الدرس السادس
الهجرة إلى الحبشة
الأهداف الإجرائية للدرس:
- تحدد أسباب الهجرة إلى الحبشة .
- تتحدث عن الهجرة الأولى إلى الحبشة.
- تتحدث عن الهجرة الثانية إلى الحبشة.
- تذكر كيف تم إسلام عمر بن الخطاب .
- تتناول بالشرح كيف تمت المقاطعة .
- تحدد كيف تم نقض صحيفة الميثاق الظالم :
- تذكر قصة الخروج إلى الطائف .
- تذكر قصة الإسراء والمعراج .
- تحدد أسباب الهجرة إلى يثرب .
الهجرة إلى الحبشة فى السنة الخامسة من البعثة :
ولما زاد الأذى والتعذيب بالمسلمين أشار عليهم الرسول (صلى الله عليه وسلم) بالهجرة لقد حملت لهم آيات سورة الكهف الفرج من الله عز وجل . ففيها جواز الهجرة من مراكز الكفر إذا خشى الإنسان على دينه : )وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلاَّ اللَّهَ فَأْوُوا إِلَى الكَهْفِ يَنشُرْ لَكُمْ رَبُّكُم مِّن رَّحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُم مِّنْ أَمْرِكُم مِّرْفَقاً( [الكهف : 16] – وفى موضع آخر فى سورة الزمر : )قُلْ يَا عِبَادِ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَأَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةٌ إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَابٍ( [الزمر : 10] .
الهجرة الأولى :
قال (صلى الله عليه وسلم) لأصحابه : لو خرجتم إلى أرض الحبشة فإن بها ملكاً لا يظلم عنده أحد ، وهى أرض صدق ، حتى يجعل الله لكم فرجاً مما أنتم فيه ، فخرج عند ذلك المسلمون من أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وسلم) إلى هناك مخافة الفتنة وفراراً بدينهم ، فكانت أول هجرة فى الإسلام وفى رجب من السنة الخامسة للنبوة هاجر أول فوج مكوناً من أحد عشر رجلاً وأربع نسوة عليهم عثمان ابن مظنون أمير الجماعة ومن بينهم عثمان بن عفان (t) والسيدة رقية بنت رسول الله (صلى الله عليه وسلم) .
الهجرة الثانية :
تتابع المسلمون فى الخروج إلى أرض الحبشة ، ومنهم من خرج ومعه أهله ، ومنهم من خرج بنفه . وفى سيرة ابن هشام يذكر أن جميع من لحق بأرض الحبشة ، هاجر إليها من المسلمين ، سوء أبنائهم الذين خرجوا بهم صغاراً أو ولدوا بها ، ثلاثة وثمانين رجلاً ، أما النسوة فبلغن ثمانية عشرة . وأدركت قريش ما سوف يسببه ذلك لها من انتشار الإسلام ونجاة هؤلاء ممن ذهب إلى الحبشة ، واشتعل غيظهم ، حينما رأوا أن من بين المهاجرين أفراداً من أسرهم ، مثل أم حبيبة بنت أبى سفيان . فأرسلت قريش ورائهم عبد الله ابن أبى ربيعة ، وعمرو بن العاص قبل إسلامهما ، ومعهما هدايا إلى النجاشى وبطارقته لكى يردوا معهما أم المسلمين ... وتروى لنا أم سلمة رضى الله عنها فى حديث أبى إسحاق عما حدث للمسلمين هناك . وملخص ذلك أن قريشاً أرسلت هدايا من الجلود إلى جميع بطارقة النجاشى ، ثم طلبوا منهم أن يشيروا على النجاشى بأن يرد من هاجر من المسلمين فقلبوا . وطلبوا منه ذلك ووافق على قبول هدايا قريش . وبعد أن عرضوا مطالبهم ، قال لهم لن أسلم إليكم أحداً حتى أعلم ماذا جعلهم يقدمون إلى بلادى فطلب إحضارهم . وتقدم جعفر بن أبى طالب وعرض فى حديث طوي مقارنة بين ما كانوا عليه قبل الإسلام من تقطيع الأرحام وعبادة الأصنام وأتيان الفواحش حتى بعث الله إليهم رسولاً منهم يعرفون نسبه وصدق حديثه وأمانته ثم ذكر له ما أتى به من توحيد لله وترك عبادة الأصنام وصلة الأرحام وأداء الأمانة إلى آخر ذلك مما جاء (صلى الله عليه وسلم) . " فلما قهرونا وظلمونا وضيقوا علينا . وحالوا بيننا وبين ديننا ، خرجنا إلى بلادك ، واخترناك على من سواك ، ورغبنا فى جوارك ، ورجونا أن لا نظلم عندك أيه الملك " . فقال النجاشى : هل معك مما جاء به عن عبد الله من شىء ؟ قال : نعم – فقرأ عليه صدراً من سورة مريم ، فبكى النجاشى حتى ابتلت لحيته وقال : " إن هذا والله جاء به عيسى (u) ليخرج من مشكاة واحدة ، انطلقا فلا والله لا أسلمهم إليكما ، ثم عادا مرة أخرى وأرادا الوقيعة فى مسألة عيسى (u) – بين النصارى والمسلمين ، فأحضرهم النجاشى وساءلهم – فقال جعفر : هو عبد الله ورسوله وروحه وكلمته ألقاها إلى مريم العذراء البتول . فرد هدايا قريش وقال والله لا أسلمهم إليكما حتى ولو كان لى جبلاً من ذهب . ثم أظهره الله على عدوه وظل المسلمون حتى عادوا إلى مكة وهم فى مأمن .
إسلام عمر بن الخطاب :
وكان سبب إسلامه أن أخته فاطمة بنت الخطاب كانت تحت سعيد بن زيد بن عمرو العدوى ، وكانا مسلمين يخفيان إسلامهما من عمر ، وكان نعيم بن عبد الله النحام العدوى قد أسلم أيضاً وهو يخفى إسلامه فرقاً من قومه ، وكان خباب بن الأرت يختلف إلى فاطمة يقرأها القرآن فخرج عمر يوماً ومعه سيفه يريد النبى (صلى الله عليه وسلم) والمسلمين وهم مجتمعون فى دار الأرقم عند الصفا ، وعنده من لم يهاجر من المسلمين فى نحو أربعين رجلاً ، فلقيه نعيم ابن عبد الله فقال : أين تريد يا عمر ؟ فقال : أريد محمداً الذى فرق أمر قريش وعاب دينها وسب آلهتها فأقتله . فقال نعيم : والله لقد غرتك نفسك أترى بنى عبد مناف تاركيك تمشى على الأرض وقد قتلت محمداً ، أفلا ترجع إلى أهلك فتقيم أمرهم ؟ قال : وأى أهلى ؟ قال ختنك وابن عمك سعيد ابن زيد وأختك فاطمة ، فقد والله أسلما ، فرجع عمر إليهما وعندهما خباب ابن الأرت يقرأهما القرآن فلما سمعوا حس عمر تغيب خباب ، وأخذت فاطمة الصحيفة فألقتها تحت فخذيها ، وقد سمع عمر قراءة خباب ، فلما دخل قال : ما هذه الهينمة (أى الكلام الخفى الذى لا يفهم) قالا : ما سمعت شيئا ؟ قال : بلى ، وقد أخبرت أنكما تابعتما محمداً على دينه ، وبطش بختنه سعيد ابن زيد ، فقامت إليه أخته لتكفه فضربها فشجها ، فلما فعل ذلك قالت له أخته وختنه : قد أسلمنا وآمنا بالله ورسوله فأصنع ما شئت .
ولما رأى عمر ما بأخته من الدم ندم ، وقال لها : أعطينى هذه الصحيفة التى سمعتكم تقرأون فيها الآن حتى أنظر إلى ما جاء به محمد ، قالت : إن نخشاك عليها ، فحلف أنه يعيدها . فقالت له : وقد طمعت فى إسلامه إنك نجس على شكركك ولا يمسها إلا المطهرون ، فقام فاغتسل ، فأعطته الصحيفة وقرأها وفيها طه وكان كاتباً ، فلما قرأ بعضها قال : ما أحسن هذا الكلام وأكرمه ، فلما سمع خباب خرج إليه ، وقال : يا عمر إنى والله لأرجو أن يكون الله قد خصك بدعوة نبيه فإنى سمعته أمس وهو يقول اللهم أيد الإسلام بعمر بن الخطاب أو أبى الحكم بن هشام فالله الله يا عمر .
فقال عمر عند ذلك : فدلنى يا خباب على محمد حتى آتيه فأسلم . فدله خباب ، فأخذ سيفه وجاء إلى النبى (صلى الله عليه وسلم) وأصحابه فضرب عليه الباب ، فقام رجل منهم ، فنظر من خلل الباب فرآه متوشحاً سيفه فأخبر النبى (صلى الله عليه وسلم) بذلك ، فقال حمزة أئذن له فإن كان جاء يريد خيراً بذلناه له وإن أراد شراً قتلناه بسيفه ، فأذن فنهض إليه النبى (صلى الله عليه وسلم) حتى لقيه ؛ فأخذ بمجامع ردائه ، ثم جذبه جذبة شديدة ، وقال : ما جاء بك ؟ ما أراك تنتهى حتى ينزل الله عليك قارعة .
فقال عمر : يا رسول الله جئت لأومن بالله وبرسوله ، فكبر (صلى الله عليه وسلم) تكبيرة عرف من فى البيت أن عمر أسلم .
المقاطعة :
نفذت جميع أسلحة الاضطهاد التى استعملتها قريش ، ففكروا فى سلاح آخر ، وكانت السنة هى السنة السابعة للرسالة ، وكان أغلب المسلمين قد هاجروا إلى الحبشة ، ودخل عمر وحمزة فى الإسلام ، فازداد بهما منعة ، ورفض أبو طالب رفضاً باتاً التخلى عن حماية ابن أخيه ، وعقد بنو هاشم كلهم ، إلا أبا لهب ، العزم عن الدفاع عن محمد أو يهلكوا دونه ، وفضلاً عن ذلك فإن نور الإسلام كان يسرى من قبيلة إلى أخرى ، فقر قرار قريش على مقاطعة بنى هاشم ، فكتبوا كتاباً فيما بينهم تعاهدوا فيه على أى ينكحوا إليهم ولا ينكحوهم ، ولا يبيعوهم شيئاً ، ولا يبتاعوا منهم ، وعلقوا هذه فى جوف الكعبة ، فاحتمى النبى وبنو هاشم بشعب فى الجبل ، فضربت قريش نطاقاً من الحراس يمنعون المسلمون من الخروج ، كما يمنعون الناس من الدخول ، وكان أبو جهل يتفقد الأمر بنفسه ، ليتحقق من أن المقاطعة نافذة كما ينبغى .
واشتد الحصار ؛ وقطعت عنهم الميرة والمادة ، فلم يكن المشركين يتركون طعاماً يدخل مكة ولا بيعاً إلا بادروه فاشتروه ، حتى بلغهم الجهد ، والتجأوا إلى أكل الأوراق والجلود ، وحتى كان يسمع من وراء الشعب أصوات نسائهم وصبيانهم يتضرعون من الجوع ، وكان لا يصل إليهم شىء إلا سراً – وكانوا – لا يخرجون من الشعب لاشتراء الحوائج إلا فى الأشهر الحرم ، وكانوا يشترون العير التى ترد مكة من خارجها ، ولكن أهل مكة كانوا يزيدون عليهم فى السعة قيمتها حتى لا يستطيعوا الشراء .
وكان حكيم بن حزام ربما يحمل قمحاً إلى عمته خديجة – رضى الله عنها – وقد تعرض له مرة أبو جهل فتعلق به ليمنعه ، فتدخل بينهما أبو البخترى ، ومكنه من حمل القمح إلى عمته .
وكان أبو طالب يخاف على رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ، فكان إذا أخذ الناس مضاجعهم يأمر رسول الله (صلى الله عليه وسلم) أن يضطجع على فراشه ، حتى يرى ذلك من أراد اغتياله ، فإذا نام الناس أمر أحد بنيه أو أخوانه أو بنى عمه فاضطجع على فراش رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ، وأمره أن يأتى بعض فرشهم .
وقد استمر المقاطعة حوالى ثلاث سنوات ولم تنقض إلا بعد أن أشفق بعض القريشيين على بنى هاشم بسبب ما نالهم من أذى وعذاب فمزقوا هذه الصحيفة وعادوا إلى الاتصال بهم
نقض صحيفة الميثاق الظالم :
مرت ثلاثة أعوام كاملة والمقاطعة قائمة ، وفى المحرم سنة عشر من النبوة حدث نقض الصحيفة وفك الميثاق ، وذلك أن قريشاً كانوا بين راض بهذا الميثاق وكاره له ، فسعى فى نقض الصحيفة من كان كارهاً لها .
وكان القائم بذلك بن عمرو من بنى عامر بن لؤى – وكان يصل ببنى هاشم فى الشعب مستخفياً بالليل بالطعام – فإنه ذهب إلى زهير بن أبى أمية المخزومى – وكانت أمه عاتكة بنت عبد المطلب – وقال : يا زهير ، أرضيت أن تأكل الطعام ، وتشرب الشراب ، وأخوالك بحيث تعلم ؟ فقال : ويحك ، فما أصنع وأنا رجل واحد ؟ أما والله لو كان معى رجل آخر لقمت فى نقضها ، قال : قد وجدت رجلاً . قال : فمن هو ؟ قال : أنا قال له زهير : ابغنا رجلاً ثالثاً .
فذهب إلى المطعم بن عدى ، فذكره أرحام بنى هاشم وبنى المطلب وبنى عبد مناف ، ولامه على موافقته لقريش على هذا الظلم ، فقال المطعم : ويحك ، ماذا أصنع ؟ إنما أنا رجل واحد ، قال : قد وجدت ثانياً ، قال : من هو ؟ قال : أنا ، قال ابغنا ثالثاً ، قال : قد فعلت : من هو ؟ قال : زهير بن أبى أمية ، قال : ابغنا رابعاً .
فذهب إلى البخترى بن هاشن ، فقال له نحواً مما قال للمطعم ، فقال : وهل من أحد يعين على هذا ؟ قال : نعم ، قال : من هو ؟ قال : زهير بن أبى أمية ، والمطعم بن عدى ، وأنا معك ، قال : ابغنا خامساً .
فذهب إلى زمعة بن الأسود بن عبد المطلب بن أسد ، فكلمه ، وذكر له قرابتهم وحقهم ، فقال له : وهل على هذا الأمر الذى تدعونى إليه من أحد ؟ قال : نعم ثم سمى له القوم ، فاجتمعوا عند الجحون ، وتعاقدوا على القيام بنقض الصحيفة ، وقال زهير : أنا أبدأكم فأكون أول من يتكلم .
فلما أصبحوا غدوا إلى أنديتهم ، وغدا زهير عليه حلة ، فطاف بالبيت سبعاً ، ثم أقبل على الناس ، فقال : يا أهل مكة أتأكل الطعام ، ونلبس الثياب وبنو هاشم هلكى ، لا يباع ولا يبتاع منهم ؟ والله لا أقعد حتى تشق هذه الصحيفة القاطعة الظالمة .
قال أبو جهل – وكان فى ناحية المسجد - : كذبت ، والله لا تشق فقال زمعة بن الأسود : أنت والله أكذب ، ما رضينا كتابتها حيث كتبت قال أبو البخترى : صدق زمعة ، لا نرضى ما كتب فيه ولا نقر فيه .
قال المعطم بن عدى : صدقتما وكذب من قال غير ذلك ، نبرأ إلى الله منها ومما كتب فيها .
وقال هشام بن عمرو نحواً من ذلك .
فقال أبو جهل : هذا أمر قضى بليل ، تشور فيه هذا المكان .
وأبو طالب جالس فى ناحية المسجد إنما جاءهم لأن الله كان قد أطلع رسوله على أمر الصحيفة ، وأنه أرسل إليها الأرضة ، فأكلت جميع ما فيها من جور وقطيعة وظلم إلا ذكر الله عز وجل ، فأخبر بذلك عمه ، فخرج إلى قريش فأخبرهم أن ابن أخيه قد قال كذا وكذا ، فإن كان كاذباً خلينا بينكم وبينه ، وإن كان صادقاً رجعتم عن قطيعتنا وظلمنا ، قالوا قد أنصفت وبعد أن دار الكلام بين القوم وبين أبى جهل قام المطعم إلى الصحيفة ليشقها فوجد الأرضة قد أكلتها إلا (باسمك اللهم) . وما كان فيها من اسم الله فإنها لم تأكله .
ثم نقضت الصحيفة ، وخرج رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ومن معه من الشعب ، وقد رأى المشركون آية عظيمة من آيات نبوته ، ولكنهم كما أخبر الله عنهم ، أعرضوا عن هذه الآية )وَإِن يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُّسْتَمِرٌّ( [القمر : 2] . وازدادوا كفراً إلى كفرهم .
عام الحزن :
فى السنة العاشرة من البعثة النبوية أى بعد انتهاء حادث المقاطعة فقد النبى (صلى الله عليه وسلم) عمه أبى طالب وكان فى حياته شديد الدفاع عن ابن أخيه رسول الله " ، وكانت قريش لا تستطيع أن تنال بأذى فى نفسه طيلة حياة أبى طالب احتراماً له وهيبة ، فلما مات أبو طالب ، جرؤت قريش على تشديد الأذى للنبى (صلى الله عليه وسلم) ، ولذلك كانت وفاته مبعث حزن عميق للنبى (صلى الله عليه وسلم) ، وقد حرص النبى أن يقول أبو طالب كلمة الإسلام وهو على فراش الموت ، فأبى خشية أن يلحقه العار من قومه .
كما ماتت خديجة رضى الله عنها فى تلك السنة نفسها ، وقد كانت خديجة تخفف عن الرسول همومه وأحزانه لما يلقاه من عداء قريش .
فلما ماتت حزن عليها حزناً شديداً ، وسمى العام الذى مات فيه عمه أبو طالب وزوجه خديجة " عام الحزن " .
الخروج إلى الطائف :
ولما اشتد على الرسول كيد قريش وأذاها بعد وفاة عمه وزوجه ، توجه إلى الطائف لعله يجد فى ثقيف حسن الإصغاء لدعوته وانتصار لها ، ولكنهم ردوه رداً غير جميل ، وأغروا به صبيانهم ، فقذفوه بالحجارة حتى سال الدم من قدمه الطاهرتين ، ثم التجأ إلى بستان من بساتين الطائف وتوجه إلى الله بهذا الدعاء الخاشع " اللهم إليك أشكو ضعف قوتى ، وقلة حيلتى ، وهوانى على الناس يا أرحم الراحمين ، أنت رب المستضعفين وأنت ربى ، إلى من تكلنى ؟ إلى بعيد يتجهمنى ؟ أو إلى عدو ملكته أمرى ؟ إن لم يكن بك غضب على فلا أبالى ، ولكن عافيتك هى أوسع لى ، أعوذ بنور وجهك الذى أشرقت به الظلمات ، وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة من أن تنزل بى غضبك ، أو تحل بى سخطك ، لك العتبى حتى ترضى ، ولا حول ولا قوة إلا بك " .
عاد رسول الله (صلى الله عليه وسلم) من الطائف دون أن تستجيب ثقيف لدعوته ، اللهم إلا ما كان من إسلام " عداس " علام عتبة وشيبة ابنى ربيعة ، وكان غلاماً نصرانياً ، طلب إليه سيداه أن يقدم قطفاً من العنب إلى الرسول وهو فى البستان لما رأيا من أعيائه وتهجم ثقيف عليه ، فلما قدم عداس العنب للرسول (صلى الله عليه وسلم) أخذ الرسول يبدأ فى أكله قائلا : باسم الله ، فلفت ذلك نظر عداس ، إذ لا يوجد فى القوم من يقوم مثل هذا ، وبعد حديث بين عداس والنبى أسلم عداس .
ولما كان بنخلة وفد عليه نفر من الجن يستمعون القرآن فلما سمعوا انصتوا له ورجعوا إلى قومهم منذرين وفيهم قال تعالى : ) قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِّنَ الجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآناً عَجَباً يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَن نُّشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَداً وَأَنَّهُ تَعَالَى جَدُّ رَبِّنَا مَا اتَخَّذَ صَاحِبَةٌ وَلاَ وَلَداً وَأَنَّهُ كَانَ يَقُولُ سَفِيهُنَا عَلَى اللَّهِ شَطَطاً( [الجن : 1-4] .
ثم عاد النبى إلى مكة ولم يدخلها إلا فى جوار مطعم بن عدى الذى لبس مع أولاده أخيه سلاحهم وأعلنوا جوارهم لمحمد .
الإسراء والمعراج :
وفى ليلة السابع والعشرين من رجب قبل الهجرة بسنة وأشهر تقريباً بعد عودته من الطائف حدث الإسراء والمعراج أما الإسراء فهو توجه ليلاً من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى فى بيت المقدس وعودته من ليلته وأما المعراج فهو صعوده فى العالم العلوى وفيه فرضت الصلوات الخمس والإسراء مذكور فى القرآن الكريم قال تعالى : )سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ المَسْجِدِ الحَرَامِ إِلَى المَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ( [الإسراء :1] .
وأما المعراج فقد ورد فى صحيح السنة وأصح أحاديثه ما رواه الشيخان ونقله القاضى عياض فى شفائه عن أنس بن مالك رضى الله عنه قال : قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) : " أتيت بالبراق وهو دابة فوق الحمار ودون البغل يضع حافره عند منتهى طرفه ، قال فركبته حتى أتيت بين المقدس فربطته بالحلقة التى تربط بها الأنبياء ثم دخلت المسجد فصليت فيه ركعتين ثم خرت فأتانى جبريل بإناء من خمر وإناء من لبن فاخترت اللبن فقال جبريل : " اخترت الفطرة أما أنك لو أخذت الخمر غوت أمتك ، ثم عرج بنا إلى السماء فاستفتح جبريل فقيل : من أنت ؟ قال جبريل ، قيل ، : ومن معك ؟ قال محمد ، قيل وقد بعث إليه ؟ قال قد بعث إليه . ففتح لنا فإذا بآدم فرحب بى ودعا لى بخير : ثم عرج بنا إلى السماء الثانية فاستفتح جبريل فقيل : من أنت ؟ قال جبريل ، قيل : ومن معك ؟ قال محمد ، قيل وقد بعث إليه ؟ قال قد بعث إليه ، ففتح لنا فإذا أنا بابنى الخالة يحيى وعيس بن مريم فرحبا بى ودعوا إلى بخير . ثم عرج بنا إلى السماء الثالثة فذكر مثل الأول ففتح لنا وإذا أنا بيوسف وإذا هو قد أعطى شطر الحسن فرحب ودعا لى بخير . ثم عرج بنا إلى السماء الرابعة فذكر مثله فإذا أنا بإدريس فرحب بى ودعا لى بخير ، قال تعالى فى سورة مريم : )وَرَفَعْنَاهُ مَكَاناً عَلِياًّ( [مريم : 57] .
ثم عرج بنا إلى السماء الخامسة فذكر مثله فإذا أنا بهارون فرحب بى ودعا لى بخير ، ثم عرج بنا إلى السماء السادسة فذكر مثله فإذا أنا بموسى فرحب بى ودعا لى بخير ، ثم عرج بنا إلى السماء السابعة فذكر مثله فإذا أنا بإبراهيم مسنداً ظهره إلى البيت المعمور وإذ يدخله كل يوم سبعون ألف ملك لا يعودون إليه ، ثم ذهب بى إلى سدرة المنتهى فإذا أوراقها كآذان الفيلة وإذا ثمرها كالقلال فلما غشيها من أمر ربى ما غشيها تغيرت فما أحد من خلق الله يستطيع أن ينعتها من حسنها فأوحى الله إلى ما أوحى ففرصض على وعلى أمتى خمسين صلاة فى كل يوم وليلة فنزلت إلى موسى فقال ما فرض ربك على أمتك ؟ قلت خمسين ذلك فإنى قد بلوت بنى إسرائيل وخبرتهم ، قال فرجعت إلى ربى وقلت له يا ربى خفف عن أمتى فحط عنى خمساً فرجعت إلى موسى فقلت حط عنى خمساً قال إن أمتك لا يطيقون ذلك فارجع إلى ربك فسله التخفيف قال فلم أزل أرجع بين ربى تعالى وبين موسى حتى قال سبحانه : يا محمد إنهن خمس صلوات كل يوم وليلة لكل صلاة عشر فتلك خمسون صلاة ومن هم بحسنة فلم يعملها كتبت له حسنة ومن هم بحسنة فعملها كتبت له عشراً ، ومن هم بسيئة فلم يعملها لم تكتب له شيئاً ومن هم بسيئة فعملها كتبت له سيئة واحدة . قال فنزلت حتى انتهت إلى موسى فأخبرته فقال ارجع إلى ربك فسله التخفيف فقلت قد رجعت إلى ربى حتى استحييت منه .
ورأى مالك خازن النار ، وهو لا يضحك ، وليس على وجهه بشر وبشاشة ، وكذلك رأى الجنة والنار .
ورأى أكلة أموال اليتامى ظلماً لهم مشافر كمشافر الإبل ، يقذفون فى أفواههم قطعاً من نار كالأفهار ، فتخرج من أدبارهم .
ورأى أكلة الربا لهم بطون كبيرة ، لا يقدرون لأجلها أن يتحولوا عن مكانهم ، ويمر بهم آل فرعون حين يعرضون على النار فيطأونهم .
ورأى الزناة بين أيديهم لحم سمين طيب إلى جنبه غث منتن ، يأكلون من الغث المنتن ، ويتركون الطيب السمين .
ورأى النساء اللاتى يدخلن على الرجال من ليس من أولادهم ، رهن معلقات بثديهن .
ثم رجع عليه الصلاة والسلام من ليلته فلما أصبح غداً إلى نادى قريش فجاء إليه أبو جهل بن هشام فحدثه رسول الله (صلى الله عليه وسلم) بما جرى له فقال أبو جهل : يا بنى كعب بن لؤى هلموا فأقبل عليه كفار فريش فأخبرهم الرسول الخبر فصاروا بين مصفق وواضع يده على رأسه تعجباً وإنكاراً وارتد ناس ممن كان آمن به من ضعاف القلوب وسعى رجال إلى أبى بكر فقال إن كان قال ذلك فقد صدق أتصدقه على ذلك ؟ قال إنى لأصدقه على أبعد من ذلك فسمى من ذلك اليوم صديقاً . ثم قام الكفار يمتحنون رسول الله (صلى الله عليه وسلم) فسألوه نعت بيت المقدس وفيهم رجال رأوه ، أما رسول الله (صلى الله عليه وسلم) فلم يكن رأه قبل ذلك فجلاه الله فصار لهم باباً باباً وموضعاً موضعاً ، فقالوا أما النعت فقد أصاب فأخبرنا عن عيرنا وكانت لهم عير قادمة من الشام فأخبرهم بعدد جمالهم وأحوالها وقال تقدم يوم كذا مع طلوع الشمس يقدمها جمل أورق .
فخرجوا يشتدون ذلك اليوم نحو الثنية فقال قائل منهم هذه والله الشمس قد أشرقت فقال آخر وهذه والله العير أقبلت يقدمها جمل أورق كما قال محمد ثم لم يزدهم إلا كبراً وعناداً حتى قالوا هذا سحر مبين .
الحكمة المستفادة من رحلة الإسراء والمعراج :
1- أنها كانت ترفيهاً للرسول (صلى الله عليه وسلم) بعد سنوات الأذى والعذاب والاضطهاد وتخفيفاً لحزنه العميق على عمه وزوجته وما لاقاه من سفهاء مكة والطائف وتجديداً لنشاطه حتى يواصل السير فى دعوته وفى تمكنه بالحق وإشعاراً له أن الله معه يؤيده وأن له عنده مكانة لم يبلغها ملك مقرب ولا نبى مرسل ..
2- أنها بدأت من المسجد الحرام بمكة إلى المسجد الأقصى بالشام إلى الآفاق العليا لعقائد التوحيد ورجوعها إلى إبراهيم عليه السلام وإعلاناً لوراثته رسالات السماء وأن كل الأنبياء من مشكاة واحدة حيث إن هدفها واحد هو إقامة الدين لله وحده قال تعالى : )شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلاَ تَتَفَرَّقُوا فِيهِ( [الشورى : 13] .
والملاحظة الجميلة أن الله بدأ الإسراء من أول مسجد عبد الله فيه بالأرض : )إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وَضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكاً وَهُدًى لِّلْعَالَمِينَ فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَّقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِناً ([آل عمران : 96-97] إلى المسجد الأقصى الذى قال الرسول (صلى الله عليه وسلم) فيه لا يشد الرحال إلى إلا ثلاث مساجد المسجد الحرام ومسجدى هذا والمسجد الأقصى .
3- كانت الرحلة بالجسد والروح معاً ولا يمكن أن يقبل العقل أنها كانت فى المنام والذين قالوا بالروح فقط استندوا إلى حدث ضعيف عن عائشة : " لم أفقد جسد رسول الله وهذا الحديث مردود لأن عائشة كانت لم تتزوج بعد رسول الله ولقد بدأ الله الآية بالتسبيح ويبدأ الله بالتسبيح إلا لأمر عظيم ، قال تعالى : )سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ( [الإسراء :1] .
إن الذين يقيسون الأشياء بمقاييس البشر مخطئون فقد قصر إدراكهم . )وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ القِيَامَةِ وَالسَّمَوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ( [الزمر :67] . ولقد فرض الله علينا الصلاة فى ليلة الإسراء والمعراج وهى عماد الدين كما يقول (صلى الله عليه وسلم) : " الصلاة عماد الدين من أقامها فقد أقام الدين ومن هدمها فقد هدم الدين " .
ولا تفرض الفرائض على نائم وإنما اختار الله لها العلو تنبيهاً لشأنها .
وأننا نشك أن وقوع الإسراء قبل الهجرة بعام لحكمة أرادها الله وهى تصفية المؤمنين من المتشككين بحيث إذا جاءت الهجرة قام بها كل صادق قوى : )فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ وَمَاتُوا وَهُمْ كَافِرُونَ ([التوبة :124-125] .
وفضلاً عن ذلك فإن الإسراء والمعراج فيه ألواناً كثيرة من الآداب الاجتماعية كتحريم الغيبة والنميمة ففيها فساد المجتمعات . وتحريم الربا والقرب من الحلال والبعد عن الحرام والبعد عن أكل مال اليتيم وإخراج الزكاة والمحافظة على سلامة الأوطان بحب الجهاد فى سبيل الله .
العرض على القبائل :
لما رأى النبى (صلى الله عليه وسلم) أن قريشاً مصرة على منأواته أخذ يخرج فى مواسم العرب ويعرض نفسه على القبائل فكان منهم من يرده رداً قبيحاً ومنهم من يرده رداً حسناً ، ومن أقبحهم رداً بنو حنيفة رهط مسليمة الكذاب وكان كلما عرض نفسه على قبيلة جاء أبو لهب من ورائه يحرض الناس عليه على ألا يستمعوا له زعماً أنه كاذب .
على أن بشائر النصر لاحت للرسول من ناحية عرب يثرب بالذات ولا شك أن سرعة استجابة هؤلاء للإسلام ترجع إلى الظروف الخاصة بمدينتهم ، تلك التى جعلت منها بيئة أكثر ملائمة من مكة لتقبل الدعوة الإسلامية والذود عنها ، ففى موسم الحج الذى تلى يوم بعاث لقى النبى (صلى الله عليه وسلم) ستة من قبيلة الخزرج فدعاهم إلى الإسلام وقرأ عليهم القرآن فلقى استجابة منهم وقال بعضهم لبعض أنه النبى الذى كانت تعدكم به يهود فلا يسبقنكم إليه فأمنوا به وصدقوه وقالوا إنا تركنا قومنا بينهم من العداوة ما بينهم فإن يجمعهم الله عليك فلا رجل أعز منك ووعدوه المقابلة فى الموسم المقبل وعادوا إلى يثرب يتحدثون عن الإسلام بين قومهم حتى لم يبق دار من دور عرب يثرب إلا وفيها ذكر رسول الله (صلى الله عليه وسلم) .
وفى موسم الحج التالى جاء مكة اثنى عشر رجلاً من يثرب منهم عشرة من الخزرج واثنان من الأوس فالتقوا بالنبى عند العقبة وهو موضع رمى الجمار بمنى وبايعوه بيعة العقبة الأولى ، بايعوه على " ألا يشرك أحدهم بالله شيئاً ولا يسرق ولا يزنى ولا يقتل أولاده ولا يأتى ببهتان يفتريه بين يديه ورجليه ولا يعصيه فى معروف فإن وفى ذلك فله الجنة وإن غشى من ذلك شيئاً فأمره إلى الله أن شاء عذب وإن شاء غفر " وقد حدثت هذه البيعة فى السنة الثانية عشرة للإسلام .
أنفذ النبى معهم مصعب بن عمير يقرئهم القرآن ، ويعلمهم دينهم وكان لإنفاذه أجمل الأثر فى انتشار الإسلام انتشاراً يدعوا إلى الغبطة ، فدخل فى دين الله عدد من سادات الأوس والخزرج .
نزل مصعب بن عمير على أسعد بن زرارة وأخذا يبثان الإسلام فى أهل يثرب بجد وحماس ، وكان مصعب يعرف بالمقرئ ، ومن أروع ما يروى من نجاحه فى الدعوة أن أسعد بن زرارة خرج به يوماً يريد دار بنى عبد الأشهل ودار بنى ظفر ، فدخلا فى حائط (أى حديقة) من حوائط بنى ظفر ، وجلسا على بئر يقال لها مرق ، واجتمع إليهما رجال من المسلمين – وسعد بن معاذ وأسيد بن حضير سيد قومهما يومئذ على الشرك – فلما سمعا بذلك قال سعد لسعد : اذهب إلى هذين اللذين قد أتيا ليسفها ضعفاءنا فازجرهما ، وأنهما عن أن يأتيا دارينا ، فإن أسعد بن زرارة ابن خالتى ، ولولا ذلك لكفيتك هذا .
فأخذ أسيد وأقبل إليهما فلما رآه أسعد قال لمصعب : هذا سيد قومه قد جاءك فاصدق الله فيه ، قال مصعب : إن يجلس أكلمه . وجاء أسيد فوقف عليها متشتماً وقال : ما جاء بكما إلينا ؟ تسفهان ضعفاءنا ؟ اعتزلانا إن كانت لكما بأنفسنا حاجة ، فقال له مصعب : أو تجلس فتسمع ، فإن رضيت أمراً قبلته ، وإن كرهته كف عنك ما تكره ، فقال : أنصفت ، ثم ركز حربته وجلس ، فكلمه قبل أن يتكلم ، فى إشراقه وتهلله ، ثم قال ما أحس هذا وأحمله ؟ كيف تصنعون إذا أردتم أن تدخلوا فى هذا الدين ؟
قالا له : تغتسل وتطهر ثوبك ثم تشهد شهادة الحق ، ثم تصلى ركعتين فقام واغتسل ، وطهر ثوبه ، وتشهد وصلى ركعتين ثم قال : إن ورائى رجلاً إن تبعكما لم يتخلف عنه أحد من قومه ، وسأرشده إليكما الآن – سعد بن معاذ – ثم أخذ حربته وانصرف إلى سعد فى قومه ، وهم جلوس فى ناديهم ، قال سعد : أحلف بالله لقد جاءكم بغير الوجه الذى ذهب به من عندكم .
فلما وقف أسيد على النادى قال له سعد : ما فعلت ؟ فقال : كلمت الرجلين فوالله ما رأيت بأساً وقد نهيتهما فقالاً : نفعل ما أحببت .
وقد حدثت أن بنى حارثة خرجوا إلى أسعد بن زرارة ليقتلوه – وذلك أنهم قد عرفوا أنه ابن خالتك – ليخفروك (أى لينقضوا عهدك ويقصوا من قدرك) فقام سعد مغضباً للذى ذكر له ، فأخذ حربته وخرج إليهما ، فلما رآهما مطمئنين عرف أن أسيداً إنما أراد منه أن منه أن يسمع منهما ، وقف عليهما متشتماً ثم قال لأسعد بن زراراة : والله يا أبا إمامة لولا ما بينى وبينك من القرابة ما رمت هذا منى (أى ما طعمت فى ذلك) تغشانا فى دارنا بما نكره ؟
وقد كان أسعد قال لمصعب : جاءك والله سيد من ورائه قومه ، إن يتبعك لم يتخلف عنك منهم أحد ، فقال مصعب لسعد بن معاذ : أو تقعد فتسمع ؟ فإن رضيت أمراً قبلته ، وإن كرهته عزلنا عنك ما تكره ، قال : قد أنصفت ، ثم ركز حربته فجلس ، فعرض عليه الإسلام ، وقرأ عليه القرآن قال : فعرفنا والله فى وجهة الإسلام قبل أن يتكلم ، فى إشراقه وتهلله ، ثم قال : كيف تصنعون إذا أسلمتم ؟ قالا : تغتسل ، وتطهر ثوبك ، ثم تشهد شهادة الحق ، ثم تصلى ركعتين ، ففعل ذلك .
ساحة النقاش