الدرس الخامس
النبي صلى الله عليه وسلم من الميلاد حتى البعثة
الأهداف الإجرائية للدرس:
- تتحدث عن حياه النبي صلى الله عليه وسلم من الميلاد حتى البعثة .
- تتكلم عن حادثة شق الصدر .
- تبين وفاة آمنة .
- تذكر وكفالة عبد المطلب ووفاته .
- تتحدث عن وكفالة أبى طالب للرسول .
- تذكر أهم الأحداث التي شهدها الرسول (صلى الله عليه وسلم) فى فترة صباه وحتى بعثته.
- تتحدث عن حرب الفجار :
- تحدد أهم إيجابيات حلف الفضول .
- تتحدث عن زواج (صلى الله عليه وسلم) بالسيدة خديجة رضى الله عنها .
- تبين مراحل الدعوة .
- توضح بدء الوحى ومراحلها.
- توضح كيف كانت مقاومة قريش للدعوة الإسلامية .
النبي صلى الله عليه وسلم من الميلاد حتى البعثة :
ولد الرسول يوم الاثنين 12 ربيع الأول الموافق 20 من إبريل سنة 571م وهو العام المشهور بعام الفيل ومحمد بن بنى هاشم من اشرف العرب فأبوه عبد الله بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف بن قصى بن كلاب وأمه آمنة بنت وهب من بنى زهرة بن كلاب وقد اجتمع لقصى جده الأعلى من الشرف والمجد والسيادة ما لم يجتمع لغيره ولا شك أن شرف النسب وطهارة المولد من شروط النبوة وكل اجتماع بين آبائه وأمهاته كان شرعياً بحسب الأصول العربية ولم ينل نسبه شىء من سفاح الجاهلية بل طهره الله من ذلك . وروى عنه (صلى الله عليه وسلم) أنه قال : " أنا ابن الذبيحين " فالذبيح الأول هو إسماعيل بن إبراهيم عليهما السلام ، فقد رأى سيدنا إبراهيم (u) فى منامه من يأمره بذبح ولده ، ورؤيا الأنبياء وحى – كما فى الحديث الشريف – لم يشك الخليل فى صدق الرؤيا ، ولكن الأمر يتعلق بابنه ، فكان لابد أن يتروى فى الأمر ، فرأى مثل ذلك فى الليلة الثانية والثالثة ، فلم يكن بد – بعد ثلاث – من امتثال أمر الله والصبر على البلاء ، ولكنه رأى أن يعرض الأمر على ولده ؛ ليكون أطيب لقلبه ، وأهون عليه من أنا يأخذه قسراً ، فعرضه عليه ، فكان – كما وصفه الله – حليماً ، وجديراً بأن يكون رسولاً نبياً ، فقال : ) يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِن شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ( [الصافات : 102] .
وأخذ الخليل بيد أبنه ووحيده ، وخرج إلى المنحر بمنى ، وأضجعه على وجهه ، وأخذ السكين بيده ، وأمرَّها على عنق ابنه ، فما قطعت ، ولا أثرت ، وحينئذ نودى من السماء : أنا يا إبراهيم قد صدقت الرؤيا ، وامتثلت الأمر ، وإنا قد فدينا ابنك بما تيسر لك من كبش سمين ، فطلب كبشاً ، فذبحه مكان إسماعيل ، فكانت التضحية سنة باقية فى عقبه إلى يوم الدين ، وقد ذكر القرآن الكريم قصته فى قوله تعالى : )فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلامٍ حَلِيمٍ فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي المَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِن شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ فَلَمَّا أَسْلَمَا تَلَّهُ لِلْجَبِينِ وَنَادَيْنَاهُ أَن يَا إِبْرَاهِيمُ قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي المُحْسِنِينَ إِنَّ هَذَا لَهُوَ البَلاءُ المُبِينُ وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الآخِرِينَ سَلامٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ( [الصافات : 101 – 108] .
أما الذبيح الثانى فهو أبوه عبد الله وكان جده عبد المطلب قد نذر أثناء حفر بئر زمزم أنه إذا رزق بعشرة أبناء يمنعونه فإنه سيذبح أحدهم للآلهة فلما تم له ذلك أراد أن يفى بنذره فاقترع بين أبنائه فخرج القداح على ابنه عبد الله وكان أحب أبنائه إليه وإلى قريش أيضاً فلما هم بذبح منعته قريش وطلبوا منه أن يحتكم إلى إحدى الكاهنات فوجدوها فى خيبر فأشارت بأن يضرب القداح على عشرة من أبل وهى الدية عندهم وعلى عبد الله فإن وقعت على الإبل ذبحها وإلا زاد عشرة أخرى ففعل عبد المطلب ذلك حتى وصلت إلى مائة من الإبل فذبحها ونجا عبد الله .
إلا أن عبد الله ما لبث أن توفى بعد زواجه بالسيدة آمنة بنت وهب بفترة قصيرة وكان قد خرج متاجراً إلى بلاد الشام فأدركته المنية فى طريق العودة ودفن بالمدينة عند أخواله بنى عدى بن النجار وكانت زوجته حامل وهكذا فقد ولد محمد يتيماً ولما ولد أرسلت أمه لجده تبشره فأقبل مسروراً وسماه محمداً ولم يكن هذا الاسم شائعاً من قبل عند العرب وعندما ولد محمداً أرضعته أمه يومين كما أرضعته ثوبية جارية أبى لهب يومين أو ثلاثة ثم التمس له جده المراضع من البادية فقد كان من عادة العرب أن يلتمسوا المراضع لمواليدهم من البادية ابتعاداً لهم عن أمراض الحواضر لتقوى أجسامهم وتشتد أعصابهم ويتقنوا اللسان العربى فى مهدهم وكانوا يقولون أن المولود المربى فى المدن يكون كليل الذهن فاتر العزيمة فجاءت نسوة من بنى سعد بن بكر يطلبن أطفالاً يرضعنهم فكان هذا الرضيع المحمود من نصيب حليمة بنت أبى ذؤيب وزوجها الحارث بن عبد العزى وكان عام جدب شديد فى بنى سعد وعندما عادت به حليمة رأت من بركته ما حدثت عنه .
قال ابن إسحق : كانت حليمة تحدث : أنها خرجت من بلدها مع زوجها وابن لها صغير ترضعه ، فى نسوة من بنى سعد بن بكر ، تلتمس الرضعاء قالت : وذلك فى سنة شهباء لم تبق لنا شيئاً ، قالت : فخرجت على أتان لى قمراء ، معنا شارف لنا ، والله ما تبض بقطرة ، وما تنام ليلتنا أجمع من صبينا الذى معنا ، من بكائه من الجوع ، ما فى ثديى ما يغنيه ، وما فى شارفنا ما يغذيه ، ولكن كنا نرجو الغيث والفرج ، فخرجت على أتانى تلك فلقد أدمت بالركب حتى شق ذلك عليهم ضعفاً وعجفاً ، حتى قدمنا مكة نلتمس الرضعاء ، فما منا امرأة إلا وقد عرض عليها رسول الله (صلى الله عليه وسلم) فتأباه ، إذا قيل لها إنه يتيم ، وذلك أنا كنا نرجو المعروف من أبى الصبى ، فكنا نقول : يتيم ! وما عسى أن تصنع أمه وجده ! فكنا نكرهه لذلك فما بقيت امرأة قدمت معى لا أخذت رضيعاً غيرى ، فلما أجمعنا الانطلاق قلت لصاحبى : والله إنى لأكره أن أرجع من بين صواحبى ولم آخذ رضيعاً ، والله لأذهبن إلى ذلك اليتيم فلآخذنه . قال لا عليك أن تفعلى ، عسى الله أن يجعل لنا فيه بركة . قالت : فذهبت إليه ، فأخذته ، وما حملنى على أخذه إلا أنى لم أجد غيره ، قالت : فلما أخذته رجعت به إلى رحلى ، فلما وضعته فى حجرى أقبل عليه ثدياى بما شاء من لبن ، فشرب حتى روى ، وشرب معه أخوه حتى روى ، ثم ناما ، وما كانا ننام معه قبل ذلك ، وقام زوجى إلى شارفنا تلك ، فإذا هى حافل ، فحلب منها وشرب وشربت معه حتى انتهينا رياً وشعبتً ، فبتنا ليلة ، قالت : يقول صاحبى حين أصبحنا : تعلمى والله يا حليمة ! لقد أخذت نسمة مباركة ، قال : فقلت : والله إنى لأرجو ذلك ، قالت : ثم خرجنا وركبت أنا أتانى ، وحلمته عليها معى ، فوالله لقطعت بالركب مالا يقدر عليه شىء من حمرهم ، حتى إن صواحبى ليقلن لى : يا ابنة أبى ذؤيب ، ويحك ! اربعى علينا ، أليست هذه أتانك التى كنت خرجت عليها ؟ فأقول لهن : بلى والله إنها لهى هى ، فيقلن : والله إن لها شأناً قالت : ثم قدمنا منازلنا من بلاد بنى سعد وما أعلم أرضاً من أرض الله أجدب منها ، فكانت غنمى تروح على حين قدمنا به معنا شباعاً لبناً ، فنحلب ونشرب ، وما يحلب إنسان قطرة لبن ، ولا يجدها فى ضرع حتى كان الحاضرون من قومنا يقولون لرعيانهم : ويلكم اسرحوا حيث يسرح راعى بنت أبى ذؤيب ، فتروح أغنامهم جياعاً ما تبض بقطرة لبن ، وتروح غنمى شباعاً لبناً ، فلم نزل نتعرف من الله الزيادة والخير حتى مضت سنتاه وفصلته وكان يشب شباباً لا يشبه الغلمان ، فلم يبلغ سنتيه حتى كان غلاماً جفراً ، قالت : قدمنا به على أمه ونحن أحرص على مكثه فينا ، لما نرى من بركته ، فكلمنا أمه ، وقلت لها : لو تركت ابنى عندى حتى يغلظ ، فإنى أخشى عليه وباء مكة ، قلت : فلم نزل بها جتى ردته معنا .
حادثة شق الصدر :
وحصل له وهو بينهم حادثة مهمة وهى شق صدره وإخراج حظ الشيطان منه فأحدث ذلك عند حليمة خوفاً فردته إلى أمه وحدثتها قائلة : بينما هو وإخوته فى بهم لنا خل بيوتنا إذ أتى أخوه يعدو فقال لى ولأبيه : ذاك أخى القرشى قد أخذه رجلان عليهما ثياب بيض فأضجعاه فشقاً بطنه فهما يسوطانه فخرجت أنا وأبوه نحوه فوجدناه منتقاً لونه فالتزمته والتزمه أبوه فقلنا له : ما لك يا بنى ؟ فقال : جاءنى رجلان عليهما ثياب بيض فقال أحدهما لصاحبه : أهو هو ؟ قال : نعم . فأقبلاً بيتدرانى فأضجعانى فشقا بطنى فالتمسا فيه شيئاً فأخذاه وطرحاه ولا أدرى ما هو . ثم رداه كما كان ، قالت حليمة : فرجعناه معنا ، فقال أبوه : يا حليمة لقد خشيت أن يكون ابنى قد أصيب ، فانطلقى بنا نرده إلى أهله قبل أن يظهر به ما نتخوف عليه ، قالت : فاحتملناه فقدمنا به على أمه ، فقالت : ما أقدمك به ياظئر وقد كنت حريصة عليه وعلى مكثه عندك ؟! قالت : فقلت : قد بلغ الله بابنى ، وقضيت الذى على ، وتخفت الأحداث عليه ، فأديته إليك كما تحبين ، قالت : ما هذا شأنك فأصدقينى خبرك ، قالت : فلم تدعنى حتى أخبرتها ، قالت : أفتخوفت عليه الشيطان ؟! قالت : قلت : نعم ، قالت : كلا والله ما للشيطان عليه من سبيل ، وإنى لبنىً لشأناً ، أفلا أخبرك خبره ؟ قلت : بلى ، قالت : رأيت حين حملت به أنه خرج منى نور أضاء لى قصور بصرى من أرض الشام ، ثم حملت به فوالله ما رأيت من حمل قط كان أخف على ، ولا أيسر منه ، ووقع حين ولدته ، وإنه لواضع يديه بالأرض ، رافع رأسه إلى السماء ، دعيه عنك ، وانطلقى راشدة .
رواية الإمام مسلم فى صحيحه :
وقد ثبت فى صحيح مسلم من طريق حماد بن سلمة عن ثابت عن أنس ابن مالك " أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) أتاه جبريل (u) وهو يلعب مع الغلمان فأخذه فصرعه ، فشق عن قلبه فاستخرج القلب ، واستخرج منه علقة سوداء فقال : هذا حظ الشيطان ، ثم غسله فى طيست من ذهب بماء زمزم ، ثم لأمه ، ثم أعاده فى مكانه ، وجاء الغلمان يسعون إلىأمه – يعنى ظئره – فقالوا : إن محمداً قد قتل ، فاستقبلوه وهو منتقع اللون . قال أنس : وقد منت أرى أثر ذلك الخيط فى صدره " .
وفاة آمنة وكفالة عبد المطلب ووفاته وكفالة أبى طالب :
ثم إن أمه أخذته وتوجهت به إلى المدينة لزيارة أخوال أبيه بنى عدى ابن النجار وبينما هى عائدة أدركتها منيتها فى الطريق فماتت بالأبواء فحضنته أم أيمن وكفله جده عبد المطلب ورق له لم تعهد له فى ولده لما كان يظهر عليه مما يدل على أن له شأنانً عظيماً فى المستقبل وكان يكرمه غاية الإكرام . كان يوضع لعبد المطلب فراش فى ظل الكعبة ، فكان بنوه يجلسون حول فراشه ذلك حتى يخرج إليه ، ولا يجلس عليه أحد من بنيه إجلالاً له ، فكان رسول الله (صلى الله عليه وسلم) يأتى وهو غلام جفرحتى يجلس عليه ، فيأخذه أعمامه ليؤخروه عنه ، فيقول عبد المطلب إذا رأى ذلك منهم : دعوا ابنى هذا فو الله إن له لشأناً .
ولكن لم يلبث عبد المطلب أن توفى بعد ثمانى سنوات من عمر الرسول (صلى الله عليه وسلم) فكفله شقيق أبيه أبو طالب فكان له رحيماً وكان أبو طالب مقلاً من المال فبارك الله له فى قليله ، وكان الرسول (صلى الله عليه وسلم) فى مدة كفالة عمه مثال القناعة والبعد عن السفاسف التى يشتغل بها الأطفال عادة كما روت ذلك أم أيمن حاضنته فكان إذا أقبل وقت الأكل جاء الأولاد يختطفون وهو قانع بما سيسره الله له .
بحيرا الراهب : ولما بلغ رسول الله(صلى الله عليه وسلم) اثنتى عشرة سنة – قيل وشهرين وعشرة أيام – ارتحل أبو طالب تاجراً إلى الشام ، حتى وصل إلى بصرى – من الشام وكان فى هذه البلد راهب عرف ببحيرا فلما نزل الركب خرج إليهم ، وأكرمهم بالضيافة ، وكان لا يخرج إلهم قبل ذلك وعرف رسول الله (صلى الله عليه وسلم) بصفته ، فقال وهو آخذ بيده : هذا سيد العالمين ، هذا يبعثه الله رحمة للعاملين . فقال أبو طالب : وما عملك بذلك ؟ فقال : إنكم حين أشرقتم من لعقبة لم يبق حجر ولا شجر إلا وخر ساجداً ، ولا تسجد إلا لبنى ، وإنى أعرفه بخاتم النبوة فى أسفل غضروف كتفه مثل التفاحة ، وإنا نجده فى كتبنا ، وسأل أبا طالب أن يرده ، ولا يقدم به إلى الشام ، خوفاً عليه من اليهود ، فبعثه عمه مع بعض غلمانه إلى مكة .
أهم الأحداث التى شهدها الرسول (صلى الله عليه وسلم) فى فترة صباه وحتى بعثته :
عمل الرسول منذ صغره برعى الغنم وقال عن ذلك (صلى الله عليه وسلم) : " ما من نبى إلا وقد رعى الغنم قيل وأنت يا رسول الله ؟ قال وأنا " .
والحكمة فى رعى الأنبياء الغنم قبل النبوة أن يحصل لهم بالتمرن والتعود رعايتها القدرة على رعاية أممهم ، والقيام بشؤنهم ، إذ فى رعيها ما يحصل لهم الحلم ، والشفقة والرحمة ، ويعودهم من الصغر الصبر ، وطول البال ، والأناة والتريث ، ويربى فيهم ملكة الحرص على المصلحة ودفع المضرة ، وحسن التعاهد ، والرفق بمن تحت أيديهم ، والسهر على مصلحتهم .
هذا إلى ما فى رعى الغنم من قضاء نهاره ، وبعض ليله فى البادية ، فيتمتع بالسماء الصافية ، والشمس المشرقة ، والهواء النقى ، ويطيل التأمل والنظر فى السماء ، والأرض والجبال ، وبذلك يصير التأمل والتدبر ملكة من ملكات النفس .
حرب الفجار :
شهد الرسول (صلى الله عليه وسلم) هذه الحرب وعمره خمس عشرة عام وكانت بين قريش وحليفتها كنانة وبين قيس عيلان وسميت بحرب الفجار لانتهاك حرمات الحرم والأشهر الحرم وفيها انتصرت قريش فى نهايتها وكان الرسول ينبل على أعمامه أى يجهز لهم النبل للرمى .
حلف الفضول :
وعند رجوع قريش من حرب الفجار تداعوا لحلف الفضول فتم فى دار عبد الله بن جدعان التميمى أحد رؤساء قريش وكان المتحالفون بنى هاشم وبنى عبد المطلب وبنى أسد وبنى زهرة وبنى تيم بن مرة واستعرضوا الأسباب التى أدت إلى حرب الفجار وما نجم عنها من انتهاك الحرمات وسفك الدماء وإهدار الأموال فاتفقوا على اتخاذ موقف حازم حتى لا تتكرر حرب فجار من ذلك النوع مستقبلاً وقد حضر هذا الحلف رسول الله (صلى الله عليه وسلم) مع أعمامه وقال بعد أن شرفه الله بالرسالة : " لقد شهدت مع عمومتى حلف فى دار عبد الله بن جدعان ما أحب لى به حمر النعم (رد العدوان وإعادة الحق إلى نصابه) ولو دعيت به فى الإسلام لأجبت " . أما قرارات حلف الفضول فهى : أن لا يجدوا بمكة مظلوماً من أهلها أو من غيرهم من سائر الناس إلا قاموا معه وكانوا على من ظلمه حتى ترد إليه مظلمته.
وفى هذا الحلف قال الزبير بن عبد المطلب :
إن الفضول تعاقدوا ، وتحالفوا ألا يقيم ببطن مكة ظالم
أمر عليه تعاقدوا وتواثقوا فالجار والمعتر فيهم سالم
وهو يعتبر من مفاخر العرب وعرفانهم لحقوق الإنسان .
زواج (صلى الله عليه وسلم) بالسيدة خديجة رضى الله عنها :
وفى الخامسة والعشرين من عمره خرج تاجراً إلى الشام فى مال خديجة رضى الله عنها ، قال ابن إسحاق : كانت خديجة بنت خويلد امرأة تاجرة ذات شرف ومال ، تستأجر الرجال فى مالها ، وتضاربهم إياه بشىء تجعله لهم ، وكانت قريش قوماً تجاراً فلما بلغها عن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ما بلغها من صدق حديثه ، وعظم أمانته وكرم أخلاقه بعثت إليه ، فعرضت عليه أن يخرج فى مال لها إلى الشام تاجراً ، وتعطيه أفضل ما كانت تعطى غيره من التجار ، مع غلام لها يقال ميسرة ، فقبله رسول الله (صلى الله عليه وسلم) منها ، وخرج فى مالها ذلك ، وخرج معه غلامها ميسرة حتى قدم الشام .
ولما رجع إلى مكة ، ورأت خديجة فى مالها من الأمانة والبركة ما لم تر قبل هذا ، وأخبرها غلامها ميسرة بما رأى فيه (صلى الله عليه وسلم) من خلال عذبة ، وشمائل كريمة ، وفكر راجح ، ومنطق صادق ، ونهج أمين .
وجدت خديجة ضالتها المنشودة – وكان السادات والرؤساء يحرصون على زواجها ، فتأبى عليهم ذلك – فتحدثت بما فى نفسها إلى صديقتها نفيسة بنت منية ، وهذه ذهبت إليه (صلى الله عليه وسلم) تفاتحه أن يتزوج خديجة ، فرضى بذلك ، وكلم أعمامه ، فذهبوا إلى عم خديجة ، وخطبوها إليه ، وعلى إثر ذلك تم الزواج ، وحضر العقد بنو هاشم ورؤساء مضر ، وذلك بعد رجوعه من الشام بشهرين ، وأصدقها عشرين بكرة ، وكانت سنها إذ ذاك أربعين سنة ، وكانت يومئذ أفضل نساء قومها نسباً وثروة وعقلاً ، وهى أول امرأة تزوجها رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ، ولم يتزوج عليها غيرها حتى ماتت .
وكل أولاده (صلى الله عليه وسلم) منها سوى إبراهيم ، ولدت له أولاً القاسم – وبه كان يكنى – ثم زينب ورقية ، وأم كلثوم وفاطمة وعبد الله ، وكان عبد الله يلقب بالطيب والطاهر ، وقد مات بنوه كلهم فى صغرهم ، أما البنات فكلهن أدركن الإسلام فأسلمن وهاجرون ، إلا أنهن أدركتهن الوفاة فى حياته (صلى الله عليه وسلم) ، سوى فاطمة رضى الله عنها فقد تأخرت بعد ستة أشهر ، ثم لحقت به.
بناء الكعبة المشرفة :
فى هذه السن المبكرة كانت نزاهة النبى (صلى الله عليه وسلم) وطهارة ذمته قد عرفت وذاع أمرها بين سكان مكة لهم فلقبوه جميعاً بالأمين وهذا اللقب لم يقصد به أمانة يده فى شئون المال وحده بل هى الأمانة المطلقة فى كل الأمور لقد كان من أحسن قومه خلفاً وأصدقهم حديثاً وأعظمهم أمانة وأبعدهم عن الفحش والأخلاق التى تدنش الرجال وخيرهم جواراً وأعظمهم حلماً .
وعندما بلغ الرسول (صلى الله عليه وسلم) الخامسة والثلاثين قامت قريش بإعادة بناء الكعبة المشرفة وكانت قد تعرضت لسيل شديد أدى إلى تصدع جدرانها فقررت إعادة بنائها واتفقوا على أن لا يدخلوا فى بنائها إلا طيباً فلا يدخلوا فيها مهر بغى ولا بيع ربا ولا مظلمة أحد من الناس ، ولكنهم تهيبوا ذلك لمكانتها فى قلوبهم ، وخوفهم أن يصيبهم الأذى ، فقال لهم الوليد بن المغيرة : أتريدون بهدمها الإصلاح أم الإساءة ؟ قالوا : بل الإصلاح ، فقال : إن الله لا يهلك المصلحين ، وأخذ المعول ، وشرع يهدم ، وتربص الناس بتلك الليلة وقالوا : ننتظر فإن أصيب لم نهدم منها شيئاً ورددناها كما كانت ، وإن لم يصبه شىء هدمنا فقد رضى الله ما صنعنا ، فأصبح الوليد من ليلته عائداً إلى عمله ، فهدم ، وهدم الناس معه ، حتى إذا انتهوا إلى أساس إبراهيم (u) أفضوا إلى حجارة خضر آخذ بعضها ببعض ، فتركوا الأساس كما هو ، وشرعوا فى البناء ، وقد شارك رسول الله (صلى الله عليه وسلم) أعمامه فى البناء ، ونقل الحجارة ، وبعد اكتمال البناء أرادوا وضع الحجر الأسود فى مكانه ولكنهم اختلفوا فيمن يضعه ودام الخلاف بين قريش أربع ليال متتالية حتى كاد يتحول إلى حروب فقرروا أن يحكِّموا فيما شجر بينهم أول من يدخل عليهم من باب المسجد فدخل الرسول (صلى الله عليه وسلم) فصاحوا هذا الأمين رضيناه فأخذ رداءه ووضع فيه بيده الحجر الأسود وقال : لتأخذ كل قبيلة بطرف من الثوب فرفعوه حتى انتهوا إلى موضعه فأخذه الرسول ووضعه مكانه وبذلك حسم الخلاف وقضى النبى صلى الله عليه وسلم) بحكمته وسداد رأيه على مشكلة كادت تهدد أمن قريش .
مراحل الدعوة :
لقد حفظ الله نبيه فى صغره من كل أعمال الجاهلية التى جاء شرعه الشريف بضدها وبغضت إليه الأوثان بغضاً شديداً حتى ما كان يحضره لها احتفالاً أو عيداً مما يقول به عبادها وقال (صلى الله عليه وسلم) : " لما نشأت بغضت إلى الأوثان وبغض إلى الشعر ولم اهتم بشىء مما كانت الجاهلية تفعله إلا مرتين كل ذلك يحول الله بينى وبين ما أريد من ذلك . ثم ما هممت بسوء بعدهما حتى أكرمنى الله برسالته . قلت ليلة لغلام كان يرعى معى لو أبصرت فى غنمى حتى أدخل فأسمر كما يسمر الشباب ، فخرجت حتى جئت أول دار من مكة أسمع عزفاً بالدفوف والمزامير لعرس بعضهم فجلست لذلك فضرب الله على أذنى نمت فما أيقظنى إلا مس الشمس ولم أقض شيئاً ثم عرانى مرة أخرى مثل ذلك "
وكان (صلى الله عليه وسلم) لا يأكل ما ذبح على النصب (وهى حجارة تنصب وتصب عليها دماء الذبائح وتعبد) وحرم شرب الخمر على نفسه مع شيوعه فى قومه شيوعاً عظيماً ، وذلك كله من الصفات التى يحلى الله بها أنبياءه ليكونوا على تمام الاستعداد لتلقى وحيه . فهم معصومون من الأدناس قبل النوبة وبعدها. أما قبل النبوة فليتأهلوا للأمر العظيم الذى سيسند إليهم ، وأما بعدها فليكونوا قدوة لأممهم .
بدء الوحى :
لما بلغ (صلى الله عليه وسلم) أربعون سنة أرسله الله للعالمين بشيراً ونذيراً ليخرجهم من ظلمات الجهالة والشرك إلى نور الإيمان وكان فى 17 رمضان سنة 13 قبل الهجرة وذلك يوافق سنة 610م وأول ما بدئ به الوحى الرؤيا الصادقة فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح وذلك لما جرت به إعادة الله فى خلقه من التدريج فى الأمور كلها حتى تصل إلى درجة الكمال . ثم حبب إليه (صلى الله عليه وسلم) الخلاء ليبتعد عن ظلمات هذا العالم وينقطع عن الخلق إلى الله فإن فى العزلة صفاء السريرة . وكان يخلو بغار حراء فيتعبد فيه الليالى ذوات العدد ، فتارة عشراً ، وتارة أكثر إلى شهر . وكانت عبادته على دين أبيه إبراهيم (u) ويأخذ لذلك زاده ، فإذا فرغ رجع إلى خديجة فيتزود لمثلها حتى جاءه الحق وهو فى غار حراء : فبينما هو قائم فى بعض الأيام على الجبل إذ ظهر له شخص وقال له : أبشر يا محمد أنا جبريل وأنت رسول الله إلى هذه الأمة ، ثم قال لع : اقرأ ، قال ما أنا بقارئ ، فإنه (صلى الله عليه وسلم) أمى لم يتعلم القراءة قبلاً ، فأخذه فغطه بالنمط الذى كان ينام عليه حتى بلغ منه الجهد ثم أرسله ، فقال : ما أنا بقارئ ، فأخذه فغطه ثانية ثم أرسله ، فقال : اقرأ ، قال : ما أنا بقارئ ، فأخذه فغطه ثالثة ، ثم أرسله ، فقال : ) اقْرأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ خَلَقَ الإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ عَلَّمَ الإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ( [العلق : 1-5] .
وكان ذلك فى شهر رمضان حسبما قال عز وجل :
) شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ القُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الهُدَى وَالْفُرْقَانِ( [البقرة : 185] .
وكان ذلك فى ليلة القدر كما قال عز شأنه :
) إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ القَدْرِ( [القدر : 1] .
فرجع (صلى الله عليه وسلم) يرجف فؤاده مما ألم به من الروع الذى استلزمته مقابلة الملك لأول مرة فدخل على خديجة زوجه ، فقال زملونى زملونى (أى لفونى فى ثوبى) لتزول عنه هذه القشعريرة ، فزملوه حتى ذهب عنه الورع فقال لخديجة وأخبرها الخبر : لقد خشيت على نفسى ؛ لأن الملك غطه حتى كاد يموت . ولم يكن (صلى الله عليه وسلم) علم قبل ذلك بجبريل ولا بشكله فقالت : كلا ! والله ما يخزيك الله أبداً إنك لتصل الرحم وتحمل الكلأ وتكسب المعدوم وتقرى الضيف وتعين على نوائب الحق فلا يسلط الله عليك الشياطين والأوهام ممن لهم علم بحال الرسل ممن أطلعوا على كتب الأقدمين فانطلقت به حتى أتت ورقة بن نوفل ابن عم خديجة ، وكان قد تنصر فى الجاهلية وكان يكتب الكتاب العبرانى فيكتب من الإنجيل بالعبرانية ما شاء الله أن يكتب وكان شيخاً كبيراً قد عمى ، فقالت له خديجة : يا ابن العم اسمع من ابن أخيك ، فقال يا ابن أخى ماذا ترى ؟ فأخبره (صلى الله عليه وسلم) خبر ما رأى ، فقال له ورقة ، هذا الناموس الذى أنزل الله على موسى ، لأنه يعرف أن رسول الله إلى أنبيائه هو جبريل ثم قال : يا ليتنى فيها جذعاً (شاباً جلداً) إذ يخرجك قومك من بلادك التى نشأت بها لمعاداتهم إياك وكراهيتهم لك حينما تطالبهم بتغيير اعتقادات وجدوا عليها آبائهم ، فاستغرب (صلى الله عليه وسلم) ما نسب لقومه مع ما يعلمه من حبهم له لاتصافه بمكارم الأخلاق وصدق القول حتى سموه الأمين وقال أو مخرجى هم ؟ قال : لم يأت رجل قط بمثل ما جئت به إلا عودى . وقد نطق بذلك القرآن الكريم ، قال تعالى : ) وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُم مِّنْ أَرْضِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا( [إبراهيم : 13] .
ولتمام تصديق ورقة برسالة الرسول الأكرم (صلى الله عليه وسلم) قال : وإن يدركنى يومك أنصرك نصراً مؤزراً (معضداً) ثم لم يبلث ورقة أن توفى .
فترة الوحى :
وفترة الوحى مدة لم يتفق عليها المؤرخون ، وأرجح أقوالهم فيها أربعون يوماً ، ليشتد شوق الرسول (صلى الله عليه وسلم) للوحى . حتى أراد الله أن يظهر للوجود نور الدين فعاد إليه الوحى .
فبينما هو يمشى إذ سمع صوتاً فرفع إليه بصره فإذا الملك الذى جاءه بحراء جالس بين السماء والأرض فرعب منه لتذكر ما فعله فى المرة الأولى فرجع وقال : دثرونى دثرونى ، فأنزل الله تعالى عليه : )يَا أَيُّهَا المُدَّثِّرُ قُمْ فَأَنذِرْ( حذر الناس من عذاب الله إن لم يرجعوا عن غيهم وما كان يعبد آباؤهم )وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ( خصه بالتعظيم ولا تشرك معه فى ذلك غير )وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ( لتكون مستعداً للوقوف بين يدى الله إذ لا يليق بالمؤمن أن يكون مستقذراً نجساً ) وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ( إى اهجر أسباب الرجز وهو العذاب بأن تطيع الله وتنفذ أمره )وَلاَ تَمْنُن تَسْتَكْثِرُ( ولا تهب أحداً هبة وأنت تطمع أن تستعيض من الموهوب أكثر مما وهبت ، فهذا ليس من شأن الكرام ، )وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ( على ما سيلحقك من أذى قومك حينما تدعوهم إلى الله.
الدعوة سراً :
وهكذا فقد تلقى محمد (صلى الله عليه وسلم) أوامر ربه بتبليغ رسالته للناس كافة . ولكنه أدرك أن دعوته سوف تواجه معارضة شديدة من جانب قريش ولذا بدأ بأقرب الناس إليه فآمنت به السيدة خديجة وابن عمه على بن أبى طالب الذى كان وقتذاك فى العاشرة من عمره وكان فى بيت الرسول حيث ضمه الرسول إلى أسرته ليخفف عن عمه أبى طالب بعض أعبائه وليرد له الجميل الذى قدمه له فى طفولته وكان النبى (صلى الله عليه وسلم) يصلى ذات يوم مع زوجته خديجة فرآهما علىّ فسأل النبى (صلى الله عليه وسلم) لن تسجدان فأجابه النبى لله ودعاه إلى الإسلام فطلب منه أن يعطيه فرصة ليأخذ رأى والده ثم عاد وأعلن إسلامه دون أن يشاور أحد ولهذا يقال لعلى بن أبى طالب كرم الله وجهه لأنه لم يسجد لصنم قط ثم أسلم بعد ذلك زيد بن حارثة مولى الرسول (صلى الله عليه وسلم) وبعد بيت الرسول أسلم صديقه أبى بكر بن أبى قحافة وهو الذى أسلم على يديه عثمان بن عفان والزبير بن العوام وسعد بن أبى وقاص وعبد الرحمن بن عوف وطلحة بن عبيد الله ثم تلاهم أبى عبيدة بن الجراح والأرقم بن أبى الأرقم الذى اتخذ الرسول من داره مركزاً سرياً للدعوة إلى الإسلام وقد أسلم فيها كثير من العرب ، وكانت تقع عند الصفا .
وفى خلال السنوات الثلاثة الأول أسلم ما لا يقل عن أربعين شخصاً وكانت الآيات المكية التى نزلت آيات قصيرة تصف فى أغلبها الجنة والنار وتدعو إلى التوحيد ونبذ عبادة الأصنام وقد فرضت الصلاة فى أول الإسلام ركعتين بالغداة وركعتين بالعشى ، قال تعالى : )وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِيِّ وَالإِبْكَارِ( [غافر : 55] .
الجهر بالدعوة وموقف قريش منها :
ظل الرسول (صلى الله عليه وسلم) ثلاث سنين يدعو إلى الإسلام سراً كل من يثق فيه ويطمئن إلى استعداده لقبول الإسلام ثم أوحى الله تعالى إلى نبيه بإظهار دينه وقد بدأ الرسول (صلى الله عليه وسلم) بعشيرته الأقربين ليدعوهم إلى الإسلام طبقاً لأمر الله سبحانه وتعالى : )وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ( [الشعراء : 214] . فدعا بنى عبد المطلب ليجتمعوا به فلما حضروا قال لهم إنى ما أعلم شاباً جاء قومه بأفضل مما جئتم به ، فلقد جئتكم بخير الدنيا والآخرة وبلغهم دعوته فأعرضوا عنه.
بعد ذلك نزل قول الله تعالى : ) فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ المُشْرِكِينَ( [الحجر : 94] فانطلق الرسول (صلى الله عليه وسلم) يدعو للإسلام جهراً كل طوائف الناس يدعو السادة والعبيد ، الأقربين والغرباء فصعد النبى (صلى الله عليه وسلم) على ربوة الصفا وجعل ينادى أهل مكة جميعاً قائلاً : يا بنى عبد المطلب يا بنى عبد مناف يا بنى زهرة يا بنى تيم يا بنى مخزوم يا بنى أسد " فاجتمعوا عليه فقال لهم : " أرأيتم لو أننى أخبرتكم أن خيلاً خلف هذا الجبل تريد أن تغير عليكم أكنتم مصدقى ؟ قالوا نعم ، ما جربنا عليك كذباً قط ، قال : فأنى نذير لكم ورسول الله إليكم خاصة وإلى الناس كافة بين يدى عذاب شديد وإن الله أمرنى أن أنذر عشيرتى الأقربين وأنى لا أملك لكم من الدنيا منفعة ولا من الآخرة نصيباً إلا أن تقولوا لا إله إلا الله " عندئذ نهض عمه أبو لهب وصاح ساخراً وقال له تباً لك ألهذا جمعتنا ؟ انفض الجميع من حول الرسول (صلى الله عليه وسلم) دون أن يصدقوه ونزل قوله تعالى : )تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ سَيَصْلَى نَاراً ذَاتَ لَهَبٍ وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الحَطَبِ فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِّن مَّسَدٍ( [المسد : 1-5] .
مقاومة قريش للدعوة الإسلامية :
أبدت قريش استياءها من جهر النبى (صلى الله عليه وسلم) بالدعوة إلى وحدانية الله خشية القضاء على عبادة الأصنام التى كان وجودها مصدراً لثرائها كما أن سادة قريش الذين يمثلون طبقة الأسياد لم يكن هيناً عليهم أن يقبلوا ديناً يسوى بين أغنيائهم وفقرائهم وبين ساداتهم وعبيدهم بل هو دين يقضى على الفوارق بين الطبقات فضلاً عن أن تقليد الآباء وإتباع سلوكهم فى العبادات والمعاملات كان شيئاً راسخاً عند العرب ولذلك كرهوا أن يخرجوا من دين آبائهم وأن يتبعوا ديناً جديداً من أجل هذا عمدت قريش إلى معاداته ومناهضة دعوته التى اعتقدوا أن انتشارها يؤدى إلى فقدان مكة لمركزها الدينى وإذا فقدت مكة ومركزها الدينى بين القبائل العربية ينصرف الناس عن الحج بها تكون خسارة القريشيين عظيمة . ولهذا حاولت قريش وقف دعوة الرسول (صلى الله عليه وسلم) بأساليب مختلفة بدأها باتهام الرسول بالجنون والكهانة والسحر والكذب . وقام شعرائهم بهجاءه والسخرية منه وطالبوه بالمعجزات ليثبت بها رسالته كمعجزات موسى وعيسى فما باله لا يحول الصفا والمروة إلى ذهب ولا ينزل عليه الكتاب الذى يتحدث عنه مخطوطاً من السماء ولم لا يبدو لهم جبريل الذى يتحدث عنه محمد إلى آخره ، وقد ذكر الله سبحانه وتعالى هذه التعنتات والرد عليها فى قوله سبحانه : )وَقَالُوا لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الأَرْضِ يَنْبُوعاً أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِّن نَّخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الأَنْهَارَ خِلالَهَا تَفْجِيراً أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفاً أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ قَبِيلاً أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِّن زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقَى فِي السَّمَاءِ وَلَن نُّؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَاباً نَّقْرَؤُهُ قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنتُ إِلاَّ بَشَراً رَّسُولاً وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَن يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الهُدَى إِلاَّ أَن قَالُوا أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَراً رَّسُولاً قُل لَّوْ كَانَ فِي الأَرْضِ مَلائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِم مِّنَ السَّمَاءِ مَلَكاً رَّسُولاً قُلْ كَفَى بِاللَّّهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيراً بَصِيراً( [الإسراء : 90-96] .
وقال تعالى : )قُل لاَّ أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلاَ ضَراًّ إِلاَّ مَا شَاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الغَيْبَ لاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلاَّ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ( [الأعراف : 188] ولهذا قام محمد وعاب آلهتهم وسفه عقولهم .
لقى أبو جهل رسول (صلى الله عليه وسلم) فقال له : " والله يا محمد لتتركن سب آلهتنا أو لنسبن إلهك ، الذى تعبد ، فأنزل الله تعالى على نبيه قوله : )وَلاَ تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ( [الأنعام : 108] .
فكف رسول الله (صلى الله عليه وسلم) عن سب آلهتهم ، وجعل يدعوهم إلى الله تعالى .
ولهذا لجأت قريش إلى عمه أبى طالب سيد بنى هاشم وكان عل دين قريش إلا أنه أخذ على عاتقه حماية الرسول منهم فمضوا إليه وقالوا له : " يا أبا طالب أن ابن أخيك قد سب آلهتنا وعاب ديننا وسفه أحلامنا وضلل آباءنا فإما أن تكفه عنا وإما أن تخلى بيننا وبينه فإنك على مثل ما نحن عليه من خلافه فسنكفيكه " فردهم أبو طالب رداً جميلاً فانصرفوا عنه ولكن الرسول (صلى الله عليه وسلم) مضى على ما هو عليه يدعو إلى الحق ويهاجم الأوثان والعابدين لها فاشتد الأمر على فريش فمشوا إلى أبى طالب مرة أخرى وقالوا له إن سنا وشرفاً ومنزلة منا وإنا قد طلبنا منك أن تنهى ابن أخيك فلم تنهه عنا وإنا لا نصبر على هذا من شتم آباءنا وتسفيه عقولنا وعيب آلهتنا – فإنهم كانوا إذا احتجوا بالتقليد لآبائهم عاب الرسول عليهم ووصف آبائهم بعدم العقل وعدم الهداية – فقالوا لأبى طالب : " إما أن تكفه أو ننازله وإياك فى ذلك حتى يهلك أحد الفريقين ، ثم انصرفوا فعظم على أبى طالب فراق قومه ولم يطب نفساً بخذلان ابن أخيه فقال له : يا ابن أخى إن القوم جاؤونى فقالوا لى كذا فأبق على نفسك ولا تحملنى من الأمر ما لا أطيق ، فظن الرسول أن عمه خاذله فقال : والله يا عمى لو وضعوا الشمس فى يمينى والقمر فى يسارى على أن أترك هذا الأمر ما فعلت حتى يظهره الله أو أهلك دونه ، ثم بكى وولى ، فقال أبو طالب : أقبل يا ابنى أخى ، فأقبل عليه فقال اذهب فقل ما أحببت والله لا أسلمك .
ثم ذهبوا مرة ثالثة إلى أبى طالب ومعهم عمارة بن الوليد بن المغير وكان أنهد فتى فى قريش وأجملهم وطلبوا إليه أن يتخذه ولداً ويسلمهم محمداً فأبى وقال لهم : " تدفعون إلىّ ابنكم أغذوه لكم وأدفع إليك ابنى تقتلونه إن هذا والله لا يكون أبداً .
ورأى رسول الله (صلى الله عليه وسلم) من المشركين كثير من الأذى خصوصاً إذا ذهب إلى الصلاة عند البيت ، وكان من أعظم أذى لرسول الله جماعة سموا لكثرة أذاهم بالمستهزئين (فأولهم) وأشدهم أبو جهل عمرو بن هشام ، قال يوماً " يا معشر قريش إن محمداً قد أتى ما ترون من عيب دينكم وشتم آلهتكم وتسفيه أحلاكم وسب آبائكم إن أعاهد الله لأجلسن له غداً بحجر لا أطيق حمله ، فإذا سجد فى صلاته رضخت به رأسه فأسلمونى عند ذلك أو أمنعونى فليصنع به بعد ذلك بنو عبد مناف ما بدا لهم ، فلما أصبح أخذ حجراً كما وصف ثم جلس لرسول الله ينتظره ، وغدا عليه السلام كما كان يغدو إلى صلاته وقريش فى أنديتهم ينتظرون ما أبو جهل فاعل ، فلما سجد (صلى الله عليه وسلم) احتمل أبو جهل الحجر وأقبل نحوه حتى إذا دنا منه أصبح منهزماً منتقعاً لونه من الفزع ورمى حجره من يده فقام إليه رجال من قريش فقالوا : ما لك يا أبا الحكم ؟ قال : قمت إليه لأفعل ما قلت لكم فلما دنوت منه عرض لى فحل من الإبل والله ما رأيت مثله قط همّ بى أن يأكلنى ! فلما ذكر ذلك لرسول الله (صلى الله عليه وسلم) قال ذلك جبريل ولو دنا لأخذه ، وكان أبو جهل كثيراً ما ينهى الرسول عن صلاته فى البيت فقال له مرة بعد أن رآه يصلى ألم أنهك عن هذا ؟ فأغلظ له رسول الله القول وهدده فقال أتهددنى وأنا أكثر أهل الوادى نادياً فأنزل الله تهديداً له فى آخر سورة اقرأ : )كَلاَّ لَئِن لَّمْ يَنتَهِ لَنَسْفَعاً بِالنَّاصِيَةِ نَاصِيَةٍ كَاذِبَةٍ خَاطِئَةٍ فَلْيَدْعُ نَادِيَهُ سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ كَلاَّ لاَ تُطِعْهُ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ( [العلق : 15 - 19] . ومن أذيته للرسول ما حكاه عبد الله بن مسعود قال كنا مع رسول الله (صلى الله عليه وسلم) فى المسجد وهو يصلى فقال أبو جهل : ألا رجل يقوم إلى فرث جزور بنى فلان فيلقيه على محمد وهو ساجد . فقام عقبة بن أبى معيط وجاء بذبك لبفؤث فألقاه على النبى (صلى الله عليه وسلم) وهو ساجد فلم يقدر أحد من المسلمين الذين كانوا بالمسجد على إلقائه عنه لضعفهم عن مقاومة عدوهم ، ولم يزل الرسول (صلى الله عليه وسلم) ساجداً حتى جاءت فاطمة ابنته فأخذت القذر ورمته ، فلما قام دعا على من صنع هذا الصنع القبيح فقال : اللهم عليك بالملأ من قريش وسمى أقواماً ، قال ابن مسعود فرأيتهم قتلوا يوم بدر .
(ومن جماعة المستهزئين) أبو لهب بن عبد المطلب عم رسول الله (صلى الله عليه وسلم) كان أشد عليه من الأباعد فكان يرمى القذر على بابه لأنه جاراً له فكان الرسول (صلى الله عليه وسلم) يطرحه ويقول : يا بنى عبد مناف أى جوار هذا ؟!
وكان أبو لهب زوج ولديه عتبة وعتيبة ببنتى رسول الله (صلى الله عليه وسلم) رقية وأم كلثوم قبل البعثة ، فلما كانت البعثة أمرهما بتطليقهما بعنف وشدة ، حتى طلقاهما .
ولما مات عبد الله – الابن الثانى لرسول الله (صلى الله عليه وسلم) – استبشر أبو لهب وهرول إلى رفقائه يبشرهم بأن محمد صار أبتر .
فجاءه قوله تعالى : ) إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الأَبْتَرُ( [الكوثر : 3] .
وكانت امرأة أبى لهب – أم جميل بنت حرب بن أمية أخت أبى سفيان – لا تقل عن زوجها فى عداوة النبى (صلى الله عليه وس�
ساحة النقاش