الموقع التربوي للدكتور وجيه المرسي أبولبن

فكر تربوي متجدد

قال الله تعالى: ( يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولى الأمر منكم، فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر، ذلك خير وأحسن تأويلا ) (النساء: 59). اشتملت هذه الآية على تقرير أصول الشريعة الأربعة – بهذا الترتيب – وأوجبت على المسلم العمل بها.

أما الكتاب والسنة، فقد وقعت الإشارة إليهما في قوله تعالى ( أطيعوا الله وأطيعوا الرسول ) وقوله تعالى: ( وأولى الأمر منكم ) يدل على أن إجماع الأمة حجة، والمراد بأولى الأمر أهل الحل والعقد، فعن ابن عباس " أولى الأمر منكم " يعنى أهل الفقه  والدين، وقوله تعالى: ( فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول ) يدل على أن القياس حجة، أي فإن تنازعتم في شيء حكمه غير منصوص عليه في الكتاب والسنة والإجماع، وجب رد حكمه إلى الأحكام المنصوصة في الوقائع المشابهة له، وذلك هو القياس فثبت أن الآية دالة على الأمر بالقياس.

وفيما يلي بيان مجمل عن هذه المصادر الأصلية – تاركين التفصيل فيها، وكذا الحديث عن المصادر الفرعية لمن أراد المزيد، ومرد ذلك على كتب أصول الفقه كما هو معلوم، لاسيما وأن المصادر الفرعية محل خلاف بين الفقهاء، فمنهم من جعلها دليلا على الحكم، ومنهم من لم يجعلها كذلك –

القرآن الكريم:

القرآن الكريم هو كلى هذه الشريعة، فهو المرجع الأول فيها، وفيه القواعد الكلية.. . ولذا قال عبد الله بن عمر رضى الله عنه: " من جمع – أي حفظ – القرآن فقد حمل أمرا عظيما، وقد أدرجت النبوة بين جنبيه إلا أنه لا يوحى إليه " ويقول ابن حزم: " كل أبواب الفقه فيه، ليس منها باب إلا وله أصل في الكتاب، والسنة تعلنه ". ولقد قال الله عز وجل: ( ما فرطنا في الكتاب من شيء) ( الأنعام: 38) أي ما من أمر من أمور الأحكام إلا فيه. وإذا كان القرآن هو كل هذه الشريعة، فلا بد أن يكون بيانه كليا، وأن تكون التفصيلات فيه قليلة.

وقد استقصى الفقهاء الأحكام العملية في القرآن التي يراد بها الفقه عند الإطلاق عدا ونوعا على النحو التالي:

-         العبادات بأنواعها، وآياتها نحو (140) آية.

-   الأحكام المتعلقة بمعاملات الأفراد المالية كالبيع والرهن وسائر العقود، وهى تدخل في نطاق ما يسمى بالقانون المدني، وآياتها نحو (70) آية.

- الأحكام المتعلقة بالقضاء والشهادة واليمين، وهى تدخل فيما يسمى اليوم: قانون المرافعات، وآياتها نحو (13) آية.

- الأحكام المتعلقة بالجرائم والعقوبات، وهى تكون القانون الجنائي الإسلامي، وآياتها نحو (30) آية.

- الأحكام المتعلقة بنظام الحكم.. . وبيان حقوق وواجبات كل من الحاكم والمحكوم، وهى تدخل فيما يسمى بالقانون الدستوري، وآياتها نحو ( 10) آيات.

- الأحكام المتعلقة بمعاملة الدولة الإسلامية للدول الأخرى، ومدى علاقتها بها، ونوع هذه العلاقة في السلم والحرب، وبيان علاقة المستأمنين – الأجانب – مع الدولة الإسلامية.. . وهذه الأحكام تدخل في نطاق القانون الدولي، وآياتها نحو (25) آية.

- الأحكام الاقتصادية وهى المتعلقة بموارد الدولة ومصارفها وبحقوق الأفراد في أموا ل الأغنياء، وآياتها نحو (10)آيات.

وهذه المتنوعات من الأحكام تفرقت آياتها في جملة سور، كما أنها تمثل – في نفس الوقت  –   مجالاته الفقه الإسلامي.

 والحق إن آيات الأحكام غير محصورة بعدد، إذ يمكن بالنظر الدقيق والإدراك الجيد استنباط الأحكام من الآيات الأخرى حتى ولو كانت من القصص والأمثال.. وقد اعتنى العلماء بجمع هذه الآيات وشرحها وبيان الأحكام التي تدل عليها، وصنفوا في هذا الموضوع مصنفات كثيرة؛ منها كتاب أحكام القرآن لابن العربي المتوفى سنة 543هـ، والجامع لأحكام القرآن ( تفسير ) القرطبي المتوفى سنة 761هـ.

السنة المطهرة:

اشتملت السنة الشريفة أحاديث الأحكام، والتي بلغت – في أنواعها المختلفة – نحو ( 4500) حديث جاءت تبيانا لما أجمله القرآن من أحكام، أو تقريرا وتوكيدا، أو إفصاحا عما لم يصرح به القرآن من تشريع.

ومن القسم الأول: بيان الصلاة وبيان الزكاة؛ ومن القسم الثاني: النهى عن عقوق الوالدين، وعن شهادة الزور، وقتل النفس، وغير ذلك؛ ومن الثالث: اللعان، فقد أوضح القرآن الكريم كيفيته، وأوضحت السنة نتيجته، ففرقت بين الزوجين، فالسنة هنا جاءت مكملة لأصل الحكم في القرآن، ومنه أيضا: تحريم الحمر الأهلية، وأكل كل ذي ناب من السباع ومخلب من الطير، والقضاء بشاهد ويمين، وميراث الجدة، وغير ذلك؛ فالسنة – هنا – استقلت بتشريع الأحكام، وأنها كالقرآن في هذا الباب، دل على ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: (ألا إني أوتيت القرآن ومثله معه ) ( مسند أحمد، برقم: 16546).

والحق أن هذه الأمثلة ترجع إلى أصل من الكتاب، فتحريم الحمر الأهلية وسباع البهائم له أصل في القرآن، وهو قوله تعالى ( ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث ) (الأعراف: 157) وما حرم شيء إلا لما فيه من خبائث، وعلى هذا لا نكاد نجد مثالا لحكم أتت به السنة إلا وجدنا له أصلا قرآنيا، قريبا كان أو بعيدا، فالسنة في معناها راجعة إلى الكتاب، ولأن الله جعل القرآن تبيانا لكل شيء، فيلزم من ذلك أن تكون السنة حاصلة فيه في الجملة.

الإجماع:

هو اتفاق المجتهدين من الأمة الإسلامية في عصر من العصور، بعد النبي صلى الله عليه وسلم على حكم شرعي، في أمر من الأمور العملية وقد أجمع علماء المسلمين على اعتبار الإجماع حجة؛ وقد ثبت – بالتواتر – إجماع الصحابة في الأحكام الشرعية، ولم يختلف في إجماعهم أحد، أما إجماع غيرهم فلم يثبت بطريق متواتر؛ ومن ثم فإن الفقهاء لا يكادون يجمعون على إجماع بعد إجماع الصحابة.  

القياس:

يعرفه علماء الأصول بأنه: إلحاق أمر غير منصوص على حكمه بأمره آخر منصوص على حكمه للاشتراك بينهما في علة الحكم، وهو حجة عند جمهور المسلمين.

وقد طبق القرآن الكريم قانون التساوي العقلي أكمل تطبيق، فاستعمل قانون التساوي في الأحكام لتشابه الصفات والأفعال، قال تعالى: ( أفلم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم، دمر الله عليهم، وللكافرين أمثالها ) " محمد: 10" وبين افتراق الأحكام عند عدم التساوي، في قوله تعالى ( أم نجعل الذين آمنوا وعملوا الصالحات كالمفسدين في الأرض، أم نجعل المتقين كالفجار ).

كما تضافرت الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الأخذ بهذا القانون المحكم وإرشاد الصحابة إليه؛ يقول عمر بن الخطاب رضى الله عنه للنبي صلى الله عليه وسلم: " صنعت اليوم أمرا عظيما، قبلت وأنا صائم، " فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أرأيت لو تمضمضت بماء وأنت صائم ؟ فقال عمر: " لا بأس بذلك "، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ففيم ". ( مسند أحمد، برقم: 350)

ولا شك أن القياس القائم على كتاب الله سبحانه وتعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وإجماع الأمة هو أصل من أصول الدين، أما القياس المتكلف الذي  يعتمد على الرأي المذموم، وليس له في الشرع أصل معلوم، فهو قياس مردود.  

هذا، وتأتى مرتبة القياس بعد الكتاب والسنة والإجماع، فلا قياس مع النص، ولا قياس مع إجماع. وأركان القياس أربعة هي:

-         الأصل: وهو ما ورد النص بحكمه.

-         الفرع: وهو ما لم يرد نص بحكمه.

-         الحكم: الذي  اتجه القياس إلى تعديه من الأصل إلى الفرع.

-         العلة: المشتركة بينهما.

ويمكن الاستفادة من القياس في تضمين مناهج الفقه الإسلامي أحكام الوقائع الجديدة، والتي لم يوجد فيها نص – مما يربط الطالب بواقعه – كما تناول بعض المسائل الفقهية في صورة مشكلات لتنمية القدرات العقلية لدى الطلاب، وتدريبهم على مهارات القياس، بحيث يتمكن المتعلم من تطبيق قانون التساوي العقلي، فيثبت الحكم عند التماثل، وينفيه عند التخالف.

أدوار الفقه الإسلامي:

الفقه الإسلامي لم يتكون جملة واحدة، إنما تدرج في عدة أدوار تأثرا بحال المسلمين الاجتماعية – حتى صار إلى ما نحن عليه الآن، وفيما يلي بيان ذلك:

·        العهد النبوي ( عهد الرسالة وطور التشريع ).

·   عصر كبار الصحابة من سنة 11 إلى سنة 40 هجرية، وهذا العهد ينتهي بانتهاء الخلفاء الراشدين ( رضى الله عنهم ).

·   عهد الصحابة ومن تلقى عنهم من التابعين، ويبتدئ من ولاية معاوية بن أبى سفيان سنة 41هـ إلى الوقت الذي  ظهرت فيه عوارض الضعف على الدولة العربية في الثلث الأول من القرن الثاني الهجري.

·   عهد تابعي التابعين وتابعيهم من ( 132هـ - 350هـ ) وهو دور التدوين ونضوج الفقه على ذروته، وظهور كبار الأئمة والمجتهدين.

·   دور القيام على المذاهب وتأييدها، وشيوع المناظرة والجدل وظهور المؤلفات الكبرى، والمسائل الكثيرة، وينتهي هذا الدور بانتهاء الدولة العباسية من بغداد، وإغارة التتار على ممالك المسلمين.

·   دور التقليد والجمود وهو ما بعد ذلك حتى الآن، حيث اتجه الفقهاء في هذه المرحلة على ما وجدوه مدونا عندهم، فقاموا بحفظه، واشتغلوا بدراسته، وجاءت مؤلفاتهم مختصرة – وقد سميت بالمتون – التي وصلت إلى حد الألغاز، يتعذر على الناس فهمها والاستفادة منها، وهو ما عابه عليهم ابن خلدون في مقدمته.

·        وفى العصر الحديث ظهرت حركات إصلاحية تدعوا إلى فتح باب الاجتهاد من جديد، ومحاربة التقليد الذي  انتشر في الأمة الإسلامية، ومحاولة الرجوع بالفقه إلى مصادره الأولى من الكتاب والسنة، وما قام عليهما من إجماع ونحوه، بالإضافة إلى التخلص من دراسة الكتب العملية المعقدة التي انتشرت في العهد الماضي، والعمل على تأليف الكتب السهلة الأسلوب، الواضحة الفكرة، المشتملة على لباب العلم، وعلى الأدلة الصحيحة.

·   ومن ثم وجد من الفقهاء المعاصرين من لا يتقيد بمذهب معين في الفتيا، فهو يعرض للقضية المعاصرة محاولا استنباط الحكم عليها عن طريق النظر في الأدلة من النصوص القرآنية والأحاديث النبوية، وفتاوى الصحابة والتابعين، والأئمة المجتهدين، وتحميص الآراء الفقهية، والأخذ بأقواها.

·   وهكذا ساير الفقه الإسلامي الدولة في تطورها، وأسعف الناس بما يحتاجون إليه من حلول لبعض المشكلات التي تواجههم.

المصدر: الدكتور وجيه المرسي أبولبن
  • Currently 15/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
5 تصويتات / 256 مشاهدة
نشرت فى 28 مايو 2011 بواسطة maiwagieh

ساحة النقاش

الأستاذ الدكتور / وجيه المرسي أبولبن، أستاذ بجامعة الأزهر جمهورية مصر العربية. وجامعة طيبة بالمدينة المنورة

maiwagieh
الاسم: وجيه الـمـرسى إبراهيـــم أبولـبن البريد الالكتروني: [email protected] المؤهلات العلمية:  ليسانس آداب قسم اللغة العربية. كلية الآداب جامعة طنطا عام 1991م.  دبلوم خاص في التربية مناهج وطرق تدريس اللغة العربية والتربية الدينية الإسلامية. كلية التربية جامعة طنطا عام 1993م.  ماجستير في التربية مناهج وطرق تدريس اللغة العربية »

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

2,661,408