مر الفقه الإسلامي بعدة مراحل حتي أصبح علي ما نحن عليه الآن، ويوضح الباحث هذه المراحل فيما يلي:
أ- عهد النبوة:
بدأ هذا العهد منذ بعثة الرسول (صلي الله عليه وسلم)، وهو ما يقرب من ثلاث وعشرين سنة، ففي تلك الفترة كان الرسول صلي الله عليه وسلم "يجلس في مسجده الجامع، ليقضي بين الناس في قضايا دينهم ودنياهم، بلاغا عن الله سبحانه وتعالي ووحيا منه، شرحا وتطبيقا لآيات الأحكام في القرآن وهديا نبويا من النبي الخاتم "، فقد كان هو " المعلم لهذه الأمة يبين الأحكام، ويفسر الآيات، ويفتي فيما يعرض للمسلمين من حوادث، ويقضي بين المتخاصمين بشريعة الله، وهو إمامهم يبين لهم بالقول، ويعلم بالفعل، ويحسن أو ينهي بالتقرير "، فقد كان صلي الله عليه وسلم يصلي، ويقول: "صلوا كما رأيتموني أصلي " (البخاري، 1987، جـ1: 226)، وكان يفعل المناسك، ويقول: "لتأخذوا مناسككم فإني لا أدري لعلي لا أحج بعد حجتي هذه " (مسلم، د-ت، جـ 2: 943)، (أبوداوود، د-ت، جـ2: 201)، (النسائي، 1986، جـ5: 270).
ب- عهد الصحابة:
بدأ هذا العصر من وفاة الرسول صلي الله عليه وسلم حتي تولية معاوية بن أبي سفيان الخلافة سنة 41هـ. ففي هذا العهد لحق الرسول صلي الله عليه وسلم بالرفيق الأعلى، وقد بلغ رسالته وأداها علي أكمل وجه، قال تعالي " الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا" (المائدة: 3).
وفي هذا العصر اتسعت فتوحات الإسلام، وبذلك صارت تحت حكم المسلمين أمم ذوات حضارات يمتد عرقها إلى أقدم العصور، وماجت المدن الإسلامية بأمشاج من الأمم، ومزج فيها عناصر مختلفة الأقوام والأجناس، فكان لا بد من أن يجتهد كبار الصحابة، ليبينوا حكم الله تعالي فيما استجد من أحداث. ... وقد رسموا المنهاج في الاجتهاد، فكانوا إذا عرضت حادثة اتجهوا إلى كتاب الله تعالي، لايبغون عنه بديلا إذا وجدوا النص فيه، وإذا لم يجدوا النص فيه اتجهوا إلى السنة، وإذا لم يجدوا النص في كتاب ولا في سنة اجتهدوا، وذلك الذي سلكوه هو الذي أقر به الرسول (صلي الله عليه وسلم) معاذ بن جبل عليه، عندما أرسله قاضيا باليمن، فقد قال له بم تقضي، قال: بكتاب الله، قال رسول r: فإن لم تجد، قال: فبسنة رسول الله، قال: فإن لم تجد في سنة رسول الله ولا في كتاب الله، قال: أجتهد رأيي ولا آلو، فضرب رسول الله r علي صدره وقال: الحمد لله الذي وفق رسول رسول الله لما يرضي رسول الله، (أبو داوود، د-ت، جـ2: 302)، وقد وجد كثير من الصحابة من اشتهر بالاجتهاد بالرأي علي منهاج القياس، ومن هؤلاء عبد الله بن مسعود، وعلي بن أبي طالب. ....".
جـ- عهد التابعين:
ويبدأ هذا العهد من نهاية عهد الخلفاء الراشدين عام 41هـ، حتي أوائل القرن الثاني الهجري. وقد كان علماء الصحابة في عهد أبي بكر الصديق وعمر وبعض خلافة عثمان رضي الله عنهم مستقرين في المدينة، يؤخذ رأيهم في كل المسائل المهمة التي كانت تحدث في الأمصار المختلفة، ولم يسمح لفقهاء الصحابة بمغادرة المدينة وسكني الأمصار المختلفة إلا لغزو أو ولاية أو قضاء، وكان القصد الاحتفاظ بالعلماء للشورى مع المحافظة علي وحدة الأمة، ثم أذن لهم عثمان بن عفان رضي الله عنه بالتفرق من المدينة إلى الأمصار، وكل بلد لها طبيعة خاصة بها، فاتسعت الخلافات الفقهية مما أدي إلى وجود فقهيْن. وهذان الفقهان هما: " فقه الرأي وفقه الأثر، واشتهر فريق من الفقهاء بأنهم فقهاء الرأي، وآخرون بأنهم فقهاء الأثر.
وفقهاء الرأي كان أكثرهم بالعراق، وفقهاء الأثر كان أكثرهم بالحجاز، والحقيقة أن الرأي كان بالعراق، والحديث أيضا كان به، وكان بالمدينة رأي بجوار الحديث، بيد أنهما يفترقان في أمرين:
أحدهما: أن مقدار الرأي عند أهل العراق أكثر منه عند أهل الحجاز.
والآخر: في نوع الاجتهاد بالرأي، فأكثر المجتهدين بالرأي عند أهل العراق كانوا يسيرون فيه علي منهاج القياس، وأما الرأي عند أهل الحجاز فكانوا يسيرون فيه علي منهاج المصلحة، وقد تبع ذلك أن كثرت التفريعات الفقهية في العراق، والإفتاء فيما لم يقع لاختبار الأقيسة، وذلك يسمي بالفقه التقديري، ولم يوجد ذلك النوع من الفقه بالمدينة، لأن الأساس كان المصلحة، وهي لا تتحقق إلا في الوقائع، فلا يحي فيها الفرض والتقدير.
د- الفقه في عصر الأئمة المجتهدين:
ويبدأ هذا العهد من أوائل القرن الثاني الهجري إلى منتصف القرن الرابع، ولم يزدهر الفقه الإسلامي في عهد من العهود ازدهاره في هذا العهد، إذ أنه نشط نشاطا كبيرا، واتسعت دائرته، وأصبح علما قائما بذاته بعد أن كان مقصورا علي الإفتاء والقضاء، ووجدت طائفة من العلماء تخصصت فيه. وفي هذا العهد ظهر أئمة الفقهاء الأربعة: الإمام أبو حنيفة، ومالك، والشافعي، وأحمد بن حنبل، " فالإمام أبو حنيفة ولد سنة 80 هـ، وأخذ الفقه عن جعفر الصادق من البيت العلوي، وعن إبراهيم النخعي من أكبر فقهاء عصره، وسمع الحديث من الشعبي والأعمش وقتادة، واشتهر بقدرته التشريعية، وقوة حجته، وحسن منطقه، ودقته في الاستنتاج، ومن أجل ذلك عُدّ إمام أهل الرأي، والإمام مالك ولد سنة 96هـ بالمدينة، وبها تعلم وعلم وألف، واشتهر بأنه حجة في الحديث، وعُدّ من أجل ذلك إمام أهل الحديث، وقد ألف قبل وفاته كتاب (الموطأ)، وقد اشتهر بأنه كتاب حديث، ولكنه في الحقيقة كتاب فقه.
ومن بعد الإمام مالك جاء محمد بن إدريس الشافعي، الذي رحل إلى العراق من بعد الإمام مالك، ولقي أصحاب أبي حنيفة، وأخذ عنهم، ومزج طريقة أهل الحجاز بطريقة أهل العراق، واختص بمذهب، وخالف مالكا. .... وجاء بعدهما أحمد بن حنبل رحمه الله، وكان من عِلْية المحدثين، وقرأ أصحابه علي أصحاب أبي حنيفة مع وفور بضاعتهم من الحديث، فاختصوا بمذهب آخر، ووقف التقليد في الأمصار عند هؤلاء الأربعة.
هـ - عهد التقليد:
ويبدأ هذا العهد من منتصف القرن الرابع إلى سقوط بغداد، وقد دخلت في هذا العصر المسائل الفقهية في دور الجدل لتحقيق ما ورد عن الأئمة من مسائل كثيرة، كما ظهرت فيه المؤلفات الكبيرة، وقد انتهي هذا العهد بانتهاء الدولة العباسية. وفي هذا العهد درس المقلدون لمن سواهم، وسد الناس باب الخلاف وطرقه، لما كثر تشعب الاصطلاحات في العلوم، ولما عاق عن الوصول إلى رتبة الاجتهاد، ولما خشي من إسناد ذلك إلى غير أهله، ومن لا يوثق برأيه، ولا بدينه، فصرحوا بالعجز والأعواز، وردوا الناس إلى تقليد هؤلاء، كل بمن اختص به من المقلدين. ....، وعمل كل مقلد بمذهب من قلده منهم بعد تصحيح الأصول واتصال سنده بالرواية، ولا محصول اليوم للفقه غير هذا، ومدعي الاجتهاد لهذا العهد مردود علي عقبه، مهجور تقليده، وقد صار أهل الإسلام اليوم علي تقليد هؤلاء الأئمة الأربعة.
و_ عهد الجمـود:
التشريع في هذا العهد دخل في دور الجمود المطلق، "فبعد أن كان مريد الفقه يشتغل بدراسة الكتاب أو رواية السنة، صار في هذا الطور يتلقي كتاب إمام معين ويدرس طريقته، فإذا أتم ذلك صار من العلماء الفقهاء، وربما ارتفعت ببعضهم همته فألف كتابا في أحكام إمامه اختصارا أو جمعا أو شرحا، دون أن يستجيز لنفسه أن يقول في مسألة من المسائل قولا يخالف ما أفتي به إمامه، كأن الحق كله نزل علي لسان إمامه.
ز- العصر الحديث:
في العصر الحديث ظهرت حركات إصلاحية تدعوا إلى فتح باب الاجتهاد من جديد ومحاربة التقليد الذي انتشر في الأمة الإسلامية، ومحاولة الرجوع بالفقه إلى مصادره الأولي من الكتاب والسنة، وما قام عليهما من إجماع ونحوه، بالإضافة إلى التخلص من دراسة الكتب العلمية المعقدة الني انتشرت في العهد الماضي، والعمل علي تأليف الكتب السهلة الأسلوب، الواضحة الفكرة، المشتملة علي لباب العلم، وعلي الأدلة الصحيحة.
وقد نشطت في هذا العصر همم الفقهاء للتصدي للنوازل والوقعات المستحدثة بغرض إخضاعها لأحكام الشريعة الإسلامية علي تنوعها سواء كانت فيما يتعلق بالمعاملات كأنواع البيوع والشركات....، أو فيما يتعلق بأمور الخلقة من الجينات والاستنساخ والجراحات التجميلية.
ومن ثم وجد من الفقهاء المعاصرين من لا يتقيد بمذهب معين في الفتيا، فهو يعرض للقضية المعاصرة محاولا استنباط الحكم عليها عن طريق النظر في الأدلة من النصوص القرآنية والأحاديث النبوية، وفتاوى الصحابة والتابعين والأئمة المجتهدين، وتمحيص الآراء الفقهية، والأخذ بأقوالها.
وتوجد حاليا بعض الاجتهادات الفقهية التي يقوم بها مجمع البحوث الإسلامية بمصر، ومجمع الفقه الإسلامي بمكة المكرمة، والمجمع الملكي لبحوث الحضارة الإسلامية بالأردن، ودور الإفتاء والأوقاف بالبلاد العربية والإسلامية، والإصدارات الموسوعية كموسوعة جمال عبد الناصر، والموسوعة الكويتية للفقه، والأشخاص المبرزين المعاصرين.
هذه المراحل التي حدث فيها تطور للفقه الإسلامي توضح كيفية الفتوى في عهد الرسول صلي الله عليه وسلم، ثم من بعده من الصحابة والتابعين، وكيفية اجتهادهم، ثم في عصر الأئمة المجتهدين ثم من بعدهم في العصر الحديث، وكيفية استنباطهم الأحكام من الأدلة، وهذا يرد علي من يزعم أنه لا يجوز إعمال النظر والفكر الناقد في المسائل الفقهية، لأنها مسلمات تؤخذ ولا ترد.
أسباب الخلاف بين الفقهاء:
من المتفق عليه أن علماء الفقه لم يختلفوا في أصل من أصول الدين، ولا في أمر من أمور الإسلام الثابتة، كاستقبال القبلة في الصلاة، أو الصيام في شهر رمضان، أو مقادير الزكاة. ....، وإنما الخلاف في الفروع. ومنشأ الخلاف قد يرجع إلى الدليل القرآني، أو السنة، أو الإجماع، أو القياس، أو الاستحسان. ....، ولكن الذي يعنينا الخلاف الناتج عن الدليل القرآني، فيرجع سبب الخلاف إلى ما يلي:
أ- الاشتراك الواقع في الألفاظ، كالقرء في قوله تعالي " والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء " (البقرة: 228)، فالقرء يطلق علي الحيض والطهر، فإن أكثر الفقهاء قد فسره بمعني الحيض، والشافعي فسره بمعني الطهر، والكلمة تحتمل المعنيين، ولم يرد عن النبي صلي الله عليه وسلم ما صح عند الجميع أنه تفسير للكلمة، ومن هنا كان الخلاف بين الفقهاء في عدة المطلقه، هل هو ثلاثة حيضات، أم ثلاث أطهار.
ب- وجود قراءة أخري في اللفظ، مثل قوله تعالي: "واتخذوا من مقام إبراهيم مصلي" (البقرة: 125)، قرأ نافع وابن عامر بفتح الخاء والباقون بكسرها. فعلي القراءة الأولي يكون الفعل معطوفا علي قوله: "وإذ جعلنا البيت مثابة للناس وأمنا " البقرة: 125)، وهو خبر، ويقويه أن ما بعده أيضا خبر، وهو قوله: ( وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِّلنَّاسِ وَأَمْناً وَاتَّخِذُواْ مِن مَّقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَن طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ ) (البقرة: 125)، فلما وقع بين خبرين كان الأحسن عندهما فيه أن يكون خبرا.
وعلي القراءة الثانية يكون الفعل أمرا، لما جاء في الأثر أن رسول الله صلي الله عليه وسلم أخذ بيد عمر، فلما أتيا علي المقام، قال عمر: هذا مقام أبينا إبراهيم، قال صلي الله عليه وسلم: نعم، قال عمر: أفلا نتخذه مصلي ؟، فأنزل الله تعالي "واتخذوا من مقام إبراهيم مصلي " (البخاري: 1987، جـ1: 157 )، ( مسلم، د-ت، جـ4: 1865)، (الترمذي، د-ت، جـ5: 26).
من خلال القراءتين السابقتين يتضح لنا أنه قد ترتب علي القراءة الأولي حكم فقهي، وهو الندب، وعلي القراءة الثانية حكم فقهي آخر وهو الوجوب.
جـ- احتمال عودة الضمير إلى أحد شيئين مذكورين، مثل قوله تعالي: " إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه " ( فاطر:10)، فوقوع الضمير في "يرفعه" بعد "الكلم" - وهو الإيمان - والعمل الصالح - من الأقوال والأفعال- أوجد الاختلاف في فاعل يرفع، هل الفاعل الكلم الطيب، أم العمل الصالح، وكذلك الضمير في "يرفعه"، وهو المفعول، هل هو الكلم أم العمل الصالح ؟ فأيهما يرفع الآخر ويقويه ويجعله مقبولا.
د- دوران اللفظ بين الحقيقة والمجاز، مثل قوله تعالي: "وثيابك فطهر " (المدثر: 43 )، فمن أخذ الأمر علي حقيقته قال بوجوب إزالة النجاسة من الثياب، وقد ذهب إلى هذا الحنفية والشافعية والحنابلة والظاهرية والزيدية والإمامية وكذا المالكية في قول.
ومن أخذ الأمر علي أنه مجاز والمقصود من الطهارة المعنوية قال: إن إزالة النجاسة سنة، ومن ذهب إلى هذا المالكية.
هـ- وتوجد أسباب أخري أدت إلى اختلاف الفقهاء منها: دوران اللفظ بين العموم والخصوص، وبين دعوي النسخ وعدمه، وتعارض آيتين في شيء واحد. .... وغير ذلك كثير.
ساحة النقاش