لو شاء الله تعالى أن يتفق المسلمون على كل شيء، ولا يقع منهم اختلاف في شيء لجعل الله الدين كله وجها واحدا وصيغة واحدة، لا تحمل خلافا ولا تحتاج إلى اجتهاد، من حاد عنها قيد شعرة فقد كفر؛ ولكنه لم يفعل لتتفق طبيعة الدين مع طبيعة اللغة وطبيعة الناس، ويوسع الأمر على عباده.
أجل؛ لو شاء الله تعالى ذلك لأنزل كتابه كله نصوصا محكمات قاطعات الدلالة، لا تختلف فيها الأفهام، ولا تتعدد التفسيرات، ولكنه جل شأنه أراد أن يكون في كتابه المحكمات – وهن أم الكتاب ومعظمه – وفيه المتشابهات وهن أقله – وفى ذلك ابتلاء من ناحية، وشحذ للعقول لتجتهد من ناحية أخرى؛ بل إننا نجد – قبل مرحلة الفهم والتفسير – مرحلة القراءة نفسها، فقد تعددت القراءات في كتاب الله تعالى إلى سبع، بل إلى عشر، وهى القراءات الملتقاة بالقبول من الأمة، ولم ير أحد من علماء المسلمين في ذلك حرج، لأنها كلها ثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ابن مسعود رضى الله عنه قال: " سمعت رجلا قرأ آية، وسمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ خلافها، فجئت به النبي صلى الله عليه وسلم فأخبرته، فعرفت في وجهه الكراهية، وقال: " كلاكما محسن، ولا تختلفوا، فإن من كان قبلكم اختلفوا فهلكوا "( البخاري برقم 3217) ومن ثم فقد وجد الخلاف في عهد النبي فأقره ولم ينكره، كما – في هذه القضية، وفى قضية صلاة العصر في بني قريظة – وهى مشهورة – وفى غيرها من القضايا؛ فإذا رفع الأمر إليه صلى الله عليه وسلم فإما أن يقرهم على اجتهادهم فيطمئنون لحكمه صلى الله عليه وسلم ويأخذون به ويرتفع الخلاف.
وكان الخلاف موجودا في عصر الصحابة، ومن ذلك: أن عمر رضى الله عنه لقى رجلا فقال: " ما صنعت ؟" – يعنى في مسألة كانت معروضة للفصل فيها – فقال الرجل: " قضى على وزيد بكذا "، فقال عمر: " لو كنت أنا لقضيت بكذا "، فقال الرجل: " وما يمنعك والأمر إليك ؟" قال " لو كنت أدرك إلى كتاب الله تعالى أو إلى سنة نبيه صلى الله عليه وسلم لفعلت، ولكنى أدرك إلى رأى، والرأي مشترك ".
بل صدرت عنهم في الواقعة الواحدة فتاوى مختلفة، فقد روى أن عمر رضى الله عنه قضى في المسألة الحجرية بعدم التشريك بين الإخوة الأشقاء والإخوة لأم، ثم رفعت إليه مرة أخرى فقال عمر: تلك على ما قضينا يومئذ، وهذه على ما قضينا اليوم.
وكان الخلاف موجودا في عصر التابعين، وكذا عصر الأئمة الكبار: أبى حنيفة، ومالك، الشافعي، وأحمد، والثوري، والأوزاعي، وغيرهم، ولم يروا فيه شرا، ولم يحاول أحد منهم أن يحمل الآخرين من ذلك: أن الإمام مالكا رضى الله عنه عندما ألف كتابه المشهور ( الموطأ ) أراد الخليفة العباسي أبو جعفر المنصور أن يحمل الناس على العمل بما فيه ولا يتعدوه إلى غيره، فقال له مالك: يا أمير المؤمنين لا تفعل هذا، فإن الناس قد سبقت إليهم أقاويل، وسمعوا أحاديث، ورووا روايات، وأخذ كل قوم بما سبق إليهم.. فدع الناس، وما اختار أهل كل بلد منهم لأنفسهم.
أسباب الاختلاف بين الفقهاء:
يرجع اختلاف الفقهاء إلى أسباب كثيرة، يعود بعضها إلى اللغة وبعضها إلى رواية السنن، وبعضها إلى القواعد الأصولية وضوابط الاستنباط؛ فإن المراد من بعض النصوص يختلف باختلاف العقول ووجهات النظر ودلالة اللغة، كما أن السنة لم يكن العلم بها والحفظ لها على السواء، والمصالح التي تستنبط لأجلها الأحكام يختلف تقديرها باختلاف البيئات التي يعيش فيها المجتهدون، إلى غير ذلك.
على أنهم جميعا متفقون على مصادر التشريع، وترتيب رجوعهم إليها، أى أنهم يختلفون فقط – في أحكام بعض الوقائع.
ويمكن أن نرصد بعضا من هذه الأسباب فيما يلي:
·أن يكون الدليل على الواقعة لم يبلغ المجتهد، فيفتى فيها على قدر ما توفر له، ومن ذلك أن على بن أبى طالب رضى الله عنه وعبد الله بن عباس رضى الله عنه كانا يريان أن الحامل إذ مات زوجها تعتد بأطول الأجلين، لأن الله تعالى يقول: (وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِن نِّسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ وَأُوْلَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَن يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْراً) ( الطلاق: 4) ويقول تعالى: (وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَاللّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ)( البقرة: 234) وبين الآتيين عموم وخصوص وجهى، ولا طريق إلى جمعها إلا ما سلكه على وابن عباس رضى الله عنهما، ولكن السنة فوق ذلك، فقد ثبت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، أذن لسبيعة الأسلمية – التي نفست بعد موت زوجها بليال – أن تتزوج، ولو بلغ هذا الحديث عليا وابن عباس لأخذا به قطعا، ولم يذهبا إلى رأيهما
·أن يبلغ الدليل المجتهد ولكنه على وجه لا يطمئن به، ورأى أنه مخالف لما هو أقوى منه. مثال ذلك: فاطمة بنت قيس ( رضى الله عنها ) طلقها زوجها ثلاث تطليقات، وأرسل نفقة لها مدة العدة، ولكنها أبت " الشعير " نفقة فارتفعا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأخبرها النبي صلى الله عليه وسلم: أنه لا نفقة لها ولا سكنى، وذلك لأنه أبانها، والمبانة لا نفقة لها ولا سكنى، إلا أن تكون حاملا، لقوله تعالى: ( وإن كن أولات حمل فأنفقوا عليهن حتى يضعن حملهن ) ( الطلاق: 6) وخفيت هذه السنة على عمر رضى الله عنه – ناهيك عنه فضلا وعلما – ورد حديث فاطمة باحتمال أنها قد نسيت، وقال: أنترك قول ربنا لقول امرأة لا ندرى أذكرت أم نسيت ؟، وهذا معناه أن أمير المؤمنين عمر رضى الله عنه لم يطمئن إلى هذا الدليل.
·أن يكون بلغه وفهم منه خلاف المراد، فقوله تعالى: ( أو لامستم النساء فلم تجدوا ماء فتيمموا صعيدا طيبا ) ( النساء: 43، المائدة: 6 ) اختلف العلماء ( رحمهم الله ) في معنى " أو لامستم النساء "، ففهم بعض منهم: أن المراد مطلق اللمس، وفهم آخرون: أن المراد اللمس المثير للشهوة، وفهم آخرون: أن المراد به الجماع. ومن ذلك أيضا: لفظ " القرء " في القرآن الكريم مشترك بين الطهر والحيض، ومن ثم اختلف الفقهاء في عدة المطلقة، أتكون بالحيض أم بالأطهار ؟.
·أن يكون بلغه، لكنه نسخ، ولم يعلم النسخ، ومن هذا: كان في أول الإسلام يشرع للمصلى التطبيق بين يديه، ووضعهما بين ركبتيه، ثم نسخ ذلك، وصار المشروع أن يضع يديه على ركبتيه، وثبت في صحيح البخاري وغيره النسخ، وكان ابن مسعود رضي الله عنه يطبق بين يديه، ونهى علقمة والأسود رضي الله عنهم – عندما صليا إلى جانبه – عن وضع يديهما على ركبهما، وأمرهما بالتطبيق.. . لماذا ؟ لأنه لم يعلم بالنسخ.
ولعلك أدركت الآن أن الاختلاف أمر مشروع، وأن من فضل الله تعالى أن جعل الجانب الفقهي في دائرة ما يجوز فيه الاختلاف، فالفقيه يعمل في منطقتين فسيحتين من مناطق الاجتهاد وإعمال الرأي: منطقة الفراغ التشريعي التي تركتها النصوص – قصدا – لاجتهاد أولى الأمر والرأي، بما يحقق المصلحة، وهذه المنطقة يسميها بعض الفقهاء " العفو " تبعا لما جاء في الحديث: " ما أحل الله في كتابه فهو حلال، وما حرم فهو حرام، وما سكت عنه فهو عفو، فاقبلوا من الله عافيته، فإن الله لم يكن لينسى شيئا "، وتلا قول الله تعالى: ( وما كان ربك نسيا ) ( رواه البزار والحاكم، والآية من سورة مريم: 64). ومنطقة النصوص المتشابهات التي اقتضت حكمه الشارع أن يجعلها تتسع لأكثر من فهم، وأكثر من رأى، حتى تلاحق الزمان والمكان والأحوال، والفقيه – في هاتين المنطقتين – غير مطالب بأكثر من أن يبذل أقصى طاقته العقلية والذهنية للوصول إلى الحكم؛ فإن لم يكن ما وصل إليه حكم الشارع فهو أقرب ما يكون إلى حقيقته وغاياته وآثاره.
ويبقى الاختلاف – إن وجد – أمرا مشروعا، وذلك إذا توفر فيه أمران: -
الأول: أن يكون لكل من المختلفتين دليل يصح الاحتجاج به، فما لم يكن له دليل يحتج به سقط، ولم يعتبر أصلا.
الثاني: ألا يؤدى الأخذ بالمذاهب المخالف إلى محال أو باطل، فإن كان ذلك بطل منذ البداية ولم يسع لأحد القول به بحال.
وبهذين الأمرين يغاير الاختلاف الخلاف، فالاختلاف ما توافر فيه الشرطان المذكوران، وهو مظهر من مظاهر النظر العقلي والاجتهاد، وأسبابه منهجية موضوعية في الغالب؛ أما الخلاف فهو الذي يفقد الشرطين أو أحدهما، وهو مظهر من مظاهر التشنج والهوى والعناد، وليس له من سبب يمت إلى الموضوعية.
ومما يساعد على الاجتماع والتسامح وتبادل العذر فيما اختلف فيه الفقهاء: اعتبار الشريعة أوسع من أي مذهب، وحجة عليه. وأن المذاهب الإسلامية مدارس فقهية لتفسير النصوص واستنباط الأحكام، وليست هي شرائع قائمة بذاتها. بالإضافة إلى تجنب القطع في المسائل الاجتهادية التي تحتمل وجهين أو أكثر. وكذلك تجنب الإنكار فيها على الآخرين، فإذا كان المجتهد – كما قرر – علماؤنا – لا ينكر على مجتهد مثله، فمن باب أولى لا ينكر المقلد على مقلد مثله، بله أن ينكر على مجتهد، فقد سئل شيخ الإسلام ابن تيمية عمن يقلد بعض العلماء في مسائل الاجتهاد: هل ينكر عليه أو يهجر ؟ وكذلك من يعمل بأحد القولين ؟ فأجاب: مسائل الاجتهاد من عمل فيها بقول بعض العلماء لم ينكر عليه ولم يهجر، ومن عمل بأحد القولين لم ينكر عليه، وإذا كان في المسألة قولان: فإذا كان الإنسان يظهر له رجحان أحد القولين عمل به، وإلا قلد بعض العلماء الذين يعتمد عليهم في بيان أرجح القولين.
ساحة النقاش