ثم أخذ حربته ، فأقبل إلى نادى قومه ، فلما رأوه قالوا : نحلف بالله لقد رجع بغير الوجه الذى ذهب به .
فلما وقف عليهم قال : يا بنى عبد الأشل ، كيف تعلمون أمرى فيكم ؟ قالوا : سيدنا وأفضلنا رأياً ، وأيمننا نقيبة (أى مبارك النفس واعمل) قال : فإن كلام رجالكم ونسائكم على حرام حتى تؤمنوا بالله ورسوله . فما أمسى فيهم رجل ولا امرأة إلا مسلماً ومسلمة إلا رجل واحد . وهو الأصيرم ، فقد تأخر إسلامه إلى يوم أحد ، فأسلم ذلك اليوم وقاتل وقتل ، ولم يسجد لله سجدة فقال النبى (صلى الله عليه وسلم) : " عمل قليلاً وأجراً كثيراً " .
وأقام مصعب فى بيت أسعد بن زرارة يدعو الناس إلى الإسلام ، حتى لم تبق دار من دور الأنصار إلا وفيها رجال ونساء مسلمون ، إلا ما كان من دار بنى أمية بن وخطمة ووائل ، كان فيهم قيس بن الأسلت الشاعر – وكانوا يطيعونه – فوقف بهم عن الإسلام حتى كان عام الخندق سنة خمس من الهجرة . ثم عاد مصعب بن عمر إلى مكة يحمل إلى رسول الله (صلى الله عليه وسلم) البشائر .
بيعة العقبة الثانية :
انتشر الإسلام فى دور يثرب حتى لم يكن بينهم حديث إلا أمر الإسلام ، وفى موسم الحج الثانى ، وفد على مكة ثلاثة وسبعون رجلاً مسلماً وامرأتان ، واجتمع النبى بهم فى العقبة ليلاً ، وكان معه عمه العباس ، وكان معه عمه العباس ، وكان ما يزال على دين قومه ، وكان أول من تكلم فقال : يا معشر الخزرج . ، إن محمداً منا حيث قد علمتم ، وقد منعناه من قومنا ، ممن هو مثل رأينا فيه ، وهو فى عز من قومه ، ومنعة فى بلدة ، وقد أبى إلا الانحياز إليكم ، واللحاق بكم ، فإن كنتم ترون أنكم وافون له فيما دعوتموه إليه ، وما نعوه ممن خالفه ، فأنتم وما تحملتم من ذلك ، وإن كنتم مسلميه وخاذليه بعد خروجه إليكم فمن الآن فدعوه .
فقال أهل المدينة ، الذين عرفوا فيما بعد باسم الأنصار : سمعنا ما قلت فتكلم يا رسول الله ، فخذ لنفسك وربك ما أحببت ، فقال اشترط لربى أن تعبدوه وحده ولا تشركوا به شيئاً ، ولنفسى أن تمنعونى مما تمنعون عنه نساؤكم وأبناءكم ، فقال أحدهم : يا رسول الله إن بيننا وبين الرجال عهوداً وإنا قاطعوها فهل عسيت إن نحن فعلنا ذلك ثم أظهرك الله أن ترجع إلى قومك وتدعنا ، فتبسم (صلى الله عليه وسلم) وقال بل الدم والهدم ، أى أنا منكم وأنتم منى أحارب من حاربتم وأسالم من سالمتم .
بنود البيعة :
وقد روى ذلك الإمام أحمد عن جابر مفصلاً . قال جابر : قلما : يا رسول الله على ما نبايعك ؟ قال :
1- على السمع والطاعة فى النشاط والكسل .
2- وعلى النفقة فى العسر واليسر .
3- وعلى الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر .
4- وعلى أن تقوموا فى الله ، لا تأخذكم فى الله لومة لائم .
5- وعلى أن تنصرونى إذا قدمت إليكم ، وتمنعونى مما تمنعون منه أنفسكم وأزواجكم وأبناءكم ، ولكم الجنة .
الهجرة إلى يثرب :
لما علم قريش بنبأ تحالف الرسول (صلى الله عليه وسلم) مع عرب يثرب اضطربت اضطراباً شديداً واشتد أذاها للمسلمين فأذن الرسول لأتباعه فى مكة بالهجرة إلى يثرب فخرج هؤلاء متسللين خفية إلى يثرب حتى لا تمنعهم قريش ، فكانت الهجرة سراً ولم يهجر بها إلا عمر بن الخطاب فقال لهم من أراد أن تثكله أمه أو بيتم ولده أو ترمل زوجته فليلقنى وراء هذا الوادى .. فلم يتبعه أحد وقت وقفت قريش موقفاً قاسياً من المهاجرين وحاولت أن تمنع من استطاعت منه من الهجرة وبلغت من ذلك أنها كانت تحول بين الزوج وزوجته مثلماً حدث مع أبو سلمة فقد فرقوا بينه وبين زوجته وابنه وعندما أراد صهيب بن سنان الهجرة قال له كفار قريش : أتيتنا صعلوكاً حقيراً فكثر مالك عندنا وبلغت الذى بلغت ثم تريد أن تخرج بمالك ونفسك ؟ والله لا يكون ذلك فقال لهم صهيب أرأيتم أن جعلت لكم مالى أتخلون سبيلى ؟ قالوا نعم قال فإنى قد جعلت لكم مالى فبلغ ذلك رسول الله (صلى الله عليه وسلم) فقال ربح صهيب ، ربح صهيب .
وتتابع خروج المهاجرين فراراً بدينهم حتى لم يبق بمكة منهم إلا أبو بكر وعلى بن أبى طالب وقليلون من المستضعفين الذين لم تمكن حالهم من الهجرة وقد أراد أبو بكر الهجرة فقال له عليه السلام لا تجعل لعل الله يجعل لك صاحباً فطمع أبو بكر أن يكون هو فاشترى راحلتين وعلفها استعداداً للهجرة .
هجرة الرسول (صلى الله عليه وسلم) :
على أن قريشا كانت تحسب لهجرة النبى إلى يثرب ألف حساب . لقد كثر المسلمون فيها كثرة جعلتهم يكادون يكونون أصحاب اليد العليا . وهاهم أولاء المهاجرين من مكة ينضمون إليهم فيزيدونهم قوة : فإذا لحق محمد بهم ، وهو على ما يعرفون من ثبات وحسن رأى وبعد نظر ، خشوا على أنفسهم أن يدهم اليثربيون مكة أو يقطعوا عليها تجارتهم إلى الشام ، أو أن يجيعوها كما حاولوا هم أن يجيعوا محمداً وأصحاب حين وضعوا الصحيفة بمقاطعتهم ، وأكرهوهم على أن يلتزموا الشعب وأن يقضوا فيه ثلاثين شهراً .
وإذا بقى محمد بمكة وحاول الخروج منها ، فهم معرضون لمثل هذا الأذى من جانب اليثربيين دفاعاً عن نبيهم ورسوله . فلم يبق إلا أن يقتلوه ليستريحوا . لكنهم إن قتلوه طالب بنو هاشم وبنو المطلب بدمه وأوشكت الحرب الأهلية أن تفشو فى مكة فتكون شراُ عليها مما يخشونه من ناحية يثرب .
من أجل هذا اجتمعت قريش بدار الندوة يفكرون فى هذا كله وفى وسيلة اتقائه قال قائل منهم : احبسوه فى الحديد وأغلقوا عليه باباً ثم تربصوا به ما أصاب أشباهه من الشعراء الذين كانوا قبله ، زهيراً والنابغة ومن مضى منهم ، حتى يصيبه ما أصابهم . لكن هذا الرأى لم يل سميعاً . وقال قائل : نخرجه من بين أظهرنا وننفيه من بلادنا ثم لا نبالى بعد ذلك من أمره شيئاً . لكنهم خافوا أن يلحق بالمدينة وأن يصيبهم ما يفرقون منه ، وانتهوا إلى أن يأخذوا من كل قبيلة فتى شاباً جليداً ، وأن يعطوا كل فتى سيفاً صارماً بتاراً ، فيضربوه جميعاً ضربة رجل واحد ، فيتفرق دمه بين القبائل ، ولا يقدر بنو عبد مناف على قتالهم جميعاً ، فيرضوا فيه بالدية ، وتستريح قريش من هذا الذى بدد شملها وفرق قبائلها شيعاً . وأعجبهم هذا الرأى فطمأنوا إليه ، واختاروا فتيانهم ، وباتوا يحسبون أن أمر محمد قد فرغ منه ، وأنه بعد أيام سيوارى وتوارى دعوته فى التراب ، وسيعود الذين هاجروا إلى يثرب إلى قومهم وإلى دينهم وآلهتهم ، وترد بذلك لقريش ولبلاد العرب وحدتها التى تمزقت ، ومكانتها التى تضعضت أو كادت .
وقد قص الله قصة هذا الاجتماع بقوله تعالى : )وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ المَاكِرِينَ( [سورة الأنفال : 30] .
وبينما كانت قريش تحيك خيوط مؤامرتها ضد الرسول (صلى الله عليه وسلم) إذ أتى جبريل وأطلعه على مؤامرة قريش ضده وأمره ألا ينام فى فراشه تلك الليلة فلما أظلم الليل اجتمع فتية قريش وحاصروا دار النبى للبطش به عند خروجه فأمر الرسول على بن أبى طالب أن ينام فى فراشه وعطاه ببرده الحضرمى الأخضر ليوهم القوم أنه فى فراشه وأمره أن يتخلف بعده بمكة حتى يؤدى الودائع التى كانت عند الرسول لأصحابها ثم يلحق به فى يثرب . خرج الرسول واخترق صفوف المتأمرين وأخذ حفنة من التراب فوضعها على رؤوسهم وقد أغشاهم الله فلم يبصروه وأخذ يتلو قوله تعالى : )وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَداًّ وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَداًّ فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لاَ يُبْصِرُونَ( [سورة يس : 9] .
ومضى إلى بيت أبى بكر وكان أبى بكر الصديق قد أعد راحلتين ودفعهما إلى عبد الله بن أريقط ليركبهما الرجلان فى رحلتهما البعيدة ، وخاطر أبو بكر بنفسه فصحب الرسول مع علمه أن قريشاً ستتبعهما وتهتم بالحصول عليهما ، وأمر ابنه عبد الله أن يتسمع لما تقوله قريش عن الرسول ورفيقه نهاراً ثم يأتيهما ليلاً بما يكون فى ذلك من الخير ، وأمر عامر ابن فهيرة مولاه أن يرعى الغنم نهاره ثم يذهب بالغنم ليلاً إلى جبل ثور حيث سيخفتى الرسول والصديق ليحتلب لهما ما يحتاجانه من اللبن ، وكلف ابنته أسماء أن تأتيهما كل مساء بما يحتاجان له من الطعام والشراب ، وحمل أبو بكر ماله كله ليكون عوناً للرفيقين فى هذه الرحلة النائية .
وبقى المحاصرون ينتظرون حلول ساعة الصفر ، وقبيل حلولها تجلت لهم الخيبة والفشل ، فقد جاءهم رجل ممن معهم ، ورآهم ببابه فقال : ما تنتظرون ؟ قالوا محمداً . قال خبتم وخسرتم ، قد والله مر بكم ، وذر على رؤوسكم التراب ، وانطلق لحاجته ، قالوا والله ما أبصرناه ، وقاموا ينفضون التراب عن رؤوسهم .
ولكنهم تطلعوا من صير الباب فرأوا علياً ، فقالوا والله إن هذا لمحمد نائماً ، عليه برده ، فلم يبرحوا كذلك حتى أصبحوا . وقام على من الفراش ، فسقط فى أيديه ، وسألوه عن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) فقال : لا علم لى به .
أما سير الرحلة فقد وصفه ابن هشم بقوله : جاء الرسول متخفياً إلى دار أبى بكر ، ثم خرجا من خوخة (فتحة صغيرة) فى ظهر بيته ، ولما غادر مكة وقف الرسول وتطلع إليها وقال : (والله إنك لخير أرض الله ، وأحب أرض الله إلى الله ، ولولا أنى خرجت منك ما خرجت) .
لقد كان النبى (صلى الله عليه وسلم) يعلم أن قريشاً ستجد فى الطلب ، وأن الطريق الذى ستتجه إليه الأنظار لأول وهلة هو طريق المدينة الرئيسى المتجه شمالاً ، فقد سلك الطريق الذى يضاده تماماً ، وهو الطريق الواقع جنوب مكة ، والمتجه نحو اليمن ، سلك هذا الطريق نحو خمسة أميال ، حتى بلغ إلى جبل يعرف بجبل ثور ، وهذا جبل شمخ وعر الطريق ، صعب المرتقى ، ذو أحجار كثيرة عرف فى التاريخ بغار ثور .
إذ هما فى الغار :
ولما انتهيا إلى الغار قال أبو بكر : والله لا تدخله حتى أدخله قبلك ، فإذا كان فيه شىء أصابنى دونك ، فدخل فكسحه ، ووجد فى جانبه ثقباً فشق إزاره وسدها به ، وبقى اثنان فألقهما رجليه ، ثم قال لرسول الله (صلى الله عليه وسلم) : ادخل ، فدخل رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ، ووضع رأسه فى حجره ونام ، فلدغ أبو بكر فى رجله من الحجر ، ولم يتحرك مخافة أن ينتبه رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ، فسقطت دموعه على وجه رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ، فقال : مالك يا أبا بكر ؟ قال لدغت فداك أبى وأمى ، فتفل رسول الله (صلى الله عليه وسلم) فذهب ما يجده .
أما قريش فقد جن جنونها حينما تأكد إفلات رسول الله (صلى الله عليه وسلم) صباح ليلة تنفيذ المؤامرة ، فأول ما فعلوا بهذا الصدد أنهم ضربوا علياً ، وسحبوه إلى الكعبة ، وحسبوه ساعة عليهم يظفرون بخبرهما .
ولما لم يحصلوا من على على جدوى جاءوا إلى بيت أبى بكر وقرعوا بابه ، فخرجت إليهم أسماء بنت أبى بكر ، فقالوا لها : أين أبوك ؟ قالت : لا أدرى والله أين أبى ؟ فرفع أبو جهل يده – وكان فاحشاً خبيثاً – فلطم خدها لطمة طرح منها قرطها .
وقررت قريش فى جلسة طارئة مستعجلة استخدام جميع الوسائل التى يمكن بها القبض على الرجلين ، فوضعت جميع الطرق النافذة من مكة (فى جميع الجهات) تحت المراقبة المسلحة الشديدة ، كما قررت إعطاء مكافأة ضخمة قدرها مائة ناقة بدل كل واحد منهما لمن يعيدهما إلى قريش حيين أو ميتين ، كائنا من كان .
وحينئذ جدت الفرسان وقصاص الأثر فى الطلب وانتشروا فى الجبال والوديان بحثاً عن محمد وصاحبه وقد وصل المطاردون إلى باب الغار حتى قال أبو بكر الصديق للرسول لو أن بعضهم طأطأ بصره رآنا قال : اسكت يا أبا بكر ما ظنك باثنين الله ثالثهما .
قال تعالى : )إِلاَّ تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَّمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ العُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ( [سورة التوبة : 40].
بقى النبى وأبو بكر فى الغار ثلاثة أيام كاملة ، وكان يتردد عليهما عبد الله بن أبى بكر ، ويزودهما بالأنباء ، وكانت أسماء بنت أبى بكر تأتى إليهما بالطعام ، وكان عامر بن فهيرة يرعى غنم أبى بكر . فإذا أمسى الليل اتجه بالغنم صوب الغار فيحتلبان ، وفى اليوم الرابع سكن الناس عنهما وخفت الرجل ، وخلت الطريق ، فغادرا الغار ، واتخذا من عبد الله بن أريقط – ولم يكن قد أسلم – دليلاً لهما ، وانطلقوا صوب يثرب .
وأول ما سلك بهم بعد خروج من الغار أنه أمعن فى اتجاه الجنوب نحو اليمن ثم اتجه غرباً نحو الساحل حتى إذا وصل إلى طريق لم يألفه الناس اتجه شمالاً على مقربة من ساحل البحر الأحمر وسلك طريقاً لم يكن يسلكه أحداً إلا نادراً .
ويرى أنا أبا بكر فى رحلة الهجرة كان يسبق الرسول مرة ويتبعه مرة أخرى فسأله الرسول عن ذلك فقال يا رسول الله اذكر الترصد فأسبقك وأذكر الطلب فاتبعك .
وعدت قريش من يقبض على النبى مائة جمل ، فخرج سراقة ابن مالك ، فيمن خرج للبحث عنه ، وكان سراقة رجل متين البنيان ، أخبره رجل أنه رأى ثلاثة نفر مروا عليه يعتقد أنهم محمد وصحبه ، فتدجج سراقة بسلاحه ، وامتطى جواده ، وانطلق فى أثرهم حتى أصبحوا منه على مد البصر ، فلكز جواده ، ولكنه كبا به كبوة شديدة ، وألقى به بعيداً .
يقول سراقة بن مالك : " فبينا أنا جالس فى نادى قومى يتحدثون فى الحوادث الأخيرة وفى الجعل الذى وعد به من يأتى بمحمد ، إذ أقبل رجل من البادية حتى وقف علينا فقال : " إنى رأيت ركبة ثلاثة بالسواحل ، أراهم محمداً وأصحابه " فأومأت إليه بعينى أن اسكت . ثم قلت ، بصوت مرتفع دون أن أبدى اهتماماً : " ليسوا بهم ، ولكنك رأيت فلاناً وفلاناً انطلقوا بمعرفتنا يتبعون ضالة لنا " .
ومكثت قليلاً ، ثم قمت إلى منزلى فأمرت جاريتى أن تخرج فرسى خفية إلى بطن الوادى ، وأمرت عبداً لى أسود ذا قوة وجرأة أن يسوق بعيراً لى إلى هذا المكان وينتظرنى به . ثم خرجت من باب خلف البيت ، منحنياً متخفياً وقد حططت بزج الرمح فى الأرض لئلا يرى بريقه أحد . وإنما فعلت ذلك كله لأفوز بالجعل ولا يشاركنى فيه أحد . حتى أتيت بطن الوادى فامتطيت بعيرى وأسرعت به فى أثر الهاربين ، ومن ورائى العبد يقود الفرس . فلما اقتربت من ضالتى امتطيت فرسى وتركت بعيرى بين يدى العبد وأمره أن يسرع فى اللحاق بى . وكانت الفرس لم تزل على أحسن حال ، لأنها لم تركب ، وكانت معروفة بسرعتها ، فبالغت فى إجرائها ، ولكنها لم تلبث أن عثرت بى ، فوقعت لمنخريها ثم قامت تحمحم ، فخررت عنها ؛ فقمت فأهويت بيدى على كنانتى فاستخرجت الأزلام ، واستقسمت بها فخرج الذى أكره . وكنت أرجو أن آخذ المائة ناقة ، فركبت فرسى وعصيت الأزلام .
وظللت استحث الدابة حتى اقتربت بى من الهاربين ، وسمعت قراءة الرسول وهو لا يلتفت لصوت فرسى وأبو بكر يكثر الالتفات وقد تملكه القلق الشديد .
ولم تكن بينى وبينهم إلا مسافة قصيرة . بيد أن فرسى غابت رجلاها فجأة فى الأرض على الرغم من صلابتها فى المكان فخررت من فوقها لساعتى ، فرحت ألعنها فى حنق وأزجرها لتنهض ، ولكنها لم تزد بجهودها إلا إيغالاً فى الرمال حتى غاصت لبطنها . وخرج من مكانها غبار فى السماء مثل الدخان ، فتملكنى الذعر واستقسمت بالأزلام فخرج الذى أكره ، فعرفت حين رأيت ذلك ، أن عذاب الله سيحل بى إذا تماديت فى غى ؛ وشعرت عندئذ أنه قد قدر أن تفوز قضية النبى ، فأقلعت عن فكرة اغتياله ، وهتفت : أنا سراقة ابن جعشم . انظرونى أكلمكم فو الله لا أريبكم ولا يأتيكم منى شىء تكرهونه ، فرفع محمد يديه إلى السماء قائلاً : " اللهم إن كان سراقة صادقاً فأطلق دابته " . وعندئذ انفرجت الأرض فانطلقت الفرس فركبتها ولحقت بهما . وعرضت عليهما زادى وسلاح فرفضا أن يأخذا شيئاً من يد مشرك . وطلبا منى الانصراف .
والتفت محمد وأبو بكر إليه ، فاقترب منهما ، وطلب إلى محمد أن يكتب له كتاباً يكون أماناً بينه وبينه ، وكان المداد بين يدى النبى دائماً ، ليدون كل ما ينزل به الوحى فى الحال ، فأمر أبا بكر أن يكتب له الكتاب .
ويقول سراقة ورجعت على أعقابى فأخبرت عبدى وسائر أهل مكة الذين عرفوا غرضى بأنى لم أعثر على شىء ، وأخذت ألعن تلك الأخبار التى أتى بها البدووى التى جشمتنى تلك الرحلة المتعبة الحمقاء " .
الوصول إلى المدينة :
وقبل أن يصل الرسول (صلى الله عليه وسلم) إلى المدينة نزل بقباء وهى قرية جنوب المدينة على بعد ميلين منها فأسس فيها أول مسجد بنى فى الإسلام وأقام الرسول بقباء أربعة أيام .
ثم دخل إلى يثرب وكان أهلها فى لهفة وشوق لرؤية الرسول (صلى الله عليه وسلم) فكانوا يصعدون أعلى الأمكنة المحيطة بيثرب وينظرون لعلهم يرون ركب الرسول (صلى الله عليه وسلم) وظلوا كذلك حتى وصل النبى الكريم ويروى البخارى عن ذلك فيقول ما رأيت أهل المدينة فرحوا بشىء فرحهم برسول الله . وقد خرج أهلها فرحين بقدومه منشدين :
طلـع البـدر علينا من ثنيــات الوداع
وجب الشكـر علينا مـا دعــا لله داع
أيها المبعـوث فينا جئت بالأمر المطاع
جئت شرفت المدينة مرحبـاً يا خير داع
وقد تغير اسم يثرب بدخول الرسول (صلى الله عليه وسلم) إلى المدينة المنورة .
ساحة النقاش