بقلم / محمد سعيد أبوالنصر
ـ حُكْم صيام سِتَّةِ أَيَّامٍ مِنْ شَوَّالٍ:
اختلفت وتباينت آراء العلماء والفقهاء في مشروعية صيام سِتَّةِ أَيَّامٍ مِنْ شَوَّالٍ على أربعة أقول على النحو الآتي:
القول الأول:
الاستحباب : وبه أخذ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ من فقهاء المذهب الشافعي، والمذهب الحنبلي، وبعض فقهاء المذهب الحنفي، والمالكي قالوا : يُسَنُّ صَوْمُ سِتَّةِ أَيَّامٍ مِنْ شَوَّالٍ بَعْدَ صَوْمِ رَمَضَانَ.
أدلة القائلين بالاستحباب:
استدل القائلون بالاستحباب بحديث أبي أيوب الذي رواه الإمام مسلم وغيره في ترغيبه صلى الله عليه وسلم في صيام هذه الأيام الست ، قال صلى الله عليه وسلم: «مَنْ صَامَ رَمَضَانَ ثُمَّ أَتْبَعَهُ سِتًّا مِنْ شَوَّالٍ كَانَ كَصِيَامِ الدَّهْرِ» هذا الحديث يدعو إلى صيام رمضان ثم ستة أيام من شوال ، وهذا ما استحبه العلماء منهم": ابن عباس رضي الله عنهما و طاوس والشعبي وميمون بن مهران، وهو قول ابن المبارك و الشافعي وأحمد وإسحاق
قال الامام النووي "يستحب صومُ ستة أيام من شوال ".
وقال الإمام الترمذي: "وَقَدِ اسْتَحَبَّ قَوْمٌ صِيَامَ سِتَّةِ أَيَّامٍ مِنْ شَوَّالٍ بِهَذَا الْحَدِيثِ"
وقال السيد البكري: "ويسن متأكدا صوم ستة أيام من شهر شوال"
وقال ابن مفلح "ويستحب إتْبَاع رمضان بستٍّ من شوال"
"فمن فعلها نال الاجر وأخذ الثواب "ولا يجب الالتزام بها كل عام، والمواظبة عليها أولى حفاظًا على السنة
وَصَرَّحَ الشَّافِعِيَّةُ، وَالْحَنَابِلَةُ: بِأَنَّ صَوْمَ سِتَّةِ أَيَّامٍ مِنْ شَوَّالٍ - بَعْدَ رَمَضَانَ - يَعْدِل صِيَامَ سَنَةٍ فَرْضًا، وَإِلاَّ فَلاَ يَخْتَصُّ ذَلِكَ بِرَمَضَانَ وَسِتَّةٍ مِنْ شَوَّالٍ، لأِنَّ الْحَسَنَةَ بِعَشَرَةِ أَمْثَالِهَا.
وَصَرَّحَ الشَّافِعِيَّةُ، وَالْحَنَابِلَةُ: بِأَنَّهُ لاَ تَحْصُل الْفَضِيلَةُ بِصِيَامِ السِّتَّةِ فِي غَيْرِ شَوَّالٍ، وَتَفُوتُ بِفَوَاتِهِ، لِظَاهِرِ الأْخْبَارِ.
وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيَّةِ: اسْتِحْبَابُ صَوْمِهَا لِكُل أَحَدٍ، سَوَاءٌ أَصَامَ رَمَضَانَ أَمْ لاَ، كَمَنْ أَفْطَرَ لِمَرَضٍ أَوْ صِبًا أَوْ كُفْرٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ، قَال الشِّرْبِينِيُّ الْخَطِيبُ: وَهُوَ الظَّاهِرُ، كَمَا جَرَى عَلَيْهِ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ، وَإِنْ كَانَتْ عِبَارَةُ كَثِيرِينَ: يُسْتَحَبُّ لِمَنْ صَامَ رَمَضَانَ أَنْ يُتْبِعَهُ بِسِتٍّ مِنْ شَوَّالٍ كَلَفْظِ الْحَدِيثِ.
القول الثاني: الكراهة فلا يستحب صيامها وهو قول في المذهب الحنفي، والمالكي وهذا القول قال طائفة من العلماء، كالحسن وأبي حنيفة والثوري ومالك، وغيرهم.
ثانياً: أدلة القائلين بالكراهة:
استدلوا بما رواه يحيى بن يحيى راوي موطأ مالك قَالَ يَحْيَى : وَسَمِعْتُ مَالِكاً يَقُولُ فِي صِيَامِ سِتَّةِ أَيَّامٍ بَعْدَ الْفِطْرِ مِنْ رَمَضَانَ : إِنَّهُ لَمْ يَرَ أَحَداً مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ وَالْفِقْهِ يَصُومُهَا، وَلَمْ يَبْلُغْنِي ذَلِكَ عَنْ أَحَدٍ مِنَ السَّلَفِ، وَإِنَّ أَهْلَ الْعِلْمِ يَكْرَهُونَ ذَلِكَ، وَيَخَافُونَ بِدْعَتَهُ، وَأَنْ يُلْحِقَ بِرَمَضَانَ مَا لَيْسَ مِنْهُ أَهْلُ الْجَهَالَةِ وَالْجَفَاءِ، لَوْ رَأَوْا فِي ذَلِكَ رُخْصَةً عِنْدَ أَهْلِ الْعِلْمِ، وَرَأَوْهُمْ يَعْمَلُونَ ذَلِكَ.
وقد وقع ما خافه الإمام مالك في بعض بلاد خراسان إذ كانوا يقومون لسحورها على عادتهم في رمضان
واستدلوا كذلك بما رواه عبد الرزاق في مصنفه قال: "وسألت معمرا عن صيام الست التي بعد يوم الفطر، وقالوا له: تصام بعد الفطر بيوم؟ فقال: معاذ الله إنما هي أيام عيد وأكل وشرب، ولكن تصام ثلاثة أيام قبل أيام الغر أو بعدها، وأيام الغر: ثلاثة عشر وأربعة عشر وخمسة عشر، وسألنا عبد الرزاق عمن يصوم يوم الثاني، فكره ذلك وأباه إباء شديدا
أما قول معمر: "معاذ الله إنما هي أيام عيد وأكل وشرب"، فلم يرد عن النبي صلى الله عليه وسلم أن هذه الأيام التي تلي عيد الفطر هي أيام أكل وشرب، وإنما ورد ذلك في أيام التشريق التي تلي عيد الأضحى، كما أن معمراً لم ينكر صيام ست من شوال، وإنما رأى تأخيرها لليوم العاشر من شوال، أو للثالث عشر؛ لتحصيل فضيلتين: صيام الأيام البيض، وست من شوال، وهذا معنى كلامه
واستدل بعضهم بأن الحديث لا يدل على فضيلة هذه الأيام؛ لأنه شبه صيامها بصيام الدهر، وصيام الدهر مكروه، وقد ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قَالَ «... لاَ صَامَ مَنْ صَامَ الدَّهْرَ» وغيرها من الأحاديث ، فهذه الأحاديث تدل على ذم صيام الدهر
وجه الدلالة من الأحاديث السابقة والأقوال:
قالوا: إنّ صيام الدهر منهي عنه بدليل الأحاديث السابقة، فالتشبيه بصيام الدهر هو تشبيه بأمر مكروه، وقد ذكرت لك سابقا معنى التشبيه بصيام الدهر وأنه تشبيه على المجاز وليس الحقيقة ولم يثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم صام هذه الأيام، ولم يثبت عن أهل المدينة في هذا شيء، ولو فعلوا ذلك لعلمه مالك؛ لأن مالكاً يعول على عمل أهل المدينة كثيراً ،وهذا الاستدلال سأوفيه ردا
كما استدل هؤلاء بأن معمراً استنكر صيام هذه الأيام استنكاراً شديداً.، وما معمر إلَّا عالم يأخذ من كلامه ويرد
فأَمَّا أبو حنيفة، فعَلَّل ذلك بمشابهة أهْلِ الكتاب؛ حيث زادوا على صيامهم المشروع، قال ابن الهمام في "فتح القدير" "صوم ستة من شوال عن أبي حنيفة وأبي يوسف كراهته، وعامة المشايخ لم يروا به بأسًا". فعَامَّةَ الْمُتَأَخِّرِينَ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ لَمْ يَرَوْا بِهِ بَأْسًا.
وَنُقِل عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - كَرَاهَةُ صَوْمِ سِتَّةٍ مِنْ شَوَّالٍ، مُتَفَرِّقًا كَانَ أَوْ مُتَتَابِعًا. وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ: كَرَاهَتُهُ مُتَتَابِعًا، لاَ مُتَفَرِّقًا.
وجاء في الفتاوى الهندية "وَيُكْرَهُ صَوْمُ سِتَّةٍ مِنْ شَوَّالٍ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - مُتَفَرِّقًا كَانَ أَوْ مُتَتَابِعًا وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ كَرَاهَتُهُ مُتَتَابِعًا لَا مُتَفَرِّقًا لَكِنْ عَامَّةُ الْمُتَأَخِّرِينَ لَمْ يَرَوْا بِهِ بَأْسًا هَكَذَا فِي الْبَحْرِ الرَّائِقِ .
وَالْأَصَحُّ أَنَّهُ لَا بَأْسَ بِهِ كَذَا فِي مُحِيطِ السَّرَخْسِيِّ وَتُسْتَحَبُّ السِّتَّةُ مُتَفَرِّقَةً كُلَّ أُسْبُوعٍ يَوْمَانِ كَذَا فِي الظَّهِيرِيَّةِ فِي فَصْلِ الْأَوْقَاتِ الَّتِي يُكْرَهُ فِيهَا الصَّوْمُ وَيُسْتَحَبُّ .
وقَال ابْنُ عَابِدِينَ، نَقْلاً عَنْ صَاحِبِ الْهِدَايَةِ فِي كِتَابِهِ التَّجْنِيسِ: وَالْمُخْتَارُ أَنَّهُ لاَ بَأْسَ بِهِ، لأِنَّ الْكَرَاهَةَ إِنَّمَا كَانَتْ لأِنَّهُ لاَ يُؤْمَنُ مِنْ أَنْ يُعَدَّ ذَلِكَ مِنْ رَمَضَانَ، فَيَكُونَ تَشَبُّهًا بِالنَّصَارَى، وَالآْنَ زَال ذَلِكَ الْمَعْنَى، وَاعْتَبَرَ الْكَاسَانِيُّ مَحَل الْكَرَاهَةِ أَنْ يَصُومَ يَوْمَ الْفِطْرِ، وَيَصُومَ بَعْدَهُ خَمْسَةَ أَيَّامٍ، فَأَمَّا إِذَا أَفْطَرَ يَوْمَ الْعِيدِ ثُمَّ صَامَ بَعْدَهُ سِتَّةَ أَيَّامٍ فَلَيْسَ بِمَكْرُوهٍ، بَل هُوَ مُسْتَحَبٌّ وَسُنَّةٌ.ولذا استحب عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ صيام السِّتَّةِ مُتَفَرِّقَةً، كُل أُسْبُوعٍ يَوْمَانِ.
وعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ: لاَ يُسْتَحَبُّ صِيَامُهَا إِلاَّ لِمَنْ صَامَ رَمَضَانَ.
وجاء عن الإمام مالك رضي الله عنه، القول بكراهة صيام هذه الأيام الستة خشية أن يعتقد الناس أنها جزء من رمضان، ويلزموا بها أنفسهم، وينكروا على من تركها، فكرهها من باب سد الذرائع ولأنَّه لم يَرَ أحدًا من أهلِ العلم يصومها، وأنه لم يبلغْه عن السلف صيامها، وأهل العلم يَخافون أن يكونَ بدعة، ويلحقه الجهال بصيام رمضان فالسادة الْمَالِكِيَّة كرهوا صَوْمَهَا لِمُقْتَدًى بِهِ، وَلِمَنْ خِيفَ عَلَيْهِ اعْتِقَادُ وُجُوبِهَا، إِنْ صَامَهَا مُتَّصِلَةً بِرَمَضَانَ مُتَتَابِعَةً وَأَظْهَرَهَا، أَوْ كَانَ يَعْتَقِدُ سُنِّيَّةَ اتِّصَالِهَا، فَإِنِ انْتَفَتْ هَذِهِ الْقُيُودُ اسْتُحِبَّ صِيَامُهَا.
قَال الْحَطَّابُ: قَال فِي الْمُقَدِّمَاتِ: كَرِهَ مَالِكٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - ذَلِكَ مَخَافَةَ أَنْ يَلْحَقَ بِرَمَضَانَ مَا لَيْسَ مِنْهُ مِنْ أَهْل الْجَهَالَةِ وَالْجَفَاءِ، وَأَمَّا الرَّجُل فِي خَاصَّةِ نَفْسِهِ فَلاَ يُكْرَهُ لَهُ صِيَامُهَا. وجاء في الموسوعة الفقهية أَمَّا الْمَالِكِيَّةُ: فَذَهَبُوا إِلَى كَرَاهَةِ صَوْمِهَا مُتَّصِلَةً بِرَمَضَانَ مُتَتَابِعَةً، وَنَصُّوا عَلَى حُصُول الْفَضِيلَةِ وَلَوْ صَامَهَا فِي غَيْرِ شَوَّالٍ، بَل اسْتَحَبُّوا صِيَامَهَا فِي عَشْرِ ذِي الْحِجَّةِ، ذَلِكَ أَنَّ مَحَل تَعْيِينِهَا فِي الْحَدِيثِ فِي شَوَّالٍ عَلَى التَّخْفِيفِ فِي حَقِّ الْمُكَلَّفِ، لاِعْتِيَادِهِ الصِّيَامَ، لاَ لِتَخْصِيصِ حُكْمِهَا بِذَلِكَ. قَال الْعَدَوِيُّ: إِنَّمَا قَال الشَّارِعُ: (مِنْ شَوَّالٍ) لِلتَّخْفِيفِ بِاعْتِبَارِ الصَّوْمِ، لاَ تَخْصِيصَ حُكْمِهَا بِذَلِكَ الْوَقْتِ، فَلاَ جُرْمَ إِنْ فَعَلَهَا فِي عَشْرِ ذِي الْحِجَّةِ مَعَ مَا رُوِيَ فِي فَضْل الصِّيَامِ فِيهِ أَحْسَنُ، لِحُصُول الْمَقْصُودِ مَعَ حِيَازَةِ فَضْل الأْيَّامِ الْمَذْكُورَةِ. بَل فِعْلُهَا فِي ذِي الْقَعْدَةِ حَسَنٌ أَيْضًا، وَالْحَاصِل: أَنَّ كُلَّمَا بَعُدَ زَمَنُهُ كَثُرَ ثَوَابُهُ لِشِدَّةِ الْمَشَقَّةِ
، وذكر الإمام الشاطبي أن بعض العجم وقعوا في مثل ذلك حيث تركوا كل مراسم رمضان ومظاهره من إضاءة المآذن ومرور المسحرين على الناس وغير ذلك إلى اليوم السابع من شوال، ولكن مثل هذا الخرف لا ترد به السنة، ويجب أن يُعلَّم الجاهل.
وما ذكره الأئمة كأبي حنيفة ومالك، وغيرهم في عدم استحباب صيام الست من شوال يمكننا صياغته ومناقشته في النقاط التالية :
1- قولهم إنَّ الحديثَ الواردَ فيها لا يثبت؛ لأَنَّه مِنْ رِوَايَةِ سَعْدِ بْنِ سَعِيدٍ ، وهو مُختلف فيه. وأجاب عن هذا العلماء بأنه لم ينفرد به، بل قد تُوبع عليه؛ قال ابن مفلح في الفروع "ولمسلمٍ وغيره من رواية سعد بن سعيد - أخي يحيى بن سعيد - عن عمر بن ثابت عن أبي أيوب مَرفوعًا: "مَن صام رمضانَ ثُمَّ أتبعه ستًّا من شوال، فذاك صيام الدهر" سعد مختلف فيه، وضعفه أحمد، ورواه أبو داود عن النفيلي عن عبدالعزيز - هو الدراوردي - عن صفوان بن سليم، وسعد بن سعيد عن عمر، فذكره، وهو إسناد صحيح، وكذا رواه النَّسائي عن خلاد بن أسلم عن الدراوردي، ورواه أيضًا من حديث يَحيى بن سعيد عن عمر، لكن فيه عتبة بن أبي حكيم، مختلف فيه، ورواه أحمد أيضًا من حديث جابر مرفوعًا، وكذا من حديث ثوبان، وَفِيهِ: "وَسِتَّةَ أَيَّامٍ بَعْدَ الْفِطْرِ" فَلِذَلِكَ اسْتَحَبَّ أَحْمَدُ وَالْأَصْحَابُ رَحِمَهُمُ اللَّهُ لِمَنْ صَامَ رَمَضَانَ أَنْ يُتْبِعَهُ بِصَوْمِ سِتَّةِ أَيَّامٍ مِنْ شَوَّالٍ.
وقال ابن القيم في "تهذيب السنن" بعد أن ذكر ما أعل به الحديث وأجاب عنه: "وهذه العلل وإنْ منعته أن يكون في أعلى درجات الصَّحيح، فإنَّها لا توجب وهنه"؛ أي: ضعفه.
2- أن فيها مشابهة لأهل الكتاب؛ لكونهم زادوا في صيامهم ما لم يشرع، وكذا من يصوم هذه الست، فيخشى أن يقع في الزيادة على رمضان.
وأجيب عن هذا بأن مفارقة أهل الكتاب تحصل بالفطر في يوم العيد، فيحصل الفصل بين الفرض والنفل؛ قال ابن الهمام في "فتح القدير" وجه الجواز أنَّه قد وقع الفصلُ بيوم الفطر، فلم يلزمْ التشبُّه بأهلِ الكتاب، ووجه الكراهة أنَّه قد يُفضي إلى اعتقادِ لزومها من العوام؛ لكثرةِ المداومة؛ ولذا سَمِعْنا مَن يقول يوم الفطر: نَحن إلى الآن لم يأتِ عيدنا أو نحوه، فأَمَّا عند الأمن من ذلك، فلا بأسَ؛ لورودِ الحديث به"
3- أنَّه يُخشى على العامة أن يعتقدوا وجوبَها، فيزيدوا في رمضان ما ليس منه.
قال النووي في "المجموع"، في الجواب عن هذا: "ودليلنا الحديث الصحيح السابق، ولا معارض له.
وأما قول مالك: "لم أرَ أحدًا يصومها"، فليس بحجة في الكراهة؛ لأَنَّ السنة ثبتت في ذلك بلا معارض، فكونه لم يرَ لا يضر.
قال الشوكاني: ولا يخفى أن الناس إذا تركوا العمل بسنة لم يكن تركهم دليلاً ترد به السنة. أهـ يؤكد ذلك أن ابن عباس ذكر أن في القرآن آيات ترك الناس العمل بها، مثل آية: "وإذا حضر القسمة أولو القربى" وغيره ، ولكن إذا صح الحديث بصومها فلا مجال للرأي هنا، وخصوصًا إذا رجحنا عدم إلصاقها برمضان مباشرة ولعل السر في استحباب صيام هذه الأيام من شوال أن يظل المسلم وصول الحبال بطاعة ربه، فلا تفتر عزيمته بعد رمضان.
قال ابن عبدالبر في الاستذكار معتذرًا لمالك : "لَمْ يَبْلُغْ مَالِكًا حَدِيثُ أَبِي أَيُّوبَ عَلَى أَنَّهُ حَدِيثٌ مَدَنِيٌّ وَالْإِحَاطَةُ بِعِلْمِ الْخَاصَّةِ لَا سَبِيلَ إِلَيْهِ وَالَّذِي كَرِهَهُ لَهُ مَالِكٌ أَمْرٌ قَدْ بَيَّنَهُ وَأَوْضَحَهُ وَذَلِكَ خَشْيَةَ أَنْ يُضَافَ إِلَى فَرْضِ رَمَضَانَ وَأَنْ يَسْتَبِينَ ذَلِكَ إِلَى الْعَامَّةِ وَكَانَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - مُتَحَفِّظًا كَثِيرَ الِاحْتِيَاطِ لِلدِّينِ وَأَمَّا صِيَامُ السِّتَّةِ الْأَيَّامِ مِنْ شَوَّالٍ عَلَى طَلَبِ الْفَضْلِ وَعَلَى التَّأْوِيلِ الَّذِي جَاءَ بِهِ ثَوْبَانُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَإِنَّ مَالِكًا لَا يَكْرَهُ ذَلِكَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ لِأَنَّ الصَّوْمَ جُنَّةٌ وَفَضْلُهُ مَعْلُومٌ لِمَنْ رَدَّ طَعَامَهُ وَشَرَابَهُ وَشَهْوَتَهُ لِلَّهِ تَعَالَى وَهُوَ عَمَلُ بِرٍّ وَخَيْرٍ وَقَدْ قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ (وَافْعَلُوا الْخَيْرَ) الْحَجِّ 77 وَمَالِكٌ لَا يَجْهَلُ شَيْئًا مِنْ هَذَا وَلَمْ يَكْرَهْ مِنْ ذَلِكَ إِلَّا مَا خَافَهُ عَلَى أَهْلِ الْجَهَالَةِ وَالْجَفَاءِ إِذَا اسْتَمَرَّ ذَلِكَ وَخَشِيَ أَنْ يَعُدُّوهُ مِنْ فَرَائِضِ الصِّيَامِ مُضَافًا إِلَى رَمَضَانَ وَمَا أَظُنُّ مَالِكًا جَهِلَ الْحَدِيثَ وَاللَّهُ أَعْلَمُ لِأَنَّهُ حَدِيثٌ مَدَنِيٌّ انْفَرَدَ بِهِ عُمَرُ بْنُ ثَابِتٍ وَقَدْ قِيلَ إِنَّهُ رَوَى عَنْهُ مَالِكٌ وَلَوْلَا عِلْمُهُ بِهِ مَا أَنْكَرَهُ وَأَظُنُّ الشَّيْخَ عُمَرَ بْنَ ثَابِتٍ لَمْ يَكُنْ عِنْدَهُ مِمَّنْ يُعْتَمَدُ عَلَيْهِ وَقَدْ تَرَكَ مَالِكٌ الِاحْتِجَاجَ بِبَعْضِ مَا رَوَاهُ عَنْ بَعْضِ شُيُوخِهِ إِذَا لَمْ يَثِقْ بِحِفْظِهِ بِبَعْضِ مَا رَوَاهُ وَقَدْ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ جَهِلَ الْحَدِيثَ وَلَوْ عَلِمَهُ لَقَالَ بِهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ وعليه، فإذا انتفت هذه العِلَّة، وهي خشية أن يعتقد العامة فرض صيام هذه الست، وصامه الناس على أنَّه نفل ومستحب، ومواصلة لعمل الخير، فلا حرجَ في صيامها على مذهب مالك، بل هي مستحبة.
وعلى علو مكانة مالك في الحديث فلا يُستبعد هذا الاحتمال، فلو بلغه هذا الحديث لعاد عن رأيه؛ لأنه من أشد الناس ورعاً وتمسكاً بالآثار، فقد نقل ابن أبي حاتم في مقدمة كتابه عن ابن وهب أن مالكا سُئل عن تخليل أصابع الرجلين في الوضوء، فقال: ليس ذلك على الناس، قال: فتركته حتى خفَ الناس فقلت له: عندنا في ذلك سنة، فقال: وما هي؟ قلت: حديث الْمُسْتَوْرِد بْنَ شَدَّادٍ الْقُرَشِىُّ قَالَ: "رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَدْلُكُ بِخِنْصَرِهِ مَا بَيْنِ أَصَابِعِ رِجْلَيْه"ِ، فقال: إن هذا الحديث حسن، وما سمعت به قط إلا الساعة، قال ابن وهب: ثم سمعته بعد ذلك يُسأل فيأمر بتخليل الأصابع"
وذهب أبو عبد الله العبدري إلى تأويل آخر لقول مالك وهو: أن مالكا إنما كره صومها لسرعة أخذ الناس بقوله فيظن الجاهل وجوبها، وزعم العبدري -وهو من فقهاء المالكية- أنّ مالكا كان يصومها وحضَّ مالكٌ الرشيدَ على صيامها
كما أن القرطبي قال: "وروي مطرف عن مالك أنه كان يصومها في خاصة نفسه"
ومهما يكن قصد الإمام مالك، فإنه مُعارض بالأحاديث الصحيحة التي ثبتت عن النبي صلى الله عليه وسلم، أو عن أحد من الصحابة، والقاعدة الفقهية تقول: "المثبت مقدم على النافي" وإذا ثبتت السنة فيسقط أمامها أي رأي أو اجتهاد، وهذا مذهب الأئمة الأربعة فقد ورد عنهم ما معناه: "إذا صح الحديث فهو مذهبي واضربوا بقولي عرض الحائط"
ونقل عن الإمام أحمد قوله: "لا تقلدني ولا تقلد مالكا ولا الشافعي ولا الأوزاعي ولا الثوري وخذ من حيث أخذوا"
وقال النووي: "واذا ثبتت السنة لا تُترك لترك بعض الناس أو أكثرهم أو كلهم لها"
وقال الشوكاني والعظيم آبادي: "ولا يخفى أن الناس إذا تركوا العمل بسنة لم يكن تركهم دليلا ترد به السنة"
ومن الجدير بالذكر أن مالكاً خالف في أشياء أخرى تتعلق بالصوم لم يُتابع عليها، ومنها:
استحسانه صيام يوم الجمعة وتحرّيه بالصيام، فقد روى يحيى الليثي أنه سمع مالكا يقول: "لم أسمع أحدا من أهل العلم والفقه ومن يقتدى به ينهى عن صيام يوم الجمعة، وصيامه حسن، وقد رأيت بعض أهل العلم يصومه، وأراه كان يتحرّاه"
كما أنه كره أن يتعمد صيام الأيام البيض مخافة أن يجعل صيامها واجباً"
وهذا مخالف لما صحّ عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أمر بصيام الأيام البيض، ونهى عن إفراد يوم الجمعة بالصيام، فقد روى الشيخان بسنديهما لا عن أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «لاَ يَصُومَنَّ أَحَدُكُمْ يَوْمَ الْجُمُعَةِ إِلاَّ يَوْمًا قَبْلَهُ أَوْ بَعْدَهُ»
الرأي الثالث: كراهة صيامها متتابعة فإذا فرقت الأيام فلا بأس في ذلك وبه قال بعض المالكية وأبو يوسف وغيره من الحنفية
أدلة القائلين بكراهة صيام الأيام الستة من شوال متتابعة، وجواز صيامها متفرقة.
استدلوا بأنه يكره صيامها متتابعة خشية أن يظنّ بعض الجهال أنّ هذه الأيام من رمضان فيكون ذلك تشبها بالنصارى
وجاء في الكتب ما يؤكد على هذه الوجهة
قال الخرشي في حاشيته: "وهذه الكراهة إذا صامها متصلة برمضان متوالية، مظهراً لها معتقدا سنيتها، وإلا فلا كراهة"
وقال ابن نُجيم في البحر الرائق: ومن المكروه... صوم ستة من شوال عند أبي حنيفة متفرقا كان أو متتابعا وعن أبي يوسف كراهته متتابعا لا متفرقا
وقالوا: يكره لمقتدى به ولمن خاف عليه اعتقاد وجوبها إن صامها متصلة برمضان متتابعة وأظهرها أو كان يعتقد سنية اتصالها
الرأي الرابع: كراهة الإتباع؛ أي صيام يوم العيد وخمسة أيام بعده، واستحباب صومها بعد عيد الفطر سواء أكانت متتابعة أم متفرقة، وذهب إلى هذا بعض المالكية ، وبعض الحنفية
أدلة القائلين بكراهة صوم يوم العيد وخمسة أيام بعده:
استدلوا بنهي النبي صلى الله عليه وسلم عن صيام يوم العيد، كما أن صيام يوم العيد وخمسة أيام بعده يوهم أن هذه الأيام متصلة برمضان، وفيه زيادة على المفروض، وتشبه بالنصارى واليهود.
وقالوا: الإتباع المكروه هو أن يصوم يوم الفطر ويصوم بعده خمسة أيام فأما إذا أفطر يوم العيد ثم صام بعده ستة أيام فليس بمكروه، بل هو مستحب وسنة
الترجيح:
بعد عرض الأدلة والنظر في وجوه الاستدلال، ومناقشة أدلة كل فريق فإنني لقوة أدلة الرأي الأول والذي يقول بالاستحباب وضوحه وثبوت الأحاديث التي ترغب في صيام هذه الأيام، كما في صحيح مسلم وغيره، وتهافت الطعون التي وجهت لهذه الأحاديث ولم يرد ما يعارضها من السنّة اختار هذا الرأي لكني اختار بأن يكون صومهما على التفريق أو التتابع بشرط أن يكون هناك فاصل بين رمضان وبين الصوم في شوال حتى لا يختلط الفرض بالسنة حيث يكره الوصل في الصيام بين رمضان وشوال دون إفطار يوم العيد، وهذا ما عليه جماهير الفقهاء.

janjeel

.: عدد زوار الموقع :.


  • Currently 0/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
0 تصويتات / 57 مشاهدة
نشرت فى 7 يوليو 2017 بواسطة janjeel

تفاصيل

janjeel
معا لصالح الوطن والمواطن »

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

304,850
نتيجة بحث الصور عن فانوس رمضاننتيجة بحث الصور عن جاك للاجهزة الكهربائية