بدأت نشأة الجودة كنظام إداري شامل في اليابان مع بداية القرن العشرين، وخاصة عندما طبقت مبادؤها على المنشآت الصناعية اليابانية، وبعد نجاح منقطع النظير في تحقيق الأهداف التي طبقت لها، انتشرت هذه الفكرة في العديد من الدول الغربية(سعد، 1997م، ص 9).
كما انتشر ذلك في الولايات المتحدة الأمريكية والمملكة المتحدة، ثم انتشرت منها جميعا إلى العديد من الدول النامية وشبه المتقدمة وخاصة بعد دخول اتفاقية الجات حيز التنفيذ ونمو المنافسة العالمية، وتنوع مشاريع الشراكة الدولية.
ورغم ذلك فإن للمفهوم أصوله التاريخية القديمة، التي ترجع إلى الحضارة الفرعونية حيث يظهر فيما شيدته يد المصريون القدماء من أهرامات ومعابد وفيما صوروا على جدرانها من أساليبهم في القياس والفحص المنظم للأنشطة التي يؤدونها(سعد، 1997م، ص 7).
وترجع كذلك إلى الحضارة البابلية، والملك البابلي" حمواربي" قبل حوالي خمسة آلاف سنة، حيث وضع أقدم لائحة جزاءات لحالات الإهمال والقصور في الأداءMicheal R. Carrel,1998 et. al., , p. 65)).
وفي الحضارة الإسلامية أصبحت الجودة في أداء الأعمال منهج عمل وأسلوب حياة، وأصبح الفرد المسلم مطالب بإتقان عمله إرضاءً لخالقه سعيا لخير الدنيا والآخرة، لقوله تعالى: { إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً }(الكهف، آيه30). " ولقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن الله يحب إذا عمل أحدكم عملا أن يتقنه، والآيات والأحاديث الدالة على ذلك عديدة في كتاب الله وصحيح السنة النبوية كما سبق ذكره.
ولقد تطور المفهوم في محتواه وفي أهدافه وإجراءاته عبر هذه الفترة التاريخية الطويلة من خلال مجموعة من المداخل المتتابعة، التي لم تحدث في صورة هزات مفاجئة أو في صورة طفرات ولكنها ظهرت انعكاسا لنمو الاكتشافات العلمية في الفكر والنظرية الإدارية والاقتصادية التي ترجع أصولها إلى القرن التاسع عشر. هذه المراحل أو المداخل المتتابعة يمكن تقسيمها إلى أربع مراحل تضم كل منها المرحلة التي تسبقها وتمهد للمرحلة التي تليها في تناغم وانسجام تحققه وحدة الهدف.
ولقد مر مفهوم الجودة في التعليم الجامعي بثلاث مراحل متمايزة تعبر كل واحدة منها على التوجه الفلسفي للجامعة:
المرحلة الأولي للجودة تم النظر لها باعتبارها مرادفا للامتياز Excellence كان المفهوم التقليدي السائد في مؤسسات التعليم الجامعي، على أساس أن الجامعة مؤسسة لها ما يميزها وذات طبيعة خاصة أو مستوى عالي.(Diana Green, cit op, p, 170)
وارتبطت هذه المرحلة بفلسفة النموذج الجامعي الإنجليزي الذي يرى أن الجودة متأصلة في ذات الجامعة، ومكون من مكوناتها الطبيعية، وأنها لا تحتاج للبرهنة على ذلك، فالجامعة مؤسسة علمية متفردة يقوم عليها صفوة المتعلمين بحثا عن الحقيقة المطلقة يوجههم في ذلك نظامها الداخلي وتقاليدها الجامعية التي يحددها القائمون عليها دون أدنى تدخل من سلطة خارجية وعلى ذلك فإن عمليات تقييم الأداء الجامعي لابد أن تنبع من معايير الجامعة ويقوم بها أعضاؤها ولا تفرض عليها معايير من هيئات خارجية، أي أنها لا تحتاج إلى رقابة خارجية لجودتها((Van Vught Frans cit op, p 3.
أما المرحلة الثانية لمفهوم الجودة فقد استخدم مفهوم الامتياز بطريقة تبادلية مع مفهوم الجودة، والذي يعنى إما المعايير العالية أو الأخطاء الصفرية Zero Defects، فهو يعنى الامتياز والتفوق في المدخلات والمخرجات، بمعنى أنه لو كانت المدخلات متميزة على سبيل المثال لكانت المخرجات تتمتع بشيء من الامتياز(Diana Green, cit op, p. 170).
بينما قامت المرحلة الثالثة لتطور مفهوم الجودة الجامعية على رفض فكرة الامتياز، واستبدالها بالتركيز المباشر على مستوى جودة المنتج الذي تقدمه الجامعة، والذي يمكن تجويده من خلال المرور بمجموعة من عمليات التحكم والرقابة العلمية للجودة استنادا على مجموعة من المعايير المحددة أو المجدولة والتي تستخدمها المؤسسات والهيئات الخارجية لتقييم جودة المؤسسات الجامعية وتحديد مستويات إحرازها للجودة، هذه المعايير يجب أن تكون متطورة باستمرار لضمان استمرارية الارتقاء في مستوى الجودة(Diana Green, cit op, p. 172).
وامتداد لهذه المرحلة فإن المتخصصين قد اتخذوا مدخلاً أكثر عملية،وذلك بتعريفهم للجودة على أنها الملاءمة للاستخدام أو للأهداف الموضوعة Fitness for purpose، وبهذا تصبح جودة مؤسسات التعليم الجامعي رهينة بمدى قدرتها على تحقيق الفعالية المؤسسية بناءً على أهدافها وأغراض المجتمع المحيط بها(3(Van vught frans., cit op, p. 3.
ولقد ارتبط هذا المفهوم بالنموذج الجامعي الفرنسي، الذي يربط بين الجودة وأهداف المجتمع ومطالبة، حيث تصبح الجودة هي جودة خارجية يتحدد مستواها بناءً على مستوى قدرة الجامعة على الوفاء بمتطلبات المجتمع الخارجي والتي يجب أن تعكسها أهداف الجامعة وعلى هذا تخول عمليات تقييم الجودة إلى سلطات وهيئات من خارج الجامعة ((frans Van vught cit op,., p,3
ولم تنشأ الجودة صريحة في التعليم الجامعي إلا في فترة الثمانينيات، حيث ظهرت بعض المراجع والمؤلفات التي تتحدث عن الجودة الكلية في كليات المجتمع الأمريكية وبعض مؤسسات التعليم العالي في المملكة المتحدة(Edward Sallis, cit op,, p. 18).
وعلى مستوى الجهود الرسمية أصبح تطبيق آليات الجودة في التعليم حقيقة واقعة حينما أعلن " رونالد بروان " عام 1993 أن جائزة "مالكولم بالدريج " في الجودة قد امتدت لتشمل قطاع التعليم إلى جانب الشركات العملاقة في الولايات المتحدة الأمريكية(حسن حسين البيلاوى، 1996، ص 6).
ولقد كانت بداية الاهتمام بالجودة في المؤسسات الجامعية الأمريكية والبريطانية على السواء وليد الشعور العام بضعف الأداء التعليمي والشكوى المستمرة من أداء المؤسسات التعليمية، ويُظهر ذلك التقرير الأمريكي المؤثر حول شروط التفوق(الامتياز). Condition of Excellence الذي نُشر عام 1984 والذي يؤكد على أن الاهتمام بالجودة في الكليات الجامعية يرجع إلى عدة أسباب،منها: معدلات الرسوب العالية، الانحدار في مستوى أداء الطلاب، التزايد والإفراط في المقررات المهنية يقابله النقص والانحدار في التعليم النظري والعقلي، والانخفاض في مستوى دافعية المعلمين للحصول على التميز في أداء طلابهم، فضلا عن استهلاك التجهيزات والمباني التعليمية، علاوة على محاولة الكليات الجامعية التحكم في مستوى مدخلاتها، مثل خصائص الطلاب الملتحقين بها(Peeke, Graham 1986 , p. 29)
ويعد عقد التسعينيات يمثل عقد الجودة التعليمية في مؤسسات التعليم الجامعي والعالي في الدول المتقدمة، ومنها انتقل المفهوم وآلياته إلى الدول الأخرى. ومن الملاحظ أن الصورة القائمة الآن في بداية الألفية الثالثة لنموذج إدارة الجودة الشاملة في المؤسسات الصناعية والخدمية عامة والتعليم الجامعي خاصة قد تبلورت نتيجة لجهود جمهور من الرواد الأوائل أمثال والترشيوارت، ديمنج، جوران، كروسبي، وكثيرا غيرهم من المفكرين والذين أسهموا في وضع اللبنات الأولى لمبادئ نظرية إدارية شاملة قائمة على الجودة يمكن تطبيقها في المؤسسات الأخرى.
ساحة النقاش