تتحدد عناصر هذه المحاضرة في المحاور التالية:
أولا: مقدمة تبين مكانة العلم وأهمية السعي لطلبه.
ثانيا: مفهوم العلم ووظائفه والعلاقة بينه وبين الثقافة.
ثالثا: كيف يمكن أن يساهم الإبداع في خلق علوم ابتكارية أو مفيدة لنا وللكون ؟
رابعا: العلاقة بين العلم والمجتمع.
خامسا: دور العملية التعليمية والتربوية في تحقيق النهضة الشاملة والرقي المطلوب لمجتمعاتنا وأوطاننا:
سادسا: شروط نجاح المؤسسات التربوية في نشر العلم .
سابعا: خاتمة الموضوع.
فإلى المحاضرة:
أولا: مقدمة تبين مكانة العلم وأهمية السعي لطلبه.
الحمد لله رفع شأن العلم فأقسم بالقلم، وامتن على الإنسان فعلمه ما لم يك يعلم، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك الذي بعث رسوله الكريم علية أفضل الصلاة والتسليم لهداية هذه الأمة، وإنقاذها من ظلمة الجهل المحدق بها والوثنية التي كانت سائدة في تلك الحقبة الزمنية .
وقد كانت الآية الكريمة " أقرأ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خلَقَ" دليلا واضحا على أهمية طلب العلم ، وفي أية كريمة أخرى حثنا الله تعالى على طلب العلم ، فقال في محكم كتابه العزيز " قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الألباب" لتمييز الفرق بين الذين أناروا عقولهم بالعلم والمعرفة ، وبين الذي بقوا بجهلهم ولم يسعوا إلى طلب العلم ، فالكثير من أبناء هذه الأمة سخروا جهودهم وأموالهم من أجل طلب العلم ، ليكونوا في منزلة المتعلمين ليميزهم ذلك العلم عن غيرهم ، وفي الآية الكريمة التالية (إنما يخشى الله من عباده العلماء ) ثناء من الله سبحانه على العلماء وبيان لعظمة منزلتهم وعظيم فضلهم على الناس ، المتمثل بقيامهم بدور عظيم لإصلاح الأمة ، وإنارة عقولها بالعلم والمعرفة ، وتبصيرهم بما لهم وما عليهم من حقوق ووجبات تجاه أنفسهم وغيرهم ، وتفهيمهم كافة أمور دينهم ، فالإنسان المتعلم أفضل من الجاهل ، فنجد أحواله منظمة في كافة جوانب حياته ، حتى في شخصيته وأسلوب تعامله مع الآخرين يكون أفضل من الفرد غير المتعلم .
وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله المعلِّم الأول، القائل:"مَنْ سَلَكَ طَرِيقًا يَبْتَغِي فِيهِ عِلْمًا سَلَكَ اللَّهُ بِهِ طَرِيقًا إِلَى الْجَنَّةِ، وَإِنَّ الْمَلَائِكَةَ لَتَضَعُ أَجْنِحَتَهَا رِضَاءً لِطَالِبِ الْعِلْمِ، وَإِنَّ الْعَالِمَ لَيَسْتَغْفِرُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ، حَتَّى الْحِيتَانُ فِي الْمَاءِ، وَفَضْلُ الْعَالِمِ عَلَى الْعَابِدِ كَفَضْلِ الْقَمَرِ عَلَى سَائِرِ الْكَوَاكِبِ، إِنَّ الْعُلَمَاءَ وَرَثَةُ الْأَنْبِيَاءِ، وإِنَّ الْأَنْبِيَاءَ لَمْ يُوَرِّثُوا دِينَارًا وَلَا دِرْهَمًا إِنَّمَا وَرَّثُوا الْعِلْمَ، فَمَنْ أَخَذَ بِهِ أَخَذَ بِحَظٍّ وَافِرٍ"
كما حثنا صلى الله عليه وسلم على طلب العلم في الحديث الشريف " طلب العلم فريضة على كل مسلم ومسلمة"ولم يقتصر ذلك للرجل فقط بل إن المرأة المسلمة واجب عليه أن تسعى لإنارة عقلها بالعلم والمعرفة لتكون جديرة في كافة شؤون حياتها ، وقادرة على أن تساير أخيها الرجل في مختلف الأعمال ، وسند له في تدبير شئون بيتها.
كما عبر العلماء والأدباء عن مكانة العلم فقالوا:
العِلــمُ أشْرَفُ مَطْلوبٍ وَطالِبُهُ *** للهِ أكْرَمُ مَن يَمْشِي عَلى قَدَمِ
يا طالِبَ العِلمِ لا تَبْغِي به بَدَلاً *** فقَدْ ظَفَرْتَ ورَبِّ اللَّوْحِ والْقَلَمِ
وقَدِّسِ العِلمَ واعْرِفْ قَدْرَ حُرْمَتِهِ *** فِي القَوْلِ والفِعْلِ، والآدابَ فَالْتَزِمِ
واجْهَدْ بِعَزْمٍ قَوِيٍّ لا انْثِنَاءَ لَهُ *** لَوْ يَعْلَمُ الْمَرْءُ قَدْرَ العِلْمِ لَمْ يَنَمِ
والنيةَ اجعلْ لوجهِ اللهِ خالصةً *** إنَّ البناءَ بدونِ الأصلِ لَمْ يَقُمِ
أخوتي الكرام: كلنا يعلم أن العلم أساس هويتنا البشرية وحضارتنا ,,
إنه الغريزة التي تُولد معنا ,, والهاجز الذي يحركنا ,, والمُنطلق لكل مساعينا في الحياة ,, شِئنا أم أبيْنا ..
ثانيا: مفهوم العلم ووظائفه والعلاقة بينه وبين الثقافة.
لو بحثت في مفهوم العلم ,, لرأينا أنه لم يتفق أي أحد في تعريفه , وفي الوقت ذاته لم يتعارضوا فيه,, لأن مفهوم العلم يختلف من مكان لآخر ومن زمان لآخر ومن أشخاص لآخرين ,, وعموماً يمكن أن الخص لكم ما يعنيه العلم من جميع المنطلقات ,, فكلمة العلم لغوياً تطلق على إدراك الأشياء بحقائقها وخفاياها,, وهو أيضاً اليقين والمعرفة..
واصطلاحاً يعني : مجموعة حقائق ووقائع أو فلسفات ونظريات ,, وهو أيضاً نسق بين المعرفية العلمية المتراكمة ومجموعة مبادئ وقواعد تشرح بعض الوقائع والظواهر الموجودة في حياتنا علي سبيل المثال الجاذبية الأرضية ، انتقال الضوء ، السرعة ، جسم الإنسان وغير ذلك.....
وللعلم وظائف كثيرة ,, أهمها :
1. الاكتشاف .
2. التنبؤ العلمي
3. وأخيرا الضبط والتحكم .
فالعلم هو المعرفة التي تؤخذ عن طريق الملاحظة والتجربة والاستنتاج , مثل علم الطبيعة وعلم الكيمياء وسائر العلوم التجريبية والغير تجريبية.
أما الثقافة فهي المعرفة التي تؤخذ عن طريق الإخبار والاستماع والاستنباط , مثل التاريخ واللغة والفلسفة وسائر المعارف غير التجريبية.
وهناك أمثلة على معارف غير تجريبية تلحق بالعلم - وان كانت تدخل في الثقافة- مثل الهندسة والصناعات فإنها وان كانت من الثقافة ولكنها تعتبر من مضمون العلوم البشرية من حيث كونها عامة لجميع الناس ولا تختص بأمة من الأمم.
والفرق بين العلم والثقافة أن العلم لجميع الأمم ولا تختص به أُمة دون أخرى ,أما الثقافة فقد تكون خاصة للأمة التي نتجت عنها أو تكون من خصوصياتها ومميزاتها.
يقول ابن خلدون في إحدى مقدمات كتبه " العلم صنفان : صنف طبيعي للإنسان أن يهتدي إليه بفكره , وصنف نقلي يأخذه عمن وضعه , والأول هو من العلوم الحكمية و الفلسفية وهي التي يمكن أن يقف عليها الإنسان بطبيعة فكره , ويهتدي إليها بمداركه البشرية إلى موضوعاتها ومسائلها وبراهينها ووجوه تعليمها حتى يقف نظره وبحثه على الصواب من الخطأ فيها".
وكلنا نتفق أن العلم هو من كسا الحضارة البشرية والثقافة الإنسانية ميزتها ,,
فبالعلم تميزت حضارات ,, وعلت به حضارات أخرى ,, وبسببه هبطت حضارات أخرى أو اختفت ...
كما أنه لا يمكن أن ينكر إنسان أنه العامل الأساسي – إذا لم يكن الوحيد – في بناء البشرية ,, لذلك فإن العنوان الأساسي في كتابات ثقافات البشر هو العلم ...
وبالرغم من ذلك ,, فإنه ممكن أن يكون سلاح ذو حدين ,, لأن الاستخدام الخطأ له قد يؤدي إلى دمار الأمم البشرية أو تهديد توازن الكون والحياة والاهم هويتنا الإنسانية..
يقول ألبرت كامو Albert Camus: " إذا كان القرن الـ17 قرن الرياضيات , والقرن الـ18 قرن الفيزياء , والقرن الـ19 قرن البيولوجي أو الأحياء فإن القرن العشرين هو قرن علم الدمار والخوف "!!
وقد يبدو ما قاله ألبرت كامو Albert Camus تشاؤمياً رغم ما يصاحبه من صحة في المضمون ,, وهذه هي ازدواجية مسيرة العلم,, خاصة وأنه قد تخلل كيان البشرية لدرجة أنه قد يتأثر بالمادية والتحكم بضمائر الناس وقلوبها ,, أي أن له القدرة على تغيير الأشياء والأحياء كعلم الانقسام النووي و نظرية الاحتباس الحراري كمثال لتأثر الثقافة البشرية بالعلم ,, فقد كان العلم هو السلاح الأهم في الحروب العالمية والحروب الأخرى .. وكان حلم الإنسان أن يتعلم كل شيء عن هذا الكون حتى يمتلكه ,, حتى غدى العلم هو من يملك البشرية ,,
يقول اينشتاين :"لا أعرف كيف ستكون الحرب العالمية الثالثة، ولكن أعرف أن الحرب العالمية الرابعة سيشهدها قليل من الناس وستكون بالحجارة والعصي"
ومن يدري ربما كان القرن 20 هو قرن الخوف لكن سيكون القرن 21 قرن الثقافات البنّاءة والآمال الواعدة.
إذن وكما ذكر سابقاً , فقد تعرفنا- إلى حد ما - مفهوم العلم والعلوم ,,
ثالثا: كيف يمكن أن يساهم الإبداع في خلق علوم ابتكارية أو مفيدة لنا وللكون ؟
وقبل ذلك ,, ما هو الإبداع ؟ الإبداع : هو فن الابتكار والتعبير ,, وهو ما يطلق على كل ما هو مختلق من أفكار أو نظريات أو حتى التطبيقيات ...الإبداع العلمي هو عملية تشكل متناغم لنوعية خاصة ومتقدمة من الكيان البشري وهي ما يكون بمنبع الدافع الإنساني للابتكار والتحديث في العلوم المختلفة ,,
والإبداع العلمي هو الأساس في تكوين شخصية ذو موقف رافض أو ناقد على الدوام والتي لا تألوا عن البحث في كل جديد وحاضر لتغيير مسير البشرية للأفضل أو الأسوأ – على السواء – والذي يرفض التقيد بما هو مُسلَّمٌ في أمره كي يبحث عن الحقيقة المختبئة في الماورائيات..
إذن من هو العالم أو الشخص الذي قد نطلق عليه العالم المبدع ؟
العالم المبدع هو إنسان هو من يجمع بين العلوم الكونية والإبداع . هو العالم الذي وصل إلى حالة إنسانية كحالة التدين ,, تجعل صاحبها يسعى للبحث عن الجديد والبديل في العلوم . كما يملك الرؤية الواضحة والثاقبة للكون وحقائقه وظواهره..
من الأمثلة التي عرفت بالإبداع في الابتكار ابن سينا والفخر الرازي وأحمد زويل.. وكذلك أينشتاين و أديسون وغيرهم الكثيرون.
رابعا: العلاقة بين العلم والمجتمع.
هناك علاقة وثيقة بين العلم والمجتمع فكلاهما مكملا للثاني ، فالمجتمع لا يقوى ولا يتطور إلا إذا سعى أفراده إلى طلب العلم ، كذلك العلم يتطور ويرقى بهمم أفراد المجتمع ، والمجتمعات المتعلمة تكون متطورة ومتقدمة في مختلف مجالات حياتها الاجتماعية والاقتصادية ، وتكون أحوال أفرادها أصحاء مثقفين ، عندهم الدراية الكافية بتنمية قدراتهم وصقل مواهبهم للنهوض بالدور العظيم الواجب عليهم القيام به للرقي بمجتمعاتهم ، بعكس المجتمعات غير المتعلمة أفرادها جهلة ، تكثر الأمراض والمشاكل فيها.
فالمجتمع مطالب بدور عظيم للمساهمة بالنهوض بمستوى العلم والرقي به ، وعليه كذلك المساهمة في بناء مؤسسات التعليم ، وتشجيع الشباب على التعليم وحب الابتكار والاختراع والبحث العلمي ، الذي يخدم جوانب الحياة المختلفة ، كذلك على الجهات المختصة بدور العلم المختلفة ، السعي نحو الرقي بالعلم وتحديث المناهج التعليمة بما يتناسب والتقدم التكنولوجي والتقني الذي يشهده العالم ، وخاصة في هذا العصر الذي يشهد طفرة هائلة لتطوير العلم ،وربما سيأتي يوما إنشاء الله ولا نرى الحقيبة المدرسية التي تثقل كاهل الطالب بمختلف الكتب والكراسات .
يقول الشاعر:
علم العليم وعقل العاقل اختلفا *** من ذا الذي منهما قد أحرز الشرفا
فالعلم قال: أنا أحرزت غايته *** والعقل قال: أنا الرحمن بي عُرِفا
فأفصـــح العلم إفصاحا وقال له *** بأينا الله في فرقانه اتصفا
فبان للـــعقل أن العلم سيده *** فقبّل العقل رأس العلم وانصرفا
فالعاقل هو من يعي أنه بالعلم سيرقى، وبه ينال الشرف والمكانة في مجتمعة وليس بالمال كما يظن البعض:
العلم أعلى من الأموال منزلة***لأنه حافظ والمال محفوظ
وقيل أيضا:
الفخر بالعـلم لا بالجاه والمال *** والمجد بالجد لا بالجد والخال
كم من مليء صبيح الوجه تحسبه *** للعـلم خلا و لكن فكره خال
فالمال وان رفع شان أحد فهو ذاهب معه، أما العلم فهو باق يستفيد منه الآخرين.
ففز بعـلـــم ولا تطلب به بدلا *** فالناس مـوتى وأهل العلم أحيــــاء
خامسا: دور العملية التعليمية والتربوية في تحقيق النهضة الشاملة والرقي المطلوب لمجتمعاتنا وأوطاننا:
لا تبنى الأوطان إلا من خلال رجالها البررة الصالحين، والبلاد لا تعمر إلا بسواعد أبنائها الأوفياء المخلصين ينهض بالوطن إلا شبابُه ورجالاته، والرجولة زادها العلم والعمل، ولن نصل إلى عمارة البلدان والأوطان ورقي المجتمعات والأنظمة إلا عبر إعداد جيل متسلح بسلاح العلم والمعرفة، جامع بين الأصالة والمعاصرة، يؤمن بالماضي العريق والحاضر المشرق، وبالموروث الغالي والوافد المعاصر، إن التعلم هو من يصنع شباباً محافظًا على الثوابت والأصول، ومنطلقًا في عالم الجديد والمستجدات، يأخذ بكل نافع ومفيد مما جدّ ويستجد في الحياة الإنسانية من..
إن الأوطان لا تقوم إلا على سواعد جيل واع يعلم حقوقه وواجباته، وما له وما عليه، جيل راشد متعلم واعٍ وحصيف يتقدم بالعلم والعمل، وبالإبداع والاختراع باستمرار نحو الأفضل، جيل لا يرضى لنفسه الركود والتوقف أو التخلف، جيل يتطلع دومًا إلى الأمام، جيل يعشق التقدم والنهوض، بل يسعى ويطلبه في كل جانب من جوانب حياته الاقتصادية والصناعية، وقبلها: الفكرية والاجتماعية والروحية، جيل يُدرك مسئوليته أمام الله وتجاه دينه ونفسه، وتجاه وطنه وأهله.
إن ثمرة العلم والتي نقيسها بما أسموه: امتحانات. ليست الامتحانات لمجرد جمع الدرجات، بل هي مقياس لمدى التحصيل العلمي والمعرفي لعقول تسعى بقدر ما تستطيع أن تؤدي واجبها، وتفي بمسئولياتها، هذا هو المدار وهو الأساس في العملية التعليمية برمتها. خطط وميزانيات بالملايين وآلاف المعلمين ومبان ومناهج ومشاريع، ثمرتها: صياغة عقول نحو ملايين الطلاب والطالبات.
هل تدرون أننا لن نحقق هذه الأمنية، ولن تكتحل أعيننا برؤية هذا الجيل الذي وصفناه والذي يشرف الوطن به، إلا بعد قيام قطاع التربية والتعليم بواجباته أحسن قيام، وأداء ما عليه على أفضل وجه، وأكمل صورة.
إن كل المشاريع العملاقة التي بدأت تظهر وتنمو لن تفيد المجتمع بمثقال ذرة إن لم يقُدها عقل وفكر! لقد أدركَت الدول العظمى هذا السر، فدأبت بتخصيص ميزانيات أعلى وأضخم لقطاع التعليم دون سائر القطاعات، حتى ميزانية الدفاع والأمن لا يمكن أبدًا أن تنافس ميزانية التعليم؛ ليقينهم بأن لقطاع التعليم دورًا محوريًّا في الحياة، ومخرجاته هم الماسكون بسائر القطاعات، فالطبيب الناجح الماهر، والمهندس الألمعي المخلص، والأستاذ الجامعي النصوح، والمعلم الكفء، والمدير الناجح في إدارته وأداء مسؤوليته، كل هؤلاء وغيرهم مخرج من مخرجات التعليم، وثمرة يانعة للعملية التربوية؛ إذاً، فإصلاح التعليم وتطويره ينعكس إيجابًا على سائر القطاعات والوزارات، فإذا صلح التعليم صلحت مخرجاته، وعندها نكون قد ضمنا كوادر ومسؤولين على مستوى عال من الكفاءة، يديرون جميع القطاعات بكل مسئولية ومهنية.
والأمر لا يحتاج لبراهين، فنظرة لتلك الدول التي أدركت هذا السر وعملت به استطاعت قيادة المجتمع بكل حرفية وتنظيم لدرجة الإبهار، هذا ما تؤكده شواهد الواقع، ويشهد له التاريخ القديم والحديث، فهناك دول شحيحة في مواردها الطبيعية، وشبه معدمة في ثرواتها المعدنية، ومخزوناتها البترولية، إلا أنها حققت تنمية مستدامة، وأحرزت أفضل النتائج في كافة الأصعدة، بسبب استثمارهم في مجال رأس مال بشري وفكري ومعرفي، فرأس مالهم العقول البشرية، التي حققت لهم تنمية مستدامة، وبفضل اتباع سياسات تعليمية ناجحة، ومناهج دراسية فاعلة مثمرة، والتي تتقدم وتواصل رقيها وفق رؤية إستراتيجية لخدمة أهدافها التنموية.
وخير مثال على ذلك دولة اليابان التي تعرضت للتدمير بالقنابل النووية والصواريخ المدمرة أثناء الحرب العالمية الثانية، وخرجت من الحرب صفر اليدين، بل شبه مشلولة، ومع كل هذا استطاعت أن تنهض خلال فترة وجيزة، أقل من خمسين سنة، وأصبحت تمثل ثاني أقوي اقتصاد في العالم، فهي عبارة عن مصنع كبير عائم، يستورد المواد الخام لإنتاج مواد مصنعة يصدرها لكل أقطار العالم.
بل ها هي تسقط مرة أخرى بتسونامي خطير وكارثة بشرية لو أصابت دولاً أخرى لسمعنا الولولة والعظائم، لكن هاهي وبصمت ودهاء تنشغل بمصابها لتعود قريباً أحسن مما كانت! إنها نماذج وتجارب تستحق الوقوف والنظر، فنحن أغنى وأذكى وأقدر! فما السر إذاً؟! إن اللبيب بالإشارة يفهم!.
سادسا: شروط نجاح المؤسسات التربوية في نشر العلم
وهنا لا بد أن نشير إلى أن نجاح المؤسسات التربوية في نشر العلم مرهون بتوافر عدد من الأمور هي أركان النجاح، ولن يخرج أي بلد من الفوضى والتخبط والتخلف المحيط به إلا بمراعاتها.
أهمها وأولها مناهج التعليم، فالمنهج العلمي التربوي الناجح المدروس بدقة متناهية، والذي لا يقتصر على التنظير، بل يوازن بينه وبين التطبيق، بأن لا يجعل الطالب متلقيًا سلبيًّا فقط، مهمته حشو ذهنه بالمعلومات فقط، ثم ينساها بعد حين، وربما بُعَيْد مغادرته لقاعات الامتحانات، فالمنهج لم يترك أي أثر في سلوكيات الطالب، وطريقة تفكيره، ونظرته وحكمه على الأشياء، ومدى شعوره بالمسئولية، فأهم سمات المنهج الناجح أن يكون الطالب هو المحور والأساس في العملية التعليمية، فيفكر، ويُعمل ذهنه، ويشارك أستاذه في صنع النجاح، فيحلل وينتقد ويُنتج، ويطبق...، هذا أول ركن لنجاح التعليم.
وأما الركن الثاني فهو الأستاذ الكفء المتجدد بمعلوماته كل يوم، فهو حريص على أن يزداد كل يوم علمًا جديدًا، فهو لا يقف عند تحصيله الجامعي والتخصصي، بل تراه يقبل بهمة لا تعرف الكلل أو الملل على التعمق في اختصاصه، والإحاطة بجوانبه وجزئياته، هكذا شأنه دومًا يطالع ويقرأ ويبحث عن الجديد في تخصصه، ويُبدع بأسلوبه ووسائله دون ملل أو كلل.
وأما الركن الثالث لنجاح العملية التعليمية التربوية هو إدارة مدرسية ناجحة فاعلة، هدفها الأول ليس التسلط وتصيد العثرات، بل تسعى لتذليل كل العقبات والصعوبات أمام الأستاذ والطالب، وتبذل المستطاع لتهيئ لهما جوًّا علميًّا مريحًا ومعيناً للتحصيل والفهم والتطبيق، بعيدًا عن تعقيدات وبيروقراطية المسئولين والإداريين.
وأما الركن الرابع فهو الأسرة المساهمة الواعية لدورها في العملية التربوية، والداعمة للمدرسة في أداء واجبها لصياغة العقل والفكر لأبنائها، والمشجعة والمشاركة في الأنشطة والبرامج.
والركن الخامس لنجاح قطاع التعليم والتربية هو قيام الإعلام بجميع وسائله وأنواعه بمسئولياته تجاه العملية التعليمية، ودفع عجلتها إلى الأمام، فلا أحد يجهل دور الإعلام الكبير والفاعل في عصرنا الحاضر في صياغة العقل والفكر، وفي نجاح العملية التعليمية والتربوية.
أركان خمسة بتكاتفها وتضافر جهودها يمكننا أن نصل إلى أهدافنا المنشودة من العملية التعليمية، ومن الإصلاح والتنظيم؛ لكن، ما الحيلة والجميع يرى ويعلم الحقائق لهذه الأركان؟ من المسئول؟ وما العمل؟ وكيف ننقذ التعليم في البلاد العربية؟ أسئلة لا بد أن تشغلنا جميعا، عقولاً ومنتديات ومجالس ووسائل إعلام، وقبل ذلك مسئولين وإداريين ومعلمين، هذا إذا أردنا حياة كريمة عزيزة يأخذ فيها كل ذي حق حقه دون محسوبيات وشفاعات ورشاوى وأهواء.
ومن نافلة القول التذكير بأننا لن نصل إلى النهضة التعليمة الشاملة المنشودة إلا إذا ربطنا ربطًا مزجيًّا بين التعليم والأخلاق، لأن العلم كثيرًا ما يعود وبالاً على صاحبه إذا خلا عن خلق ودين، ولن تؤتي العملية التعليمية أكلها إلا إذا استندت إلى قواعد أخلاقية متينة، تُعلي من شأن العلم والعمل، وتغرس في نفوس الطلاب منذ نعومة أظفارهم أهمية الإتقان والتميز، واحترام القانون وحقوق الآخرين، يحسن محاورتهم، ويوضح لهم موقفه بجرأة أدبية راقية دون تطاول أو خنوع؛ بل بأدب المسلم المؤمن صاحب المبدأ والعقيدة في الحياة.
فالعملية التعليمية تزداد أهميتها في حقنا أكثر بحكم أننا مسلمون، وأن الإسلام يفرض على معتنقيه طلب العلم، سواء في ذلك الذكور والإناث، إذًا؛ فإضافة إلى كون التعليم والتربية أساس تطوير وتقدم أي دولة، فهو في حقنا فريضة دينية، وليست أمرًا هامشيًّا يجوز لنا أن نُغفله، أو نتساهل به، أو نهمله. كيف وهو أساس سعادتنا في الدنيا، ومصيرنا في الأخرى؟
سابعا: خاتمة الموضوع.
وشكرا
ساحة النقاش