تتصل المعرفة الإنسانية بعالم الشهادة وعالم الغيب فلدى الإنسان معلومات عن عالم الغيب توصل إليها عن طريق النقل المتواتر من الذين أوحى الله إليهم أو ألهمهم هذه المعارف التي نقلها الثقاة عنهم. ....، ولدى الإنسان معلومات عن عالم الشهادة وعن الكون وعن نفسه استفادها الإنسان من خبرته الشخصية وخبرات الآخرين من خلال تفاعله بهم، ويكتسب الإنسان معارفه المتصلة بهذين العالمين بالوسائل المشتركة بين بني الإنسان وهى الحواس، العقل، والقلب.
وهناك أدوات لاكتساب المعرفة عنى بها بعض المسلمين – صوفية وفلاسفة – وهى الكشف والإلهام والحدث، والمعرفة التي تحصل بهذه الطرق ليست من قبيل المعرفة الاستدلالية أو المعرفة الحسية العقلية لأنها لا تعتمد على المشاهدة الحسية ولا على استدلالات العقل وإنما هي من قبيل العرفان المباشرة، ويمكن تسميتها بالمعرفة الوجدانية الصوفية المباشرة.
ولطبيعة البحث عن منهج الإسلام في استخدام وسائل التعليم سوف يقتصر الباحث على الحواس وعلاقتها بوسائل التعليم لما لها من علاقة مباشرة بموضوع البحث.
الحواس: الحاسة هي قوة طبيعية لها اتصال بأجهزة جسمية بها يدرك الإنسان ما يطرأ على جسمه من تغيرات. ....والحواس خمس في العرف العام وهى البصر، السمع، الشم، الذوق، اللمس وتسمى الحواس الظاهرة.
والحواس هي وسيلة هامة من وسائل المعرفة هي بمثابة النوافذ الفطرية الأولية لمعارف الإنسان التي ينتفع من خلالها على ما يحيط به في البيئة. .، وكل حاسة تطلع الإنسان على جانب من جوانب بيئته فهو يرى الأشياء في صورتها وألوانها وأحجامها، وكذلك يلمسها في حرارتها وبرودتها وطراوتها وصلابتها، وكذلك يشم رائحتها الذكية والخبيثة، ويتذوقها حلوة أو مرة، ويسمع الأصوات من قريب أو بعيد. .. الخ غير أن الإنسان في تعامله مع الأشياء لا يقف عند حد المدركات الحسية فحسب بل ينزع بالضرورة إلى ما وراءها فإذا سمع صوتا فإنه يدرك هذا الصوت ويتفحصه فيعرف أنه صوت إنسان أو حيوان فإذا كان إنسان أدرك أنه صوت رجل، أو امرأة أو طفل، وإن كان صوت حيوان أدرك أنه زئير أسد أو صهيل حصان، أو نهيق حمار، أو صياح ديك.
يتضح أن هناك علاقة مباشرة بين الإدراك والإحساس إذ الإدراك في جوهره استجابة لمؤثرات حسية بحسب طبيعتها وأشكالها وكذلك يطلق اصطلاح " الإدراك " في علم النفس على العملية العقلية التي تعرف بواستطها العالم الخارجي وذلك عن طريق المثيرات الحسية المختلفة التي تسقط على حواسنا المختلفة من العالم الذي يحيط بنا لذلك يقال أنه لا يوجد إدراك بغير إحساس ولا يمكن أن يوجد إحساس بغير إدراك فهي عملية مركبة لا تستطيع الحواس وحدها أن تقوم بها، يؤكد ذلك ابن سينا في قوله " الحس طريق إلى معرفة الشيء بالفكر والقوة العقلية و بها تقتضى المعلومات.
ويوضح ابن سينا الإدراك في قوله " إدراك الشيء " هو أن تكون حقيقته متمثلة عند المدرك يشاهدها ما به يدرك معنى ذلك أن الإدراك خطوة أكبر وأرقى من الإحساس لأنه يضفى على الصور الحسية البصرية والسمعية والشمية وغيرها معان تتبع من اتصال هذه الإحساسات بالجهاز العصبي المركزي ومن اتصال يؤدى إلى رسم الخطوط الرئيسية للحياة العقلية المعرفية، فانطباع صور العين على شبكة العين إحساس واتصال مؤثرات هذه المرئيات بالجهاز العصبي المركزي وتفسيره من ناحية الشكل واللون والحجم وتقديره لمعناها إدراك بصري.
ومع أن الحواس تقوم بدور رئيسي في عملية التعليم إلا أن للظروف النفسية دورا لا ينكر وعلى القائمين بالتربية اختيار الخبرات الحسية التي تناسب الحالة النفسية والعقلية للمتعلمين ولا يعنى هذا أن تظل التربية أسيرة الواقع الحسي للمتعلمين كما لا يعنى هذا الثقة المطلقة بالحواس وقد بين القرآن الكريم أن تعطيل الحواس عن المعرفة الحقة بالله تعالى يلحق الإنسان بالحيوانات وربما يكون شرا منها قال تعالى: ( وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِّنَ الْجِنِّ وَالإِنسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لاَّ يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لاَّ يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لاَّ يَسْمَعُونَ بِهَا أُوْلَـئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُوْلَـئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ) [ الأعراف 179] فهم لا ينتفعون بشيء من هذه الجوارح التي جعلها الله سببا للهداية فشبههم سبحانه بالأنعام التي لا تنفع بهذه الحواس بل هم أضل من الدواب لأنها قد تستجيب لراعيتها إذا دعاها وأن لم تفقه كلامه بخلاف هؤلاء، ولأنها تفعل ما خلقت له إما بطبعها وإما بتسخيرها بخلاف الكافر فإنه إنما خلق ليعبد الله فكفر وأشرك به ولهذا من أطاع الله من البشر كان أشرف من الملائكة في معاده، ومن كفر من البشر كانت الدواب أتم منه.
وهناك كثير من الآيات التي تدل على استخدام الحواس الخمس للوصول إلى المعرفة منها قوله تعالى (وَاللّهُ أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لاَ تَعْلَمُونَ شَيْئاً وَجَعَلَ لَكُمُ الْسَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) [ النحل 78] يتضح من الآية الكريمة أن الإنسان يولد وليس لديه من العلم شيء إنما خلق فيه أدوات للوصول إلى المعرفة منها السمع، والبصر، والقلب، وقد خص الله سبحانه هذه الجوارح في الإنسان بالذكر لأنها أداة المعرفة والفهم والإدراك، كما أن السمع والبصر هما أول الطريق للعلم.
ومن الآيات التي تدل على اللمس قوله تعالى (وَلَوْ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ كِتَاباً فِي قِرْطَاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ لَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُواْ إِنْ هَـذَا إِلاَّ سِحْرٌ مُّبِينٌ) [ الأنعام 7] أي أنهم لو رأوهم الكتاب – ولمسوه بأيديهم بقوا شاكين فيه وقالوا إنما سكرت أبصارنا فإذا لمسوه بأيديهم فقد يقوى الإدراك البصري بالإدراك باللمس ويبلغ الغاية في الظهور والقوة، إلا أن هؤلاء يزالون شاكين في الذي رأوه ولمسوه هل هو موجود أم لا وذلك يدل على أنهم بلغوا من الجهالة إلى حد السفسطة، ويقولون تعنتا وعنادا ما هذا إلا سحر مبين.
وهناك من الآيات ما توضح أن الشم من وسائل المعرفة كما في قوله تعالى حكاية عن يعقوب عليه السلام (وَلَمَّا فَصَلَتِ الْعِيرُ قَالَ أَبُوهُمْ إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَوْلاَ أَن تُفَنِّدُونِ) [ يوسف 94] أي قال يعقوب عليه السلام لمن حضر بجواره ذوى قرابته لما خرجت العير من عرش مصر قاصدة مكان يعقوب – عليه السلام – قرب بيت المقدس إني لأشم رائحة يوسف ولولا تفنيدكم إياي لأخبرتكم أنه على قيد الحياة. . وقد أشمه الله ما علق من القميص من ريح يوسف من مسيرة أيام وهى معجزة ظاهرة قال مالك: قد أوصل ريحه من أوصل عرش بلقيس قبل أن يرتد إلى سليمان طرفه.
ومن الآيات التي تدل على الذوق كوسيلة من وسائل المعرفة قوله تعالى عن عقاب الخارجين عن طاعة الله المخالفين لرسله عليهم السلام (هَذَا فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ {57} وَآخَرُ مِن شَكْلِهِ أَزْوَاجٌ) [ ص 57] أي فليذق أهل جهنم الحميم وهو ماء شديد الحرارة والغساق هو البارد الذي لا يستطيع تحمله إنسان من شدة برده المؤلم أو هو صديد يسيل من أجسادهم.
ومن الآيات التي تدل على السمع والبصر قوله تعالى (قُلْ هُوَ الَّذِي أَنشَأَكُمْ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلاً مَّا تَشْكُرُونَ ) [ الملك 23] أي قل لهم يا محمد أن الله سبحانه وتعالى هو الذي أوجدكم من العدم وأنعم عليكم بهذه النعم السمع والأبصار والأفئدة أداة للعلم والمعرفة إلا أنهم قليلا ما يشكرون ربهم على هذه النعم التي أنعمها الله عليهم.
وإذا كانت الحواس قوى طبيعية لها اتصال بأجهزة الجسم ويدرك بها الإنسان ما يطرأ على جسمه من التغيرات فإنها في التصوير القرآني لا تقتصر على كونها أجهزة حسية فحسب بل هي وسائل وعى وتمييز، وعندما يعتريها خلل يعطل وظيفتها لا يطمس ذلك الخلل إنسانية الإنسان فمن ولد أعمى أو أخرس أو أصم لا تنسحب الإنسانية لتعطيل هذه الحاسة أو تلك وإنما ينطفئ جوهر الإنسان بعمى البصيرة وصم الوعي وضلال الرشد والغفلة عن آيات العظة والاعتبار.
وكلما كانت روافد المعرفة الإنسانية متشعبة المنافذ كانت عملية التربية والتعليم أكثر عمقا وأوسع شمولا وأطول ثباتا لأن التربية في حقيقتها عملية تكوين وتكيف، والتكوين وخبرة تتفاعل فيها مواهب وإحساسات وتجارب ومعلومات مدركة وبالتالي تحدث في الإنسان تغييرا تكوينياً جديداً، وهذا هو الفارق الأساسي بين إنسان متعلم مربى وبين حامل علم وناقل أسفار.
يتضح مما سبق أن الحواس وسائل للمعرفة الحسية، وأنها متكاملة مع بعضها يشترك فيها جميع الأفراد مهما كانت درجة ذكائهم لأنها تمثل الحد الأدنى الذي يلتقي فيه كافة الأفراد، كما أنها تمثل المنطلقات لمستويات العمليات العقلية العليا كما أنها تساعد على تنويع مصادر المعرفة فتقدم مجالا واسعا للدلالة على الفهم والاستيعاب فتسام في تثبيت الأفكار لأنها ترتبط بخبرة ذاتية كما أن الحواس تعمل على تجميع الخبرات لأن الوسيلة التعليمية ولو كانت واحدة فإنها نتيجة خبرات حسية وانفعالية وعقلية لذلك ذم القرآن الكريم من ضيعوا وظائف هذه الحواس أو بعضها أولئك هم الغافلون الذين لا يتدبرون ولا يفكرون.
والتربية الحديث اليوم تنادى بتربية الحواس حيث أنها تربية للعقل، فالأفكار نتيجة للحواس، والحواس أمهات الأفكار والغرض من تربيتها الوصول إلى المعرفة والحكم السديد وقوة الشعور والإدراك والملاحظة ومما يؤكد ذلك جان جاك روسو في قوله ( إن أرجلنا وأيدينا وأعيننا هي المعلم الأول لنا في الفلسفة ).
ساحة النقاش