف القوم ما استطاعوا حمله من متاع انطلقوا وما تزال الريح تعصف بهم ، وفروا وتبعتهم غطفان والأحزاب وأصبح الصبح ولم يجد محمد منهم أحداً ، فانصرف راجعاً إلى منازل المدينة والمسلمون .
غزوة بنى قريظة :
لما رجع عليه السلام بأصحابه وأراد أن يخلع لباس الحرب أمره الله باللحاق ببنى قريظة حتى يظهر أرضه من قوم غدروا بالعهود والمواثيق فقال الرسول لأصحابه لا يصلين أحد منكم العصر إلا فى بنى قريظة ولما رأى بنو قريظة جيش المسلمين ألقى الله فى قلوبهم الرعب وتحصنوا بحصونهم وحاصرهم المسلمون خمساً وعشرين ليلة ، فلما رأوا لا مناص من الحرب ، وأنهم إن استمروا على ذلك ماتوا جوعاً طلبوا من المسلمين أن ينزلوا على ما نزل عليه بنو النضير من الجلاء بالأموال وترك السلاح فلم يقبل الرسول (صلى الله عليه وسلم) ، فطلبوا أن يجلوا بأنفسهم من غير سلاح فلم يرض أيضاً ، بل قال لابد من النزول والرضا بما يحكم عليهم خيراً كان أو شراً ، فقالوا له أرسل أبا لبابة تستشيره وكان أوسيا من حلفاء قريظة له بينهم أولاد وأموال . فلما توجه إليهم استشاره فى النزول على حكم الرسول ، فقال لهم : أنزلوا وأومأ بيده إلى حلقه يريد أن الحكم الذبح ، ويقول أبو لبابة : لم أبرح موقفى حتى علمت أنى خنت الله ورسوله فنزل من عندهم قاصداً المدينة خجلاً من مقابلة رسول الله وربط نفسه فى سارية من سوارى المسجد حتى يقضى الله فيه أمره ، ولما سأل عنه عليه السلام أخبر بما فعل ، فقال : أما لو جائنى لاستغفرت له ، أما وقد فعل ما فعل فنتركه حتى يقضى الله فيه ، ثم إن بنى قريظة لما لم يروا من النزول على حكم رسول الله فعلوا ، فأمر برجالهم فكتفوا وجاءوا رجال من الأوس وسألوه أن يعاملهم كما عامل بنى قينقاع حلفاء إخوان الخزرج فقال لهم : ألا يرضيكم أن يحكم فيهم رجل منكم ؟ فقالوا نعم . واختار سيدهم سعد بن معاذ الذى كان جريحاً من السهم الذى أصيب به فى الخندق وكان مقيماً بخيمة فى المسجد معدة لمعالجة الجرحى فأرسل عليه السلام من يأتى به ، فحملوه على حماره والتف عليه جماعة من الأوس يقولون له : أحسن فى مواليك ؟ فقال رضى الله عنه : لقد آن لسعد ألا تأخذه فى الله لومة لائم . ولما أقبل على الرسول وأصحابه وهم جلوس ، قال عليه السلام : قوموا إلى سيدكم فأنزلوه ، ففعلوا وقالوا له : إن رسول الله قد ولاك أمر مواليك لتحكم فيهم . وقال له الرسول : أحكم فيهم يا سعد .
وأخذ سعد المواثيق على الفريقين أن يسلم كلاهما لقضائه وأن يرضى به فلما أعطوه المواثيق ، أمر ببنى قريظة أن ينزلوا وأن يضعوا السلاح ، ففعلوا ، فحكم فيهم أن تقتل المقاتلة ، وتقسم الأموال ، وتسبى الذرية والنساء ، فلما سمع محمد الحكم قال : والذى نفسى بيده لقد رضى بحكمك هذا الله والمؤمنون وبه أمرت . ثم خرج إلى سوق المدينة فأمر فحفرت بها خنادق ، ثم جئ باليهود إرسالاً فضربت أعناقهم ، وفى هذه الخنادق دفنوا ، ولم يكن بنو قريظة يتوقعون هذا الحكم من سعد بن معاذ حليفهم ، بل كانوا يحسبونه يصنع بهم ما صنع عبد الله ابن أبى مع بنى قينقاع . ولعل سعداً ذكر أن الأحزاب لو انتصرت بخيانة بنى قريظة لما كان أمام المسلمين إلا أن يستأصلوا وأن يقتلوا وأن يمثل بهم ، فجزاهم بمثل ما عرضوا المسلمين له .
ساحة النقاش